قوله تعالى : { ولولا كلمة سبقت من ربك لكان لزاما وأجل مسمى } فيه تقديم وتأخير ، تقديره : ولولا كلمة سبقت من ربك وأجل مسمى ، لكان لزاماً . والكلمة : الحكم بتأخير العذاب عنهم ، أي ولولا حكم سبق بتأخير العذاب عنهم وأجل مسمى وهو القيامة لكان لزاماً ، أي لكان العذاب لازماً لهم في الدنيا ، كما لزم القرون الماضية الكافرة .
{ 129-130 } { وَلَوْلَا كَلِمَةٌ سَبَقَتْ مِنْ رَبِّكَ لَكَانَ لِزَامًا وَأَجَلٌ مُسَمًّى * فَاصْبِرْ عَلَى مَا يَقُولُونَ وَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ قَبْلَ طُلُوعِ الشَّمْسِ وَقَبْلَ غُرُوبِهَا وَمِنْ آنَاءِ اللَّيْلِ فَسَبِّحْ وَأَطْرَافَ النَّهَارِ لَعَلَّكَ تَرْضَى }
هذا تسلية للرسول ، وتصبير له عن المبادرة إلى إهلاك المكذبين المعرضين ، وأن كفرهم وتكذيبهم سبب صالح لحلول العذاب بهم ، ولزومه لهم ، لأن الله جعل العقوبات سببا وناشئا عن الذنوب ، ملازما لها ، وهؤلاء قد أتوا بالسبب ، ولكن الذي أخره عنهم كلمة ربك ، المتضمنة لإمهالهم وتأخيرهم ، وضرب الأجل المسمى ، فالأجل المسمى ونفوذ كلمة الله ، هو الذي أخر عنهم العقوبة إلى إبان وقتها ، ولعلهم يراجعون أمر الله ، فيتوب عليهم ، ويرفع عنهم العقوبة ، إذا لم تحق عليهم الكلمة .
ثم بين - سبحانه - بعض مظاهر فضله على هؤلاء المشركين الذين أرسل الرسول - صلى الله عليه وسلم - لإنقاذهم من الكفر والضلالة فقال - تعالى - : { وَلَوْلاَ كَلِمَةٌ سَبَقَتْ مِن رَّبِّكَ لَكَانَ لِزَاماً وَأَجَلٌ مُّسَمًّى } .
والمراد بالكلمة السابقة ، ما تفضل الله - تعالى - به من تأخير عذاب الاستئصال عن هذه الأمة التى بعث فيها الرسول - صلى الله عليه وسلم - تكريما له كما قال - تعالى - { وَمَا كَانَ الله لِيُعَذِّبَهُمْ وَأَنتَ فِيهِمْ . . } أو لأن من نسلهم من يؤمن بالله حق الإيمان ، أو لحكم أخرى يعلمها - سبحانه - ولزاما : مصدر بمعنى اسم الفاعل ، وفعله لازم كقاتل .
وقوله : { وَأَجَلٌ مُّسَمًّى } معطوف على { كَلِمَةٌ } .
والمعنى : ولولا الوعد السابق منا بتأخير العذاب عن هؤلاء المشركين إلى يوم القيامة . ولولا الأجل المسمى المحدد فى علمنا لانتهاء أعمارهم ، لما تأخر عذابهم أصلا ، بل لكان العذاب لازما لهم فى الدنيا ، ونازلا بهم كما نزل بالسابقين من أمثالهم فى الكفر والضلال .
قال تعالى : { وَلَوْلا كَلِمَةٌ سَبَقَتْ مِنْ رَبِّكَ لَكَانَ لِزَامًا وَأَجَلٌ مُسَمًّى } أي : لولا الكلمة السابقة من الله وهو أنه{[19552]} لا يعذب أحدًا إلا بعد قيام الحجة عليه ، والأجل المسمى الذي ضربه الله تعالى لهؤلاء المكذبين إلى مدة معينة لجاءهم العذاب بغتة ؛
القول في تأويل قوله تعالى : { وَلَوْلاَ كَلِمَةٌ سَبَقَتْ مِن رّبّكَ لَكَانَ لِزَاماً وَأَجَلٌ مّسَمّى * فَاصْبِرْ عَلَىَ مَا يَقُولُونَ وَسَبّحْ بِحَمْدِ رَبّكَ قَبْلَ طُلُوعِ الشّمْسِ وَقَبْلَ غُرُوبِهَا وَمِنْ آنَآءِ الْلّيْلِ فَسَبّحْ وَأَطْرَافَ النّهَارِ لَعَلّكَ تَرْضَىَ } .
