المنتخب في تفسير القرآن الكريم للمجلس الأعلى للشؤون الإسلامية - المنتخب [إخفاء]  
{وَلَا تَنكِحُواْ مَا نَكَحَ ءَابَآؤُكُم مِّنَ ٱلنِّسَآءِ إِلَّا مَا قَدۡ سَلَفَۚ إِنَّهُۥ كَانَ فَٰحِشَةٗ وَمَقۡتٗا وَسَآءَ سَبِيلًا} (22)

22- ولا تتزوجوا - أيها الأبناء - ما تزوج آباؤكم من النساء ، إنه كان أمراً فاحش القبح ، يمقته الله والناس ، وهو أسوأ سبيل ومقصد ، وأن الله يعفو عما قد سلف منكم في زمن الجاهلية{[40]} .


[40]:كان عند العرب في الجاهلية عادات ليس فيها تكريم للمرأة بل فيها ظلم شديد لها، وفيها قطع للعلاقة التي تربط بين الأسرة، فكان الرجل إذا مات أبو ه وكان متزوجا غير أمه يفرض عليها زواجها منه، أو يرث زوج أبيه من غير عقد يعقده عليها من جديد، وكان الرجل إذا طلق امرأته وقد دخل بها يسترد كل ما أعطاها من مهر ظالما معتديا، ومنهم من كان يعمل على منعها من الزواج بغيره معتديا آثما، ولا نصير لها في ذلك الوسط، فجاء الإسلام، ودفع عنها ذلك الظلم البين، ونهى عن أن يورث زواج النساء، وأن يسترد شيء من المهر، ولو كان قنطارا، ونهى عن العضل وهو منع المرأة من الزواج أو إيذاؤها لحملها على طلب الطلاق بمال تعطيه. وكان من الجائز عندهم أن الرجل يتزوج من تزوجها أبو ه وافترق عنها بطلاق أو نحوه، فنهى الإسلام عنه، وسماه مقتا، لأنه أمر فاحش القبح، يمقته الله، ويمقته أهل العقول المستقيمة، وذلك عدل الله.
 
معالم التنزيل في تفسير القرآن الكريم للبغوي - البغوي [إخفاء]  
{وَلَا تَنكِحُواْ مَا نَكَحَ ءَابَآؤُكُم مِّنَ ٱلنِّسَآءِ إِلَّا مَا قَدۡ سَلَفَۚ إِنَّهُۥ كَانَ فَٰحِشَةٗ وَمَقۡتٗا وَسَآءَ سَبِيلًا} (22)

قوله تعالى : { ولا تنكحوا ما نكح آباؤكم من النساء } . كان أهل الجاهلية ينكحون أزواج آبائهم ، قال الأشعث بن سوار : توفي أبو قيس وكان من صالحي الأنصار ، فخطب ابنه قيس امرأة أبيه فقالت : إني اتخذتك ولداً وأنت من صالحي قومك ، ولكني آتي رسول الله صلى الله عليه وسلم أستأمره ، فأتته فأخبرته ، فأنزل الله تعالى : { ولا تنكحوا ما نكح آباؤكم من النساء } .

قوله تعالى : { إلا ما قد سلف } . قيل : بعد ما سلف ، وقيل : معناه لكن ما سلف أي : ما مضى في الجاهلية فهو معفو عنه .

قوله تعالى : { إنه كان فاحشةً } . أي إنه فاحشة وكان فيه صلة ، والفاحشة أقبح المعاصي .

قوله تعالى : { ومقتاً } أي : يورث مقت الله ، والمقت : أشد البغض .

قوله تعالى : { وساء سبيلا } . وبئس ذلك طريقاً ، وكانت العرب تقول لولد الرجل من امرأة أبيه مقيت . وكان منهم الأشعث بن قيس ، وأبو معيط بن أبي عمرو بن أمية . أخبرنا محمد بن الحسن المروزي ، أخبرنا أبو سهل محمد بن عمرو السجزي ، أنا الإمام أبو سليمان الخطابي ، أنا أحمد بن هشام الحضرمي ، أنا أحمد بن عبد الجبار العطاردي ، عن حفص بن غياث ، عن أشعث بن سوار ، عن عدي بن ثابت ، عن البراء بن عازب ، قال : مر بي خالي ومعه لواء فقلت : أين تذهب ؟ قال : بعثني النبي صلى الله عليه وسلم إلى رجل تزوج امرأة أبيه آتيه برأسه .

 
تيسير الكريم المنان في تفسير القرآن لابن سعدي - ابن سعدي [إخفاء]  
{وَلَا تَنكِحُواْ مَا نَكَحَ ءَابَآؤُكُم مِّنَ ٱلنِّسَآءِ إِلَّا مَا قَدۡ سَلَفَۚ إِنَّهُۥ كَانَ فَٰحِشَةٗ وَمَقۡتٗا وَسَآءَ سَبِيلًا} (22)

ثم قال تعالى : { وَلَا تَنْكِحُوا مَا نَكَحَ آبَاؤُكُمْ مِنَ النِّسَاءِ إِلَّا مَا قَدْ سَلَفَ إِنَّهُ كَانَ فَاحِشَةً وَمَقْتًا وَسَاءَ سَبِيلًا }

أي : لا تتزوجوا من النساء ما تزوجهن آباؤكم أي : الأب وإن علا . { إِنَّهُ كَانَ فَاحِشَةً } أي : أمرا قبيحا يفحش ويعظم قبحه { وَمَقْتًا } من الله لكم ومن الخلق بل يمقت بسبب ذلك الابن أباه والأب ابنه ، مع الأمر ببره .

{ وَسَاءَ سَبِيلًا } أي : بئس الطريق طريقا لمن سلكه لأن هذا من عوائد الجاهلية ، التي جاء الإسلام بالتنزه عنها والبراءة منها .

