{ 9 - 10 } { وَلَئِنْ أَذَقْنَا الْإِنْسَانَ مِنَّا رَحْمَةً ثُمَّ نَزَعْنَاهَا مِنْهُ إِنَّهُ لَيَئُوسٌ كَفُورٌ * وَلَئِنْ أَذَقْنَاهُ نَعْمَاءَ بَعْدَ ضَرَّاءَ مَسَّتْهُ لَيَقُولَنَّ ذَهَبَ السَّيِّئَاتُ عَنِّي إِنَّهُ لَفَرِحٌ فَخُورٌ * إِلَّا الَّذِينَ صَبَرُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ أُولَئِكَ لَهُمْ مَغْفِرَةٌ وَأَجْرٌ كَبِيرٌ }
يخبر تعالى عن طبيعة الإنسان ، أنه جاهل ظالم بأن الله إذا أذاقه منه رحمة كالصحة والرزق ، والأولاد ، ونحو ذلك ، ثم نزعها منه ، فإنه يستسلم لليأس ، وينقاد للقنوط ، فلا يرجو ثواب الله ، ولا يخطر بباله أن الله سيردها أو مثلها ، أو خيرا منها عليه .
ثم بين - سبحانه - جانبا من طبيعة بنى آدم إلا من عصم الله فقال - تعالى - { وَلَئِنْ أَذَقْنَا الإنسان مِنَّا رَحْمَةً ثُمَّ نَزَعْنَاهَا مِنْهُ إِنَّهُ لَيَئُوسٌ كَفُورٌ . . . }
والمراد بالإِنسان هنا الجنس على أرجح الأقوال ، فيشمل المسلم وغيره ، بدليل الاستثناء الآتى بعد ذلك فى قوله { إِلاَّ الذين صَبَرُواْ وَعَمِلُواْ الصالحات }
قال الفخر الرازى ما ملخصه : المراد بالإِنسان هنا مطلق الإِنسان يدل عليه وجوه :
الأول : أنه - تعالى - استثنى منه قوله { إِلاَّ الذين صَبَرُواْ وَعَمِلُواْ الصالحات } والاسثتناء يخرج من الكلام ما لولاه لدخل ، فثبت أن الإِنسان المذكور فى هذه الآية داخل فيه المؤمن والكافر .
الثانى : أن هذه الآية موافقة على هذا التقرير لقوله - سبحانه - : { والعصر . إِنَّ الإنسان لَفِى خُسْرٍ . إِلاَّ الذين آمَنُواْ وَعَمِلُواْ الصالحات . . . } الثالث : أن مزاج الإِنسان مجبول على الضعف والعجز . قال ابن جريج فى تفسير هذه الآية : " يا بن آدم إذا نزلت بك نعمة من الله فأنت كفور ، فإذا نزعت منك فيؤوس قنوط " .
وقيل المراد بالإنسان هنا جنس الكفار فقط ، لأن هذه الأوصاف تناسبهم وحدهم .
والمراد بالرحمة هنا : رحمة الدنيا ، وأطلقت على أثرها وهو النعمة كالصحة والغنى والأمان وما يشبه ذلك من ألوان النعم .
واليؤوس والكفور : صيغتا مبالغة للشخص الكثير اليأس ، والكفر ، والقنوط : الشديد الجحود لنعم الله - تعالى - يقال : يئس من الشئ ييأس ، إذا قنط منه .
والمعنى : ولئن منحنا الإِنسان - بفضلنا وكرمنا - بعض نعمنا ، كالصحة والغنى والسلطان والأمان { ثُمَّ نَزَعْنَاهَا مِنْهُ } أى : ثم سلبناها منه ، لأن حكمتنا تقتضى ذلك .
{ إنه } فى هذه الحالة { لَيَئُوسٌ كَفُورٌ } أى : لشديد اليأس والقنومن من أن يرجع إليه ما سلب منه أو مثله ، ولكثير الكفران والجحود لما سبق أن تقلب فيه من نعم ومنن .
قال الشوكانى : وفى التعبير بالذوق ما يدل على أنه يكون منه ذلك عند سلب أدنى نعمة ينعم الله بها عليه : " لأن الإِذاعة والذوق أقل ما يوجد به الطعم " .
وفى قوله : " ثم نزعناها منه " إشارة إلى شدة تعلقه بهذه النعم ، وحرصه على بقائها معه .