يقول تعالى ذكره : " وَلَوْلا كَلِمَةٌ سَبَقَتْ مِنْ رَبّكَ " يا محمد أن كلّ من قضى له أجلاً فإنه لا يخترمه قبل بلوغه أجله وأجلٌ مسمّى يقول : ووقت مسمى عند ربك سماه لهم في أمّ الكتاب وخطه فيه ، هم بالغوه ومستوفوه لَكانَ لِزَاما يقول : للازمهم الهلاك عاجلاً ، وهو مصدر من قول القائل : لازم فلان فلانا يلازمه ملازمة ولزاما : إذا لم يفارقه ، وقدّم قوله : لَكانَ لِزَاما قبل قوله أجَلٌ مُسَمّى ومعنى الكلام : ولولا كلمة سبقت من ربك وأجل مسمى لكان لزاما ، فاصبر على ما يقولون . وبنحو الذي قلنا في ذلك ، قال أهل التأويل . ذكر من قال ذلك :
حدثني محمد بن عمرو ، قال : حدثنا أبو عاصم ، قال : حدثنا عيسى وحدثني الحارث ، قال : حدثنا الحسن ، قال : حدثنا ورقاء ، جميعا عن ابن أبي نجيح ، عن مجاهد ، قوله : " وَلَوْلا كَلِمَةٌ سَبَقَتْ مِنْ رَبّكَ لَكانَ لِزَاما وأجَلٌ مُسَمّى " الأجل المسمى : الدنيا .
حدثنا بشر ، قال : حدثنا يزيد ، قال : حدثنا سعيد ، عن قتادة ، قوله : " وَلَوْلا كَلِمَةٌ سَبَقَتْ مِنْ رَبّكَ لَكانَ لِزَاما وأجَلٌ مُسَمّى " وهذه من مقاديم الكلام ، يقول : لولا كلمة سبقت من ربك إلى أجل مسمى كان لزاما ، والأجل المسمى ، الساعة ، لأن الله تعالى يقول بَلِ السّاعَةُ مَوْعِدُهُمْ ، والسّاعَةُ أدْهَى وأمَرّ .
حدثني يونس ، قال : أخبرنا ابن وهب ، قال : قال ابن زيد ، في قوله : " وَلَوْلا كَلِمَةٌ سَبَقَتْ مِنْ رَبّكَ لَكانَ لِزَاما وأجَلٌ مُسَمّى " قال : هذا مقدّم ومؤخر ، ولولا كلمة سبقت من ربك وأجل مسمى لكان لزاما .
واختلف أهل التأويل في معنى قوله : لَكانَ لِزَاما فقال بعضهم : معناه : لكان موتا . ذكر من قال ذلك :
حدثني عليّ قال : ثني أبو صالح ، قال : ثني معاوية ، عن عليّ ، عن ابن عباس ، قوله : لَكانَ لِزَاما يقول : موتا .
وقال آخرون : معناه لكان قتلاً . ذكر من قال ذلك :
حدثني يونس ، قال : أخبرنا ابن وهب ، قال : قال ابن زيد لَكانَ لِزَاما واللزام : القتل .
{ ولولا كلمة سبقت من ربك } وهي العدة بتأخير عذاب هذه الأمة إلى الآخرة . { لكان لزاما } لكان مثل ما نزل بعاد وثمود لازما لهؤلاء الكفرة ، وهو مصدر وصف به أو اسم آلة سمي به اللازم لفرط لزومه كقولهم لزاز خصم . { وأجل مسمى } عطف على كلمة أي ولولا العدة بتأخير العذاب وأجل مسمى لأعمارهم ، أو لعذابهم وهو يوم القيامة أو يوم بدر لكان العذاب لزاما والفصل للدلالة على استقلال كل منهما بنفي لزوم العذاب ، ويجوز عطفه على المستكن في كان أي لكان الأخذ العاجل وأجل مسمى لازمين له .
ثم أعلم عز وجل قبله أن العذاب كان يصير لهم { لزاماً } { لولا كلمة سبقت } من الله تعالى في تأخيره عنهم إلى { أجل مسمى } عنده فتقدير الكلام { ولولا كلمة سبقت } في التأخير { وأجل مسمى } لكان العذاب { لزاماً } كما تقول لكان حتماً أو واجباً واقعاً لكنه قدم وأخر لتشتبه رؤوس الآي . واختلف الناس في الأجل فيحتمل أن يريد يوم القيامة والعذاب المتوعد به على هذا هو عذاب جهنم ، ويحتمل أن يريد ب «الأجل » موت كل واحد منهم فالعذاب على هذا هو ما يلقى في قبره وما بعده ، ويحتمل أن يريد بالآجال يوم بدر فالعذاب على هذا هو قتلهم بالسيف وبكل احتمال مما ذكرناه ، قالت فرقة ، وفي صحيح البخاري ، أن يوم بدر وهو اللزام وهو البطشة الكبرى .
