{ فَأَقْبَلُوا إِلَيْهِ يَزِفُّونَ } أي : يسرعون ويهرعون ، أي : يريدون أن يوقعوا به ، بعدما بحثوا وقالوا : { مَنْ فَعَلَ هَذَا بِآلِهَتِنَا إِنَّهُ لَمِنَ الظَّالِمِينَ }
وقيل لهم { سَمِعْنَا فَتًى يَذْكُرُهُمْ يُقَالُ لَهُ إِبْرَاهِيمُ } يقول : { تَاللَّهِ لَأَكِيدَنَّ أَصْنَامَكُمْ بَعْدَ أَنْ تُوَلُّوا مُدْبِرِينَ } فوبخوه ولاموه ، فقال : { بَلْ فَعَلَهُ كَبِيرُهُمْ هَذَا فَسْئَلُوهُمْ إِنْ كَانُوا يَنطِقُونَ فَرَجَعُوا إِلَى أَنفُسِهِمْ فَقَالُوا إِنَّكُمْ أَنْتُمْ الظَّالِمُونَ ثُمَّ نُكِسُوا عَلَى رُءُوسِهِمْ لَقَدْ عَلِمْتَ مَا هَؤُلَاءِ يَنطِقُونَ قَالَ أَفَتَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ مَا لَا يَنفَعُكُمْ شَيْئًا وَلَا يَضُرُّكُمْ } الآية .
وجاء قومه من رحلتهم ، ووجدوا أصنامهم قد تحطمت ، ويترك القرآن هنا ما قالوه لإبراهيم عندما رأوا منظر آلهتهم بهذه الصورة المفزعة لهم ، مكتفياً بإبراز حالهم فيقول : { فأقبلوا إِلَيْهِ يَزِفُّونَ } .
أى : فحين رأوا آلهتهم بهذه الصورة . أقبلوا نحو إبراهيم يسرعون الخطا ولهم جلية وضوضاء تدل على شدة غضبهم لما أصاب آلهتهم .
يقال : زَفَّ النعام يَزِفُّ زََفَّا وزفيفا ، إذا جرى بسرعة حتى لكأنه يطير .
وينتهي هذا المشهد فيليه مشهد جديد . وقد عاد القوم فاطلعوا على جذاذ الآلهة ! ويختصر السياق ما يفصله في سورة أخرى من سؤالهم عمن صنع بآلهتهم هذا الصنع ، واستدلالهم في النهاية على الفاعل الجريء . يختصر هذا ليقفهم وجهاً لوجه أمام إبراهيم !
لقد تسامعوا بالخبر ، وعرفوا من الفاعل ، فأقبلوا إليه يسرعون الخطى ويحدثون حوله زفيفاً . . وهم جمع كثير غاضب هائج ، وهو فرد واحد . ولكنه فرد مؤمن . فرد يعرف طريقه . فرد واضح التصور لإلهه . عقيدته معروفة له محدودة . يدركها في نفسه ، ويراها في الكون من حوله . فهو أقوى من هذه الكثرة الهائجة المائجة ، المدخولة العقيدة ، المضطربة التصور . ومن ثم يجبههم بالحق الفطري البسيط لا يبالي كثرتهم وهياجهم وزفيفهم !
