91- إن الشيطان لا يريد بتزيينه لكم شرب الخمر ولعب الميسر إلا أن يوجد بينكم الخلاف والشقاق والكراهية ، ليضعف أمركم بذهاب الألفة بينكم ، وتفتيت وحدتكم ، بسبب ما يزينه لكم من شرب المسكرات ولعب القمار ، لكي يصرفكم عن عبادة الله ، ويلهيكم عن أداء الصلاة ، لتسوء آخرتكم كما ساءت دنياكم . فبعد علمكم هذه المفاسد ابتعدوا عما نهيتكم عنه ، لتفوتوا على إبليس غرضه{[57]} .
قوله تعالى : { لعلكم تفلحون إنما يريد الشيطان أن يوقع بينكم العداوة والبغضاء في الخمر والميسر } ، أما العداوة في الخمر ، فإن الشاربين إذا سكروا عربدوا ، وتشاجروا ، كما فعل الأنصاري الذي شج سعد بن أبي وقاص بلحي الجمل . وأما العداوة في الميسر ، قال قتادة : كان الرجل يقامر على الأهل والمال ، ثم يبقى حزيناً مسلوب الأهل والمال ، مغتاظاً على حرفائه .
قوله تعالى : { ويصدكم عن ذكر الله وعن الصلاة } ، وذلك أن من اشتغل بشرب الخمر و القمار ، ألهاه ذلك عن ذكر الله ، وشوش عليه صلاته ، كما فعل بأضياف عبد الرحمن بن عوف . وتقدم رجل ليصلي بهم صلاة المغرب بعدما شربوا فقرأ : ( قل يا أيها الكافرون أعبد ما تعبدون ، بحذف لا .
قوله تعالى : { فهل أنتم منتهون } . أي : انتهوا ، لفظه استفهام ، ومعناه أمر ، كقوله تعالى : { فهل أنتم شاكرون } [ الأنبياء :80 ] .
{ 90 ، 91 } { يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنَّمَا الْخَمْرُ وَالْمَيْسِرُ وَالْأَنْصَابُ وَالْأَزْلَامُ رِجْسٌ مِنْ عَمَلِ الشَّيْطَانِ فَاجْتَنِبُوهُ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ * إِنَّمَا يُرِيدُ الشَّيْطَانُ أَنْ يُوقِعَ بَيْنَكُمُ الْعَدَاوَةَ وَالْبَغْضَاءَ فِي الْخَمْرِ وَالْمَيْسِرِ وَيَصُدَّكُمْ عَنْ ذِكْرِ اللَّهِ وَعَنِ الصَّلَاةِ فَهَلْ أَنْتُمْ مُنْتَهُونَ }
يذم تعالى هذه الأشياء القبيحة ، ويخبر أنها من عمل الشيطان ، وأنها رجس . { فَاجْتَنِبُوهُ } أي : اتركوه { لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ } فإن الفلاح لا يتم إلا بترك ما حرم الله ، خصوصا هذه الفواحش المذكورة ، وهي الخمر وهي : كل ما خامر العقل أي : غطاه بسكره ، والميسر ، وهو : جميع المغالبات التي فيها عوض من الجانبين ، كالمراهنة ونحوها ، والأنصاب التي هي : الأصنام والأنداد ونحوها ، مما يُنصب ويُعبد من دون الله ، والأزلام التي يستقسمون بها ، فهذه الأربعة نهى الله عنها وزجر ، وأخبر عن مفاسدها الداعية إلى تركها واجتنابها . فمنها : أنها رجس ، أي : خبث ، نجس معنى ، وإن لم تكن نجسة حسا .
والأمور الخبيثة مما ينبغي اجتنابها وعدم التدنس بأوضارها . ومنها : أنها من عمل الشيطان ، الذي هو أعدى الأعداء للإنسان .
ومن المعلوم أن العدو يحذر منه ، وتحذر مصايده وأعماله ، خصوصا الأعمال التي يعملها ليوقع فيها عدوه ، فإنها فيها هلاكه ، فالحزم كل الحزم البعد عن عمل العدو المبين ، والحذر منها ، والخوف من الوقوع فيها .
ومنها : أنه لا يمكن الفلاح للعبد إلا باجتنابها ، فإن الفلاح هو : الفوز بالمطلوب المحبوب ، والنجاة من المرهوب ، وهذه الأمور مانعة من الفلاح ومعوقة له .
ومنها : أن هذه موجبة للعداوة والبغضاء بين الناس ، والشيطان حريص على بثها ، خصوصا الخمر والميسر ، ليوقع بين المؤمنين العداوة والبغضاء .
فإن في الخمر من انغلاب العقل وذهاب حجاه ، ما يدعو إلى البغضاء بينه وبين إخوانه المؤمنين ، خصوصا إذا اقترن بذلك من السباب ما هو من لوازم شارب الخمر ، فإنه ربما أوصل إلى القتل . وما في الميسر من غلبة أحدهما للآخر ، وأخذ ماله الكثير في غير مقابلة ، ما هو من أكبر الأسباب للعداوة والبغضاء .
ومنها : أن هذه الأشياء تصد القلب ، ويتبعه البدن عن ذكر الله وعن الصلاة ، اللذين خلق لهما العبد ، وبهما سعادته ، فالخمر والميسر ، يصدانه عن ذلك أعظم صد ، ويشتغل قلبه ، ويذهل لبه في الاشتغال بهما ، حتى يمضي عليه مدة طويلة وهو لا يدري أين هو .
فأي معصية أعظم وأقبح من معصية تدنس صاحبها ، وتجعله من أهل الخبث ، وتوقعه في أعمال الشيطان وشباكه ، فينقاد له كما تنقاد البهيمة الذليلة لراعيها ، وتحول بين العبد وبين فلاحه ، وتوقع العداوة والبغضاء بين المؤمنين ، وتصد عن ذكر الله وعن الصلاة ؟ " فهل فوق هذه المفاسد شيء أكبر منها ؟ "
ولهذا عرض تعالى على العقول السليمة النهي عنها ، عرضا بقوله : { فَهَلْ أَنْتُمْ مُنْتَهُونَ } لأن العاقل -إذا نظر إلى بعض تلك المفاسد- انزجر عنها وكفت نفسه ، ولم يحتج إلى وعظ كثير ولا زجر بليغ .
ثم أكد سبحانه تحريم الخمر والميسر ببيان مفاسدهما الدنيوية والدينية فقال تعالى { إِنَّمَا يُرِيدُ الشيطان أَن يُوقِعَ بَيْنَكُمُ العداوة والبغضآء فِي الخمر والميسر وَيَصُدَّكُمْ عَن ذِكْرِ الله وَعَنِ الصلاة فَهَلْ أَنْتُمْ مُّنتَهُونَ } .
أي : إِنَّمَا يُرِيدُ الشيطان } بتزيينه المنكرات لكم { أَن يُوقِعَ بَيْنَكُمُ العداوة والبغضآء } بأن يقطع ما بينكم من صلات ، ويثير في نفوسكم الأحقاد والضغائن ، بسبب تعاطيكم للخمر والميسر ، وذلك لأن شارب الخمر إذا ما استولت الخمر على عقله أزالت رشده ، وأفقدته وعيه ، وتجعله قد يسيء إلى من أحسن إليه ، ويعتدي على صديقه وجليسه . وذلك يورث أشد ألوان العداوة والبغضاء بين الناس .
ولأن متعاطي الميسر كثيراً ما يخسر ماله على مائدة الميسر . والمال كما نعلم شقيق الروح ، فإذا ما خسره هذا المقامر صار عدوا لمن سلب ماله منه عند المقامرة ، وأصبح يضمر له السوء . وقد يؤدي به الحال إلى قتله حتى يشفي غيظه منه ، لأنه قد جعله فقيراً بائساً مجرداً من أمواله بعد أن كان مالكها وفي ذلك ما فيه من تولد العداوة والبغضاء وإيقاد نار الفتن والشرور بين الناس .
فقوله تعالى : { إِنَّمَا يُرِيدُ الشيطان أَن يُوقِعَ بَيْنَكُمُ العداوة والبغضآء فِي الخمر والميسر } إشارة إلى مفاسدهما الدنيوية .
أما مفاسدهما الدينية فقد أشار إليها سبحانه بقوله : { وَيَصُدَّكُمْ عَن ذِكْرِ الله وَعَنِ الصلاة } .
أي : ويريد الشيطان أيضاً بسبب تعاطيكم للخمر والميسر - أن يصدكم أي يشغلكم ويمنعكم { عَن ذِكْرِ الله } أي : عن طاعته ومراقبته والتقرب إليه { وَعَنِ الصلاة } التي هي الركن الثاني من أركان الإِسلام .
وذلك لأن شارب الخمر يمنعه ما حل به من نشوة كاذبة ، ومن فقدان لرشده عن طاعة الله وعن أداء ما أوجبه عليه من صلاة وغيرها .
ولأن متعاطي الميسر ببسب استحلاله لكسب المال عن هذا الطريق الخبيث ، ويسبب فقدانه للعاطفة الدينية السليمة صار لا يفكر في القيام بما أوجبه الله عليه من عبادات .
ورحم الله الآلوسي ، فقد قال عنده تفسيره لهذه الآية : ووجه صد الشيطان لهم عن ذكر الله وعن الصلاة بسبب تعاطيهم للخمر لغلبة السرور بها والطرب على النفوس . والاستغراق في الملاذ الجسمانية ، تلهى عن ذكر الله - تعالى - وعن الصلاة .