جملة { ولوْلاَ كلِمَةٌ } عطف على جملة { أفلم يهد لهم } [ طه : 128 ] باعتبار ما فيها من التحذير والتهديد والعبرة بالقرون الماضية ، وبأنهم جديرون بأن يحل بهم مثل ما حل بأولئك . فلما كانوا قد غرّتهم أنفسهم بتكذيب الوعيد لِما رأوا من تأخر نزول العذاب بهم فكانوا يقولون { متى هذا الوعد إن كنتم صادقين } [ سبأ : 29 ] عقب وعيدهم بالتنبيه على ما يزيل غرورهم بأن سبب التأخير كلمةٌ سبقت من الله بذلك لحِكَم يعلمها . وهذا في معنى قوله { ويقولون متى هذا الوعد إن كنتم صادقين قل لكم ميعاد يوم لا تستأخرون عنه ساعة ولا تستقدمون } [ سبأ : 29 ، 30 ] .
والكلمة : مستعملة هنا فيما شأنه أن تدل عليه الكلمات اللفظية من المعاني ، وهو المسمى عند الأشاعرة بالكلام النفسي الراجع إلى علم الله تعالى بما سيبرزه للناس من أمر التكوين أو أمرِ التشريع ، أو الوعظ . وتقدّم قوله تعالى : { ولولا كلمة سبقت من ربك لقضي بينهم } في سورة هود ( 110 ) .
فالكلمة هنا مراد بها : ما عَلمه الله من تأجيل حلول العذاب بهم ، فالله تعالى بحكمته أنظر قريشاً فلم يعجل لهم العذاب لأنه أراد أن ينشر الإسلام بمن يؤمن منهم وبذريّاتهم . وفي ذلك كرامة للنبيء محمد بتيسير أسباب بقاء شرعه وانتشاره لأنه الشريعة الخاتمة . وخصّ الله منهم بعذاب السيف والأسر من كانوا أشداء في التكذيب والإعراض حكمة منه تعالى ، كما قال : { وما كان الله ليعذبهم وأنت فيهم وما كان الله معذبهم وهم يستغفرون وما لهم ألا يعذبهم الله وهم يصدون عن المسجد الحرام } [ الأنفال : 33 34 ] .
واللِزام بكسر اللام : مصدر لاَزَم : كالخصام ، استعمل مصدراً لفعل لَزِم الثاني لقصد المبالغة في قوة المعنى كأنه حاصل من عدة ناس . ويجوز أن يكون وزن فِعال بمعنى فاعل ، مثل لزاز في قول لبيد :
أضاعوني وأي فتى أضاعوا *** ليوم كريهة وسِدادِ ثَغْر
أي : لكان الإهلاك الشديد لازماً لهم .
فانتصب لزاماً على أنه خبر ( كانَ ) ، واسمُها ضمير راجع إلى الإهلاك المستفاد من { كم أهلكنا } ( 128 ) ، أي لكان الإهلاك الذي أُهلك مثله مَن قبلهم من القرون ، وهو الاستيصال ، لازماً لهم .
{ وأجل مسمى } عطف على { كلمة } والتقدير : ولولا كلمة وأجلٌ مسمّى يقع عنده الهلاك لكان إهلاكهم لزاماً . والمراد بالأجل : ما سيُكشف لهم من حلول العذاب : إما في الدنيا بأن حل برجال منهم وهو عذاب البطشة الكبرى يومَ بدر ؛ وإما في الآخرة وهو ما سيحل بمن ماتوا كفّاراً منهم . وفي معناه قوله تعالى : { قل ما يعبأ بكم ربي لولا دعاؤكم فقد كذبتم فسوف يكون لزاماً } [ الفرقان : 77 ] .
ويظهر أنه شاع في عصر الصحابة تأويل اسم اللزام أنه عذاب توعد الله به مشركي قريش . وقيل : هو عذاب يوم بدر . ففي « صحيح البخاري » عن ابن مسعود قال : « خمس قد مضين : الدخان ، والقمرُ ، والرّومُ ، والبطشة ، واللِزام { فسوف يكون لزاماً .
يريد بذلك إبطال أن يكون اللِزام مترقباً في آخر الدنيا . وليس في القرآن ما يحوج إلى تأويل اللِزام بهذا كما علمت .