وقوله : فأَقْبَلُوا إلَيْهِ يَزِفّونَ اختلفت القرّاء في قراءة ذلك ، فقرأته عامة قرّاء المدينة والبصرة ، وبعض قرّاء الكوفة : فأَقْبَلُوا إلَيْهِ يَزِفّونَ بفتح الياء وتشديد الفاء من قولهم : زَفّتِ النعامة ، وذلك أوّل عدوها ، وآخر مشيها ومنه قول الفرزدق :
وَجاءَ قَرِيعُ الشّوْلِ قَبْلِ إفالِهَا *** يَزِفّ وَجاءَتْ خَلْفَهُ وَهْي زُفّفُ
وقرأ ذلك جماعة من أهل الكوفة : «يُزِفّونَ » بضم الياء وتشديد الفاء من أزف فهو يزف . وكان الفرّاء يزعم أنه لم يسمع في ذلك إلا زفَفْت ، ويقول : لعلّ قراءة من قرأه : «يَزِفّونَ » بضم الياء من قول العرب : أطْرَدتُ الرجل : أي صيرته طريدا ، وطردته : إذا أنت خسأته إذا قلت : اذهب عنا فيكون يزفون : أي جاؤوا على هذه الهيئة بمنزلة المزفوفة على هذه الحالة ، فتدخل الألف . كما تقول : أحمدت الرجل : إذا أظهرت حمده ، وهو محمد : إذا رأيت أمره إلى الحمد ، ولم تنشر حمده قال : وأنشدني المفضّل :
تَمَنّى حُصَيْنٌ أنْ يَسُودَ جِذاعَهُ *** فأَمْسَى حُصَيْنٌ قَدْ أذَلّ وأقْهَرا
فقال : أقْهَر ، وإنما هو قُهِر ، ولكنه أراد صار إلى حال قهر . وقرأ ذلك بعضهم : «يَزِفُونَ » بفتح الياء وتخفيف الفاء من وَزَفَ يَزِف . وذُكر عن الكسائي أنه لا يعرفها ، وقال الفرّاء : لا أعرفها إلا أن تكون لغة لم أسمعها . وذُكر عن مجاهد أنه كان يقول : الوَزْف : النّسَلان .
حدثني محمد بن عمرو ، قال : حدثنا أبو عاصم ، قال : حدثنا عيسى وحدثني الحارث ، قال : حدثنا الحسن ، قال : حدثنا ورقاء ، جميعا عن ابن أبي نجيح ، عن مجاهد ، قوله : إلَيْهِ يَزِفّوزنَ قال : الوزيف : النّسَلان .
والصواب من القراءة في ذلك عندنا قراءة من قرأه بفتح الياء وتشديد الفاء ، لأن ذلك هو الصحيح المعروف من كلام العرب ، والذي عليه قراءة الفصحاء من القرّاء .
وقد اختف أهل التأويل في معناه ، فقال بعضهم : معناه : فأقبل قوم إبراهيم إلى إبراهيم يَجْرُون . ذكر من قال ذلك :
حدثني عليّ ، قال : حدثنا أبو صالح ، قال : ثني معاوية ، عن عليّ ، عن ابن عباس ، قوله : فأقْبَلُوا إلَيْهِ يَزِفّونَ : فأقبلوا إليه يجرون .
وقال آخرون : أقبلوا إليه يَمْشُون . ذكر من قال ذلك :
حدثنا محمد بن الحسين ، قال : حدثنا أحمد بن المفضل ، قال : حدثنا أسباط ، عن السديّ ، في قوله : فأقْبَلُوا إلَيْهِ يَزِفّونَ قال : يَمْشُون .
وقال آخرون : معناه : فأقبلوا يستعجلون . ذكر من قال ذلك :
حدثني يونس ، قال : أخبرنا ابن وهب ، قال : قال ابن زيد ، عن أبيه فَأَقْبَلُوا إلَيْهِ يَزِفّونَ قال : يستعجلون ، قال : يَزِفّ : يستعجل .
والضمير في { أقبلوا } لكفار قومه ، وقرأ جمهور الناس «يَزفون » بفتح الياء من زف إذا أسرع وزفت الإبل إذا أسرعت ، ومنه قول الفرزدق : [ الطويل ]
فجاء قريع الشول قبل إفالها . . . يزف وجاءت خلفه وهي زفف{[3]}
وزفت الشول من برد العشيّ كما . . . زفت النعام إلى حفانه الروح{[4]}
وقرأ حمزة وحده «يُزفون » بضم الياء من أزف إذا دخل في الزفيف وليست بهمزة تعدية هذا قول ، وقال أبو علي : معناه يحملون غيرهم على الزفيف ، وحكاه عن الأصمعي وهي قراءة مجاهد وابن وثاب والأعمش ، وقرأ مجاهد وعبد الله بن زيد «يَزفون » بفتح الياء وتخفيف الفاء من وزف وهي لغة منكرة ، قال الكسائي والفراء : لا نعرفها بمعنى زف ، وقال مجاهد : الزفيف النسلان ، وذهبت فرقة إلى أن { يزفون } معناه يتمهلون في مشيهم كزفاف العروس ، والمعنى أنهم كانوا على طمأنينة من أن ينال أحد آلهتهم بسوء لعزتهم فكانوا لذلك متمهلين .