وأن الميسر إن كان اللاعب به غالباً ، انشرحت نفسه ، وصده بحب الغلب والقهر والكسب عما ذكر ، وإن كان مغلوبا حصل له من الانقباض والقهر ما يحثه على الاحتيال لأن يصير غالبا فلا يخطر بقلبه غير ذلك .
وقد شاهدنا كثيراً ممن يلعب بالشطرنج يجري بينهم من اللجاج والحلف الكاذب والغفلة عن ذكر الله تعالى ما ينفر منه الفيل وتكبو له الفرس ويحار لشناعته الفهم وتسود رقعة الأعمال .
وجمع - سبحانه - الخمر والميسر مع الأنصاب والأزلام في الآية في الآية الأولى ثم أفردهما بالذكر في هذه الآية ، لأن الخطاب للمؤمنين ، والمقصود نيهم عن الخمر والميسر ، وإظهار أن هذه الأربعة متقاربة في القبح والمفسدة ، أي أن مجيء الأنصاب والأزلام مع الخمر والميسر إنما هو لتقبيح تعاطيهما ، وتأكيد حرمتهما ، حتى لكأن متعاطي الخمر والميسر يفعل أفعال أهل الجاهلية ، وأهل الشرك بالله - تعالى - وكأنه - كما يقول الزمخشري - : لا مباينة بين من عبد صنما وأشرك بالله في علم الغيب ، وبين من شرب خمراً أو قامر .
وخص الصلاة بالذكر مع أنها لون من ألوان ذكر الله ، تعظيما لشأنها ، كما هو الحال في ذكر الخاص بعد العام ، وإشعارا بأن الصاد عنها كالصاد عن الإِيمان ، لما أنها عماد الدين والفارق بين المسلم وبين الكافر .
والاستفهام في قوله { فَهَلْ أَنْتُمْ مُّنتَهُونَ } لإِنكار استمرارهم على الخمر والميسر بعد أن بين لهم ما بين من مضارهما الدنيوية والدينية ولحضهم على ترك تعاطيهما فورا ، أي : انتهوا سريعاً عنهما فقد بينت لكم ما يدعو إلى ذلك . ولقد لبى الصحابة - رضي الله عنهم - هذا الأمر فقالوا : " انتهينا يا رب ؛ انتهينا يا رب " .
ثم يستمر السياق في كشف خطة الشيطان من وراء هذا الرجس :
( إنما يريد الشيطان أن يوقع بينكم العداوة والبغضاء في الخمر والميسر ، ويصدكم عن ذكر الله وعن الصلاة . . . ) . .
بهذا ينكشف لضمير المسلم هدف الشيطان ، وغاية كيدة وثمرة رجسه . . إنها إيقاع العداوة والبغضاء في الصف المسلم - في الخمر والميسر - كما أنها هي صد ( الذين آمنوًا عن ذكر الله وعن الصلاة ) . . ويالها إذن من مكيدة !
وهذه الأهداف التي يريدها الشيطان أمور واقعة يستطيع المسلمون ان يروها في عالم الواقع بعد تصديقها من خلال القول الإلهي الصادق بذاته . فما يحتاج الإنسان إلى طول بحث حتى يرى أن الشيطان يوقع العداوة والبغضاء - في الخمر والميسر - بين الناس . فالخمر بما تفقد من الوعي وبما تثير من عرامة اللحم والدم ، وبما تهيج من نزوات ودفعات . والميسر الذي يصحابها وتصاحبه بما يتركه في النفوس من خسارات واحقاد ؛ إذا المقمور لابد ان يحقد على قامره الذي يستولى على ماله أمام عينيه ، ويذهب به غانما وصاحبه مقمور مقهور . . إن من طبيعة هذه الأمور أن تثير العداوة والبغضاء ، مهما جمعت بين القرناء في مجالات من العربدة والانطلاق اللذين يخيل للنظرة السطحية أنهما أنس وسعادة !
وأما الصد عن ذكر الله وعن الصلاة ، فلا يحتاجان إلى نظر . . فالخمر تنسي ، والميسر يلهي ، وغيبوبة الميسر لا تقل عن غيبوبة الخمر عند المقامرين ؛ وعالم القامر كعالم السكير لا يتعدى الموائد والأقداح والقداح !
وهكذا عندما تبلغ هذه الإشارة إلى هدف الشيطان من هذا الرجس غايتها من إيقاظ قلوب ( الذين آمنوا ) وتحفزها ، يجيء السؤال الذي لا جواب له عندئذ إلا جواب عمر رضي الله عنه وهو يسمع :
ثم قال تعالى : { إِنَّمَا يُرِيدُ الشَّيْطَانُ أَنْ يُوقِعَ بَيْنَكُمُ الْعَدَاوَةَ وَالْبَغْضَاءَ فِي الْخَمْرِ وَالْمَيْسِرِ وَيَصُدَّكُمْ عَنْ ذِكْرِ اللَّهِ وَعَنِ الصَّلاةِ فَهَلْ أَنْتُمْ مُنْتَهُونَ }
ذكر الأحاديث الواردة في [ بيان ]{[10289]} تحريم الخمر :
قال الإمام أحمد : حدثنا سُرَيج{[10290]} حدثنا أبو مَعْشَر ، عن أبي وَهْب مولى أبي هريرة ، عن أبي هريرة قال : حرمت الخمر ثلاث مرات ، قدم رسول الله صلى الله عليه وسلم المدينة ، وهم يشربون الخمر ويأكلون الميسر ، فسألوا رسول الله صلى الله عليه وسلم عنهما ، فأنزل الله : { يَسْأَلُونَكَ عَنِ الْخَمْرِ وَالْمَيْسِرِ قُلْ فِيهِمَا إِثْمٌ كَبِيرٌ وَمَنَافِعُ لِلنَّاسِ } إلى آخر الآية [ البقرة : 219 ] . فقال الناس : ما حرم علينا ، إنما قال : { فِيهِمَا إِثْمٌ كَبِيرٌ } وكانوا يشربون الخمر ، حتى كان يوما من الأيام صلى رجل من المهاجرين ، أمَّ أصحابه{[10291]} في المغرب ، خلط في قراءته ، فأنزل الله [ عز وجل ]{[10292]} آية أغلظ منها : { يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَقْرَبُوا الصَّلاةَ وَأَنْتُمْ سُكَارَى حَتَّى تَعْلَمُوا مَا تَقُولُونَ } [ النساء : 43 ] وكان الناس يشربون ، حتى يأتي أحدهم الصلاة وهو مفيق . ثم أنزلت آية أغلظ من ذلك : { يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنَّمَا الْخَمْرُ وَالْمَيْسِرُ وَالأنْصَابُ وَالأزْلامُ رِجْسٌ مِنْ عَمَلِ الشَّيْطَانِ فَاجْتَنِبُوهُ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ } قالوا : انتهينا ربنا . وقال الناس : يا رسول الله ، ناس قتلوا في سبيل الله ، [ وناس ]{[10293]} ماتوا على سرفهم{[10294]} كانوا يشربون الخمر ويأكلون الميسر ، وقد جعله الله رجسًا من عمل الشيطان ؟ فأنزل الله تعالى : { لَيْسَ عَلَى الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ جُنَاحٌ فِيمَا طَعِمُوا } إلى آخر الآية ، وقال النبي صلى الله عليه وسلم : " لو حرم عليهم لتركوه كما تركتم " . انفرد به أحمد . {[10295]}
وقال الإمام أحمد : حدثنا خَلَف بن الوليد ، حدثنا إسرائيل ، عن أبي إسحاق ، عن أبي مَيْسَرة ، عن عمر بن الخطاب [ رضي الله عنه ]{[10296]} أنه قال : لما نزل تحريم الخمر قال : اللهم بَيّن لنا في الخمر بيانًا شافيًا . فنزلت هذه الآية التي في البقرة : { يَسْأَلُونَكَ عَنِ الْخَمْرِ وَالْمَيْسِرِ قُلْ فِيهِمَا إِثْمٌ كَبِيرٌ } فَدُعي عمر فقرئت عليه ، فقال : اللهم بين لنا في الخمر بيانًا شافيًا . فنزلت الآية التي في سورة النساء : { يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَقْرَبُوا الصَّلاةَ وَأَنْتُمْ سُكَارَى } فكان{[10297]} منادي رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا أقام الصلاة نادى : ألا يقربن الصلاة سكران . فدعي عمر فقرئت عليه ، فقال : اللهم بين لنا في الخمر بيانًا شافيًا . فنزلت الآية التي في المائدة ، فدعي عمر فقرئت عليه فلما بلغ : { فَهَلْ أَنْتُمْ مُنْتَهُونَ } قال عمر : انتهينا . {[10298]}
وهكذا رواه أبو داود ، والترمذي ، والنسائي من طرق ، عن إسرائيل ، عن أبي إسحاق عَمْرو بن عبد الله السَّبِيعي وعن أبي ميسرة - واسمه عمرو بن شُرَحبيل الهمداني - عن عُمَر ، به . وليس له عنه سواه ، قال أبو زُرْعَة : ولم يسمع منه . وصحح هذا الحديث علي بن المديني والترمذي . {[10299]}
وقد ثبت في الصحيحين عن عمر بن الخطاب أنه قال في خطبته على منبر رسول الله صلى الله عليه وسلم : أيها الناس ، إنه نزل تحريم الخمر وهي من خمسة : من العنب ، والتمر ، والعسل ، والحِنْطَة ، والشعير ، والخمر ما خامر العقل . {[10300]}
وقال البخاري : حدثنا إسحاق بن إبراهيم ، حدثنا محمد بن بِشْر ، حدثنا عبد العزيز بن عمر بن عبد العزيز ، حدثني نافع ، عن ابن عمر قال : نزل تحريم الخمر وإن بالمدينة يومئذ لخمسة أشربة ما فيها شراب العنب . {[10301]}
حديث آخر : قال أبو داود الطيالسي : حدثنا محمد بن أبي حميد ، عن المصري - يعني أبا طعمة قارئ مصر - قال : سمعت ابن عمر يقول : نزلت في الخمر ثلاث آيات ، فأول شيء نزل : { يَسْأَلُونَكَ عَنِ الْخَمْرِ وَالْمَيْسِرِ } الآية [ البقرة : 219 ] فقيل : حرمت الخمر . فقالوا : يا رسول الله ، ننتفع بها كما قال الله تعالى . قال : فسكت عنهم ثم نزلت هذه الآية : { لا تَقْرَبُوا الصَّلاةَ وَأَنْتُمْ سُكَارَى } [ النساء : 43 ] . فقيل : حرمت الخمر ، فقالوا : يا رسول الله ، إنا لا نشربها قرب الصلاة ، فسكت عنهم ثم نزلت :{[10302]} { يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنَّمَا الْخَمْرُ وَالْمَيْسِرُ وَالأنْصَابُ وَالأزْلامُ رِجْسٌ مِنْ عَمَلِ الشَّيْطَانِ فَاجْتَنِبُوهُ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ } فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : " حرمت الخمر " . {[10303]}
حديث آخر : قال الإمام أحمد : حدثنا يعلى ، حدثنا محمد بن إسحاق ، عن القعقاع بن حكيم ؛ أن عبد الرحمن بن وَعْلَة قال : سألت ابن عباس عن بيع الخمر ، فقال : كان لرسول الله صلى الله عليه وسلم صديق من ثقيف - أو : من دوس - فلقيه يوم الفتح براوية خمر يهديها إليه ، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : " يا فلان ، أما علمت أن الله حرمها ؟ " فأقبل الرجل على غلامه فقال : اذهب فبعها . فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : " يا فلان ، بماذا أمرته ؟ " فقال : أمرته أن يبيعها . قال : " إن الذي حرم شربها حرم بيعها " . فأمر بها فأفرغت في البطحاء .