وجملة { إِنَّهُ لَيَئُوسٌ كَفُورٌ } جواب القسم ، وأكدت بإن وباللام ، لقصد تحقيق مضمونها ، وأنه حقيقة ثابتة .
وهى تصوير بليغ صادق لما يعترى نفس هذا الإِنسان عندما تسلب منه النعمة بعد أن ذاقها - فهو - لقلة إيمانه وضعف ثقته بربه - قد فقد كل أمل فى عودة هذه النعمة إليه ، ولكأن هذه النعمة التى سلبت منه لم يرها قبل ذلك .
وبمناسبة استعجال العذاب يجول السياق جولة في نفس هذا المخلوق الإنساني العجيب ، الذي لا يثبت ولا يستقيم إلا بالإيمان :
( ولئن أذقنا الإنسان منا رحمة ثم نزعناها منه إنه ليؤوس كفور ، ولئن أذقناه نعماء بعد ضراء مسته ليقولن : ذهب السيئات عني ، إنه لفرح فخور . إلا الذين صبروا وعملوا الصالحات ، أولئك لهم مغفرة وأجر كبير ) . .
إنها صورة صادقة لهذا الإنسان العجول القاصر ، الذي يعيش في لحظته الحاضرة ، ويطغى عليه ما يلابسه ؛ فلا يتذكر ما مضى ولا يفكر فيما يلي . فهو يؤوس من الخير ، كفور بالنعمة بمجرد أن تنزع منه . مع أنها كانت هبة من الله له .
القول في تأويل قوله تعالى : { وَلَئِنْ أَذَقْنَا الإِنْسَانَ مِنّا رَحْمَةً ثُمّ نَزَعْنَاهَا مِنْهُ إِنّهُ لَيَئُوسٌ كَفُورٌ } .
يقول تعالى ذكره : ولئن أذقنا الإنسان منا رخاء وسعة في الرزق والعيش ، فبسطنا عليه من الدنيا ، وهي الرحمة التي ذكرها تعالى ذكره في هذا الموضع ، ثُمّ نَزَعْناها مِنْهُ يقول : ثم سلبناه ذلك ، فأصابته مصائب أجاحته فذهبت به إنّهُ لَيَئُوسٌ كَفُورٌ يقول : يظلّ قناطا من رحمة الله آيسا من الخير . وقوله : «يئوس » : فعول ، من قول القائل : يئس فلان من كذا فهو يئوس ، إذا كان ذلك صفة له . وقوله : «كفور » ، يقول : هو كفور لمن أنعم عليه ، قليل الشكر لربه المتفضل عليه بما كان وهب له من نعمته .
وبنحو الذي قلنا في ذلك قال أهل التأويل . ذكر من قال ذلك :
حدثنا القاسم ، قال : حدثنا الحسين ، قال : ثني حجاج ، عن ابن جريج : وَلَئِنْ أذَقْنا الإنْسانَ مِنّا رَحْمَةً ثُمّ نَزَعْناها مِنْهُ إنّهُ لَيَئُوسٌ كَفُورٌ قال : يا ابن آدم إذا كانت بك نعمة من الله من السعة والأمن والعافية فكفور لمِا بك منها ، وإذا نزعت منك يبتغ لك فراغك فيئوس من رَوْحِ الله ، قنوط من رحمته ، كذلك المرء المنافق والكافر .
{ أذقنا } ها هنا مستعارة ، لأن «الرحمة » ها هنا تعم جميع ما ينتفع به من مطعوم وملبوس وجاه وغير ذلك . و { الإنسان } ها هنا اسم الجنس والمعنى أن هذا الخلق في سجية الناس ، ثم استثنى منهم الذين ردتهم الشرائع والإيمان إلى الصبر والعمل الصالح .
و { يؤوس } و { كفور } بناءان للمبالغة ، و { كفور } ها هنا من كفر النعمة ، والمعنى أنه ييأيس ويحرج ويتسخط ، ولو نظر إلى نعمة الله الباقية عليه في عقله وحواسه وغير ذلك ، ولم يكفرها لم يكن ذلك ، فإن اتفق هذا أن يكون في كافر أيضاً بالشرع صح ذلك ولكن ليس من لفظ الآية .
وقال بعض الناس في هذه الآية : { الإنسان } إنما يراد به الكافر وحمله على ذلك لفظة { كفور } ، وهذا عندي مردود ، لأن صفة الكفر لا تطلق على جميع الناس كما تقتضي لفظة الإنسان .
