{ وَمَا خَلَقَ الذَّكَرَ وَالْأُنْثَى } إن كانت " ما " موصولة ، كان إقسامًا بنفسه الكريمة الموصوفة ، بأنه{[1441]} خالق الذكور والإناث ، وإن كانت مصدرية ، كان قسمًا بخلقه للذكر والأنثى ، وكمال حكمته في ذلك أن خلق من كل صنف من الحيوانات التي يريد بقاءها ذكرًا وأنثى ، ليبقى النوع ولا يضمحل ، وقاد كلا منهما إلى الآخر بسلسلة الشهوة ، وجعل كلًا منهما مناسبًا للآخر ، فتبارك الله أحسن الخالقين .
وأقسم - ثالثا - بقوله : { وَمَا خَلَقَ الذكر والأنثى } و " ما " هنا يصح أن تكون موصولة ، بمعنى الذى ، فيكون - سبحانه - قد أقسم بذاته ، وجاء التعبير بما ، للدلالة على الوصفية ، ولقصد التفخيم .
فكأنه - تعالى - يقول : وحق الخالق العظيم ، الذى لا يعجزه شئ ، والذى خلق نوع الذكور ، ونوع الإِناث من ماء واحد .
ويصح أن تكون " ما " هنا حرفا مصدريا ، فيكون المعنى : وحق خَلْقِ الذكر والأنثى ، وعليه يكون - سبحانه - قد أقسم بفعل من أفعاله التى تدل على كمال قدرته ، وبديع صنعته ، حيث أوجد الذكور والإِناث من ماء واحد ، كما قال - سبحانه - : { وَأَنَّهُ خَلَقَ الزوجين الذكر والأنثى . مِن نُّطْفَةٍ إِذَا تمنى } وحيث وهب - سبحانه - الذكور لمن يشاء ، ووهب الإِناث لمن يشاء ، وجعل العقم لمن يشاء .
وكذلك خلقة الذكر والأنثى . . إنها في الانسان والثدييات الحيوانية نطفة تستقر في رحم . وخلية تتحد ببويضة . ففيم هذا الاختلاف في نهاية المطاف ? ما الذي يقول لهذه : كوني ذكرا . ويقول لهذه : كوني أنثى ? . . إن كشف هذه العوامل التي تجعل هذه النطفة تصبح ذكرا ، وهذه تصبح أنثى لا يغير من واقع الأمر شيئا . . فإنه لماذا تتوفر هذه العوامل هنا وهذه العوامل هناك ? وكيف يتفق أن تكون صيرورة هذه ذكرا ، وصيرورة هذه أنثى هو الحدث الذي يتناسق مع خط سير الحياة كلها ، ويكفل امتدادها بالتناسل مرة أخرى ?
مصادفة ? ! إن للمصادفة كذلك قانونا يستحيل معه أن تتوافر هذه الموافقات كلها من قبيل المصادفة . . فلا يبقى إلا أن هنالك مدبرا يخلق الذكر والأنثى لحكمة مرسومة وغاية معلومة . فلا مجال للمصادفة ، ولا مكان للتلقائية في نظام هذا الوجود أصلا .
والذكر والأنثى شاملان بعد ذلك للأنواع كلها غير الثدييات . فهي مطردة في سائر الأحياء ومنها النبات . . قاعدة واحدة في الخلق لا تختلف . لا يتفرد ولا يتوحد إلا الخالق سبحانه الذي ليس كمثله شيء . .
هذه بعض إيحاءات تلك المشاهد الكونية ، وهذه الحقيقة الإنسانية التي يقسم الله - سبحانه - بها ، لعظيم دلالتها وعميق إيقاعها . والتي يجعلها السياق القرآني إطارا لحقيقة العمل والجزاء في الحياة الدنيا وفي الحياة الأخرى . .
قال الإمام أحمد : حدثنا يزيد بن هارون ، حدثنا شعبة ، عن مغيرة ، عن إبراهيم ، عن علقمة : أنه قدم الشام فدخل مسجد دمشق ، فصلى فيه ركعتين وقال : اللهم ، ارزقني جليسًا صالحًا . قال : فجلس إلى أبي الدرداء ، فقال له أبو الدرداء : ممن أنت ؟ قال : من أهل الكوفة . قال : كيف سمعت ابن أم عبد يقرأ : { وَاللَّيْلِ إِذَا يَغْشَى وَالنَّهَارِ إِذَا تَجَلَّى } ؟ قال علقمة : " والذكر والأنثى " . فقال أبو الدرداء : لقد سمعتها من رسول الله صلى الله عليه وسلم ، فما زال هؤلاء حتى شككوني . ثم قال : ثم ألم يكن فيكم صاحب الوساد وصاحب السر الذي لا يعلمه أحد غيره ، والذي أجير من الشيطان على لسان النبي صلى الله عليه وسلم ؟{[30152]} .
