قوله تعالى : { ذرية } . اشتقاقها من ذرأ بمعنى خلق ، وقيل من الذر لأنه إستخرجهم من صلب آدم كالذر ، ويسمى الأولاد والآباء ذرية فالأولاد ذرية لأنه ذراهم والآباء ذرية لأنه ذرأ الأنبياء منهم ، قال الله تعالى ( وآية لهم أنا حملنا ذريتهم ) أي آباءهم . ذرية نصب على معنى واصطفى ذرية .
قوله تعالى : { بعضها من بعض } أي بعضها من ولد بعض ، وقيل بعضها من بعض في التناصر ، وقيل بعضها على دين بعض .
وتسلسل الصلاح والتوفيق بذرياتهم ، فلهذا قال تعالى { ذرية بعضها من بعض } أي : حصل التناسب والتشابه بينهم في الخلق والأخلاق الجميلة ، كما قال تعالى لما ذكر جملة من الأنبياء الداخلين في ضمن هذه البيوت الكبار { ومن آبائهم وإخوانهم وذرياتهم واجتبيناهم وهديناهم إلى صراط مستقيم } { والله سميع عليم } يعلم من يستحق الاصطفاء فيصطفيه ومن لا يستحق ذلك فيخذله ويرديه ، ودل هذا على أن هؤلاء اختارهم لما علم من أحوالهم الموجبة لذلك فضلا منه وكرما ، ومن الفائدة والحكمة في قصه علينا أخبار هؤلاء الأصفياء أن نحبهم ونقتدي بهم ، ونسأل الله أن يوفقنا لما وفقهم ، وأن لا نزال نزري{[2]} أنفسنا بتأخرنا عنهم وعدم اتصافنا بأوصافهم ومزاياهم الجميلة ، وهذا أيضا من لطفه بهم ، وإظهاره الثناء عليهم في الأولين والآخرين ، والتنويه بشرفهم ، فلله ما أعظم جوده وكرمه وأكثر فوائد معاملته ، لو لم يكن لهم من الشرف إلا أن أذكارهم مخلدة ومناقبهم مؤبدة لكفى بذلك فضلا .
ثم صرح - سبحانه - بعد ذلك بتسلسل هذه الصفوة الكريمة بعضها من بعض فقال { ذُرِّيَّةً بَعْضُهَا مِن بَعْضٍ } وأصل الذرية - كما يقول القرطبي - فعلية من الذر ، لأن الله - تعالى - أخرج الخلق من صلب آدم كالذر حين أشهدهم على أنفسهم - وقيل هو مأخوذ من ذرأ الله الخلق يذرؤهم ذرءًا خلقهم ، ومنه الذرية وهى نسل الثقلين " .
والمعنى : أن أولئك المصطفين الأخيار بعضهم من نسل بعض ، فهم متصلو النسب ، فنوح من ذرية آدم ، وآل إبراهيم من ذرية نوح ، وآل عمران من ذرية آل إبراهيم ، فهم جميعا سلسلة متصلة الحلقات فى النسب ، والخصال الحميدة .
وقوله { ذُرِّيَّةً } منصوب على الحال من آل إبراهيم وآل عمران . ثم ختم - سبحانه - الآية بقوله : { والله سَمِيعٌ عَلِيمٌ } أى هو - سبحانه - سميع لأقوال عباده فى شأن هؤلاء المصطفين الأخيار وفى شأن غيرهم عليم بأحوال خلقه علما تاما بحيث لا تخفى عليه خافية تصدر عنهم .
( ذرية بعضها من بعض ، والله سميع عليم ) . .
ولقد ذكر السياق آدم ونوحا فردين ؛ وذكر آل إبراهيم وآل عمران أسرتين . إشارة إلى أن آدم بشخصه ونوحا بشخصه هما اللذان وقع عليهما الاصطفاء . فأما إبراهيم وعمران فقد كان الاصطفاء لهما ولذريتهما كذلك - على القاعدة التي تقررت في سورة البقرة عن آل إبراهيم : قاعدة أن وراثة النبوة والبركة في بيته ليست وراثة الدم ، إنما هي وراثة العقيدة : ( وإذ ابتلى إبراهيم ربه بكلمات فأتمهن قال : إني جاعلك للناس إماما . قال : ومن ذريتي ؟ قال : لا ينال عهدي الظالمين ) . .
وبعض الروايات تذكر أن عمران من آل إبراهيم . فذكر آل عمران إذن تخصيص لهذا الفرع لمناسبة خاصة ، هي عرض قصة مريم وقصة عيسى عليه السلام . . كذلك نلاحظ أن السياق لم يذكر من آل إبراهيم لا موسى ولا يعقوب [ وهو إسرائيل ] كما ذكر آل عمران . . ذلك أن السياق هنا يستطرد إلى الجدل حول عيسى بن مريم وحول إبراهيم - كما سيأتي في الدرس التالي - فلم تكن هناك مناسبة لذكر موسى في هذا المقام أو ذكر يعقوب . .