تفسير مقاتل بن سليمان 150 هـ :
{وَلَئِنْ أَذَقْنَا الْإِنْسَانَ} يعني آتَيْنَا الإنسانَ، {مِنَّا رَحْمَةً}، يعني نِعْمةً، يقول: أعطَيْنا الإنسانَ خيراً وعافيَةً، {ثُمَّ نَزَعْنَاهَا مِنْهُ إِنَّهُ لَيَئُوسٌ} عند الشِّدة من الخَيْر، {كَفُورٌ} لله في نِعمة الرَّخَاءِ...
جامع البيان عن تأويل آي القرآن للطبري 310 هـ :
يقول تعالى ذكره: ولئن أذقنا الإنسان منا رخاء وسعة في الرزق والعيش، فبسطنا عليه من الدنيا، وهي الرحمة التي ذكرها -تعالى ذكره- في هذا الموضع، "ثُمّ نَزَعْناها مِنْهُ "يقول: ثم سلبناه ذلك، فأصابته مصائب أجاحته فذهبت به، "إنّهُ لَيَئُوسٌ كَفُورٌ" يقول: يظلّ قنطا من رحمة الله آيسا من الخير. وقوله: «يئوس»: فعول، من قول القائل: يئس فلان من كذا فهو يئوس، إذا كان ذلك صفة له. وقوله: «كفور»، يقول: هو كفور لمن أنعم عليه، قليل الشكر لربه المتفضل عليه بما كان وهب له من نعمته.
تأويلات أهل السنة للماتريدي 333 هـ :
(وَلَئِنْ أَذَقْنَا الإِنسَانَ مِنَّا رَحْمَةً) قيل: سَعَةً في المال... والإِيَاسُ قد يكون كُفْراً كقوله: (إِنَّهُ لَا يَيْأَسُ مِنْ رَوْحِ اللهِ إِلَّا الْقَوْمُ الْكَافِرُونَ) [يوسف: 87]...
(كَفُورٌ) لَمّا رأى نزْعَ ذلك المالِ والسَّعَةِ منه جَوْراً وظُلماً فهو كَفورٌ...
التبيان في تفسير القرآن للطوسي 460 هـ :
وسَمَّى إحْلالَ اللَّذاتِ بهم إذاقةً تشبيهاً ومجازاً، لأن الذَّوق في الحقيقة تناوُلُ الشيءِ بالفم لإدراك الطَّعْمِ...
والنَّزْعُ: رفْعُ الشيءِ عن غيره ممّا كان مُشابِكاً له،...
واليأسُ: القطعُ بأن الشيءَ لا يكون، وهو ضِدُّ الرَّجاءِ، ويَؤوسٌ: كثيرُ اليأسِ من رحمة الله، وهذه صفةُ ذَمٍّ، لأنه لا يكون كذلك إلا للجهل بسَعة رحمةِ الله التي تقتضي قوّةَ الأملِ...
وفائدة الآية: الإخبار عن سوء خلق الإنسان وقنوطه من الرحمة عند نزول الشدة، وأنه إذا أنعم عليه بنعمة لم يشكره عليها، وإذا سلبها منه يئس من رحمة الله وكفر نعمه، وهو مصروف إلى الكفار الذين هذه صفتهم...
لطائف الإشارات للقشيري 465 هـ :
تَكَدُّرُ ما صفا من النِّعم، وتَغيُّرُ ما أُتيح من الإحسان والمِنَن حالٌ معهودةٌ وخُطَّة عامة، فلا أحدَ إلا وله منها حظه، فَمْنْ لم يَرجِع بالتأسُّفِ قلبُه، ولم يتضاعفْ في كل نَفَسٍ تَلَهفُّهُ وكَرْبُه ففي ديوان النِّسيانِ، وأُثْبِتَ اسمُه في جُملة أهلِ الهِجْرانِ. ومَن استمسك بعُرْوَةِ التَّضَرُّعِ، واعتكَف بِعَقْوَةِ التَّذَلُّلِ، احتسَى كاساتِ الحسرة عُلَلاً بعد نَهْلِ طاعتِه للحق بنَعْت الرحمة، وجَدَّدَ له ما اندَرَس من أحوال القُرْبةِ، وأطْلَعَ عليه شمسَ الإقبال بعد الأُفولِ والغَيْبةِ...