تفسير مقاتل بن سليمان 150 هـ :
فلما رجعوا من عيدهم، {فأقبلوا إليه يزفون} يمشون إلى إبراهيم يأخذونه بأيديهم.
جامع البيان عن تأويل آي القرآن للطبري 310 هـ :
وقوله:"فأَقْبَلُوا إلَيْهِ يَزِفّونَ"... من قولهم: زَفّتِ النعامة، وذلك أوّل عَدْوِها، وآخر مشيها...
وقد اختف أهل التأويل في معناه، فقال بعضهم: معناه: فأقبل قوم إبراهيم إلى إبراهيم يَجْرُون...
وقال آخرون: أقبلوا إليه يَمْشُون...
وقال آخرون: معناه: فأقبلوا يستعجلون.
تأويلات أهل السنة للماتريدي 333 هـ :
أصل الزّفيف كأنه المشي بسرعة على ما يسرع في المشي المرء إذا أصابه شيء أو فُعل به أمر، ظاهر هذا أنهم أقبلوا عليه وقت ما كسرها، وفعل بها ما فعل.
لكن في آية أخرى ما يدل أن إقبالهم عليه كان بعد ما خرج من عندها، وغاب. وكان بعد ذلك بزمان، ألا ترى أنهم {قالوا من فعل هذا بآلهتنا إنه لمن الظالمين} {قالوا سمعنا فتى يذكرهم يقال له إبراهيم}؟ [الأنبياء: 59 و60] ولو كانوا أقبلوا عليه يزفّون، وهو عندها حاضر لم يحتاجوا إلى أن يقولوا: {من فعل هذا بآلهتنا} بل يقولون: إن إبراهيم فعل ذلك بها، ولا كان لقول إبراهيم {بل فعله كبيرهم هذا فاسألوهم إن كانوا ينطقون} [الأنبياء: 63].
الكشاف عن حقائق التنزيل للزمخشري 538 هـ :
{يَزِفُّونَ} يسرعون، من زفيف النعام.
قال الأصمعي يقال أزففت الإبل إذا حملتها على أن تزف، قال وهو سرعة الخطوة ومقاربة المشي كأنهم حملوا دوابهم على الإسراع في المشي.
نظم الدرر في تناسب الآيات و السور للبقاعي 885 هـ :
{فأقبلوا} ودل على أنه من مكان بعيد بقوله: {إليه يزفون}، وقراءة حمزة بالبناء للمفعول أدل على شدة الإسراع؛ لدلالتها على أنهم جاؤوا على حالة كان حاملاً يحملهم فيها على الإسراع، وقاهراً يقهرهم عليه من شدة ما في نفوسهم من الوجد.
في ظلال القرآن لسيد قطب 1387 هـ :
وينتهي هذا المشهد فيليه مشهد جديد. وقد عاد القوم فاطلعوا على جذاذ الآلهة! ويختصر السياق ما يفصله في سورة أخرى من سؤالهم عمن صنع بآلهتهم هذا الصنع، واستدلالهم في النهاية على الفاعل الجريء. يختصر هذا ليقفهم وجهاً لوجه أمام إبراهيم!
لقد تسامعوا بالخبر، وعرفوا من الفاعل، فأقبلوا إليه يسرعون الخطى ويحدثون حوله زفيفاً.. وهم جمع كثير غاضب هائج، وهو فرد واحد. ولكنه فرد مؤمن. فرد يعرف طريقه. فرد واضح التصور لإلهه. عقيدته معروفة له محدودة. يدركها في نفسه، ويراها في الكون من حوله. فهو أقوى من هذه الكثرة الهائجة المائجة، المدخولة العقيدة، المضطربة التصور. ومن ثم يجبههم بالحق الفطري البسيط لا يبالي كثرتهم وهياجهم وزفيفهم!