{ شَاكِرًا لِأَنْعُمِهِ } ، أي : آتاه الله في الدنيا حسنة ، وأنعم عليه بنعم ظاهرة وباطنة ، فقام بشكرها ، فكان نتيجة هذه الخصال الفاضلة أن : { اجْتَبَاهُ } ربه ، واختصه بخلته ، وجعله من صفوة خلقه ، وخيار عباده المقربين .
{ وَهَدَاهُ إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ } ، في علمه وعمله ، فعلم بالحق وآثره على غيره .
ووصفه - خامسا - بقوله - سبحانه - : { شاكرا لأنعمه } ، أي : معترفا بفضل الله - تعالى - عليه ، ومستعملا نعمه فيما خلقت له ، ومؤديا حقوق خالقه فيها . قال - تعالى - : { وَإِبْرَاهِيمَ الذي وفى } ، أي : قام بأداء جميع ما كلفه الله به .
وبعد أن مدح - سبحانه - إبراهيم بتلك الصفات الجامعة لمجامع الخير ، أتبع ذلك ببيان فضله - تعالى - عليه فقال : { اجتباه } ، أي اختاره واصطفاه للنبوة .
من الاجتباء بمعنى الاصطفاء والاختيار .
واجتباء الله - تعالى - لعبده معناه : اختصاص ذلك العبد بخصائص ومزايا يحصل له عن طريقها أنواع من النعم بدون كسب منه .
{ وَهَدَاهُ إلى صِرَاطٍ مُّسْتَقِيمٍ } ، أي : وأرشده إلى الطريق القويم ، الذي دعا الصالحون ربهم أن يرشدهم إليه ، حيث قالوا في تضرعهم : { اهدنا الصراط المستقيم } ، وهو طريق الإِسلام .
وقوله : { شَاكِرًا لأنْعُمِهِ } ، أي : قائما بشكر{[16739]} نعم الله عليه ، كما قال : { وَإِبْرَاهِيمَ الَّذِي وَفَّى } [ النجم : 37 ] ، أي : قام بجميع ما أمره الله تعالى به .
وقوله : { اجْتَبَاهُ } ، أي : اختاره واصطفاه ، كما قال : { وَلَقَدْ آتَيْنَا إِبْرَاهِيمَ رُشْدَهُ مِنْ قَبْلُ وَكُنَّا بِهِ عَالِمِينَ } [ الأنبياء : 51 ] .
ثم قال : { وَهَدَاهُ إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ } ، وهو عبادة الله وحده لا شريك له على شرع مرضي .
القول في تأويل قوله تعالى : إِنَّ إِبْرَاهِيمَ كَانَ أُمَّةً قَانِتًا لِلَّهِ حَنِيفًا وَلَمْ يَكُ مِنَ الْمُشْرِكِينَ ( 120 ) شَاكِرًا لأَنْعُمِهِ اجْتَبَاهُ وَهَدَاهُ إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ ( 121 )
يقول تعالى ذكره : إن إبراهيم خليل الله كان مُعَلِّم خَيْر ، يأتمّ به أهل الهدى قانتا ، يقول : مطيعًا لله حنيفا : يقول : مستقيما على دين الإسلام . ( وَلَمْ يَكُ مِنَ الْمُشْرِكِينَ ) ، يقول : ولم يك يُشرك بالله شيئا ، فيكون من أولياء أهل الشرك به ، وهذا إعلام من الله تعالى أهل الشرك به من قريش أن إبراهيم منهم بريء ، وأنهم منه برآء . ( شَاكِرًا لأنْعُمِهِ ) ، يقول : كان يخلص الشكر لله فيما أنعم عليه ، ولا يجعل معه في شكره في نعمه عليه شريكا من الآلهة والأنداد وغير ذلك ، كما يفعل مشركو قريش . ( اجْتَبَاهُ ) ، يقول : اصطفاه واختاره لخُلته . ( وَهَدَاهُ إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ ) ، يقول : وأرشده إلى الطريق المستقيم ، وذلك دين الإسلام لا اليهودية ولا النصرانية .
وبنحو الذي قلنا في معنى ( أُمَّةً قَانِتًا ) قال أهل التأويل .