الكشاف عن حقائق التنزيل للزمخشري 538 هـ :
{الإنسان} للجنس {رَحْمَةً}: نعمة من صحة وأمن وجدة {ثُمَّ نَزَعْنَاهَا مِنْهُ} ثم سلبنا تلك النعمة، {إنه ليؤوس}: شديد اليأس من أن تعود إليه مثل تلك النعمة المسلوبة، قاطع رجاءه من سعة فضل الله من غير صبر ولا تسليم لقضائه ولا استرجاع، {كَفُورٌ}: عظيم الكفران لما سلف له من التقلب في نعمة الله نَسَّاءٌ له.
المحرر الوجيز في تفسير الكتاب العزيز لابن عطية 542 هـ :
{أذقنا} ها هنا مستعارة، لأن «الرحمة» ها هنا تعم جميع ما ينتفع به من مطعوم وملبوس وجاه وغير ذلك. و {الإنسان} ها هنا اسم الجنس والمعنى أن هذا الخُلُق في سجية الناس، ثم استثنى منهم الذين ردتهم الشرائع والإيمان إلى الصبر والعمل الصالح...
المسألة الثانية: لفظ الإذاقة والذوق يفيد أقل ما يوجد به الطعم، فكان المراد أن الإنسان بوجدان أقل القليل من الخيرات العاجلة يقع في التمرد والطغيان، وبإدراك أقل القليل من المحنة والبلية يقع في اليأس والقنوط والكفران. فالدنيا في نفسها قليلة، والحاصل منها للإنسان الواحد قليل، والإذاقة من ذلك المقدار خير قليل. ثم إنه في سرعة الزوال يشبه أحلام النائمين وخيالات الموسوسين، فهذه الإذاقة قليل من قليل، ومع ذلك فإن الإنسان لا طاقة له بتحملها ولا صبر له على الإتيان بالطريق الحسن معها. وأما النعماء فقال الواحدي: إنها إنعام يظهر أثره على صاحبه، والضراء: مضرة يظهر أثرها على صاحبها، لأنها خرجت مخرج الأحوال الظاهرة نحو حمراء وعوراء، وهذا هو الفرق بين النعمة والنعماء، والمضرة والضراء.
المسألة الثالثة: اعلم أن أحوال الدنيا غير باقية، بل هي أبدا في التغير والزوال، والتحول والانتقال، إلا أن الضابط فيه أنه إما أن يتحول من النعمة إلى المحنة، ومن اللذات إلى الآفات، وإما أن يكون بالعكس من ذلك، وهو أن ينتقل من المكروه إلى المحبوب، ومن المحرمات إلى الطيبات.
أما القسم الأول: فهو المراد من قوله: {ولئن أذقنا الإنسان منا رحمة ثم نزعناها منه إنه ليئوس كفور} وحاصل الكلام أنه تعالى حكم على هذا الإنسان بأنه يئوس كفور. وتقريره أن يقال: أنه حال زوال تلك النعمة يصير يؤوسا، وذلك لأن الكافر يعتقد أن السبب في حصول تلك النعمة سبب اتفاقي، ثم إنه يستبعد حدوث ذلك الاتفاق مرة أخرى فلا جرم يستبعد عود تلك النعمة فيقع في اليأس. وأما المسلم الذي يعتقد أن تلك النعمة إنما حصلت من الله تعالى وفضله وإحسانه وطوله فإنه لا يحصل له اليأس، بل يقول لعله تعالى يردها إلى بعد ذلك أكمل وأحسن وأفضل مما كانت، وأما حال كون تلك النعمة حاصلة فإنه يكون كفورا لأنه لما اعتقد أن حصولها إنما كان على سبيل الاتفاق أو بسبب أن الإنسان حصلها بسبب جده وجهده، فحينئذ لا يشتغل بشكر الله تعالى على تلك النعمة. فالحاصل أن الكافر يكون عند زوال تلك النعمة يؤوسا وعند حصولها يكون كفورا.