 
التفسير الوسيط للقرآن الكريم لسيد طنطاوي - سيد طنطاوي [إخفاء]  
{وَلَا تَنكِحُواْ مَا نَكَحَ ءَابَآؤُكُم مِّنَ ٱلنِّسَآءِ إِلَّا مَا قَدۡ سَلَفَۚ إِنَّهُۥ كَانَ فَٰحِشَةٗ وَمَقۡتٗا وَسَآءَ سَبِيلًا} (22)

وبعد أن نهى - سبحانه - عن ظلم المرأة فى حال الزوجية . وعن ظلمها بعد وفاة زوجها . وعن ظلمها فى حالة فراقها . وأمر بمعاشرتها بالمعروف بعد كل ذلك بين - سبحانه - من لا يحل الزواج بهن من النساء ومن يحل الزواج بهن حتى تبقى للأسرة قوتها ومودتها فقال - تعالى- { وَلاَ تَنكِحُواْ . . . . عَلِيماً حَكِيماً

وَلَا تَنْكِحُوا مَا نَكَحَ آَبَاؤُكُمْ مِنَ النِّسَاءِ إِلَّا مَا قَدْ سَلَفَ إِنَّهُ كَانَ فَاحِشَةً وَمَقْتًا وَسَاءَ سَبِيلًا ( 22 ) حُرِّمَتْ عَلَيْكُمْ أُمَّهَاتُكُمْ وَبَنَاتُكُمْ وَأَخَوَاتُكُمْ وَعَمَّاتُكُمْ وَخَالَاتُكُمْ وَبَنَاتُ الْأَخِ وَبَنَاتُ الْأُخْتِ وَأُمَّهَاتُكُمُ اللَّاتِي أَرْضَعْنَكُمْ وَأَخَوَاتُكُمْ مِنَ الرَّضَاعَةِ وَأُمَّهَاتُ نِسَائِكُمْ وَرَبَائِبُكُمُ اللَّاتِي فِي حُجُورِكُمْ مِنْ نِسَائِكُمُ اللَّاتِي دَخَلْتُمْ بِهِنَّ فَإِنْ لَمْ تَكُونُوا دَخَلْتُمْ بِهِنَّ فَلَا جُنَاحَ عَلَيْكُمْ وَحَلَائِلُ أَبْنَائِكُمُ الَّذِينَ مِنْ أَصْلَابِكُمْ وَأَنْ تَجْمَعُوا بَيْنَ الْأُخْتَيْنِ إِلَّا مَا قَدْ سَلَفَ إِنَّ اللَّهَ كَانَ غَفُورًا رَحِيمًا ( 23 ) وَالْمُحْصَنَاتُ مِنَ النِّسَاءِ إِلَّا مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُكُمْ كِتَابَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ وَأُحِلَّ لَكُمْ مَا وَرَاءَ ذَلِكُمْ أَنْ تَبْتَغُوا بِأَمْوَالِكُمْ مُحْصِنِينَ غَيْرَ مُسَافِحِينَ فَمَا اسْتَمْتَعْتُمْ بِهِ مِنْهُنَّ فَآَتُوهُنَّ أُجُورَهُنَّ فَرِيضَةً وَلَا جُنَاحَ عَلَيْكُمْ فِيمَا تَرَاضَيْتُمْ بِهِ مِنْ بَعْدِ الْفَرِيضَةِ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلِيمًا حَكِيمًا ( 24 )

أورد المفسرون روايات فى سبب نزول قوله - تعالى - { وَلاَ تَنكِحُواْ مَا نَكَحَ آبَاؤُكُمْ مِّنَ النسآء } الآية .

ومن هذه الروايات ما رواه ابن أبى حاتم - بسنده - " عن رجل من الأنصار قال : لما توفى أبو قيس - يعنى ابن الأسلت - وكان من صالحى الأنصار ، فخطب ابنه قيس امرأته فقال : إنما أعدك ولدا لى وأنت من صالحى قومك ، ولكنى أتى رسول الله صلى الله عليه وسلم واستأمره .

فأتت رسول الله صلى الله عليه وسلم فقالت : يا رسول الله إن أبا قيس توفى . فقال : " خيرا " . ثم قالت إن ابنه قيسا خطبنى وهو من صالحى قومه ، وإنما كنت أعده ولدا لى فماذا ترى ؟ فقال لها : " ارجعي إلى بيتك " فنزلت : { وَلاَ تَنكِحُواْ مَا نَكَحَ آبَاؤُكُمْ مِّنَ النسآء إِلاَّ مَا قَدْ سَلَفَ } .

وقال القرطبى : قوله - تعالى - : { وَلاَ تَنكِحُواْ مَا نَكَحَ آبَاؤُكُمْ مِّنَ النسآء } يقال : كان الناس يتزوجون امرأة الأب برضاها بعد نزول قوله - تعالى - : { يَا أَيُّهَا الذين آمَنُواْ لاَ يَحِلُّ لَكُمْ أَن تَرِثُواْ النسآء كَرْهاً } حتى نزلت هذه الآية { وَلاَ تَنكِحُواْ مَا نَكَحَ آبَاؤُكُمْ } فصار حراما فى الأحوال كلها ، لأن النكاح يقع على الجماع والتزوج ، فإن كان الأب تزوج امرأة وطئها يغير نكاح حرمت على ابنه .

ثم قال : وقد كان فى العرب قبائل قد اعتادت أن يخلف ابن الرجل على امرأة أبيه . وكانت هذه السيرة فى الأنصار لازمة ، وكانت فى قريش مباحة على التراضى ، فنهى الله المؤمنين عما كان عليه آباؤهم من هذه السيرة .

وقوله { وَلاَ تَنكِحُواْ مَا نَكَحَ آبَاؤُكُمْ } الخ . معطوف على قوله : { لاَ يَحِلُّ لَكُمْ أَن تَرِثُواْ النسآء كَرْهاً } و { مَا } فى قوله { مَا نَكَحَ آبَاؤُكُمْ } موصول اسمى مراد به الجنس . أى لا تنكحوا التى نكح آباؤكم . وقوله { مِّنَ النسآء } بيان ل { مَا } الموصولة .

ويرى بعضهم أن " ما " هنا مصدرية فيكون المعنى . ولا تنحوا نكاحا مثل نكاح آبائكم الفاسد الذى كانوا يفعلونه فى الجاهلية .