حدثني زكريا بن يحيى ، قال : ثنا ابن إدريس ، عن الأعمش ، عن الحكم ، عن يحيى بن الجزار ، عن أبي العُبَيدين ، أنه جاء إلى عبد الله فقال : من نسأل إذا لم نسألك ؟ فكأنّ ابن مسعود رقّ له ، فقال : أخبرني عن الأمَّة ، قال : الذي يُعلّم الناس الخير .
حدثنا محمد بن بشار ، قال : ثنا أبو أحمد ، قال : ثنا سفيان ، عن سلمة بن كهيل ، عن مسلم البطين ، عن أبي العُبَيدين أنه سأل عبد الله بن مسعود ، عن الأمَّة القانت ، قال : الأمَّة : معلم الخير ، والقانت : المطيع لله ورسوله .
حدثني يعقوب ، قال : ثنا ابن عُلَية ، عن منصور ، يعني ابن عبد الرحمن ، عن الشعبي ، قال : ثني فروة بن نوفل الأشجعي ، قال : قال ابن مسعود : إن معاذا كان أُمَّة قانتا لله حنيفا ، فقلت في نفسي : غلط أبو عبد الرحمن ، إنما قال الله تعالى ( إِنَّ إِبْرَاهِيمَ كَانَ أُمَّةً قَانِتًا لِلَّهِ ) ، فقال : تدري ما الأمَّة ، وما القانت ؟ قلت : الله أعلم ، قال : الأمَّة : الذي يعلم الخير ، والقانت : المطيع لله ولرسوله ، وكذلك كان مُعاذ بن جبل يعلم الخير ، وكان مطيعًا لله ولرسوله .
حدثنا محمد بن المثنى ، قال : ثنا محمد بن جعفر ، قال : ثنا شعبة ، قال : سمعت فراسا يحدّث ، عن الشعبيّ ، عن مسروق ، عن عبد الله بن مسعود ، أنه قال : إن مُعاذا كان أُمَّة قانتًا لله ، قال : فقال رجل من أشجع يُقال له فروة بن نوفل : نسي إنما ذاك إبراهيم ، قال : فقال عبد الله : من نسي إنما كنا نشبهه بإبراهيم ، قال : وسُئِل عبد الله عن الأمَّة ، فقال : معلم الخير ، والقانت : المطيع لله ورسوله .
حدثنا ابن بشار ، قال : ثنا عبد الرحمن ، قال : ثنا سفيان ، عن فراس ، عن الشعبيّ ، عن مسروق قال : قرأت عند عبد الله هذه الآية : ( إِنَّ إِبْرَاهِيمَ كَانَ أُمَّةً قَانِتًا لِلَّهِ ) ، فقال : كان معاذ أُمَّةً قانتًا ، قال : هل تدري ما الأمَّة ، الأمَّة الذي يعلم الناس الخير ، والقانت : الذي يطيع الله ورسوله .
حدثنا أبو هشام الرفاعيّ ، قال : ثنا ابن فضيل ، قال : ثنا بيان بن بشر البَجَلي ، عن الشعبيّ ، قال : قال عبد الله : إن معاذا كان أُمَّة قانتا لله حنيفا ولم يك من المشركين ، فقال له رجل : نسيت ، قال : لا ولكنه شبيه إبراهيم ، والأمَّة : معلِّم الخير ، والقانت : المطيع .
حدثني عليّ بن سعيد الكندي ، قال : ثنا عبد الله بن المبارك ، عن ابن عون ، عن الشعبيّ ، في قوله : ( إِنَّ إِبْرَاهِيمَ كَانَ أُمَّةً قَانِتًا لِلَّهِ حَنِيفًا ) قال : مطيعا .
حدثنا أبو كريب ، قال : ثنا أبو بكر ، قال : قال عبد الله : إن معاذا كان أُمَّة قانتا معلِّم الخير .
وذُكر في الأمَّة أشياء مختلف فيها ، قال : { وَادَّكَرَ بَعْدَ أُمَّةٍ } ، يعني : بعد حين و { أُمَّةً وَسَطًا } .
