ثم بين - سبحانه - أن هؤلاء المشركين تطالعهم الدلائل والبراهين الدالة على وحدانية الله - تعالى - وقدرته ، ولكنهم في عمى عنها فقال : { وَكَأَيِّن مِّن آيَةٍ فِي السماوات والأرض يَمُرُّونَ عَلَيْهَا وَهُمْ عَنْهَا مُعْرِضُونَ } .
و { كأين } كلمة مركبة من كاف التشبيه وأى الاستفهامية المنونة ، ثم تنوسى معنى جزيئيتها وصارت كلمة واحدة بمعننى كم الخبرية المفيدة للتكثير .
والمراد بالآية هنا : العبرة والعظمة الدالة على وحدانية الله وقدرته يمر بها هؤلاء المشركون فلا يلتفتون إليها ، ولا يتفكرون فيها ، ولا يعتبرون بها ، لأن بصائرهم قد انطمست بسبب استحواذ الأهواء والشهوات والعناد عليها .
قال ابن كثير ما ملخصه : يخبر - تعالى - في هذه الآية عن غفلة أكثر الناس عن التفكير في آيات الله ودلائل توحيده ، بما خلقه - سبحانه - في السموات من كواكب زاهرات ، وسيارات وأفلاك . . . . وفى الأرض من حدائق وجنات ، وجبال راسيات ، وبحار زاخرات ، وحيوانات ونبات . . . فسبحان الواحد الأحد ، خالق أنواع المخلوقات ، المنفرد بالدوام والبقاء والصمدية .
( وكأي من آية في السماوات والأرض يمرون عليها وهم عنها معرضون ) .
والآيات الدالة على الله ووحدانيته وقدرته كثيرة مبثوثة في تضاعيف الكون ، معروضة للأبصار والبصائر . في السماوات وفي الأرض . يمرون عليها صباح مساء ، آناء الليل وأطراف النهار . وهي ناطقة تكاد تدعو الناس إليها . بارزة تواجه العيون والمشاعر . موحية تخايل للقلوب والعقول . ولكنهم لا يرونها ولا يسمعون دعاءها ولا يحسون إيقاعها العميق .
وإن لحظة تأمل في مطلع الشمس ومغيبها . لحظة تأمل في الظل الممدود ينقص بلطف أو يزيد . لحظة تأمل في الخضم الزاخر ، والعين الفوارة ، والنبع الروي . لحظة تأمل في النبتة النامية ، والبرعم الناعم ، والزهرة المتفتحة ، والحصيد الهشيم . لحظة تأمل في الطائر السابح في الفضاء ، والسمك السابح في الماء ، والدود السارب والنمل الدائب ، وسائر الحشود والأمم من الحيوان والحشرات والهوام . . لحظة تأمل في صبح أو مساء ، في هدأة الليل أو في زحمة النهار . . لحظة واحدة يتسمع فيها القلب البشري إلى إيقاعات هذا الوجود العجيب . . إن لحظة واحدة لكافية لارتعاش هذا القلب بقشعريرة الإدراك الرهيب ، والتأثر المستجيب . ولكنهم ( يمرون عليها وهم عنها معرضون ) لذلك لا يؤمن الأكثرون !
يخبر تعالى عن [ غفلة ]{[15345]} أكثر الناس عن التفكر في آيات الله ودلائل توحيده ، بما خلقه الله في السموات والأرض من كواكب زاهرات ثوابت ، وسيارات وأفلاك دائرات ، والجميع مسخرات ، وكم في الأرض من قطع متجاورات وحدائق وجنات وجبال راسيات ، وبحار زاخرات ، وأمواج متلاطمات ، وقفار شاسعات ، وكم من أحياء وأموات ، وحيوان ونبات ، وثمرات متشابهة ومختلفات ، في الطعوم والروائح والألوان والصفات ، فسبحان الواحد الأحد ، خالق أنواع المخلوقات ، المتفرد بالدوام والبقاء والصمدية ذي الأسماء والصفات .
القول في تأويل قوله تعالى : { وَكَأَيّن مّن آيَةٍ فِي السّمَاوَاتِ وَالأرْضِ يَمُرّونَ عَلَيْهَا وَهُمْ عَنْهَا مُعْرِضُونَ } .