قال الآلوسى . وإنما خص هذا النكاح بالنهى ، ولم ينظم فى سلك نكاح المحرمات الآتية " ومبالغة فى الزجر عنه . حيث كان ذلك ديدنا لهم فى الجاهلية " .

فالآية الكريمة تحرم على الأبناء أن يتزوجوا من النساء اللائى كن أزواجا لآبائهم . وكلمة { آبَاؤُكُمْ } فى قوله { وَلاَ تَنكِحُواْ مَا نَكَحَ آبَاؤُكُمْ } تشمل كل الأصول من الرجال . أي : تشمل الأجداد جميعا سواء أكانوا من جهة الأب أو من جهة الأم والاستثناء فى قوله { إِلاَّ مَا قَدْ سَلَفَ } استثناء منقطع .

والمعنى : لا تنكحوا أيها المؤمنون ما نكح آباؤكم من النساء . لأنه من أفعال الجاهلية القبيحة ، لكن ما قد سلف ومضى منه قبل نزول هذه الآية فلا تؤاخذون عليه ، فمن كان متزوجا من امرأة كانت زوجة لأبيه من النسب أو من الرضاع ، فإنها تصير حراما عليه من وقت نزول هذه الآية الكريمة ، ويجب عليه أن يفارقها أما ما مضى من هذا النكاح القبيح فلا تثريب عليكم فيه ، وتثبت به أحكام النكاح من النسب وغيره من الأحكام .

ويرى بعضهم أن الاستثناء هنا متصل مما يستلزمه النهى ، ويستوجبه مباشرة المنهى عنه من العقاب . فكأنه قيل : ولا تنكحوا ما نكح آباؤكم من النساء فإنه قبيح ومعاقب عليه من الله - تعالى - ، إلا ما قد سلف ومضى ، فإنه معفو عنه .

وقد وجه صاحب الكشاف الاستثناء بوجه آخر فقال : فإن قلت : كيف استثنى ما قد سلف مما نكح آباؤهم ؟ قلت : كما استثنى " غير أن سيوفهم " من قول الشاعر :

" ولا عيب فيهم " غير أن سيوفهم . . . بهن قلول من قراع الكتائب

يعنى : إن أمكنكم أن تنكحوا ما قد سلف فانكحوه ، فإنه لا يحل لكم غيره ، وذلك غير ممكن والغرض المبالغة فى تحريمه ، وسد الطريق إلى إباحته كما يعلق بالمحال فى التأييد نحو قولهم : حتى يبيض الفأر . وحتى يلج الجمل فى سم الخياط .

ثم ختم - سبحانه - الآية الكريمة ببيان أن هذا النوع من النكاح فى نهاية السوء والقبح فقال : { إِنَّهُ كَانَ فَاحِشَةً وَمَقْتاً وَسَآءَ سَبِيلاً } .

أى : إن هذا النوع من النكاح كان أمراً زائدا فى القبح شرعا وخلقاً ، لأنه يشبه نكاح الأمهات ، ويتنافى مع ما للآباء من وقار واحترام ، وما يجب من حسن الصحبة وكان " مقتا " والمقت مصدر بمعنى البغض والكراهية .

أى : إن هذا النوع من النكاح كان خصلة بالغة الحد فى القبح والفحش ، وكان ممقوتا مبغوضا عند الله ، وعند ذوى المروءات والعقول السليمة من الناس .

قال صاحب الكشاف : كانوا ينكحون روابهم - أى زوجات آبائهم جمع رابة وهى امرأة الأب - وكان ناس منهم من ذوى مروءاتهم يمقتونه - لفظاعته وبشاعته - ويسمونه نكاح المقت . وكان المولود عليه يقال له المقتى - أى المبغوض - ومن ثم قيل { وَمَقْتاً } كأنه قيل : هو فاحشة فى دين الله بالغة فى القبح . قبيح ممقوت فى المروءة . ولا مزيد على ما يجمع القبحين .

وقوله : { وَسَآءَ سَبِيلاً } أى بئس طريقا طريق ذلك النكاح ، إذ فيه هتك حرمة الأب . وتقطيع للرحم التى أمر الله بوصلها .

وقوله " وساء " هنا بمعنى بئس ، وفيه ضمير يفسره ما بعده . والمخصوص بالذم محذوف تقديره ذلك ؛ أى ساء سبيلا سبيل ذلك النكاح .

قال الفخر الرازى : أعلم أنه - سبحانه - قد وصف هذا النكاح بأمور ثلاثة :

أولها : أنه فاحشة لأن زوجة الأب تشبه الأم فمباشرتها من افحش الفواحش .

وثانيها : المقت : وهو عبارة عن بغض مقرون باستحقار .

وثالثها : قوله { وَسَآءَ سَبِيلاً } .

واعلم أن مراتب القبح ثلاثة : القبح فى العقول وفى الشرائع وفى العادات .

فقوله - تعالى - { إِنَّهُ كَانَ فَاحِشَةً } إشارة الى القبح العقلى . وقوله { وَمَقْتاً } إشارة إلى القبح الشرعى . وقوله { وَسَآءَ سَبِيلاً } إشارة إلى القبح فى العرف والعادة . ومتى اجتمعت فيه هذه الوجوه فقد بلغ الغاية فى القبح .

وقال الإِمام ابن كثير ، فمن تعاطى هذا النكاح بعد ذلك - أى استباح تعاطيه - فقد ارتد عن دينه فيقتل ويصير ماله فيئا لبيت المال . لما رواه الإِمام أحمد وأهل السنن من طرق عن البراء بن عازب أنه بعثه رسول الله صلى الله صلى الله عليه وسلم - إلى رجل تزوج امرأة أبيه من بعده ، فأمره أن يقتله ويأخذ ماله .

وفى رواية عن البراء قال ، مرّ بى عمى الحارث بن عمير ومعه لواء قد عقده له النبى صلى الله عليه وسلم فقلت له ، أى عم ، أين بعثك النبى صلى الله عليه وسلم فقال ، بعثنى إلى رجل تزوج امرأة أبيه فأمرنى أن أضرب عنقه .