رواه مسلم من طريق ابن وَهْب ، عن مالك ، عن زيد بن أسلم . ومن طريق ابن وهب أيضًا ، عن سليمان بن بلال ، عن يحيى بن سعيد كلاهما - عن عبد الرحمن بن وَعْلَة ، عن ابن عباس ، به . ورواه النسائي ، عن قتيبة ، عن مالك ، به . {[10304]}
حديث آخر : قال الحافظ أبو يعلى الموصلي : حدثنا محمد بن أبي بكر المقدمي ، حدثنا أبو بكر الحنفي ، حدثنا عبد الحميد بن جعفر ، عن شَهْر بن حَوْشَب ، عن تميم الداري أنه كان يهدي لرسول الله صلى الله عليه وسلم راوية{[10305]} من خمر ، فلما أنزل الله تحريم الخمر جاء بها ، فلما رآها رسول الله صلى الله عليه وسلم ضحك وقال : " إنها قد حرمت بعدك " . قال : يا رسول الله ، فأبيعها وأنتفع بثمنها ؟ فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : " لعن الله اليهود ، حرم عليهم شُحُوم البقر والغنم ، فأذابوه ، وباعوه ، والله حَرّم الخمر وثمنها " . {[10306]}
وقد رواه أيضًا الإمام أحمد فقال : حدثنا رَوْح ، حدثنا عبد الحميد بن بَهْرام قال : سمعت شهر بن حوشب قال : حدثني عبد الرحمن بن غَنْم : أن الداري كان يهدي لرسول الله صلى الله عليه وسلم كل عام راوية من خمر ، فلما كان عام حُرّمت جاء براوية ، فلما نظر إليه ضحك فقال{[10307]} أشعرت أنها حرمت بعدك ؟ " فقال : يا رسول الله ، ألا{[10308]} أبيعها وأنتفع بثمنها ؟ فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : " لعن الله اليهود ، انطلقوا إلى ما حُرّم عليهم من شحم البقر والغنم فأذابوه ، فباعوه به ما يأكلون ، وإن الخمر حرام وثمنها حرام ، وإن الخمر حرام وثمنها حرام ، وإن الخمر حرام وثمنها حرام " . {[10309]}
حديث آخر : قال الإمام أحمد : حدثنا قُتَيْبَةُ بن سعيد ، حدثنا ابن لَهِيعَة ، عن سليمان بن عبد الرحمن ، عن نافع بن كَيسان أن أباه أخبره{[10310]} أنه كان يتجر في الخمر في زمن رسول الله صلى الله عليه وسلم ، وأنه أقبل من الشام ومعه خمر في الزقاق ، يريد بها التجارة ، فأتى بها رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال : يا رسول الله ، إني جئتك بشراب طيب{[10311]} فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : " يا كيسان ، إنها قد حرمت بعدك " . قال : فأبيعها يا رسول الله ؟ فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : " إنها قد حرمت وحرم ثمنها " . فانطلق كيسان إلى الزقاق ، فأخذ بأرجلها ثم هراقها . {[10312]}
حديث آخر : قال الإمام أحمد : حدثنا يحيي بن سعيد ، عن حميد ، عن{[10313]} أنس قال : كنت أسقي أبا عبيدة بن الجراح ، وأبي بن كَعْب ، وسُهَيْل بن بيضاء ، ونفرًا من أصحابه عند أبي طلحة وأنا أسقيهم ، حتى كاد الشراب يأخذ منهم ، فأتى آت من المسلمين فقال : أما شعرتم أن الخمر قد حرمت ؟ فما قالوا : حتى ننظر ونسأل ، فقالوا : يا أنس اكف ما بقي في إنائك ، فوالله{[10314]} ما عادوا فيها ، وما هي إلا التمر والبسر ، وهي خمرهم يومئذ . {[10315]}
أخرجاه في الصحيحين - من غير وجه - عن أنس{[10316]} وفي رواية حماد بن زيد ، عن ثابت ، عن أنس قال : كنتُ ساقي القوم يوم حُرّمت الخمر في بيت أبي طلحة ، وما شرابهم إلا الفَضيخ البسرُ والتمرُ ، فإذا مناد ينادي ، قال : اخرج فانظر . فإذا مناد ينادي : ألا إن الخمر قد حُرّمت ، فَجرت في سِكَكِ المدينة ، قال : فقال لي أبو طلحة : اخرج فَأهْرقها . فهرقتها ، فقالوا - أو : قال بعضهم : قُتل فلان وفلان وهي في بطونهم . قال : فأنزل الله : { ليس على الذين آمنوا وعملوا الصالحات جناح فيما طعموا } الآية . {[10317]}
وقال ابن جرير : حدثنا محمد بن بَشَّار ، حدثني عبد الكبير بن عبد المجيد{[10318]} حدثنا عباد بن راشد ، عن قتادة ، عن أنس بن مالك قال : بينما أنا أدير الكأس على أبي طلحة ، وأبي عبيدة بن الجراح ، ومعاذ بن جبل ، وسهيل بن بيضاء ، وأبي دُجَانة ، حتى مالت رؤوسهم من خَليط بُسْر وتمر . فسمعت مناديًا ينادي : ألا إن الخمر قد حُرّمت ! قال : فما دخل علينا داخل ولا خرج منا خارج ، حتى أهرقنا الشراب ، وكسرنا القلال ، وتوضأ بعضنا واغتسل بعضنا ، وأصبنا من طيب أمّ سليم ، ثم خرجنا إلى المسجد ، فإذا رسول الله صلى الله عليه وسلم يقرأ : { يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنَّمَا الْخَمْرُ وَالْمَيْسِرُ وَالأنْصَابُ وَالأزْلامُ رِجْسٌ مِنْ عَمَلِ الشَّيْطَانِ فَاجْتَنِبُوهُ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ } إلى قوله : { فَهَلْ أَنْتُمْ مُنْتَهُونَ } فقال رجل : يا رسول الله ، فما منزلة من مات وهو يشربها ؟ فأنزل الله : { لَيْسَ عَلَى الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ جُنَاحٌ فِيمَا طَعِمُوا [ إِذَا مَا اتَّقَوْا وَآمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ ] }{[10319]} الآية ، فقال رجل لقتادة : أنت سَمعتَه من أنس بن مالك ؟ قال : نعم . وقال رجل لأنس بن مالك : أنت سمعته من رسول الله صلى الله عليه وسلم ؟ قال : نعم - أو : حدثني من لم يكذب ، ما كنا نكذب ، ولا ندري ما الكذب . {[10320]}
حديث آخر : قال الإمام أحمد : حدثنا يحيى بن إسحاق ، أخبرني يحيى بن أيوب ، عن عبيد الله بن زَحر ، عن بكر بن سوادة ، عن قيس بن سعد بن عبادة ؛ أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : " إن ربي تبارك وتعالى حرم عَلَيّ الخمر ، والكُوبَة ، والقنّين . وإياكم والغُبيراء فإنها ثلث خمر العالم " . {[10321]}
حديث آخر : قال الإمام أحمد : حدثنا يزيد ، حدثنا فرج بن فضالة ، عن إبراهيم بن عبد الرحمن بن رافع{[10322]} عن أبيه ، عن عبد الله بن عَمْرو قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : " إن الله حرم على أمتي الخمر والميسر والمزْر ، والكُوبة والقِنّين . وزادني صلاة الوتر " . قال يزيد : القنين : البرابط . تفرد به أحمد . {[10323]}
وقال أحمد أيضا : حدثنا أبو عاصم - وهو النبيل - أخبرنا عبد الحميد بن جعفر ، حدثنا يزيد بن أبي حبيب ، عن عمرو بن الوليد ، عن عبد الله بن عمرو ؛ أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : " من قال علي ما لم أقل فليتبوأ مقعده من جهنم " . قال : وسمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول : " إن الله حرم الخمر والميسر والكوبة والغبيراء ، وكل مسكر حرام " . تفرد به أحمد أيضا{[10324]}
حديث آخر : قال الإمام أحمد : حدثنا وَكِيع ، حدثنا عبد العزيز بن عمر بن عبد العزيز ، عن أبي طعمة - مولاهم - وعن عبد الرحمن بن عبد الله الغافقي أنهما سمعا ابن عمر يقول : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : " لعنت الخمر على عشرة وجوه : لعنت الخمر بعينها وشاربها ، وساقيها ، وبائعها ، ومُبتاعها ، وعاصرها ، ومُعتصرها ، وحاملها ، والمحمولة إليه ، وآكل ثمنها " .
