اللباب في علوم الكتاب لابن عادل - ابن عادل  
{وَمَا خَلَقَ ٱلذَّكَرَ وَٱلۡأُنثَىٰٓ} (3)

قوله : { وَمَا خَلَقَ } . يجوز في «ما » أن تكون بمعنى «من » على ما تقدم في سورة «والشمس » .

قال الحسن : معناه ، والذي خلق فيكون قد أقسم بنفسه تعالى{[60327]} .

وقيل : مصدرية .

قال الزمخشري{[60328]} : «والقادر : العظيم القدرة الذي قدر على خلق الذكر والأنثى من ماء واحد » ، وقد تقدم هذا القول ، والاعتراض عليه ، والجواب عنه في السورة قبلها . وقرأ أبو الدرداء{[60329]} : «والذكر والأنثى » ، وقرأ عبد الله{[60330]} : «والذي خلق » وقرأ الكسائي ، ونقلها{[60331]} ثعلبة عن بعض السلف : { وَمَا خَلَقَ الذَّكَرِ } بجر الذكر .

قال الزمخشري{[60332]} : «على أنه بدل من محل ما خلق بمعنى وما خلقه الله ، أي : ومخلوق الله الذكر والأنثى ، وجاز إضمار اسم الله لأنه معلوم بالخلق ، إذ لا خالق سواه » .

وقيل : المعنى ، وما خلق من الذكر والأنثى ، فتكون «من » مضمرة ، ويكون القسم منه بأهل طاعته ، من أنبيائه وأوليائه ويكون قسمه بهم تكريماً لهم وتشريفاً .

قال أبو حيان{[60333]} : وقد يخرج على توهم المصدر ، أي : وخلق الذكر ؛ كقوله : [ المتقارب ]

5224- تَطُوفُ العُفَاةُ بأبْوابِهِ *** كمَا طَافَ بالبَيْعَةِ الرَّاهبِ{[60334]}

بجر «الراهب » على توهم النطق بالمصدر ، أي : كطوف الراهب انتهى .

والذي يظهر في تخريج البيت أن أصله : الراهبي - بياء النسب - ثم خفف ، وهو قليل ، كقولهم : أحمري ، وداودي ، وهذا التخريج بعينه في قول امرئ القيس : [ الطويل ]

5225- . . . *** فَقِلْ في مَقِيلٍ نَحسهُ مُتغيِّبِ{[60335]}

لما استشهد به الكوفيون على تقديم الفاعل .

وروي عن ابن مسعود - رضي الله عنه - أنه كان يقرأ : { والنهار إِذَا تجلى والذكر والأنثى } ويسقط { وَمَا خَلَقَ } .

وفي صحيح مسلم عن علقمة ، قال : قدمنا «الشام » ، فأتانا أبو الدرداء ، فقال : فيكم أحد يقرأ عليّ قراءة عبد الله ؟ فقلت : نعم ، أنا ، قال : فكيف سمعت عبد الله يقرأ هذه الآية : { والليل إِذَا يغشى } ؟ قال : سمعته يقرأ «والليل إذا يغشى والنهار إذا تجلى ، والذكر والأنثى » قال . وأنا والله هكذا سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقرؤها ، ولكن هؤلاء يريدون أن أقرأ «ومَا خَلَقَ » فلا أتابعهم{[60336]} .

وقال ابن الأنباري : حدثنا محمد بن يحيى المروزي بسنده إلى عبد الله ، قال : أقرأني رسول الله صلى الله عليه وسلم : «إنِّي أنَا الرَّزَّاقُ ذُو القُوَّةِ المتينُ » .

قال ابن الأنباري : حدثنا محمد بن يحيى المروزي بسنده إلى عبد الله ، قال : أقرأني رسول الله صلى الله عليه وسلم : " إني أنا الرزاق ذو القوة المتين " {[60337]}

قال ابن الأنباري : كل من هذين الحديثين مردود بخلاف الإجماع له ، وإن حمزة وعاصماً يرويان عن عبد الله بن مسعود فيما عليه جماعة من المسلمين ، وموافقة الإجماع أولى من الأخذ بقول واحد يخالفه الإجماع .

فصل في المراد بالذكر والأنثى

قيل المراد بالذكر والأنثى ، آدم وحواء - عليهما الصلاة والسلام - قاله ابن عباس والحسن والكلبي{[60338]} .

وقيل : جميع الذكور والإناث من جميع الحيوانات .

وقيل : كل ذكر وأنثى من الآدميين فقط لاختصاصهم بولاية الله تعالى وطاعته .


[60327]:أخرجه الطبري في "تفسيره" (12/610).
[60328]:الكشاف 4/761.
[60329]:وزعم الزمخشري وغيره أنها قراءة النبي صلى الله عليه وسلم ينظر: الكشاف 4/761، والمحرر الوجيز 5/490، والبحر المحيط 8/477 وقال أبو حيان: "وما ثبت في الحديث من قراءة "والذكر والأنثى" نقل آحاد، مخالف للسواد؛ فلا يعد قرآنا، وينظر: الدر المصون 6/534.
[60330]:ينظر: الدر المصون 6/534.
[60331]:ينظر: المحرر الوجيز 5/490، والبحر المحيط 8/477، والدر المصون 6/534.
[60332]:الكشاف 4/762.
[60333]:ينظر البحر المحيط 8/477.
[60334]:ويروى الشطر الثاني: *** كطوف النصارى ببيت الوثن *** ينظر ديوان الأعشى ص 209، والبحر 8/477، والدر المصون 6/535.
[60335]:عجز بيت وصدره: *** فظل لنا يوم لذيذ بنعمة *** ينظر ديوان امرىء القيس ص (37)، وشرح جمل الزجاجي لابن عصفور 1/160، والدر المصون 6/535.
[60336]:أخرجه البخاري (8/577) كتاب التفسير، باب: والنهار إذا تجلى رقم (4943)، وأحمد (6/449) والترمذي (5/175) رقم (2939) والنسائي في "الكبرى" (6/516) والطبري في "تفسيره" (12/610) وذكره السيوطي في "الدر المنثور" (6/604) وزاد نسبته إلى سعيد بن منصور وعبد بن حميد وابن المنذر وابن مردويه.
[60337]:ذكره القرطبي في "تفسيره" (20/55) وعزاه إلى ابن الأنباري.
[60338]:ينظر تفسير الماوردي (6287) والقرطبي (20/56).