 
في ظلال القرآن لسيد قطب - سيد قطب [إخفاء]  
{وَلَا تَنكِحُواْ مَا نَكَحَ ءَابَآؤُكُم مِّنَ ٱلنِّسَآءِ إِلَّا مَا قَدۡ سَلَفَۚ إِنَّهُۥ كَانَ فَٰحِشَةٗ وَمَقۡتٗا وَسَآءَ سَبِيلًا} (22)

وفي نهاية هذه الفقرة يحرم تحريما باتا - مع التفظيع والتبشيع - أن ينكح الأبناء ما نكح آباؤهم من النساء . وقد كان ذلك في الجاهلية حلالا . وكان سببا من أسباب عضل النساء أحيانا ، حتى يكبر الصبي فيتزوج امرأة أبيه ، أو إن كان كبيرا تزوجها بالوراثة كما يورث الشيء ! فجاء الإسلام يحرم هذا الأمر أشد التحريم :

( ولا تنكحوا ما نكح آباؤكم من النساء - إلا ما قد سلف - إنه كان فاحشة ومقتا وساء سبيلا ) . .

ويبدو لنا من حكمة هذا التحريم ثلاثة اعتبارات - وإن كنا نحن البشر لا نحيط بكل حكمة التشريع ، ولا يتوقف خضوعنا له ، وتسليمنا به ، ورضاؤنا إياه على إدراكنا أو عدم إدراكنا لهذه الحكمة ، فحسبنا أن الله قد شرعه ، لنستيقن أن وراءه حكمة ، وأن فيه المصلحة .

نقول : يبدو لنا من حكمة هذا التحريم ثلاثة اعتبارات : الأول أن امرأة الأب في مكان الأم . والثاني : ألا يخلف الابن أباه ؛ فيصبح في خياله ندا له . وكثيرا ما يكره الزوج زوج امرأته الأول فطرة وطبعا ، فيكره أباه ويمقته ! والثالث : ألا تكون هناك شبهة الإرث لزوجة الأب . الأمر الذي كان سائدا في الجاهلية . وهو معنى كريه يهبط بإنسانية المرأة والرجل سواء . وهما من نفس واحد ، ومهانة أحدهما مهانة للآخر بلا مراء .

لهذه الاعتبارات الظاهرة - ولغيرها مما يكون لم يتبين لنا - جعل هذا العمل شنيعا غاية الشناعة . . جعله فاحشة . وجعله مقتا : أي بغضا وكراهية . وجعله سبيلا سيئا . . إلا ما كان قد سلف منه في الجاهلية ، قبل أن يرد في الإسلام تحريمه . فهو معفو عنه . متروك أمره لله سبحانه . .

 
تفسير القرآن العظيم لابن كثير - ابن كثير [إخفاء]  
{وَلَا تَنكِحُواْ مَا نَكَحَ ءَابَآؤُكُم مِّنَ ٱلنِّسَآءِ إِلَّا مَا قَدۡ سَلَفَۚ إِنَّهُۥ كَانَ فَٰحِشَةٗ وَمَقۡتٗا وَسَآءَ سَبِيلًا} (22)

وقوله تعالى : { وَلا تَنْكِحُوا مَا نَكَحَ آبَاؤُكُمْ مِنَ النِّسَاءِ [ إِلا مَا قَدْ سَلَفَ إِنَّهُ كَانَ فَاحِشَةً وَمَقْتًا وَسَاءَ سَبِيلا ]{[6886]} } يُحَرم تعالى زوجات الآباء تكرمة لهم ، وإعظامًا واحترامًا أن توطأ من بعده ، حتى إنها لتحرم على الابن بمجرد العقد عليها ، وهذا أمر مجمع عليه .

قال ابن أبي حاتم : حدثنا أبي ، حدثنا مالك بن إسماعيل ، حدثنا قيس بن الربيع عن أشعث بن سَوَّار ، عن عدي بن ثابت ، عن رجل من الأنصار قال : لما توفي أبو قَيْس - يعني ابن الأسلت - وكان من صالحي الأنصار ، فخطب ابنَه قيس امرأته ، فقالت : إنما أعُدُّكَّ ولدا وأنت من صالحي قومك ، ولكن آتي{[6887]} رسول الله صلى الله عليه وسلم فأستأمره . فأتت رسول الله صلى الله عليه وسلم فقالت : إن أبا قيس تُوفِّي . فقال : " خيرا " . ثم قالت : إن ابنه قيسًا خطبني وهو من صالحي قومه . وإنما كنت أعده ولدًا ، فما ترى ؟ فقال{[6888]} لها : " ارجعي إلى بيتك " . قال : فنزلت هذه الآية { وَلا تَنْكِحُوا مَا نَكَحَ آبَاؤُكُمْ مِنَ النِّسَاءِ [ إِلا مَا قَدْ سَلَفَ ]{[6889]} } الآية .

وقال ابن جرير : حدثنا القاسم ، حدثنا ، حسين ، حدثنا حَجَّاج ، عن ابن جُرَيْج ، عن عِكْرمة في قوله : { وَلا تَنْكِحُوا مَا نَكَحَ آبَاؤُكُمْ مِنَ النِّسَاءِ إِلا مَا قَدْ سَلَفَ } [ الآية ]{[6890]} قال : نزلت في أبي قيس ابن الأسلت ، خُلِّفَ على أم عبيد{[6891]} الله بنت صخر{[6892]} وكانت تحت الأسلت أبيه ، وفي الأسود بن خَلَفَ ، وكان خلف على ابنة أبي طلحة بن عبد العُزّى بن عُثمان بن عبد الدار ، وكانت عند أبيه خَلَف ، وفي فاخِتَة ابنة الأسود بن المطلب بن أسد ، كانت عند أمية بن خَلَف ، فخُلِّف عليها صفوان ابن أمية{[6893]} .