وأما القسم الثاني: وهو أن ينتقل الإنسان من المكروه إلى المحبوب، ومن المحنة إلى النعمة، فههنا الكافر يكون فرحا فخورا. أما قوة الفرح فلأن منتهى طمع الكافر هو الفوز بهذه السعادات الدنيوية وهو منكر للسعادات الأخروية الروحانية، فإذا وجد الدنيا فكأنه قد فاز بغاية السعادات فلا جرم يعظم فرحه بها، وأما كونه فخورا فلأنه لما كان الفوز بسائر المطلوب نهاية السعادة لا جرم يفتخر به، فحاصل الكلام أنه تعالى بين أن الكافر عند البلاء لا يكون من الصابرين، وعند الفوز بالنعماء لا يكون من الشاكرين.
نظم الدرر في تناسب الآيات و السور للبقاعي 885 هـ :
لما كان قولهم ذلك ناشئاً عن طبع الإنسان على الوقوف مع الحالة الراهنة والعمى عن الاستضاءة بنور العقل فيما يزيلها في العاقبة، بين ذلك ليعلم أن طبعه مناف لما تضمنه مقصود السورة من الإحكام الذي هو ثمرة العلم. وبعلم ذلك يعلم مقدار نعمته على من حفظه على ما فطره عليه من أحسن تقويم بقوله مؤكداً لأن كل أحد ينكر أن يكون طبعه كذلك: {ولئن أذقنا} أي بما لنا من العظمة {الإنسان} أي هذا النوع المستأنس بنفسه؛ ولما كان من أقبح الخلال استملاك المستعار. وكانت النعم عواري من الله يمنحها من شاء من عباده، قدم الصلة دليلاً على العارية فقال: {منا رحمة} أي نعمة عظيمة فضلاً منا عليه لا بحوله ولا بقوته من جهة لا يرجوها بما دلت عليه أداة الشك ومكناه من التلذذ بها تمكين الذائق من المذوق {ثم نزعناها} أي بما لنا من العظمة وإن كره ذلك {منه} أخذاً لحقنا {إنه ليئوس} أي شديد اليأس من أن يعود له مثلها {كفور*} أي عظيم الستر لما سلفه له من الإكرام لأن شأنه ذلك وخلقه إلا من رحم ربك
إرشاد العقل السليم إلى مزايا الكتاب الكريم لأبي السعود 982 هـ :
{ثُمَّ نَزَعْنَاهَا مِنْهُ}... وإيرادُ النَّزْعِ للإشعار بشدة تعلُّقِه بها وحِرْصِه عليها... {إنَّهُ لَيَئُوسٌ... كَفُورٌ} عظيمُ الكُفْرانِ لِما سَلَفَ من النِّعم، وفيه إشارةٌ إلى أنّ النَّزْعَ إنما كان بسبب كفرانِهم بما كانوا يتقلّبون فيه من نِعم الله عز وجل، وتأخيرُه عن وصف يأسِهم مع تقدُّمه عليه لِرعاية الفواصلِ على أن اليأسَ من فضل الله سبحانه وقطْعَ الرجاءِ عن إفاضة أمثالِه في العاجل وإيصالِ أجْرِه في الآجِل من باب الكُفران للنِّعمة السالفةِ أيضاً...
روح المعاني في تفسير القرآن والسبع المثاني للآلوسي 1270 هـ :
ومن باب الإشارة: {وَلَئِنْ أَذَقْنَا الإِنْسَانَ مِنَّا رَحْمَةً...} تضمَّن الإشارةَ إلى أنه ينبغي للعبد أن يكون في السَّرّاء والضَّرّاء واثقاً بربه تعالى متوكِّلاً عليه غيرَ محتجِبٍ عنه برؤية الأسباب لئلا يحصُل له اليأسُ والكُفْرانُ والبَطَرُ والفخْرُ بذلك وجوداً وعدماً، فإن آتاه رحمةً شَكَرَه أوّلاً: برؤية ذلك منه جَلَّ شأنُه بقلبه. وثانياً: باستعمال جوارحه في مَراضيه وطاعاتِه والقيامِ بحقوقه تعالى فيها، وثالثاً: بإطلاق لسانه بالحمد والثناءِ على الله تعالى وبذلك يتحقَّقُ الشكرُ المشارُ إليه بقوله تعالى: {وَقَلِيلٌ مّنْ عِبَادِيَ الشَّكُورُ} [سبأ: 13]... وبالشُّكر تزداد النِّعمُ كما قال تعالى: {لَئِن شَكَرْتُمْ لأزِيدَنَّكُمْ} [إبراهيم: 7]، وعن علي كرم الله تعالى وجهه إذا وَصلتْ إليكم أطرافُ النِّعم فلا تُنَفِّروا [أو: تُنْفِرُوا] أقصاها بقلة الشكر، ثم إنْ نزَعها منه فلْيَصبِرْ ولايَتَّهِمِ اللهَ تعالى بشيءٍ فإنه تعالى أَبَرُّ بالعبد وأرحَمُ وأخبَرُ بمصلحته وأعلَمُ، ثم إذا أعادها عليه لا ينبغي أن يَبْطَر ويَغْتَرَّ ويفتخرَ بها على الناس فإن الاغترار والافتخارَ بما لا يَملكه من الجهل بمكانٍ...