ورواه أبو داود وابن ماجه ، من حديث وكيع ، به . {[10325]}
وقال أحمد : حدثنا حسن ، حدثنا ابن لَهِيعة ، حدثنا أبو طِعْمة ، سمعت ابن عمر يقول : خرج رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى المربد ، فخرجت معه فكنت عن يمينه ، وأقبل أبو بكر فتأخرت عنه ، فكان عن يمينه وكنت عن يساره . ثم أقبل عمر فتنحيت له ، فكان عن يساره . فأتى رسول الله صلى الله عليه وسلم المربد ، فإذا بزقاق على المربد فيها خمر - قال ابن عمر - : فدعاني رسول الله صلى الله عليه وسلم بالمدية - قال ابن عمر : وما عرفت المدية إلا يومئذ - فأمر بالزقاق فشقت ، ثم قال : " لعنت الخمر وشاربها ، وساقيها ، وبائعها ، ومبتاعها ، وحاملها ، والمحمولة إليه ، وعاصرها ، ومعتصرها ، وآكل ثمنها " . {[10326]}
وقال أحمد : حدثنا الحكم بن نافع ، حدثنا أبو بكر بن أبي مريم ، عن ضَمْرة بن حبيب قال : قال عبد الله بن عمر : أمرني رسول الله صلى الله عليه وسلم أن آتيه بمدية وهي الشفرة ، فأتيته بها فأرسل بها فأرهفت ثم أعطانيها وقال : " اغد عليَّ بها " . ففعلت فخرج بأصحابه إلى أسواق المدينة ، وفيها زقاق الخمر قد جلبت من الشام ، فأخذ المدية مني فشق ما كان من تلك الزقاق بحضرته ، ثم أعطانيها وأمر أصحابه الذين كانوا معه أن يمضوا معي وأن يعاونوني ، وأمرني أن آتي الأسواق كلها فلا أجد فيها زق خمر إلا شققته ، ففعلت ، فلم أترك في أسواقها زقًّا إلا شققته . {[10327]}
حديث آخر : قال عبد الله بن وَهب : أخبرني عبد الرحمن بن شُرَيْح ، وابن لَهِيعة ، والليث بن سعد ، عن خالد بن يزيد ، عن ثابت بن يزيد الخولاني أخبره : أنه كان له عم يبيع الخمر ، وكان يتصدق ، فنهيته عنها فلم ينته ، فقدمت المدينة فتلقيت{[10328]} ابن عباس ، فسألته عن الخمر وثمنها ، فقال : هي حرام وثمنها حرام . ثم قال ابن عباس ، رضي الله عنه : يا معشر أمة محمد ، إنه لو كان كتاب بعد كتابكم ، ونبي بعد نبيكم ، لأنزل فيكم كما أنزل فيمن قبلكم ، ولكن أخر ذلك من أمركم إلى يوم القيامة ، ولَعمري لهو أشد عليكم ، قال ثابت : فلقيت عبد الله بن عمر فسألته عن ثمن الخمر ، فقال : سأخبرك عن الخمر ، إني كنت عند رسول الله صلى الله عليه وسلم في المسجد ، فبينما هو محتب حَلّ حُبْوَته ثم قال : " من كان عنده من هذه الخمر فليأتنا بها " . فجعلوا يأتونه ، فيقول أحدهم : عندي راوية . ويقول الآخر : عندي زقٌّ أو : ما شاء الله أن يكون عنده ، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : " اجمعوه ببقيع كذا وكذا ثم آذنوني " . ففعلوا ، ثم آذنوه فقام وقمت معه ، فمشيت عن يمينه وهو متكئ عليّ ، فألحقنا أبو بكر ، رضي الله عنه ، فأخرني رسول الله صلى الله عليه وسلم ، فجعلني عن شماله ، وجعل أبا{[10329]} بكر في مكاني . ثم لحقنا عمر بن الخطاب ، رضي الله عنه فأخرني ، وجعله عن يساره ، فمشى بينهما . حتى إذا وقف على الخمر قال للناس : " أتعرفون هذه{[10330]} قالوا : نعم ، يا رسول الله ، هذه الخمر . قال : " صدقتم " . قال : " فإن الله لعن الخمر وعاصرها ومعتصرها ، وشاربها وساقيها ، وحاملها والمحمولة إليه ، وبائعها ومشتريها وآكل ثمنها " . ثم دعا بسكين فقال : " اشحذوها " . ففعلوا ، ثم أخذها رسول الله صلى الله عليه وسلم يخرق بها الزقاق ، قال : فقال الناس : في هذه الزقاق منفعة ، قال : " أجل ، ولكني إنما أفعل ذلك غضبًا لله ، عز وجل ، لما فيها من سخطه " . فقال عمر : أنا أكفيك يا رسول الله ؟ قال : " لا " .
قال ابن وَهْب : وبعضهم يزيد على بعض في قصة الحديث . رواه البيهقي . {[10331]}
حديث آخر : قال الحافظ أبو بكر البيهقي : أنبأنا أبو الحسين بن بِشْران ، أنبأنا إسماعيل بن محمد الصفار ، حدثنا محمد بن عبيد الله المنادي ، حدثنا وهب بن جرير ، حدثنا شُعْبَة ، عن سِماك ، عن مصعب بن سعد ، عن سعد ، قال : أنزلت في الخمر أربع آيات ، فذكر الحديث . قال : وضع رجل من الأنصار طعامًا ، فدعانا فشربنا الخمر قبل أن تحرم حتى انتشينا ، فتفاخرنا ، فقالت الأنصار : نحن أفضل . وقالت قريش : نحن أفضل . فأخذ رجل من الأنصار لَحْي جَزُور ، فضرب به أنف سعد ففزره ، وكان أنف سعد مفزورًا . {[10332]} فنزلت آية الخمر : { إِنَّمَا الْخَمْرُ وَالْمَيْسِرُ [ وَالأنْصَابُ وَالأزْلامُ ] }{[10333]} إلى قوله تعالى : { فَهَلْ أَنْتُمْ مُنْتَهُونَ } أخرجه مسلم من حديث شعبة . {[10334]}
حديث آخر : قال البيهقي : وأخبرنا أبو نصر بن قتادة ، أنبأنا أبو علي الرفاء ، حدثنا علي بن عبد العزيز ، حدثنا حجاج بن مِنْهال ، حدثنا ربيعة بن كلثوم ، حدثني أبي ، عن سعيد بن جبير ، عن ابن عباس قال : إنما نزل تحريم الخمر في قبيلتين من قبائل الأنصار ، شربوا فلما أن ثمل عبث بعضهم ببعض ، فلما أن صحوا جعل الرجل يرى الأثر بوجهه ورأسه ولحيته ، فيقول : صنع هذا بي ، أخي فلان - وكانوا إخوة ليس في قلوبهم ضغائن{[10335]} والله لو كان بي رؤوفًا رحيمًا ما صنع هذا بي ، حتى وقعت{[10336]} الضغائن في قلوبهم فأنزل الله هذه الآية : { يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنَّمَا الْخَمْرُ وَالْمَيْسِرُ وَالأنْصَابُ وَالأزْلامُ رِجْسٌ مِنْ عَمَلِ الشَّيْطَانِ [ فَاجْتَنِبُوهُ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ * إِنَّمَا يُرِيدُ الشَّيْطَانُ أَنْ يُوقِعَ بَيْنَكُمُ الْعَدَاوَةَ وَالْبَغْضَاءَ فِي الْخَمْرِ وَالْمَيْسِرِ وَيَصُدَّكُمْ عَنْ ذِكْرِ اللَّهِ وَعَنِ الصَّلاةِ ]{[10337]} فَهَلْ أَنْتُمْ مُنْتَهُونَ } فقال ناس من المتكلفين : هي رجس ، وهي في بطن فلان ، وقد قتل يوم أحد ، فأنزل الله : { لَيْسَ عَلَى الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ جُنَاحٌ فِيمَا طَعِمُوا [ إِذَا مَا اتَّقَوْا وَآمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ ثُمَّ اتَّقَوْا وَآمَنُوا ثُمَّ اتَّقَوْا وَأَحْسَنُوا وَاللَّهُ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ ] }{[10338]}
ورواه النسائي في التفسير عن محمد بن عبد الرحيم صاعقة ، عن حجاج بن منهال . {[10339]}
حديث آخر : قال ابن جرير : حدثني محمد بن خَلَف ، حدثنا سعيد بن محمد الجرْمي ، عن أبي تُمَيْلَة ، عن سلام مولى حفص أبي القاسم ، عن أبي بريدة ، عن أبيه قال : بينا نحن قُعُود على شراب لنا ، ونحن رَمْلة ، ونحن ثلاثة أو أربعة ، وعندنا باطية لنا ، ونحن نشرب الخمر حلا إذ قمت حتى آتي رسول الله صلى الله عليه وسلم فأسلم عليه ، إذ نزل تحريم الخمر : { يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنَّمَا الْخَمْرُ وَالْمَيْسِرُ } إلى آخر الآيتين{[10340]} { فَهَلْ أَنْتُمْ مُنْتَهُونَ } ؟ فجئت إلى أصحابي فقرأتها إلى قوله : { فَهَلْ أَنْتُمْ مُنْتَهُون } ؟ قال : وبعض القوم شَربته في يده ، قد شرب بعضها وبقي بعض في الإناء ، فقال بالإناء تحت شفته العليا ، كما يفعل الحجام ، ثم صبوا ما في باطيتهم{[10341]} فقالوا : انتهينا ربنا . {[10342]}
حديث آخر : قال البخاري : حدثنا صَدَقة بن الفضل ، أخبرنا ابن عُيَينة ، عن عمرو ، عن جابر قال : صَبَّح ناس غداة أحد الخمر ، فَقُتلوا من يومهم جميعًا شهداء ، وذلك قبل تحريمها .