وقد زعم السُّهيلي أن نكاح نساء الآباء كان معمولا به في الجاهلية ؛ ولهذا قال : { إِلا مَا قَدْ سَلَفَ } كما قال { وَأَنْ تَجْمَعُوا بَيْنَ الأخْتَيْنِ إِلا مَا قَدْ سَلَفَ } قال : وقد فعل ذلك كِنَانة بن خزيمة ، تزوج بامرأة أبيه ، فأولدها ابنه النضْر بن كنانة قال : وقد قال صلى الله عليه وسلم : " وُلِدتُ من نِكاحٍ لا من سِفَاحٍ " . قال : فدل على أنَّه كان سائغًا لهم ذلك ، فإن أراد أن ذلك كان عندهم يعدونه نكاحًا فيما بينهم ، فقد قال ابن جرير : حدثنا محمد بن عبد الله المخرمي{[6894]} حدثنا قُرَاد ، حدثنا ابن عيينة عن عمر ، عن عكرمة ، عن ابن عباس قال : كان أهل الجاهلية يُحَرِّمون ما حرم الله ، إلا امرأة الأب والجمع بين الأختين ، فأنزل الله : { وَلا تَنْكِحُوا مَا نَكَحَ آبَاؤُكُمْ مِنَ النِّسَاءِ } { وَأَنْ تَجْمَعُوا بَيْنَ الأخْتَيْنِ } وهكذا قال عطاء وقتادة . ولكن فيما نقله السهيلي من قصة كنانة نظر ، والله أعلم . على كل تقدير فهو حرام في هذه الأمة ، مُبَشَّع غاية التبشع{[6895]} ولهذا قال : { إِنَّهُ كَانَ فَاحِشَةً وَمَقْتًا وَسَاءَ سَبِيلا } ولهذا قال{[6896]} [ تعالى ]{[6897]} { وَلا تَقْرَبُوا الْفَوَاحِشَ مَا ظَهَرَ مِنْهَا وَمَا بَطَنَ } [ الأنعام : 151 ] وقال { وَلا تَقْرَبُوا الزِّنَا إِنَّهُ كَانَ فَاحِشَةً وَسَاءَ سَبِيلا } [ الإسراء : 32 ] فزاد هاهنا : { وَمَقْتًا } أي : بُغْضًا ، أي هو أمر كبير في نفسه ، ويؤدي إلى مقت الابن أباه بعد أن يتزوج بامرأته ، فإن الغالب أن من تزوج بامرأة يبغض من كان زوجها قبله ؛ ولهذا حرمت أمهات المؤمنين على الأمة ؛ لأنهن أمهات ، لكونهن زوجات النبي صلى الله عليه وسلم ، وهو كالأب [ للأمة ]{[6898]} بل حقه أعظم من حق الآباء بالإجماع ، بل حبه مقدم على حب النفوس صلوات الله وسلامه عليه .

وقال عَطاء بن أبي رَباح في قوله : { ومقتا } أي : يمقت الله عليه { وَسَاءَ سَبِيلا } أي : وبئس طريقا لمن سلكه من الناس ، فمن تعاطاه بعد هذا فقد ارتد عن دينه ، فيقتل ، ويصير ماله فيئا لبيت المال . كما رواه الإمام أحمد وأهل السنن ، من طرق ، عن البراء بن عازب ، عن خاله أبي{[6899]} بردة - وفي رواية : ابن عمر - وفي رواية : عن عمه : أنه بعثه رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى رجل تزوج امرأة أبيه من بعده أن يقتله ويأخذ ماله .

وقال الإمام أحمد : حدثنا هُشَيْم ، حدثنا أشعث ، عن عدي بن ثابت ، عن البراء بن عازب قال : مرَّ بي عمي الحارث بن عمرو ، ومعه لواء قد عقده له النبي{[6900]} صلى الله عليه وسلم فقلت له : أي عم ، أين بعثك النبي [ صلى الله عليه وسلم ]{[6901]} ؟ قال : بعثني إلى رجل تزوج امرأة أبيه فأمرني أن أضرب عنقه{[6902]} .

مسألة :

وقد أجمع{[6903]} العلماءُ على تحريم من وطئها الأبُ بتزويج أو ملك أو بشبهة أيضًا ، واختلفوا فيمن باشرها بشهوة دون الجماع ، أو نظر إلى ما لا يحل له النظر إليه منها لو كانت أجنبية . فعن الإمام أحمد رحمه الله أنها تحرم أيضا بذلك . قد روى [ الحافظ ]{[6904]} ابن{[6905]} عساكر في ترجمة خُدَيْج الحِصْنِيّ{[6906]} مولى معاوية قال : اشترى لمعاوية جارية بيضاء جميلة ، فأدخلها عليه مجردة وبيده قضيب . فجعل يهوي به إلى متاعها ويقول : هذا المتاع لو كان له متاع ! اذهب بها إلى يزيد بن معاوية . ثم قال : لا ادع لي ربيعة بن عمرو الجُرَشِي - وكان فقيها - فلما دخل عليه قال : إن هذه أتيت بها مجردة ، فرأيت منها ذاك وذاك ، وإني أردت أن أبعث بها إلى يزيد . فقال : لا تفعل يا أمير المؤمنين ، فإنها لا تصلح له . ثم قال : نعم ما رأيت . ثم قال : ادع لي عبد الله بن مسعدة الفزاري ، فدعوته ، وكان آدم شديد الأدمة ، فقال : دونك هذه ، بَيض بها ولدك . قال : و[ قد ]{[6907]} كان عبد الله بن مسعدة هذا وهبه رسول الله صلى الله عليه وسلم لابنته فاطمة فربته ثم أعتقته ثم كان بعد ذلك مع معاوية من الناس عَلَى عَلِي [ بن أبي طالب ]{[6908]} رضي الله عنه .