تفسير المنار لرشيد رضا 1354 هـ :
{ولئن أذقنا الإنسان منا رحمة} هذا وما بعدها بيان لحال الإنسان في اختبار الله له في قوله: {ليبلوكم أيكم أحسن عملا} أي لئن أعطيناه نوعا من أنواع النعمة رحمة منا مبتدأة أذقناه لذتها، فكان مغتبطا بها، كالصحة والأمن وسعة الرزق والولد البار {ثم نزعناها منه} بما يحدث من الأسباب بمقتضى سنتنا في الخلق من مرض وعسر وفتن وموت {إنه ليئوس كفور} أي إنه في هذه الحال لشديد اليأس من الرحمة، قطوع للرجاء من عودة تلك النعمة، كثير الكفران لغيرها من النعم التي لا يزال يتمتع بها، فضلا عما سلف منها، فهو يجمع بين اليأس مما نزع منه، والكفر بما بقي له لحرمانه من فضيلتي الصبر والشكر.
في ظلال القرآن لسيد قطب 1387 هـ :
إنها صورةٌ صادقةٌ لهذا الإنسان العَجولِ القاصرِ، الذي يعيش في لحظته الحاضرة، ويَطغى عليه ما يُلابِسُه؛ فلا يتذكَّر ما مضى ولا يفكِّر فيما يلي...
التحرير والتنوير لابن عاشور 1393 هـ :
عطف على جملة {وَلَئِنْ أَخَّرْنَا عَنْهُمُ الْعَذَابَ إِلَى أُمَّةٍ مَعْدُودَةٍ} [هود: 8]. فإنه لَمَّا ذَكَر أنّ ما هم فيه مَتاعٌ إلى أجلٍ معلومٍ عند الله. وأنهم بَطِرُوا نِعمةَ التّمتيعِ فسَخِروا بتأخير العذاب، بَيّنت هذه الآيةُ أن أهل الضلالةِ راسخون في ذلك لأنّهم لا يفكِّرون في غير اللَّذّات الدنيويّةِ فتَجري انفعالاتُهم على حسب ذلك دون رجاءٍ لتغيُّر الحال، ولا يتفكَّرون في أسباب النعيم والبؤسِ وتصرُّفاتِ خالقِ الناس ومُقدِّرِ أحوالِهم، ولا يتّعظون بتقلُّبات أحوالِ الأُمم، فشأنُ أهلِ الضلالة أنّهم إنْ حلّت بهم الضّرّاءُ بعد النعمة مَلَكهم اليأسُ من الخير ونَسُوا النعمة فجَحدوها وكفروا مُنْعِمَها، فإنّ تأخير العذاب رحمةٌ وإتيانَ العذابِ نَزْعٌ لتلك الرحمة، وهذه الجملة في قوة التذييل. فتعريف (الإنسان) تعريف الجنس مرادٌ به الاستغراق، وبذلك اكتسبت الجملة قوة التذييل...
واختيرتْ مادةُ الإذاقةِ لِمَا تُشعِر به من إدراك أمرٍ محبوبٍ لأنّ المرء لا يذوق إلاّ ما يشتهيه...
والرحمة، أريدَ بها: رحمةُ الدنيا. وأُطلِقتْ على أثرها وهو النعمة... وتأكيدُ الجملةِ باللاّم المُوَطِّئَةِ للقَسَم وبحرف التوكيد في جملة جواب القسم لقصْد تحقيقِ مضمونِها وأنّه حقيقةٌ ثابتةٌ لا مبالغةَ فيها ولا تغليبَ...