هكذا رواه البخاري في تفسيره من صحيحه{[10343]} وقد رواه الحافظ أبو بكر البزار في مسنده : حدثنا أحمد بن عَبْدة ، حدثنا سفيان ، عن{[10344]} عمرو بن دينار سمع جابر بن عبد الله يقول : اصطبح ناس الخمر من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم ثم قتلوا شهداء يوم أحد ، فقالت اليهود : فقد مات بعض الذين قتلوا وهي في بطونهم . فأنزل الله : { لَيْسَ عَلَى الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ جُنَاحٌ فِيمَا طَعِمُوا } ثم قال : وهذا إسناد صحيح . وهو كما قال ، ولكن في سياقته غرابة .
حديث آخر : قال أبو داود الطيالسي : حدثنا شعبة ، عن أبي إسحاق ، عن البراء بن عازب قال : لما نزل تحريم الخمر قالوا : كيف بمن كان يشربها قبل أن تحرم ؟ فنزلت : { لَيْسَ عَلَى الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ جُنَاحٌ فِيمَا طَعِمُوا } الآية .
ورواه الترمذي ، عن بُنْدار ، غُنْدَر{[10345]} عن شعبة ، به نحو . وقال : حسن صحيح . {[10346]}
حديث آخر : قال الحافظ أبو يعلى الموصلي : حدثنا جعفر بن حميد الكوفي ، حدثنا يعقوب القمي ، عن عيسى بن جارية ، عن جابر بن عبد الله قال : كان رجل يحمل الخمر من خيبر إلى المدينة فيبيعها من المسلمين ، فحمل منها بمال فقدم بها المدينة ، فلقيه رجل من المسلمين فقال : يا فلان ، إن الخمر قد حرمت فوضعها حيث انتهى على تَلّ ، وسجى عليها بأكسية ، ثم أتى النبي صلى الله عليه وسلم فقال : يا رسول الله ، بلغني أن الخمر قد حرمت ؟ قال : " أجل " قال : لي أن أردها على من ابتعتها منه ؟ قال : " لا يصلح{[10347]} ردها " . قال : لي أن أهديها إلى من يكافئني منها ؟ قال : " لا " . قال : فإن فيها مالا ليتامى في حجري ؟ قال : " إذ أتانا مال البحرين فأتنا نعوّضُ أيتامك من مالهم " . ثم نادى بالمدينة ، فقال رجل : يا رسول الله ، الأوعية ننتفع بها ؟ . قال : " فَحُلُّوا أوكيتها " . فانصبت حتى استقرت في بطن الوادي هذا حديث غريب . {[10348]}
حديث آخر : قال الإمام أحمد : حدثنا وَكِيع ، حدثنا سفيان ، عن السُّدِّي ، عن أبي هُبيرة - وهو يحيى بن عَبَّاد الأنصاري - عن أنس بن مالك ؛ أن أبا طلحة سأل النبي صلى الله عليه وسلم عن أيتام في حجره ورثوا خمرا فقال : " أهرقها " . قال : أفلا نجعلها خلا ؟ قال : " لا " .
ورواه مسلم ، وأبو داود ، والترمذي ، من حديث الثوري ، به نحوه . {[10349]}
حديث آخر : قال ابن أبي حاتم : حدثنا أبي ، حدثنا عبد الله بن رَجاء ، حدثنا عبد العزيز بن أبي سلمة ، حدثنا هلال بن أبي هلال ، عن عطاء بن يسار ، عن عبد الله بن عمرو قال : إن هذه الآية التي في القرآن : { يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنَّمَا الْخَمْرُ وَالْمَيْسِرُ وَالأنْصَابُ وَالأزْلامُ رِجْسٌ مِنْ عَمَلِ الشَّيْطَانِ فَاجْتَنِبُوهُ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ } قال : هي في التوراة : " إن الله أنزل الحق ليذهب به الباطل ، ويبطل به اللعب ، والمزامير ، والزَّفْن ، والكِبَارات - يعني البرابط - - والزمارات - يعني به الدف - والطنابير - والشعر ، والخمر مرة لمن طعمها . أقسم الله بيمينه وعزة حَيْله من شربها بعد ما حرمتها لأعطشنه{[10350]} يوم القيامة ، ومن تركها بعد ما حرمتها لأسقينه إياها في حظيرة القدس " .
حديث آخر : قال عبد الله بن وَهْب : أخبرني عمرو بن الحارث ؛ أن عمرو بن شُعَيب حدثهم ، عن أبيه ، عن عبد الله بن عمرو بن العاص ، عن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : " من ترك الصلاة سكرًا مرة واحدة ، فكأنما كانت له الدنيا وما عليها فسلبها ، ومن ترك الصلاة سكرًا أربع مرات ، كان حقًا على الله أن يسقيه من طينة الخبال " . قيل : وما طينة الخبال ؟ قال : " عصارة أهل جهنم " .
ورواه أحمد ، من طريق عمرو بن شعيب . {[10351]}
حديث آخر : قال أبو داود : حدثنا محمد بن رافع ، حدثنا إبراهيم بن عمر الصنعاني ، قال : سمعت النعمان - هو ابن أبي شيبة الجَنَدي - يقول عن طاوس ، عن ابن عباس ، عن النبي صلى الله عليه وسلم قال : " كل مَخمَّر خَمْر ، وكل مُسْكِر حَرَام ، ومن شرب مسكرًا بخست صلاته أربعين صباحًا ، فإن تاب تاب الله عليه ، فإن عاد الرابعة كان حقًا على الله أن يُسقيه من طِينة الخَبَال " . قيل : وما طينة الخبال يا رسول الله قال : " صديد أهل النار ، ومن سقاه صغيرًا لا يعرف حلاله من حرامه ، كان حقًا على الله أن يسقيه من طينة الخبال "
تفرد أبو داود . {[10352]}
حديث آخر : قال الشافعي ، رحمه الله : أنبأنا مالك ، عن نافع ، عن ابن عمر ، أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : " من شرب الخمر في الدنيا ، ثم لم يتب منها حُرمها في الآخرة " .
أخرجه البخاري ومسلم ، من حديث مالك ، به . {[10353]}
وروى مسلم عن أبي الربيع ، عن حماد بن زيد ، عن أيوب ، عن نافع عن ابن عمر قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : " كل مُسكر خمر ، وكل مسكر حرام ، ومن شرب الخمر فمات وهو يُدْمنها ولم يتب منها لم يشربها في الآخرة " . {[10354]}
حديث آخر : قال ابن وَهْب : أخبرني عمر بن محمد ، عن عبد الله بن يَسار ؛ أنه سمع سالم بن عبد الله يقول : قال عبد الله بن عمر : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : " ثلاثة لا ينظر الله إليهم يوم القيامة العاق لوالديه ، والمُدْمِن الخمر ، والمنَّان بما أعطى " .
ورواه النسائي ، عن عمر بن علي ، عن يزيد بن زُرَيْع ، عن عمر بن محمد العُمَري ، به . {[10355]}
وروى أحمد ، عن غُنْدَر ، عن شعبة ، عن يزيد بن أبي زياد ، عن مجاهد ، عن أبي سعيد ، عن النبي صلى الله عليه وسلم قال : " لا يدخل الجنة منَّان ولا عاق ، ولا مُدْمِن خمر " . {[10356]}
ورواه أحمد أيضًا ، عن عبد الصمد ، عن عبد العزيز بن مسلم{[10357]} عن يزيد بن أبي زياد ، عن مجاهد ، به . وعن مروان بن شجاع ، عن خَصِيف ، عن مجاهد ، به{[10358]} ورواه النسائي عن القاسم بن زكريا ، عن الحسين الجَعْفِي ، عن زائدة ، عن بن ابن أبي زياد ، عن سالم بن أبي الجعد ومجاهد ، كلاهما عن أبي سعيد ، به . {[10359]}
حديث آخر : قال أحمد : حدثنا عبد الرزاق ، حدثنا سفيان ، عن منصور ، عن سالم بن أبي الجعد ، عن جابان ، عن عبد الله بن عمرو ، عن النبي صلى الله عليه وسلم قال : " لا يدخل الجنة عاق ، ولا مُدْمِن خمر ، ولا منَّان ، ولا ولد زنْيَة " . {[10360]}
وكذا رواه عن يزيد ، عن همام ، عن منصور ، عن سالم ، عن جابان ، عن عبد الله بن عمرو ، به{[10361]} وقد رواه أيضًا عن غُنْدر وغيره ، عن شعبة ، عن منصور ، عن سالم ، عن نُبَيْط بن شُرَيط ، عن جابان ، عن عبد الله بن عمرو ، عن النبي صلى الله عليه وسلم قال : " لا يدخل الجنة منان ، ولا عاق والديه ، ولا مدمن خمر " .