[6886]:زيادة من جـ، ر، أ، وفي هـ: "الآية".
[6887]:في أ: "أتيت".
[6888]:في جـ، ر، أ، "قال".
[6889]:زيادة من ج، ر، أ.
[6890]:زيادة من أ.
[6891]:في أ: "عبد".
[6892]:في جـ، ر، أ: "ضمرة".
[6893]:تفسير الطبري (8/133).
[6894]:في أ: "المحرمي".
[6895]:في ر: "التبشيع".
[6896]:في جـ، ر، أ: "وقد قال".
[6897]:زيادة من ر.
[6898]:زيادة من أ.
[6899]:في ر: "أبو" وهو خطأ.
[6900]:في ر: "رسول الله".
[6901]:زيادة من جـ، ر، أ.
[6902]:المسند (4/392).
[6903]:في أ: "اجتمع".
[6904]:زيادة من أ.
[6905]:في أ: "أبو".
[6906]:في جـ، أ: "الحمصي"، ولم أجد ترجمته فيما بين يدي من تاريخ دمشق لابن عساكر ولا في المختصر لابن منظور.
[6907]:زيادة من جـ، أ.
[6908]:زيادة من جـ، ر، أ.
 
جامع البيان عن تأويل آي القرآن للطبري - الطبري [إخفاء]  
{وَلَا تَنكِحُواْ مَا نَكَحَ ءَابَآؤُكُم مِّنَ ٱلنِّسَآءِ إِلَّا مَا قَدۡ سَلَفَۚ إِنَّهُۥ كَانَ فَٰحِشَةٗ وَمَقۡتٗا وَسَآءَ سَبِيلًا} (22)

القول في تأويل قوله تعالى :

{ وَلاَ تَنكِحُواْ مَا نَكَحَ آبَاؤُكُمْ مّنَ النّسَآءِ إِلاّ مَا قَدْ سَلَفَ إِنّهُ كَانَ فَاحِشَةً وَمَقْتاً وَسَآءَ سَبِيلاً } .

قد ذكر أن هذه الاَية نزلت في قوم كانوا يخلفون على حلائل آبائهم ، فجاء الإسلام وهم على ذلك ، فحرّم الله تبارك وتعالى عليهم المقام عليهن ، وعفا لهم عما كان سلف منهم في جاهليتهم وشركهم من فعل ذلك لم يؤاخذهم به إن هم اتقوا الله في إسلامهم وأطاعوه فيه . ذكر الأخبار التي رويت في ذلك :

حدثني محمد بن عبد الله المخرمي ، قال : حدثنا قراد ، قال : حدثنا ابن عيينة وعمرو ، عن عكرمة ، عن ابن عباس ، قال : كان أهل الجاهلية يحرّمون ما يحرّم إلا امرأة الأب ، والجمع بين الأختين ، قال : فأنزل الله : { وَلا تَنْكِحُوا ما نَكَحَ آباؤُكُمْ مِنَ النّساءِ إلاّ ما قَدْ سَلَفَ } { وأنْ تَجْمَعُوا بَيْنَ الأُخْتَيْنِ } .

حدثنا محمد بن بشار ، قال : حدثنا عبد الأعلى ، قال : حدثنا سعيد ، عن قتادة في قوله : { وَلا تَنْكِحُوا ما نَكَحَ آباؤُكُمْ مِنَ النّساءِ } . . . الاَية ، قال : كان أهل الجاهلية يحرّمون ما حرّم الله ، إلا أن الرجل كان يخلف على حليلة أبيه ، ويجمعون بين الأختين ، فمن ثم قال الله : { وَلا تَنْكِحُوا ما نَكَحَ آباؤُكُمْ مِنَ النّساءِ إلاّ ما قَدْ سَلَفَ } .

حدثنا القاسم ، قال : حدثنا الحسين ، قال : ثني حجاج ، عن ابن جريج ، عن عكرمة في قوله : { وَلا تَنْكِحُوا ما نَكَحَ آباؤُكُمْ مِنَ النّساءِ إلاّ ما قَدْ سَلَفَ } قال : نزلت في أبي قيس بن الأسلت خلف على أم عبيد بنت ضمرة ، كانت تحت الأسلت أبيه ، وفي الأسود بن خلف ، وكان خلف على بنت أبي طلحة بن عبد العزّى بن عثمان بن عبد الدار ، وكانت عند أبيه خلف ، وفي فاختة بنت الأسود بن المطلب بن أسد ، وكانت عند أمية بن خلف ، فخلف عليها صفوان بن أمية ، وفي منظور بن رباب ، وكان خلف على مليكة ابنة خارجة ، وكانت عند أبيه رباب بن سيار .

حدثنا القاسم ، قال : حدثنا الحسين ، قال : ثني حجاج ، عن ابن جريج ، قال : قلت لعطاء بن أبي رباح : الرجل ينكح المرأة ثم لا يراها حتى يطلقها ، أتحلّ لابنه ؟ قال : هي مرسلة ، قال الله تعالى : { وَلا تَنْكِحُوا ما نَكَحَ آباؤُكُمْ مِنَ النّساءِ } قال : قلت لعطاء : ما قوله : { إلاّ ما قَدْ سَلَفَ } ؟ قال : كان الأبناء ينكحون نساء آبائهم في الجاهلية .

حدثني المثنى ، قال : حدثنا عبد الله بن صالح ، قال : ثني معاوية بن صالح ، عن عليّ بن أبي طلحة ، عن ابن عباس ، قوله : { وَلا تَنْكِحُوا ما نَكَحَ آباؤُكُمْ مِنَ النّساءِ } . . . الاَية ، يقول : كل امرأة تزوّجها أبوك وابنك دخل أو لم يدخل فهي عليك حرام .

واختلف في معنى قوله : { إلاّ ما قَدْ سَلَفَ } فقال بعضهم : معناه : لكن ما قد سلف فدعوه ، وقالوا هو من الاستثناء المنقطع .

وقال آخرون : معنى ذلك : ولا تنكحوا نكاح آبائكم ، بمعنى : ولا تنكحوا كنكاحهم كما نكحوا على الوجوه الفاسدة التي لا يجوز مثلها في الإسلام ، { إنّهُ كَانَ فَاحِشَةً وَمَقْتا وَسَاءَ سَبِيلاً } يعني : أن نكاح آبائكم الذي كانوا ينكحونه في جاهليتهم كان فاحشة ومقتا وساء سبيلاً ، إلا ما قد سلف منكم في جاهليتكم من نكاح لا يجوز ابتداء مثله في الإسلام ، فإنه معفوّ لكم عنه .