{ ذُرّيّةً بَعْضُهَا مِن بَعْضٍ وَاللّهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ }
يعني بذلك : أن الله اصطفى آل إبراهيم وآل عمران { ذُرّيّةً بَعْضُهَا مِنْ بَعْضٍ } فالذرّية منصوبة على القطع من آل إبراهيم وآل عمران : لأن «الذرّية » نكرة ، و«آل عمران » معرفة ، ولو قيل نصبت على تكرير الاصطفاء لكان صوابا ، لأن المعنى : اصطفى ذرّية بعضها من بعض . وإنما جعل «بعضهم من بعض » في الموالاة في الدين والموازرة على الإسلام والحق ، كما قال جلّ ثناؤه : { وَالمُؤمِنُونَ وَالمُؤمِنَاتُ بَعْضُهُمْ أوْلِياءُ بَعْضٍ } وقال في موضع آخر : { المُنَافِقُونَ وَالمُنَافِقَاتُ بَعْضُهُمْ مِنْ بَعْضٍ } يعني أن دينهم واحد وطريقتهم واحدة ، فكذلك قوله : { ذُرّيّةً بَعْضُهَا مِنْ بَعْضٍ } إنما معناه : ذرّية دين بعضها دين بعض ، وكلمتهم واحدة ، وملتهم واحدة في توحيد الله وطاعته . كما :
حدثنا بشر ، قال : حدثنا يزيد ، قال : حدثنا سعيد ، عن قتادة قوله : { ذُرّيّةً بَعْضُها مِنْ بَعْضٍ } يقول : في النية والعمل والإخلاص والتوحيد له .
وقوله : { وَاللّهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ } يعني بذلك : والله ذو سمع لقول امرأة عمران ، وذو علم بما تضمره في نفسها ، إذ نذرت له ما في بطنها محرّرا .
وقوله تعالى : { ذرية } نصب على البدل ، وقيل على الحال لأن معنى { ذرية بعضها من بعض } متشابهين في الدين والحال ، وهذا أظهر من البدل ، والذرية في عرف الاستعمال تقع لما تناسل من الأولاد سفلاً ، واشتقاق اللفظة في اللغة يعطي أن تقع على جميع الناس أي كل أحد ذرية لغيره فالناس كلهم ذرية بعضهم لبعض ، وهكذا استعملت الذرية في قوله تعالى :
{ أنا حملنا ذرياتهم في الفلك المشحون }{[3100]}أي ذرية هذا الجنس ولا يسوغ أن يقول في والد هذا ذرية لولده وإذ اللفظة من ذر إذا بث فهكذا يجيء معناها ، وكذلك إن جعلناها من «ذرى » وكذلك إن جعلت من ذرأ أو من الذر الذي هو صغار النمل{[3101]} ، قال أبو الفتح{[3102]} : الذرية يحتمل أن تكون مشتقة من هذه الحروف الأربعة ، ثم طول أبو الفتح القول في وزنها على كل اشتقاق من هذه الأربعة الأحرف تطويلاً لا يقتضي هذا الإيجاز ذكره وذكرها أبو علي في الأعراف في ترجمة { من ظهورهم ذرياتهم }{[3103]} قال الزجّاج : أصلها فعليه من الذر ، لأن الله أخرج الخلق من صلب آدم كالذر ، قال أبو الفتح : هذه نسبة إلى الذر غير أولها كما قالوا في النسبة إلى الحرم : حرمي بكسرالحاء وغير ذلك من تغيير النسب قال الزجّاج : وقيل أصل { ذرية } ذرورة ، وزنها فعلولة فلما كثرت الراءات أبدلوا من الأخيرة ياء فصارت ذروية ثم أدغمت الواو في الياء فجاءت { ذرية } .
قال القاضي فهذا اشتقاق من ذر يذر ، أو من ذرى ، وإذا كانت من ذرأ فوزنها فعلية كمريقة أصلها ذرئة فألزمت البدل والتخفيف كما فعلوا في البرية في قول من رآها من برأ الله الخلق ، وفي كوكب دري ، في قول من رآه من -درأ- لأنه يدفع الظلمة بضوئه .
وقرأ جمهور الناس «ذُرية » بضم الذال وقرأ زيد بن ثابت والضحاك ، «ذِرية » بكسر الذال ، وقوله تعالى : { بعضها من بعض } أي في الإيمان والطاعة وإنعام الله عليهم بالنبوة .