ورواه النسائي ، من حديث شعبة كذلك ، ثم قال : ولا نعلم{[10362]} أحدًا تابع شعبة عن نبيط بن شريط . {[10363]}
وقال البخاري : لا يعرف لجابان سماع من عبد الله ، ولا لسالم من جابان ولا نبيط .
وقد روي هذا الحديث من طريق مجاهد ، عن ابن عباس - ومن طريقه أيضًا ، عن أبي هريرة ، فالله أعلم .
وقال الزهري : حدثني أبو بكر بن عبد الرحمن بن الحارث بن هشام ، أن أباه قال : سمعت عثمان بن عفان يقول : اجتنبوا الخمر ، فإنها أم الخبائث ، إنه كان رجل فيمن خلا قبلكم يتعبد ويعتزل الناس ، فَعَلقته امرأة غَوية ، فأرسلت إليه جاريتها فقالت : إنا ندعوك لشهادة . فدخل معها ، فطفقت كلما دخل بابًا أغلقته دونه ، حتى أفضى إلى امرأة وضيئة عندها غلام وباطية خمر ، فقالت : إني والله ما دعوتك لشهادة ولكن دعوتك لتقع عَليّ أو تقتل هذا الغلام ، أو تشرب هذا الخمر . فسقته كأسًا ، فقال : زيدوني ، فلم يَرِم حتى وقع عليها ، وقتل النفس ، فاجتنبوا الخمر فإنها لا تجتمع هي والإيمان أبدا إلا أوشك أحدهما أن يخرج صاحبه .
رواه البيهقي{[10364]} وهذا إسناد صحيح . وقد رواه أبو بكر بن أبي الدنيا في كتابه " ذم المسكر " عن محمد بن عبد الله بن بَزِيع ، عن الفضيل بن سليمان النميري ، عن عمر بن سعيد ، عن الزهري ، به مرفوعًا{[10365]} والموقوف أصح ، والله أعلم .
وله شاهد في الصحيحين ، عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال : " لا يزني الزاني حين يزني وهو مؤمن ، ولا يسرق سرقة حين يسرقها وهو مؤمن ، ولا يشرب الخمر حين يشربها وهو مؤمن " . {[10366]}
وقال أحمد بن حنبل : حدثنا أسود بن عامر ، أخبرنا إسرائيل ، عن سِماك ، عن عِكْرِمَة ، عن ابن عباس قال : لما حرمت الخمر قال أناس : يا رسول الله ، أصحابنا الذين ماتوا وهم يشربونها ؟ فأنزل الله : { لَيْسَ عَلَى الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ جُنَاحٌ فِيمَا طَعِمُوا } الآية . قال : ولما حُوّلت القبلة قال أناس : يا رسول الله ، أصحابنا الذين ماتوا وهم يصلون إلى بيت المقدس ؟ فأنزل الله : { وَمَا كَانَ اللَّهُ لِيُضِيعَ إِيمَانَكُمْ{[10367]} } [ البقرة : 143 ] .
وقال الإمام أحمد : حدثنا داود بن مِهْران الدباغ ، حدثنا داود - يعني العطار - عن ابن خُثَيْم ، عن شَهْرِ بن حَوْشَب ، عن أسماء بنت يزيد ، أنها سمعت النبي صلى الله عليه وسلم يقول : " من شرب الخمر لم يَرْضَ الله عنه أربعين ليلة ، إن مات مات كافرًا ، وإن تاب تاب الله عليه . وإن عاد كان حقًا على الله أن يسقيه من طِينة الخَبَال " . قالت : قلت : يا رسول الله ، وما طينة الخبال ؟ قال : " صديد أهل النار " . {[10368]}
وقال الأعمش ، عن إبراهيم ، عن علقمة ، عن عبد الله بن مسعود أن النبي صلى الله عليه وسلم قال لما نزلت : { لَيْسَ عَلَى الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ جُنَاحٌ فِيمَا طَعِمُوا إِذَا مَا اتَّقَوْا وَآمَنُوا } فقال النبي صلى الله عليه وسلم : " قيل لي : أنت منهم " .
وهكذا رواه مسلم ، والترمذي ، والنسائي ، من طريقه . {[10369]}
وقال عبد الله بن الإمام أحمد : قرأت على أبي ، حدثنا علي بن عاصم ، حدثنا إبراهيم الهجري ، عن أبي الأحوص ، عن عبد الله بن مسعود قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : " إياكم وهاتان الكعبتان الموسمتان اللتان تزجرا{[10370]} زجرًا ، فإنهما مَيْسِر العَجَم " . {[10371]}
القول في تأويل قوله تعالى : { إِنّمَا يُرِيدُ الشّيْطَانُ أَن يُوقِعَ بَيْنَكُمُ الْعَدَاوَةَ وَالْبَغْضَآءَ فِي الْخَمْرِ وَالْمَيْسِرِ وَيَصُدّكُمْ عَن ذِكْرِ اللّهِ وَعَنِ الصّلاَةِ فَهَلْ أَنْتُمْ مّنتَهُونَ } . .
يقول تعالى ذكره : إنما يريد لكم الشيطان شرب الخمر والمياسرة بالقداح ويحسن ذلك لكم إرادة منه أن يوقع بينكم العداوة والبغضاء في شربكم الخمر ومياسرتكم بالقداح ، ليعادي بعضكم بعضا ، ويبغّضَ بعضكم إلى بعض ، فيشتت أمركم بعد تأليف الله بينكم بالإيمان وجمعه بينكم بأخوة الإسلام . ويَصُدّكُمْ عَنْ ذِكْرِ الله يقول : ويصرفكم بغلبة هذه الخمر بسكرها إياكم عليكم ، وباشتغالكم بهذا الميسر عن ذكر الله الذي به صلاح دنياكم وآخرتكم ، وعن الصلاة التي فرضها عليكم ربكم . فَهَلْ أنْتُمْ مُنْتَهُونَ يقول : فهل أنتم منتهون عن شرب هذه ، والمياسرة بهذا ، وعاملون بما أمركم به ربكم من أداء ما فرض عليكم من الصلاة لأوقاتها ، ولزوم ذكره الذي به نجح طلباتكم في عاجل دنياكم وآخرتكم .
واختلف أهل التأويل في السبب الذي من أجله نزلت هذه الاية ، فقال بعضهم : نزلت بسبب كان من عمر بن الخطاب ، وهو أنه ذكر مكروه عاقبة شربها لرسول الله صلى الله عليه وسلم ، وسأل الله تحريمها . ذكر من قال ذلك :
حدثنا هناد بن السريّ ، قال : حدثنا وكيع ، عن إسرائيل ، عن أبي إسحاق ، عن أبي ميسرة ، قال : قال عمر : اللهمّ بين لنا في الخمر بيانا شافيا قال : فنزلت الاية التي في البقرة : يَسألُونَكَ عَنِ الخَمْرِ والمَيْسِرِ قُلْ فِيهِما إثْمٌ كَبِيرٌ وَمَنافِعُ للنّاسِ قال : فدُعي عمر فقرئت عليه ، فقال : اللهمّ بين لنا في الخمر بيانا شافيا فنزلت الاية في النساء : لا تَقْرَبُوا الصّلاةَ وأنْتُمْ سُكارَى حتى تَعْلَمُوا ما تَقُولُونَ . قال : وكان منادي النبيّ صلى الله عليه وسلم ينادي إذا حضرت الصلاة : لا يقربنّ الصلاة السكران قال : فدُعي عمر ، فقرئت عليه ، فقال : اللهمّ بين لنا في الخمر بيانا شافيا قال : فنزلت الاية التي في المائدة : يا أيّها الّذِينَ آمَنُوا إنّمَا الخَمْرُ وَالمَيْسِرُ والأنْصَابُ والأزْلامُ رِجْسٌ . . . إلى قوله : فَهَلْ أنْتُمْ مُنْتَهُونَ فلما انتهى إلى قوله : فَهَلْ أنْتُمْ مُنْتَهُونَ قال عمر : انتهينا انتهينا .
حدثنا هناد ، قال : حدثنا ابن أبي زائدة ، قال : حدثنا أبي ، عن أبي إسحاق ، عن أبي ميسرة ، قال : قال عمر : اللهمّ بين لنا في الخمر بيانا شافيا ، فإنها تذهب بالعقل والمال ثم ذكر نحو حديث وكيع .
حدثنا ابن وكيع ، قال : حدثنا أبو أسامة ، عن زكريا ، عن أبي إسحاق ، عن أبي ميسرة ، قال : قال عمر بن الخطاب : اللهمّ بين لنا فذكر نحوه .
حدثنا ابن وكيع ، قال : حدثنا أبي ، عن أبيه وإسرائيل ، عن أبي إسحاق ، عن أبي ميسرة ، عن عمر بن الخطاب ، مثله .