يقول جلّ وعزّ : وكم من آية في السموات والأرض لله ، وعبرة وحجة ، وذلك كالشمس والقمر والنجوم ونحو ذلك من آيات السموات وكالجبال والبحار والنبات والأشجار ، وغير ذلك من آيات الأرض يَمُرّونَ عَلَيْها يقول : يعاينونها فيمرّون بها معرضين عنها لا يعتبرون بها ولا يفكرون فيها وفيما دلت عليه من توحيد ربها ، وأن الأولوهة لا تبتغي إلا للواحد القهار الذي خلقها وخلق كلّ شيء فدبرها .
وبنحو الذي قلنا في ذلك قال أهل التأويل . ذكر من قال ذلك :
حدثنا بشر ، قال : حدثنا يزيد ، قال : حدثنا سعيد ، عن قتادة : وكأيّنْ مِنْ آيَةٍ فِي السّمَوَاتِ والأرْضِ يَمُرّونَ عَلَيْها وهي في مصحف عبد الله : «يمشون عليها » السماء والأرض آيتان عظيمتان .
عطف على جملة { وما أكثر الناس ولو حرصت بمؤمنين } [ يوسف : 103 ] ، أي ليس إعراضهم عن آية حصول العلم للأمّي بما في الكتب السالفة فحسب بل هم معرضون عن آيات كثيرة في السماوات والأرض .
و { كأين } اسم يدل على كثرة العدد المبهم يبينه تمييز مجرور ب { من } . وقد تقدم عند قوله تعالى : { وكأين من نبيء قاتل معه ربيون كثير } في سورة آل عمران ( 146 ) .
والآية : العلامة ، والمراد هنا الدالةُ على وحدانية الله تعالى بقرينة ذكر الإشراك بعدها .
ومعنى { يمرون عليها } يرونها ، والمرور مجاز مكنّى به عن التحقق والمشاهدة إذ لا يصح حمل المرور على المعنى الحقيقي بالنسبة لآيات السماوات ، فالمرور هنا كالذي في قوله تعالى : { وإذا مروا باللغو مروُّا كراماً } [ الفرقان : 72 ] .
وضمير { يمرون } عائد إلى الناس من قوله تعالى : { وما أكثر الناس ولو حرصت بمؤمنين } .
تفسير مقاتل بن سليمان 150 هـ :
{وكأين}، يعني وكم، {من آية في السماوات} الشمس، والقمر، والنجوم، والسحاب، والرياح، والمطر، {والأرض}، الجبال، والبحور، والشجر، والنبات، عاما بعد عام، {يمرون عليها} يعني يرونها، {وهم عنها معرضون}، أفلا يتفكرون فيما يرون من صنع الله فيوحدونه...
جامع البيان عن تأويل آي القرآن للطبري 310 هـ :
يقول جل وعز: وكم من آية في السموات والأرض لله، وعبرةٍ وحجةٍ، وذلك كالشمس والقمر والنجوم ونحو ذلك من آيات السموات، وكالجبال والبحار والنبات والأشجار وغير ذلك من آيات الأرض (يمرُّون عليها)، يقول: يعاينونها فيمرُّون بها معرضين عنها، لا يعتبرون بها، ولا يفكرون فيها وفيما دلت عليه من توحيد ربِّها، وأن الألوهةَ لا تنبغي إلا للواحد القهَّار الذي خلقها وخلق كلَّ شيء، فدبَّرها.
تأويلات أهل السنة للماتريدي 333 هـ :
أحدهما: أعرضوا أي لم ينظروا فيها، ولم يتفكروا، ليدلهم على وحدانية الله وألوهيته وهو إعراض عنها.
والثاني: نظروا، وعرفوا أنها آيات لوحدانيته لكنهم أعرضوا مكابرين معاندين...
وفيه حَثٌّ على الاستدلال على الله تعالى بآياته ودلائله والفكر فيما يقتضيه من تدبير مدبرها العالم بها القادر عليها وأنه لا يشبهها، وذلك في تدبير الشمس والقمر والنجوم والرياح والأشجار والنبات والنتاج والحيوان وغير ذلك مما هو ظاهر للحواس ومدرك بالعيان...