وقالوا : قوله : { وَلا تَنْكِحُوا ما نَكَحَ أباؤُكُمْ مِنَ النّساءِ } كقول القائل للرجل : لا تفعل ما فعلت ، ولا تأكل ما أكلت بمعنى : ولا تأكل كما أكلت ، ولا تفعل كما فعلت .

وقال آخرون : معنى ذلك : ولا تنكحوا ما نكح آباؤكم من النساء بالنكاح الجائز كان عقده بينهم ، إلا ما قد سلف منهم من وجوه الزنا عندهم ، فإن نكاحهنّ لكم حلال كان لأنهنّ لم يكنّ لهم حلائل ، وإنما ما كان من آبائكم منهنّ من ذلك فاحشة ومقتا وساء سبيلاً . ذكر من قال ذلك :

حدثني يونس ، قال : أخبرنا ابن وهب ، قال : قال ابن زيد في قوله : { وَلا تَنْكِحُوا ما نَكَحَ أباؤُكُمْ مِنَ النّساءِ إلاّ ما قَدْ سَلَف } . . . . الاَية ، قال : الزنا ، إنه كان فاحشة ومقتا وساء سبيلاً . فزاد ههنا المقت .

قال أبو جعفر : وأولى الأقوال في ذلك بالصواب على ما قاله أهل التأويل في تأويله ، أن يكون معناه : ولا تنكحوا من النساء نكاح آبائكم إلا ما قد سلف منكم ، فمضى في الجاهلية ، فإنه كان فاحشة ومقتا وساء سبيلاً ، فيكون قوله : { مِنَ النّساءِ } من صلة قوله : { وَلا تَنْكِحُوا } ويكون قوله : { ما نَكَحَ آباؤكُمْ } بمعنى المصدر ، ويكون قوله : { إلاّ ما قَدْ سَلَفَ } بمعنى الاستثناء المنقطع ، لأنه يحسن في موضعه : لكن ما قد سلف فمضى ، إنه كان فاحشة ومقتا وساء سبيلاً .

فإن قال قائل : وكيف يكون هذا القول موافقا قول من ذكرت قوله من أهل التأويل ، وقد علمت أن الذين ذكرت قولهم في ذلك ، إنما قالوا : أنزلت هذه الاَية في النهي عن نكاح حلائل الاَباء ، وأنت تذكر أنهم إنما نهوا أن ينكحوا نكاحهم ؟ قيل له : وإن قلنا إن ذلك هو التأويل الموافق لظاهر التنزيل ، إذ كانت ما في كلام العرب لغير بني آدم ، وإنه لو كان المقصود بذلك النهي عن حلائل الاَباء دون سائر ما كان من مناكح آبائهم حراما ، ابتدىء مثله في الإسلام ، بنهي الله جلّ ثناؤه عنه ، لقيل : ولا تنكحوا من نكح آباؤكم من النساء إلا ما قد سلف ، لأن ذلك هو المعروف في كلام العرب ، إذ كان «من » لبني آدم و«ما » لغيرهم ، ولا تقل : ولا تنكحوا ما نكح آباؤكم من النساء ، فإنه يدخل في «ما » ما كان من مناكح آبائهم التي كانوا يتناكحونها في جاهليتهم ، فحرم عليهم في الإسلام بهذه الاَية نكاح حلائل الاَباء ، وكل نكاح سواه ، نهى الله تعالى ذكره ابتداء مثله في الإسلام ، مما كان أهل الجاهلية يتناكحونه في شركهم .

ومعنى قوله : { إلاّ ما قَدْ سَلَفَ } : إلا ما قد مضى ، { إنّهُ كان فاحِشَةً } يقول : إن نكاحكم الذي سلف منكم ، كنكاح آبائكم المحرّم عليكم ابتداء مثله في الإسلام بعد تحريمي ذلك عليكم فاحشة ، يقول : معصية { وَمَقْتا وَساءَ سَبِيلاً } : أي بئس طريقا ومنهجا ما كنتم تفعلون في جاهليتكم من المناكح التي كنتم تتناكحونها .

 
التحرير والتنوير لابن عاشور - ابن عاشور [إخفاء]  
{وَلَا تَنكِحُواْ مَا نَكَحَ ءَابَآؤُكُم مِّنَ ٱلنِّسَآءِ إِلَّا مَا قَدۡ سَلَفَۚ إِنَّهُۥ كَانَ فَٰحِشَةٗ وَمَقۡتٗا وَسَآءَ سَبِيلًا} (22)

عطف على جملة { لا يحل لكم أن ترثوا النساء كرهاً } [ النساء : 19 ] ، والمناسبة أنّ من جملة أحوال إرثهم النساء كرها ، أن يكون ابن الميّت أولى بزوجة أبيه ، إذا لم تكن أمَّهُ ، فنهوا عن هذه الصورة نهياً خاصّاً مغلّظاً ، وتُخلّص منه إلى إحصاء المحرّمات .

و { ما نَكح } بمعنى الذي نكح مراد به الجنس ، فلذلك حسن وقع { ما } عوض ( مَن ) لأنّ ( مَن ) تكثير في الموصول المعلوم ، على أنّ البيان بقوله : { من النساء } سوّى بين ( ما ومن ) فرجحت ( مَا ) لخفّتها ، والبيان أيضاً يعيّن أن تكون ( ما ) موصولة . وعدل عن أن يقال : لا تنكحوا نساء آبائكم ليدلّ بلفظ نكح على أنّ عقد الأب على المرأة كاف في حرمة تزوّج ابنه إياها . وذكر { من النساء } بيان لكون ( ما ) موصولة .