حدثنا هناد ، قال : حدثنا يونس بن بكير ، قال : حدثنا زكريا بن أبي زائدة ، عن أبي إسحاق ، عن أبي ميسرة ، عن عمر بن الخطاب ، مثله .
حدثنا هناد ، قال : حدثنا يونس بن بكير ، قال : ثني أبو معشر المدني ، عن محمد بن قيس ، قال : لما قدم رسول الله صلى الله عليه وسلم المدينة أتاه الناس ، وقد كانوا يشربون الخمر ويأكلون الميسر ، فسألوه عن ذلك ، فأنزل الله تعالى : يَسْئَلُونَكَ عَنِ الخَمْرِ والمَيْسِرِ قُلْ فِيهِما إثْمٌ كَبِيرٌ وَمنَافِعُ للناسِ وإثْمُهُماأكبرُ مِنْ نَفْعِهِما فقالوا : هذا شيء قد جاء فيه رخصة ، نأكل الميسر ونشرب الخمر ، ونستغفر من ذلك . حتى أتى رجل صلاة المغرب ، فجعل يقرأ : قل يا أيها الكافرون ، أعبد ما تعبدون ، ولا أنتم عابدون ما أعبد . فجعل لا يجوّد ذلك ولا يدري ما يقرأ ، فأنزل الله : يا أيّها الّذِينَ آمَنُوا لا تَقْرَبُوا الصّلاةَ وأنْتُمْ سُكارَى فكان الناس يشربون الخمر حتى يجيء وقت الصلاة فيدعَون شربها ، فيأتون الصلاة وهم يعلمون ما يقولون . فلم يزالوا كذلك حتى أنزل الله تعالى : إنّمَا الخمْرُ والمَيْسِرُ والأنْصَابُ والأزْلامُ . . . إلى قوله : فَهَلْ أنْتُمْ مُنْتَهُونَ فقالوا : انتهينا يا رب .
وقال آخرون : نزلت هذه الاَية بسبب سعد بن أبي وقاص ، وذلك أنه كان لاَحَى رجلاً على شراب لهما ، فضربه صاحبه بلَحْيِ جمل ، ففزر أنفه ، فنزلت فيهما . ذكر الرواية بذلك :
حدثنا محمد بن المثنى ، قال : حدثنا محمد بن جعفر ، قال : حدثنا شعبة عن سماك بن حرب ، عن مصعب ابن سعد عن أبيه سعد ، أنه قال : صنع رجل من الأنصار طعاما فدعانا ، قال : فشربنا الخمر حتى انتشينا ، فتفاخرت الأنصار وقريش ، فقالت الأنصار : نحن أفضل منكم . قال : فأخذ رجل من الأنصار لحي جمل فضرب به أنف سعد ففزره ، فكان سعد أفزر الأنف . قال : فنزلت هذه الاية : يا أيّها الّذِينَ آمَنُوا إنّمَا الخَمْرُ والمَيْسِرُ . . . إلى آخر الآية .
حدثنا هناد ، قال : حدثنا أبو الأحوص ، عن سماك ، عن مصعب بن سعد ، قال : قال سعد : شربت مع قوم من الأنصار ، فضربت رجلاً منهم أظنّ بفكّ جمل فكسرته ، فأتيت النبيّ صلى الله عليه وسلم فأخبرته ، فلم ألبث أن نزل تحريم الخمر : يا أيّها الّذِينَ آمَنُوا إنّمَا الخَمْرُ وَالمَيْسِرُ . . . إلى آخر الاية .
حدثنا هناد ، قال : حدثنا ابن أبي زائدة ، قال : حدثنا إسرائيل ، عن سماك ، عن مصعب بن سعد ، عن أبيه ، قال : شربت الخمر مع قوم من الأنصار ، فذكر نحوه .
حدثني يونس ، قال : أخبرنا ابن وهب ، قال : أخبرني عمرو بن الحرث أن ابن شهاب أخبره أن سالم بن عبد الله حدثه : أن أوّل ما حرّمت الخمر ، أن سعد بن أبي وقاص وأصحابا له شربوا ، فاقتتلوا ، فكسروا أنف سعد ، فأنزل الله : إنّمَا الخَمْرُ وَالمَيْسِرُ . . . الاية .
وقال آخرون : نزلت في قبيلتين من قبائل الأنصار . ذكر من قال ذلك :
حدثنا الحسين بن عليّ الصدائي ، قال : حدثنا حجاج بن المنهال ، قال : حدثنا ربيعة بن كلثوم ، عن جبير ، عن أبيه ، عن سعيد بن جبير ، عن ابن عباس ، قال : نزل تحريم الخمر في قبيلتين من قبائل الأنصار ، شربوا حتى إذا ثملوا عبث بعضهم ببعض ، فلما أن صحوا جعل الرجل منهم يرى الأثر بوجهه ولحيته ، فيقول : فعل بي هذا أخي فلان ؛ وكانوا إخوة ليس في قلوبهم ضغائن ؛ والله لو كان بي رءوفا رحيما ما فعل بي هذا حتى وقعت في قلوبهم الضغائن ، فأنزل الله : إنّمَا الخَمْرُ والمَيْسِرُ . . . إلى قوله : فَهَلْ أنْتُمْ مُنْتَهُونَ . فقال ناس من المتكلفين : هي رجس ، وهي في بطن فلان قتل يوم بدر ، وقتل فلان يوم أحد ، فأنزل الله : لَيْسَ على الّذِينَ آمَنُوا وعَمِلُوا الصّالِحاتِ جُناحٌ فِيما طَعِمُوا . . . الاية .
حدثنا محمد بن خلف ، قال : حدثنا سعيد بن محمد الجرمي ، عن أبي تميلة ، عن سلام مولى حفص بن أبي قيس ، عن أبي بريدة ، عن أبيه ، قال : بينما نحن قعود على شراب لنا ونحن نشرب الخمر حلاّ ، إذ قمت حتى آتيَ رسول الله صلى الله عليه وسلم فأسلم عليه ، وقد نزل تحريم الخمر : يا أيّها الّذِينَ آمَنُوا إنّمَا الخَمْرُ وَالمَيْسِرُ والأنْصَابُ والأزْلامُ رِجْسٌ مِنْ عَمَلِ الشّيْطانِ . . . إلى آخر الايتين : فَهَلْ أنْتُمْ مُنْتَهُونَ ، فجئت إلى أصحابي فقرأتها عليهم ، إلى قوله : فَهَلْ أنْتُمْ مُنْتَهُونَ . قال : وبعض القوم شرْبته في يده قد شرب بعضا وبقي بعض في الإناء ، فقال بالإناء تحت شفته العليا كما يفعل الحجام ، ثم صبوا ما في باطيتهم ، فقالوا : انتهينا ربنا ، انتهينا ربّنا
وقال آخرون : إنما كانت العداوة والبغضاء كانت تكون بين الذين نزلت فيهم هذه الاية بسبب الميسر لا بسبب السكر الذي يحدث لهم من شرب الخمر ، فلذلك نهاهم الله عن الميسر . ذكر من قال ذلك :
حدثنا بشر ، قال : حدثنا جامع بن حماد ، قال : حدثنا يزيد بن زريع قال بشر : وقد سمعته من يزيد وحدثنيه قال : حدثنا سعيد ، عن قتادة ، قال : كان الرجل في الجاهلية يقامر على أهله وماله ، فيقعد حزينا سليبا ينظر إلى ماله في يدي غيره ، فكانت تورث بينهم عداوةً وبغضاء ، فنهى الله عن ذلك وقدّم فيه والله أعلم بالذي يُصْلح خلقه .
والصواب من القول في ذلك عندنا أن يقال : إن الله تعالى قد سمى هذه الأشياء التي سماها في هذه الاية رجسا وأمر باجتنابها .
وقد اختلف أهل التأويل في السبب الذي من أجله نزلت هذه الاية ، وجائز أن يكون نزولها كان بسبب دعاء عمر رضي الله عنه في أمر الخمر ، وجائز أن يكون ذلك كان بسبب ما نال سعدا من الأنصاريّ عند انتشائهما من الشراب ، وجائز أن يكون كان من أجل ما كان يلحق أحدهم عند ذهاب ماله بالقمار من عداوة من يَسَرَه وبغضه . وليس عندنا بأيّ ذلك كان خبر قاطع للعذر ، غير أنه أي ذلك كان ، فقد لزم حكم الاية جميع أهل التكليف ، وغير ضائرهم الجهل بالسبب الذي له نزلت هذه الاية ، فالخمر والميسر والأنصاب والأزلام رجس من عمل الشيطان فرض على جميع من بلغته الاية من التكليف اجتناب جميع ذلك ، كما قال تعالى : فاجْتَنِبُوهُ لَعَلّكُمْ تُفْلِحُونَ .
جملة { إنّما يريد الشيطان } بيان لكونها من عمل الشيطان . ومعنى يريد يحبّ وقد تقدّم بيان كون الإرادة بمعنى المحبّة عند قوله تعالى : { ألم تر إلى الذين أوتوا نصيباً من الكتاب يشترون الضلالة ويريدون أن تضلّوا السبيل } في سورة [ النساء : 44 ] .
وتقدّم الكلام على العداوة والبغضاء عند قوله تعالى : { وألقينا بينهم العداوة والبغضاء } في هذه السورة [ 64 ] .