زهرة التفاسير - محمد أبو زهرة 1394 هـ :
. هذا نصٌّ كبيرٌ في بيان طبيعة النفس التي تَخضع للحِسّ دون العقلِ المدرِكِ الذي يوازن بين الماضي والحاضر ويضبِط نفسَه ووِجْدانَه، بل يكون هَلوعاً عندما يصيبه ما يَسوءه وطَموعا أَشِراً بَطِراً عندما ينال خيراً ويَذهبُ عنه ما يَسوءه، فإذا أصابه خيرٌ بَطِرَ، وإذا أصابه سُوءٌ جَزِعَ. أمّا المؤمنُ المدرِك [فهو] صَبورٌ لا تُبْطِره النعمة، ولا تُوئسه النقمة، وهو يَضبِط نفسه، وضبطُ النفسِ والصبرُ متلازمان لا يفترقان...
وهنا ملاحظاتٌ بيانيّةٌ موضِّحةٌ ومُقَرِّبةٌ للنص الكريم: الملاحظة الأولى: قال سبحانه: {أَذَقْنَا الْإِنْسَانَ} أي جعله يَذُوقُ ويُحسُّ متنعِّماً، وأضاف سبحانه وتعالى ذلك إليه لبيان عِظَمِها وأنها مِنْحةٌ جليلةٌ، وسمّاها سبحانه رحمةً لوجوب شكرِها وبيانِ أنه أعطاها لتكون مصدرَ خيرٍ للناس تعمّ ولا تخصّ، فهي ليست له خاصّةً ولكن ليكون شكرُها نفعا للناس...
الملاحظة الثانية: قوله تعالى: {ثُمَّ نَزَعْنَاهَا مِنْهُ} يشير إلى التفاوت بين العطاء الكريم والنَّزْعِ الحكيمِ، وفيه تفاوتٌ بين العطاء والنَّزْع، وكلُّ ذلك بتقدير العزيز العليم، وفيه بيانُ أنّ نعيمَ الدنيا ليس بدائمٍ بل فيها العطاءُ والمنْعُ، ونعيمَ الآخِرةِ دائمٌ غيرُ مجذوذٍ...
الملاحظة الرابعة: جوابُ القسم في قوله تعالى: {إِنَّهُ لَيَئُوسٌ كَفُورٌ} فيه تأكيدٌ لِعُمق يأسِه واستيلائه عليه وكفرِه، وكان التأكيد بصيغة المبالغة وباللام وبالجملة الاسمية وبـ {إِنّ} المؤكِّدة. وكلُّ ذلك لأنه ماديٌّ لا يؤمن إلا بالمادّة ولا يرجو ما عند الله الذي يعطي ويَمنع ويعز ويُذِلُّ، وهذا حالُ الإنسان الذي لا يؤمن إلا بالدنيا، إذا كان المنعُ بعد العطاء...
التيسير في أحاديث التفسير للمكي الناصري 1415 هـ :
تناول كتاب الله بالوصف والتحليل نفسية الأشخاص القلقين، من ضعفاء الإيمان وضعفاء النفس، في حالتي الشدة والرخاء، مبينا أن هذا الرهط من الناس إذا أصابته شدة بعد الرخاء لا يلبث أن تنهار أعصابه، ويبلغ به اليأس والقنوط من رحمة الله إلى أقصى حد، حتى كأنه لم ينل في سابق حياته من ربه أي عطاء أو إحسان،فهو عاجز كل العجز عن تحمل الصدمات، ضعيف كل الضعف عن مواجهة الأزمات، وكلما طال به أمد الشدة تضاءل أمام نفسه وأمام الناس، فيصبح قزما بعدما كان عملاقا، ويعود حماما وديعا بعدما كان سبعا ضاريا، كما أنه إذا أصابه رخاء بعد الشدة عاجله البطر بالنعمة، وأصابه نوع من الإغماء والذهول من شدة الفرح الزائد عن الحد المعتاد، فلم يعد يضبط نفسه ولا عواطفه، واعتقد أن الرخاء الذي نزل بساحته سوف لا يفارقه إلى الأبد، فأمن مكر الله، ونسي نعمة الله، وذلك ما يشير إليه قوله تعالى هنا في إيجاز وإعجاز
واليأسُ: هو قَطْعُ الأملِ من حدوث شيءٍ، ولأن الإنسان لا يَملِك الفعلَ، ولو كان يَقْدِرُ عليه لَمَا يَئِسَ...