وقد رواه البخاري هاهنا ومسلم ، من طريق الأعمش ، عن إبراهيم قال : قدم أصحاب عبد الله على أبي الدرداء ، فطلبهم فوجدهم ، فقال : أيكم يقرأ على قراءة عبد الله ؟ قالوا : كلنا ، قال : أيكم أحفظ ؟ فأشاروا إلى علقمة ، فقال : كيف سمعته يقرأ : { وَاللَّيْلِ إِذَا يَغْشَى } ؟ قال : " والذكر والأنثى " . قال : أشهد أني سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقرأ هكذا ، وهؤلاء يريدوني أن أقرأ : { وَمَا خَلَقَ الذَّكَرَ وَالأنْثَى } والله لا أتابعهم{[30153]} .
هذا لفظ البخاري : هكذا قرأ ذلك ابن مسعود ، وأبو الدرداء - ورفعه أبو الدرداء - وأما الجمهور فقرأوا ذلك كما هو مُثبَت في المصحف الإمام العثماني في سائر الآفاق : { وَمَا خَلَقَ الذَّكَرَ وَالأنْثَى }
فأقسم تعالى ب { وَاللَّيْلِ إِذَا يَغْشَى } أي : إذا غَشيَ الخليقةَ بظلامه ،
{ وَالنَّهَارِ إِذَا تَجَلَّى } أي : بضيائه وإشراقه ، { وَمَا خَلَقَ الذَّكَرَ وَالأنْثَى } كقوله : { وَخَلَقْنَاكُمْ أَزْوَاجًا } [ النبأ : 8 ] ، وكقوله : { وَمِنْ كُلِّ شَيْءٍ خَلَقْنَا زَوْجَيْنِ } [ الذاريات : 49 ] .
وقوله : وَما خَلَقَ الذّكَرَ والأُنْثَى يحتمل الوجهين اللذين وصفت في قوله : وَالسّماءِ وَما بَناها والأرْضِ وَما طَحاها وهو أن يجعل «ما » بمعنى «مَنْ » ، فيكون ذلك قسما من الله جلّ ثناؤه بخالق الذّكر والأنثى ، وهو ذلك الخلق ، وأن تجعل «ما » مع ما بعدها بمعنى المصدر ، ويكون قسما بخلقه الذكر والأنثى .
وقد ذُكر عن عبد الله بن مسعود وأبي الدرداء : أنهما كانا يقرآن ذلك «وَالذّكَرِ وَالأُنْثَىَ » ويأثُرُه أبو الدرداء عن رسول الله صلى الله عليه وسلم . ذكر الخبر بذلك :
حدثنا محمد بن المثنى ، قال : حدثنا محمد بن جعفر ، قال : حدثنا شعبة ، عن أبي إسحاق قال : في قراءة عبد الله : «وَاللّيْلِ إذَا يَغْشَى وَالنّهارِ إذَا تَجَلّى وَالذّكَرِ والأُنْثَى » .
حدثنا ابن المثنى ، قال : حدثنا هشام بن عبد الملك ، قال : حدثنا شعبة ، قال : أخبرني المُغيرة ، قال : سمعت إبراهيم يقول : أتى علقمة الشأم ، فقعد إلى أبي الدرداء ، فقال : ممن أنت ؟ فقلت : من أهل الكوفة ، فقال : كيف كان عبد الله يقرأ هذه الاَية وَاللّيْلِ إذَا يَغْشَى وَالنّهارِ إذَا تَجَلّى فقلت : «وَالذّكَرِ وَالأُنْثَى » قال : فما زال هؤلاء حتى كادوا يستضلّونني وقد سمعتها من رسول الله صلى الله عليه وسلم .
حدثنا محمد بن عبد الأعلى ، قال : حدثنا حاتم بن وَرْدان ، قال : حدثنا أبو حمزة ، عن إبراهيم ، عن علقمة قال : أتينا الشأم ، فدخلت على أبي الدرداء ، فسألني فقال : كيف سمعت ابن مسعود يقرأ هذه الاَية : وَاللّيْلِ إذَا يَغْشَى والنّهارِ إذَا تَجَلّى قال : قلت : «وَالذّكَرِ والأنْثَى » قال : كفاك ، سمعتُها من رسول الله صلى الله عليه وسلم يقرؤها .
حدثني يعقوب ، قال : حدثنا ابن عُليَة وحدثني إسحاق بن شاهين الواسطيّ ، قال : حدثنا خالد بن عبد الله عن داود ، عن عامر ، عن علقمة ، قال : قَدِمت الشأم ، فلقيت أبا الدرداء ، فقال : من أين أنت ؟ فقلت من أهل العراق ؟ قال : من أيها ؟ قلت : من أهل الكوفة ، قال : هل تقرؤه قراءة ابن أمّ عبد ؟ قلت : نعم ، قال : اقرأ وَاللّيْلِ إذَا يَغْشَى قال : فقرأت : «وَاللّيْلِ إذَا يَغْشَى وَالنّهارِ إذَا تَجَلّى وَالذّكَرِ والأُنْثَى » قال : فضحك ، ثم قال : هكذا سمعت مِنْ رسول الله صلى الله عليه وسلم .