لطائف الإشارات للقشيري 465 هـ :
الآياتُ ظاهرة، والبراهين باهرة، وكلُّ جُزْءٍ من المخلوقات شاهِدٌ على أنَّه واحد، ولكن كما أَنَّ مَنْ أغْمَضَ عينه لم يستمتع بضوء نهاره فكذلك مَن قَصَّرَ في نَظَرِه واعتباره لم يحظَ بعرفانه واستبصاره...
يعني: أنه لا عجب إذا لم يتأملوا في الدلائل الدالة على نبوتك، فإن العالم مملوء من دلائل التوحيد والقدرة والحكمة، ثم إنهم يمرون عليها ولا يلتفتون إليها.
واعلم أن دلائل التوحيد والعلم والقدرة والحكمة والرحمة لابد وأن تكون من أمور محسوسة، وهي إما الأجرام الفلكية وإما الأجرام العنصرية... ومن هذا الباب أيضا قصص الأولين وحكايات الأقدمين وأن الملوك الذين استولوا على الأرض وخربوا البلاد وقهروا العباد ماتوا ولم يبق منهم في الدنيا خبر ولا أثر، ثم بقي الوزر والعقاب عليهم هذا ضبط أنواع هذه الدلائل والكتاب المحتوي على شرح هذه الدلائل هو شرح جملة العالم الأعلى والعالم الأسفل والعقل البشري لا يفي بالإحاطة به فلهذا السبب ذكره الله تعالى على سبيل الإبهام...
تفسير القرآن العظيم لابن كثير 774 هـ :
يخبر تعالى عن غفلة أكثر الناس عن التفكر في آيات الله ودلائل توحيده، بما خلقه الله في السموات والأرض من كواكب زاهرات ثوابت، وسيارات وأفلاك دائرات، والجميع مسخرات، وكم في الأرض من قطع متجاورات وحدائق وجنات وجبال راسيات، وبحار زاخرات، وأمواج متلاطمات، وقفار شاسعات، وكم من أحياء وأموات، وحيوان ونبات، وثمرات متشابهة ومختلفات، في الطعوم والروائح والألوان والصفات، فسبحان الواحد الأحد، خالق أنواع المخلوقات، المتفرد بالدوام والبقاء والصمدية ذي الأسماء والصفات...
في ظلال القرآن لسيد قطب 1387 هـ :
والآيات الدالة على الله ووحدانيته وقدرته كثيرة مبثوثة في تضاعيف الكون، معروضة للأبصار والبصائر. في السماوات وفي الأرض. يمرون عليها صباح مساء، آناء الليل وأطراف النهار. وهي ناطقة تكاد تدعو الناس إليها. بارزة تواجه العيون والمشاعر. موحية تخايل للقلوب والعقول. ولكنهم لا يرونها ولا يسمعون دعاءها ولا يحسون إيقاعها العميق. وإن لحظة تأمل في مطلع الشمس ومغيبها. لحظة تأمل في الظل الممدود ينقص بلطف أو يزيد. لحظة تأمل في الخضم الزاخر، والعين الفوارة، والنبع الروي. لحظة تأمل في النبتة النامية، والبرعم الناعم، والزهرة المتفتحة، والحصيد الهشيم. لحظة تأمل في الطائر السابح في الفضاء، والسمك السابح في الماء، والدود السارب والنمل الدائب، وسائر الحشود والأمم من الحيوان والحشرات والهوام.. لحظة تأمل في صبح أو مساء، في هدأة الليل أو في زحمة النهار.. لحظة واحدة يتسمع فيها القلب البشري إلى إيقاعات هذا الوجود العجيب.. إن لحظة واحدة لكافية لارتعاش هذا القلب بقشعريرة الإدراك الرهيب، والتأثر المستجيب. ولكنهم (يمرون عليها وهم عنها معرضون) لذلك لا يؤمن الأكثرون!...
التيسير في أحاديث التفسير للمكي الناصري 1415 هـ :
إشارة إلى ما عليه عمي البصائر والأبصار من الغفلة عن ملكوت الله، والذهول عن آياته الباهرة، رغما عن كونها معروضة على أقوى وجه وأحسنه في كتاب الكون الفسيح، وهي بمرأى ومسمع من جميع الناس، في جميع الأزمان، وفي كل مكان...