والذي يَيْأَسُ هو الذي ليس له إِلَهٌ يَرْكَـُنُ إليه؛ لأن الله تعالى هو الرُّكْنُ الرّشيدُ الشّديدُ، والمؤمن إنْ فَقد شيئا يقول: إن الله سيعوِّضني خيراً منه. أمّا الذي لا إيمانَ له بإلهٍ فهو يقول: إن هذه الصُّدْفةَ قد لا تتكرَّر مرّةً أخرى...
والإنسانُ لو عَزل نفسه عن منهج الله تعالى فهو في خُسرانٍ إلا إذا اتَّبَعَ منهجَ الله، فالمنهج يحميه من الزَّلَل، وتسيرُ غرائزُه إلى ما أراد الحقُّ سبحانه لها...
تفسير من و حي القرآن لحسين فضل الله 1431 هـ :
{أَذَقْنَا}: الذوق: مصدر: ذاق، أي تناول الشيء بالفم لإدراك الطعم، وسمى الله سبحانه إحلال اللذات بالإنسان إذاقة لسرعة زوالها، تشبيهاً بما يذاق ثم يزول. وقد يكون المراد هنا: خَبَرَ نعم الله واختبرها.
{نَزَعْنَاهَا}: النزع: قلع الشيء عن مكانه.
{لَيَئُوسٌ}: فعول من يئس، واليأس: القطع بأن الشيء المتوقع لا يكون، ونقيضه الرجاء.
للإنسان خصائصه السلبية في نظر القرآن، لوجود نقاط ضعف في شخصيته الداخلية، تنعكس على مواقفه العملية في الخارج. وتتنوع هذه الخصائص السلبية تبعاً لتنوع نقاط الضعف، ولكنها مهما تنوعت وامتدت في حياته، فإنها لا تمثل خصائص لا تنفصل عن حركة الذات في وجودها، لتكون ضريبة لازمة للإنسان في حياته، بل هي من الخصائص القابلة للتبديل والتغيير، بفعل التربية والممارسة والوعي المنفتح العميق.
{ولئن أذقنا الإنسان منا رحمة} من الصحة والأمن والغنى والعلم وغير ذلك، فعاشها مدة من الزمن، يتقلب في نعمائها وينهل من لذائذها، ويستمتع بخيراتها، جاهلاً بأن هذه النعم إلى زوال، لأن سنة الحياة قائمة على التغير والتبدل، واستسلم في ظلها لأحلامه، كما يستسلم الحالمون إلى الأجواء السحرية اللذيذة، وجاءت المفاجأة لتطوي صفحة وتفتح أخرى، فقد أذقناه حلاوة النعمة فترةً من الوقت {ثم نزعناها منه}، فإذا بالصحة تنقلب إلى مرض، والأمن إلى خوف، والغنى إلى فقر، والعلم إلى جهل ونسيان...
فكيف كان شعوره أمام ذلك كله؟ هل يتقبله بعقل واع منفتح، يدرس الظاهرة الإيجابية الماضية من خلال أسبابها، ويناقش الظاهرة السلبية الحاضرة، من خلال مؤثراتها الواقعية، مما يجعله يواجه النتائج في كلتا الحالتين بعقلانيةٍ هادئةٍ تتحرك فيها حسابات الشعور من خلال حسابات العقل؟ أو أنه يواجه المسألة بالانفعال العنيف الباحث عن الأجواء المأساوية ليغيب فيها، وعن العنف المتمرّد ليتحرك فيه؟ إن النتيجة هي اختياره للجانب الثاني، لأن عنصر الانفعال أقوى لديه من عنصر العقل، {إِنَّهُ لَيَئُوسٌ كَفُورٌ} فلا يُخضع الأشياء للدراسة الواقعية ليفهم أن من الممكن للمشكلة أن تجد الحلّ، وأن الحالة الصعبة قد تتحوّل إلى حالة سهلة، وأن العسر قد يتحول إلى حالة إشراق ينطلق في أجواء الضياء. وهو لا يلجأ إلى منطق الإيمان ليعرف أن قدرة الله لا تقف عند حدّ، فلا مجال لليأس أمام قدرته، بل يبقى الأمل في خضرةٍ دائمةٍ، ونموٍّ مستمرّ، ولذلك فهو يسقط في وحول اليأس، ويتخبّط في ظلمات الكفر، فيعيش في قلب الدوّامة إلى غير قرار، هذا في الحالة الإيجابية التي تتحول إلى حالةٍ سلبيّةٍ.