حدثنا ابن المثنى ، قال : ثني عبد الأعلى ، قال : ثني داود ، عن عامر ، عن علقمة ، عن أبي الدّرداء ، عن النبيّ صلى الله عليه وسلم ، بنحوه .
حدثني أبو السائب ، قال : حدثنا أبو معاوية ، عن الأعمش ، عن إبراهيم ، عن علقمة ، قال : قدمت الشأم ، فأتى أبو الدرداء ، فقال : فيكم أحد يقرأ على قراءة عبد الله ؟ قال : فأشاروا إليّ ، قال : قلت أنا ، قال : فكيف سمعت عبد الله يقرأ هذه الاَية : «وَاللّيْلِ إذَا يَغْشَى والنّهارِ إذَا تَجَلّى وَالذّكَرِ وَالأُنْثَى » قال : وأنا هكذا سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول : فهؤلاء يريدوني على أن أقرأ وَما خَلَقَ الذّكَرِ والأُنْثَى فلا أنا أتابعهم .
حدثنا ابن عبد الأعلى ، قال : حدثنا ابن ثور ، عن معمر ، عن قتادة وَما خَلَقَ الذّكَرَ وَالأُنْثَى قال : في بعض الحروف : «وَالذّكَرِ وَالأُنْثَى » .
حدثنا بشر ، قال : حدثنا يزيد ، قال : حدثنا سعيد ، عن قتادة ، مثله .
حدثني أحمد بن يوسف ، قال : حدثنا القاسم ، قال : حدثنا حجاج ، عن هارون ، عن إسماعيل ، عن الحسن أنه كان يقرؤها وَما خَلَقَ الذّكَرَ والأُنْثَى يقول : والذي خلق الذكر والأنثى قال هارون قال أبو عمرو : وأهل مكة يقولون للرعد : سبحانَ ما سبّحْتَ له .
حدثنا ابن حُميد ، قال : حدثنا جرير ، عن مُغيرة ، عن مِقْسمَ الضّبيّ ، عن إبراهيم بن يزيد بن أبي عمران ، عن علقمة بن قيس أبي شبل : أنه أتى الشام ، فدخل المسجد فصلّى فيه ، ثم قام إلى حَلْقة فجلس فيها قال : فجاء رجل إليّ ، فعرفت فيه تحوّش القول وهيبتهم له ، فجلس إلى جنبي ، فقلت : الحمد لله إني لأرجو أن يكون الله قد استجاب دعوتي ، فإذا ذلك الرجل أبو الدرداء ، قال : وما ذاك ؟ فقال علقمة : دعوت الله أن يرزقني جليسا صالحا ، فأرجو أن يكون أنت ، قال : مِنْ أين أنت ؟ قلت : من الكوفة ، أو من أهل العراق من الكوفة . قال أبو الدرداء : ألم يكن فيكم صاحب النعلين والوساد والمِطْهَرة ، يعني ابن مسعود ، أو لم يكن فيكم من أجير على لسان النبيّ صلى الله عليه وسلم من الشيطان الرجيم ، يعني عَمّار بن ياسر ، أو لم يكن فيكم صاحب السرّ الذي لا يعلمه غيره ، أو أحد غيره ، يعني حُذَيفة بن اليمان ، ثم قال : أيكم يحفظ كما كان عبد الله يقرأ ؟ قال : فقلت : أنا ، قال : اقرأ : وَاللّيْلِ إذَا يَغْشَى والنّهارَ إذَا تَجَلّى قال علقمة : فقرأت : الذكرِ والأنثى ، فقال أبو الدرداء : والذي لا إله إلاّ هو ، كذا أقرأنيها رسول الله صلى الله عليه وسلم فوه إلى فيّ ، فما زال هؤلاء حتى كادوا يردّونني عنها .
وقوله تعالى : { وما خلق الذكر والأنثى } يحتمل أن تكون بمعنى الذي كما قالت العرب في سبحان ما سبح الرعد بحمده ، وقال أبو عمرو وأهل مكة يقولون للرعد سبحان ما سبحت له ، ويحتمل أن تكون { ما } مصدرية ، وهو مذهب الزجاج . وقرأ جمهور الصحابة «وما خلق الذكر » ، وقرأ علي بن أبي طالب وابن عباس وعبد الله بن مسعود وأبو الدرداء وسمعها من النبي صلى الله عليه وسلم وعلقمة وأصحاب عبد الله : «والذكر والأنثى » وسقط عندهم { وما خلق }{[11856]} وذكر ثعلب أن من السلف من قرأ «وما خلق الذكرِ والأنثى » بخفض «الذكرِ » على البدل من { ما } على أن التقدير وما خلق الله وقراءة علي ومن ذكر تشهد لهذه ، وقال الحسن : المراد هنا ب { الذكر والأنثى } آدم وحواء ، وقال غيره عام