والنهي يتعلّق بالمستقبل ، والفعل المضارع مع النهي مدلوله إيجاد الحدث في المستقبل ، وهذا المعنى يفيد النهي عن الاستمرار على نكاحهنّ إذا كان قد حصل قبل ورود النهي . والنكاح حقيقة في العقد شرعا بين الرجل والمرأة على المعاشرة والاستمتاع بالمعنى الصحيح شرعاً ، وتقدّم أنّه حقيقة في هذا المعنى دون الوطء عند تفسير قوله تعالى : { فإن طلقها فلا تحل له من بعد حتى تنكح زوجاً غيره } في سورة البقرة ( 230 ) ، فحرام على الرجل أن يتزوَّج امرأةً عقَد أبوه عليها عقد نكاح صحيح ، ولو لم يدخل بها ، وأمّا إطلاق النكاح على الوطء بعقد فقد حمل لفظَ النكاح عليه بعضُ العلماء ، وزعموا أنَّ قوله تعالى : { فلا تحل له من بعد حتى تنكح زوجاً غيره } أُطلِق فيه النكاح على الوطء لأنّها لا يُحلّها لمطلّقها ثلاثاً مجرّد العقد أي من غير حاجة إلى الاستعانة ببيان السنّة للمقصود من قوله : { تنكح } وقد بيّنت ردّ ذلك في سورة البقرة عند قوله تعالى : { فلا تحل له من بعد حتى تنكح زوجاً غيره } .

وأما الوَطْءُ الحرام من زنى فكونه من معاني النكاح في لغة العرب دعوى واهية .

وقد اختلف الفقهاء فيمن زنى بامرأة هل تحرم على ابنه أو على أبيه . فالذي ذهب إليه مالك في « الموطأ » ، والشافعي : أنّ الزنى لا ينشر الحرمة ، وهذا الذي حكاه الشيخ أبو محمد بن أبي زيد في « الرسالة » ، ويُروى ذلك عن عكرمة عن ابن عباس ، وهو قول الزهري ، وربيعة ، والليث . وقال أبو حنيفة ، وابن الماجشون من أصحاب مالك : الزنى ينشر الحرمة . قال ابن الماجشون : مات مالك على هذا . وهو قول الأوزاعي والثوري . وقال ابن الموّاز : هُو مكروه ، ووقع في المدوّنة ( يفارقها ) فحمله الأكثر على الوجوب . وتأوّله بعضهم على الكراهة . وهذه المسألة جرت فيها مناظرة بين الشافعي ومحمد بن الحسن أشار إليها الجصّاص في أحكامه ، والفخرُ في مفاتيح الغيب ، وهي طويلة .

و { ما قد سلف } هو ما سبق نزولَ هذه الآية أي إلاّ نكاحاً قد سلف فتعيّن أنّ هذا النكاح صار محرَّماً . ولذلك تعيّن أن يكون الاستثناء في قوله : { إلا ما قد سلف } مؤوَّلا إذ ما قد سلف كيف يستثنى من النهي عن فعله وهو قد حصل ، فتعيّن أنّ الاستثناء يرجع إلى ما يقتضيه النهي من الإثم ، أي لا إثم عليكم فيما قد سلف . ثم ينتقل النظر إلى أنّه هل يقرّر عليه فلا يفرّق بين الزوجين اللذين تزوّجا قبل نزول الآية ، وهذا لم يقل به إلاّ بعض المفسّرين فيما نقله الفخر ، ولم أقف على أثر يُثبت قضية معيّنة فرّق فيها النبي صلى الله عليه وسلم بين رجل وزوج أبيه ممّا كان قبل نزول الآية ، ولا على تعيين قائل هذا القول ، ولعل الناس قد بادروا إلى فراق أزواج الآباء عند نزول هذه الآية .

وقد تزوّج قبل الإسلام كثير أزواجَ آبائهم : منهم عُمر بن أمية بن عبد شمس ، خلف على زوج أبيه أميّة كما تقدّم ، ومنهم صفوان بن أمية بن خلف تزوج امرأة أبيه فاختة بنت الأسود بن المطلب بن أسد ، ومنهم منظور بن ريان بن سيار ، تزوّج امرأة أبيه مُلكية بنت خارجة ، ومنهم حصن بن أبي قيس ، تزوّج بعد أبي قيس زوجه ، ولم يُرْوَ أنّ أحداً من هؤلاء أسلم وقرّر على نكاح زوج أبيه .

وجوّزوا أن يكون الاستثناء من لازم النهي وهو العقوبة أي لا عقوبة على ما قد سلف . وعندي أنّ مثل هذا ظاهر للناس فلا يحتاج للاستثناء ، ومتى يظنّ أحد المؤاخذة عن أعمال كانت في الجاهلية قبل مجيء الدين ونزول النهي .

وقيل : هو من تأكيد الشيء بما يشبه ضدّه : أي إن كنتم فاعلين منه فانكحوا ما قد سلف من نساء الآباء البائدة ، كأنّه يوهم أنه يرخّص لهم بعضه ، فيجد السامع ما رخّص له متعذّراً فيتأكّد النهي كقول النابغة :

ولا عيب فيهم غيرَ أَنّ سيُوفَهم *** بهنّ فُلول من قِراع الكتائب

وقولهم ( حتّى يؤوب القارظان ) و ( حتّى يشيب الغراب ) وهذا وجه بعيد في آيات التشريع .

والظاهر أنّ قوله : { إلا ما قد سلف } قصد منه بيان صحّة ما سلف من ذلك في عهد الجاهلية ، وتعذّرَ تداركه الآن ، لموت الزوجين ، من حيث إنّه يترتّب عليه . ثبوت أنساب ، وحقوق مهور ومواريث ، وأيضاً بيان تصحيح أنساب الذين ولدوا من ذلك النكاح ، وأنّ المسلمين انتدبوا للإقلاع عن ذلك اختياراً منهم ، وقد تأوّل سائر المفسّرين قوله تعالى : { إلا ما قد سلف } بوجوه ترجع إلى التجوّز في معنى الاستثناء أو في معنى : { ما نكح } ، حَمَلَهم عليها أنّ نكاح زوج الأب لم يقرّره الإسلام بعد نزول الآية ، لأنّه قال : { إنه كان فاحشة ومقتاً وساء سبيلاً } أي ومثل هذا لا يقرّر لأنّه فاسد بالذات .

والمقت اسم سَمَّتْ به العرب نكاح زوج الأب فقالوا نكاح المقت أي البغض ، وسمّوا فاعل ذلك الضيزن ، وسمَّوْا الابنَ من ذلك النكاح مَقيتا .