حدثنا ابن حميد ، قال : ثنا حكام ، عن سعيد بن سابق ، عن ليث ، عن شَهْر بن حَوْشَب ، قال : لم تبق الأرض إلا وفيها أربعة عشر يدفع الله بهم عن أهل الأرض وتخرج بركتها ، إلا زمن إبراهيم فإنه كان وحده .
حدثنا القاسم ، قال : ثنا الحسين ، قال : أخبرنا هشيم ، قال : أخبرنا سيار ، عن الشعبيّ ، قال : وأخبرنا زكريا ومجالد ، عن الشعبيّ ، عن مسروق ، عن ابن مسعود ، نحو حديث يعقوب ، عن ابن عُلَية وزاد فيه : الأمَّة : الذي يعلم الخير ويُؤْتمّ به ، ويقتدى به ؛ والقانت : المطيع لله وللرسول ، قال له أبو فروة الكندي : إنك وهمت .
حدثني محمد بن عمرو ، قال : ثنا أبو عاصم ، قال : ثنا عيسى ؛ وحدثني الحارث ، قال : ثنا الحسن ، قال : ثنا ورقاء ، جميعا ، عن ابن أبي نجيح ، عن مجاهد ( إِنَّ إِبْرَاهِيمَ كَانَ أُمَّةً ) ، على حدة ، ( قَانِتًا لِلَّهِ ) ، قال : مطيعا .
حدثنا القاسم ، قال : ثنا الحسين ، قال : ثني حجاج ، عن ابن جريج ، عن مجاهد ، مثله ، إلا أنه قال : مطيعًا لله في الدنيا .
قال ابن جريج : وأخبرني عويمر ، عن سعيد بن جبير ، أنه قال : قانتًا : مطيعًا .
حدثنا بشر ، قال : ثنا يزيد ، قال : ثنا سعيد ، عن قتادة ، قوله : ( إِنَّ إِبْرَاهِيمَ كَانَ أُمَّةً قَانِتًا لِلَّهِ ) ، قال : كان إمام هُدًى مطيعًا تُتَّبع سُنَّته ومِلَّته .
حدثنا ابن عبد الأعلى ، قال : ثنا محمد بن ثور ، عن مَعْمر ، عن قتادة ، أن ابن مسعود قال : إن مُعاذ بن جَبَل كان أُمَّةً قانتا ، قال غير قتادة : قال ابن مسعود : هل تدرون : ما الأمَّة ؟ الذي يعلم الخير .
حدثنا الحسن بن يحيى ، قال : أخبرنا عبد الرزاق ، قال : أخبرنا الثوريّ ، عن فراس ، عن الشعبيّ ، عن مسروق ، قال : قرأت عند عبد الله بن مسعود : ( إِنَّ إِبْرَاهِيمَ كَانَ أُمَّةً قَانِتًا ) ، فقال : إن معاذا كان أُمَّةً قانتا ، قال : فأعادوا ، فأعاد عليهم ، ثم قال : أتدرون ما الأمَّة ؟ الذي يعلم الناس الخير ، والقانت : الذي يطيع الله .
وقد بيَّنا معنى الأمَّة ووجوهها ، ومعنى القانت باختلاف المختلفين فيه في غير هذا الموضع من كتابنا بشواهده ، فأغنى بذلك عن إعادته في هذا الموضع .
{ شاكراً لأنعمه } خبر رابع عن { كان } . وهو مدح لإبراهيم عليه السلام وتعريض بذرّيته الذين أشركوا وكفروا نعمة الله مُقابل قوله : { فكفرت بأنعم الله } [ سورة النحل : 112 ] . وتقدم قريباً الكلام على أنعُم الله .
وجملة { اجتباه } مستأنفة استئنافاً بيانياً ، لأن الثّناء المتقدّم يثير سؤال سائل عن سبب فوز إبراهيم بهذه المحامد ، فيجاب بأن الله اجتباه ، كقوله تعالى : { الله أعلم حيث يجعل رسالاته } [ سورة الأنعام : 124 ] .
والاجتباء : الاختيار ، وهو افتعال من جبى إذا جمع . وتقدم في قوله تعالى { واجتبيناهم وهديناهم إلى صراط مستقيم } في سورة الأنعام ( 87 ) .
والهداية إلى الصراط المستقيم : الهداية إلى التوحيد ودين الحنيفية .