{ وَقَدْ خَلَقَكُمْ أَطْوَارًا } أي : خلقا [ من ] بعد خلق ، في بطن الأم ، ثم في الرضاع ، ثم في سن الطفولية ، ثم التمييز ، ثم الشباب ، إلى آخر ما وصل إليه الخلق{[1240]} ، فالذي انفرد بالخلق والتدبير البديع ، متعين أن يفرد بالعبادة والتوحيد ، وفي ذكر ابتداء خلقهم تنبيه لهم على الإقرار بالمعاد ، وأن الذي أنشأهم من العدم قادر على أن يعيدهم بعد موتهم .
وقوله - سبحانه - بعد ذلك حكاية عن نوح - عليه السلام - : { مَّا لَكُمْ لاَ تَرْجُونَ لِلَّهِ وَقَاراً . وَقَدْ خَلَقَكُمْ أَطْوَاراً } : بيان لما سلكه نوح فى دعوته لقومه ، من جمعه بين الترغيب والترهيب .
فهو بعد أن أرشدهم إلى أن استغفارهم وطاعتهم لربهم ، تؤدى بهم إلى البسطة فى الرزق . . أتبع ذلك بزجرهم لسوء أدبهم مع الله - تعالى - منكرا عليهم استهتارهم واستخفافهم بما يدعوهم إليه .
وقوله : { مَّا لَكُمْ } مبتدأ وخبر ، وهو استفهام قصد به توبيخهم والتعجيب من حالهم .
ولفظ " ترجون " يرى بعضهم أنه بمعنى تعتقدون . والوقار معناه : التعظيم والإِجلال .
والأطوار : جمع طور ، وهو المرة والتارة من الأفعال والأزمان .
أى : ما الذى حدث لكم - أيها القوم - حتى صرتم لا تعتقدون لله - تعالى - عظمة أو إجلالا ، والحال أنه - سبحانه - هو الذى خلقكم وأوجدكم فى أطوار متعددة ، نطفة ، فعلقة ، فمضغة .
كما قال - سبحانه - { وَلَقَدْ خَلَقْنَا الإنسان مِن سُلاَلَةٍ مِّن طِينٍ . ثُمَّ جَعَلْنَاهُ نُطْفَةً فِي قَرَارٍ مَّكِينٍ . ثُمَّ خَلَقْنَا النطفة عَلَقَةً فَخَلَقْنَا العلقة مُضْغَةً فَخَلَقْنَا المضغة عِظَاماً فَكَسَوْنَا العظام لَحْماً ثُمَّ أَنشَأْنَاهُ خَلْقاً آخَرَ فَتَبَارَكَ الله أَحْسَنُ الخالقين } وكما قال - تعالى - { الله الذي خَلَقَكُمْ مِّن ضَعْفٍ ثُمَّ جَعَلَ مِن بَعْدِ ضَعْفٍ قُوَّةً ثُمَّ جَعَلَ مِن بَعْدِ قُوَّةٍ ضَعْفاً وَشَيْبَةً يَخْلُقُ مَا يَشَآءُ وَهُوَ العليم القدير } قال القرطبى ما ملخصه : قوله - تعالى - : { مَّا لَكُمْ لاَ تَرْجُونَ لِلَّهِ وَقَاراً } قيل : الرجاء هنا بمعنى الخوف .
أى : مالكم لا تخافون لله عظمة وقدرة على أخذكم بالعقوبة .
وقيل : المعنى : ما لكم لا تعلمون لله عظمة . . أولا ترون لله عظمة . . أو لا تبالون أن لله عظمة .
ونمضي مع نوح في جهاده النبيل الطويل . فنجده يأخذ بقومه إلى آيات الله في أنفسهم وفي الكون من حولهم ، وهو يعجب من استهتارهم وسوء أدبهم مع الله ، وينكر عليهم ذلك الإستهتار :
( ما لكم لا ترجون لله وقارا ? وقد خلقكم أطوارا ? ) . .