وقوله : { في الخمر والميسر } أي في تعاطيهما ، على متعارف إضافة الأحكام إلى الذوات ، أي بما يحدث في شرب الخمر من إثارة الخصومات والإقدام على الجرائم ، وما يقع في الميسر من التحاسد على القامر ، والغيظ والحسرة للخاسر ، وما ينشأ عن ذلك من التشاتم والسباب والضرب . على أنّ مجرّد حدوث العداوة والبغضاء بين المسلمين مفسدة عظيمة ، لأنّ الله أراد أن يكون المؤمنون إخوة إذ لا يستقيم أمْر أمّة بين أفرادها البغضاء . وفي الحديث : « لا تباغضوا ولا تحاسدوا وكونوا عباد الله إخواناً » .
و ( في ) من قوله { في الخمر والميسر } للسبيبة أو الظرفية المجازية ، أي في مجالس تعاطيهما .
وأمّا الصدّ عن ذكر الله وعن الصلاة فلِما في الخمر من غيبوبَة العقل ، وما في الميسر من استفراغ الوقت في المعاودة لتطلّب الربح .
وهذه أربع علل كلّ واحدة منها تقتضي التحريم ، فلا جرم أن كان اجتماعها مُقتضياً تغليظ التحريم . ويلحق بالخمر كلّ ما اشتمل على صفتها من إلقاء العداوة والبغضاء والصدّ عن ذكر الله وعن الصلاة . ويلحق بالميسر كلّ ما شاركه في إلقاء العداوة والبغضاء والصدّ عن ذكر الله وعن الصلاة ، وذلك أنواع القمار كلّها أمّا ما كان من اللهو بدون قِمار كالشطرنج دون قِمار ، فذلك دون الميسر ، لأنّه يندر أن يصدّ عن ذكر الله وعن الصلاة ، ولأنّه لا يوقع في العداوة والبغضاء غالباً ، فتدخل أحكامه تحت أدلّة أخرى .
والذّكر المقصود في قوله : { عن ذكر الله } يحتمل أنّه من الذكر اللسان فيكون المراد به القرآن وكلام الرسول عليه الصلاة والسلام الذي فيه نفعهم وإرشادهم ، لأنّه يشتمل على بيان أحكام ما يحتاجون إليه فإذا انغمسوا في شرب الخمر وفي التقامر غابوا عن مجالس الرسول وسماعِ خُطبه ، وعن ملاقاة أصحابه الملازمين له فلم يسمعوا الذكر ولا يتلقّوه من أفواه سامعيه فيجهلوا شيئاً كثيراً فيه ما يجب على المكلّف معرفته . فالسيء الذي يصدّ عن هذا هو مفسدة عظيمة يستحقّ أن يحرّم تعاطيه ، ويحتمل أنّ المراد به الذكر القلبي وهو تذكّر ما أمر الله به ونهَى عنه فإنّ ذكر ذلك هو ذكر الله كقول عمر بن الخطاب : أفضلُ من ذكر الله باللسان ذِكرُ الله عند أمره ونهيه . فالشيء الذي يصدّ عن تذكّر أمر الله ونهيه هو ذريعة للوقوع في مخالفة الأمر وفي اقتحام النهي . وليس المقصود بالذكر في هذه الآية ذكر الله باللسان لأنّه ليس شيء منه بواجب عدا ما هو من أركان الصلاة فذلك مستغنى عنه بقوله : { وعن الصلاة } .
وقوله : { فهل أنتم منتهون } الفاء تفريع عن قوله : { إنّما يريد الشيطان } الآية ، فإنّ ما ظهر من مفاسد الخمر والميسر كاف في انتهاء الناس عنهما فلم يبق حاجة لإعادة نهيهم عنهما ، ولكن يستغنى عن ذلك باستفهامهم عن مبلغ أثر هذا البيان في نفوسهم ترفيعاً بهم إلى مقام الفَطن الخبير ، ولو كان بعد هذا البيان كلّه نهاهم عن تعاطيها لكان قد أنزلهم منزلة الغبي ، ففي هذا الاستفهام من بديع لطف الخطاب ما بلغ به حد الإعجاز .
ولذلك اختير الاستفهام ب { هل } التي أصل معناها ( قد ) . وكثر وقوعها في حيّز همزة الاستفهام ، فاستغنوا ب { هل } عن ذكر الهمزة ، فهي لاستفهامٍ مضمَّن تحقيقَ الإسناد المستفهَم عنه وهو { أنتم منتهون } ، دون الهمزة إذ لم يقل : أتنتهون ، بخلاف مقام قوله { وجَعَلنا بعضَكم لبعض فتنة أتصبرون } [ الفرقان : 20 ] . k وجعلت الجملة بعد { هل } اسمية لدلالتها على ثبات الخبر زيادة في تحقيق حصول المستفهم عنه ، فالاستفهام هنا مستعمل في حقيقته ، وأريد معها معناه الكنائي ، وهو التحذير من انتفاء وقوع المستفهم عنه .
ولذلك روي أنّ عمر لمّا سمع الآية قال : « انتهينا انتهينا » . ومن المعلوم للسامعين من أهل البلاغة أنّ الاستفهام في مثل هذا المقام ليس مجرّداً عن الكناية . فما حكي عن عمرو بن معد يكرب من قوله « إلاّ أنّ الله تعالى قال { فهل أنتم منتهون } فقلْنا : لا » إن صحّ عنه ذلك . ولي في صحته شكّ ، فهو خطأ في الفهم أو التأويل . وقد شذّ نفر من السلَف نقلت عنهم أخبار من الاستمرار على شرب الخمر ، لا يُدرى مبلغها من الصحّة . ومحملها ، إنْ صحّت ، علَى أنّهم كانوا يتأوّلون قوله تعالى { فهل أنتم منتهون } على أنّه نهي غير جازم . ولم يَطُل ذلك بينهم .
قيل : إنّ قُدامَة بن مظْعون ، مِمَّن شهد بدراً ، ولاّه عُمر على البحرين ، فشهد عليه أبو هريرة والجارود بأنّه شرب الخمر ، وأنكر الجارود ، وتمّت الشهادة عليه برجل وامرأة . فلمّا أراد عمر إقامة الحدّ عليه قال قدامة : لو شربتُها كما يقولون ما كان لك أن تجلدني . قال عُمر : لِمَ ، قال : لأنّ الله يقول : { ليس على الذين آمنوا وعَملوا الصالحات جُناح فيما طعموا إذا ما اتّقوا وآمنوا وعملوا الصالحات } [ المائدة : 93 ] ، فقال عمر : أخطأت التأويل إنّك إذا اتّقيت الله اجتنبت ما حَرّم عليك » . ويروى أنّ وحشياً كان يشرب الخمر بعد إسلامه ، وأنّ جماعة من المسلمين من أهل الشام شربوا الخمر في زمن عمر ، وتأوّلوا التحريم فتلوا قوله تعالى : { ليس على الذين آمنوا وعملوا الصالحات جناح فيما طعموا } [ المائدة : 93 ] ، وأنّ عمر استشار عليّاً في شأنهم ، فاتّفقا على أن يستتابوا وإلاّ قُتلوا . وفي صحة هذا نظر أيضاً . وفي كتب الأخبار أنّ عُيينة بنَ حِصن نزل على عمرو بن معد يكرب في محلّة بني زُبيد بالكوفة فقدّم له عَمْرو خَمراً ، فقال عيينةُ : أو ليس قد حرّمها الله . قال عَمْرو : أنتَ أكبَرُ سِنّاً أم أنا ، قال عيينة : أنتَ . قال : أنتَ أقدَمُ إسلاماً أم أنا ، قال : أنتَ . قال : فإنّي قد قرأتُ ما بين الدفتين ، فوالله ما وجدت لها تحريماً إلاّ أنّ الله قال : فهل أنتم منتهون ، فقلنا : لا » . فبات عنده وشربَا وتنادما ، فلمّا أراد عيينة الانصراف قال عيينة بن حصن :
جُزيت أبَا ثَوْر جَزَاء كرامــةٍ *** فنِعْم الفتى المُزْدَار والمُتَضَيِّــف
قَرَيْتَ فأكْرَمتَ القِرى وأفدْتَنَــا *** تَحِيَّةَ عِلْم{[225]} لم تَكن قبلُ تُعـــرف
وقلتَ : حلال أن ندِير مُدامــة *** كَلَوْن انعِقَاقِ البَرْقِ والليلُ مُسـدف
وقَدّمْتَ فيها حُجَّة عربيَّــــة *** تَرُدّ إلى الإنصاف مَن ليس يُنْصِفُ
وأنتَ لنا واللّهِ ذي العرش قُـدوَة *** إذا صدّنا عن شُرْبها المُتكَلِّــفُ
نَقُول : أبُو ثَوْر أحَلّ شَرَابَهَـــا *** وقولُ أبي ثَوْر أسَدّ وأعْـــرف
وحذف متعلّق { منتهون } لظهوره ، إذ التقدير : فهل أنتم منتهون عنهما ، أي عن الخمر والميسر ، لأنّ تفريع هذا الاستفهام عن قوله : { إنّما يريد الشيطان } يعيّن أنّهما المقصود من الانتهاء .
واقتصار الآية على تبيين مفاسد شرب الخمر وتعاطي الميسر دون تبيين ما في عبادة الأنصاب والاستقسام بالأزلام من الفساد ، لأنّ إقلاع المسلمين عنهما قد تقرّر قبل هذه الآية من حين الدخول في الإسلام لأنّهما من مآثر عقائد الشرك ، ولأنّه ليس في النفوس ما يدافع الوازع الشرعي عنهما بخلاف الخمر والميسر فإنّ ما فيهما من اللذات التي تزجي بالنفوس إلى تعاطيهما قد يدافع الوزاع الشرعي ، فلذلك أكّد النهي عنهما أشدّ ممّا أكّد النهي عن الأنصاب والأزلام .