والأطوار التي يخاطب بها قوم نوح في ذلك الزمان لا بد أن تكون أمرا يدركونه ، أو أن يكون أحد مدلولاتها مما يملك اولئك القوم في ذلك الزمان أن يدركوه ، ليرجو من وراء تذكيرهم به أن يكون له في نفوسهم وقع مؤثر ، يقودهم إلى الاستجابة . والذي عليه أكثر المفسرين أنها الأطوار الجنينية من النطفة إلى العلقة إلى المضغة إلى الهيكل إلى الخلق الكامل . . وهذا يمكن أن يدركه القوم إذا ذكر لهم . لأن الأجنة التي تسقط قبل اكتمالها في الأرحام يمكن أن تعطيهم فكرة عن هذه الأطوار . وهذا أحد مدلولات هذه الآية . ويمكن أن يكون مدلولها ما يقوله علم الأجنة . من أن الجنين في أول أمره يشبه حيوان الخلية الواحدة ، ثم بعد فترة من الحمل يمثل الجنين شبه الحيوان المتعدد الخلايا . ثم يأخذ شكل حيوان مائي . ثم شكل حيوان ثديي . ثم شكل المخلوق الإنساني . . وهذا أبعد عن إدراك قوم نوح . فقد كشف هذا حديثا جدا . وقد يكون هذا هو مدلول قوله تعالى في موضع آخر بعد ذكر أطوار الجنين : ثم أنشأناه خلقا آخر فتبارك الله أحسن الخالقين . . كما أن هذا النص وذاك قد تكون لهما مدلولات أخرى لم تتكشف للعلم بعد . . ولا نقيدهما . .
وعلى أية حال فقد وجه نوح قومه إلى النظر في أنفسهم ، وأنكر عليهم أن يكون الله خلقهم أطوارا ، ثم هم بعد ذلك لا يستشعرون في أنفسهم توقيرا للجليل الذي خلقهم . . وهذا أعجب وأنكر ما يقع من مخلوق !
وقوله : وَقَدْ خَلَقَكُمْ أطْوَارا يقول : وقد خلقكم حالاً بعد حال ، طورا نُطْفة ، وطورا عَلَقة ، وطورا مضغة . وبنحو الذي قلنا في ذلك قال أهل التأويل . ذكر من قال ذلك :
حدثني عليّ ، قال : حدثنا أبو صالح ، قال : ثني معاوية ، عن عليّ ، عن ابن عباس ، قوله : وَقَدْ خَلَقَكُمْ أطْوَارا يقول : نطفة ، ثم علقة ، ثم مضغة .
حدثني محمد بن عمرو ، قال : حدثنا أبو عاصم ، قال : حدثنا عيسى وحدثني الحارث ، قال : حدثنا الحسن ، قال : حدثنا ورقاء ، جميعا عن ابن أبي نجيح ، عن مجاهد وَقَدْ خَلَقَكُمْ أطْوَارا قال : من تراب ، ثم من نطفة ، ثم من علقة ، ثم ما ذكر حتى يتمّ خلقه .
حدثنا بشر ، قال : حدثنا يزيد ، قال : حدثنا سعيد ، عن قتادة : وَقَدْ خَلَقَكُمْ أطْوَارا طورا نطفة ، وطورا علقة ، وطورا عظاما ، ثم كسا العظام لحما ، ثم أنشأه خلقا آخر ، أنبت به الشعر ، فتبارك الله أحسن الخالقين .
حدثنا ابن عبد الأعلى ، قال : حدثنا ابن ثور ، عن معمر ، عن قتادة وَقَدْ خَلَقَكُمْ أطْوَارا قال : نطفة ، ثم علقة ، ثم خلقا طورا بعد طور .
حُدثت عن الحسين ، قال : سمعت أبا معاذ يقول : حدثنا عبيد ، قال : سمعت الضحاك يقول في قوله : خَلَقَكُمْ أطْوَارا يقول : من نطفة ، ثم من علقة ، ثم من مضغة .
حدثني يونس ، قال : أخبرنا ابن وهب ، قال : قال ابن زيد ، في قوله : وَقَدْ خَلَقَكُمْ أطْوَارا قال : طورا النطفة ، ثم طورا أمشاجا حين يمشج النطفة الدم ، ثم يغلب الدم على النطفة ، فتكون علقة ، ثم تكون مضغة ، ثم تكون عظاما ، ثم تُكسي العظام لحما .
حدثنا ابن حميد ، قال : حدثنا جرير ، عن منصور ، عن مجاهد ، في قوله : وَقَدْ خَلَقَكُمْ أطْوَارا قال : نطفة ، ثم علقة ، شيئا بعد شيء .