قوله تعالى : { إن الله كان غفوراً رحيماً ولا تجادل } لا تخاصم .
قوله تعالى : { عن الذين يختانون أنفسهم } . أي : يظلمون أنفسهم بالخيانة والسرقة .
قوله تعالى : { إن الله لا يحب من كان خواناً } ، خائنا .
قوله تعالى : { أثيماً } . بسرقة الدرع ، أثيماً في رميه اليهودي ، قيل : إنه خطاب مع النبي صلى الله عليه وسلم ، والمراد به غيره ، كقوله تعالى : { فإن كنت في شك مما أنزلنا إليك } ، والاستغفار في حق الأنبياء بعد النبوة على أحد الوجوه الثلاثة : إما لذنب تقدم على النبوة ، أو لذنوب أمته وقرابته ، أو لمباح جاء الشرع بتحريمه ، فيتركه بالاستغفار ، فالاستغفار يكون معناه : السمع والطاعة لحكم الشرع .
{ وَلَا تُجَادِلْ عَنِ الَّذِينَ يَخْتَانُونَ أَنْفُسَهُمْ } " الاختيان " و " الخيانة " بمعنى الجناية والظلم والإثم ، وهذا يشمل النهي عن المجادلة ، عن من أذنب وتوجه عليه عقوبة من حد أو تعزير ، فإنه لا يجادل عنه بدفع ما صدر منه من الخيانة ، أو بدفع ما ترتب على ذلك من العقوبة الشرعية . { إِنَّ اللَّهَ لَا يُحِبُّ مَنْ كَانَ خَوَّانًا أَثِيمًا } أي : كثير الخيانة والإثم ، وإذا انتفى الحب ثبت ضده وهو البُغْض ، وهذا كالتعليل ، للنهي المتقدم .
ثم قال - تعالى { وَلاَ تُجَادِلْ عَنِ الذين يَخْتَانُونَ أَنْفُسَهُمْ إِنَّ الله لاَ يُحِبُّ مَن كَانَ خَوَّاناً أَثِيماً } .
أى : ولا تخاصم وتدافع عن هؤلاء الذين { يَخْتَانُونَ أَنْفُسَهُمْ } أى يخونونها بشدة وإصرار إن الله - تعالى - لا يحب ولا يرضى عمن كانت الخيانة وصفا من أوصافه ، وخلقا من أخلاقه ، وكذلك لا يحب ولا يرضى عمن كان الانهماك فى الإِثم والمعصية عادة من عاداته .
وجاء - سبحانه - بلفظ { يَخْتَانُونَ } بمعنى يخونون ، لقصد وصفهم بالمبالغة فى الخيانة لأن مادة الافتعال تدل على التكلف والمحاولة .
وجعلت خيانة هؤلاء لغيرهم خيانة لأنفسهم ، لأن سوء عاقبة هذه الخيانة سيعود عليهم . ولأن المسلمين جميعا كالجسد الواحد ؛ فمن تظاهر بأنه منهم ثم خان أحدهم فكأنما خان نفسه ، وأوردها موارد البوار والتهلكة باعتدائه على حقوق الجماعة الإِسلامية ، وزعزعة أمنها واستقرارها .
والمراد بالموصول فى قوله { وَلاَ تُجَادِلْ عَنِ الذين يَخْتَانُونَ أَنْفُسَهُمْ } طعمة وأمثاله من الخائنين أو هو ومن عاونه وشهد ببراءته من أبناء عشيرته .
وقال - سبحانه - { إِنَّ الله لاَ يُحِبُّ مَن كَانَ خَوَّاناً أَثِيماً } بصيغة المبالغة ؛ لإِفادة أن الخيانة والإِثم صارا وصفا ملازما لهؤلاء الخائنين الآثمين .
أى أن صيغة المبالغة هنا ليست للتخصيص حتى لا يتوهم متوهم أن الله - تعالى - يحب من عنده أصل الخيانة والاثم .
وقد أشار صاحب الكشاف إلى هذا المعنى بقوله : فإن قلت : لم قيل " خوانا أثيما " على المبالغة ؟ قلت : كان الله عالما من طعمة بالإِفراط فى الخيانة وركوب المآثم ، ومن كانت تلك خاتمة أمره لم يشك فى حاله . وقيل : إذا عثرت من رجل على سيئة فاعلم أن لها أخوات . وعن عمر - رضى الله عنه - أنه أمر بقطع يد سارق ، فجاءت أمه تبكى وتقول : هذه أول سرقة سرقها فاعف عنه . فقال لها كذبت . إن الله لا يؤاخذ عبده فى أول مرة .
ثم تكرار هذا النهي ؛ ووصف هؤلاء الخائنين ، الذين جادل عنهم [ ص ] بأنهم يختانون أنفسهم . وتعليل ذلك بأن الله لا يحب من كان خوانا أثيمًا :
( ولا تجادل عن الذين يختانون أنفسهم . إن الله لا يحب من كان خوانا أثيمًا ) .
وهم خانوا غيرهم في الظاهر . ولكنهم في الحقيقة خانوا أنفسهم . فقد خانوا الجماعة ومنهجها ، ومبادئها التي تميزها وتفردها . وخانوا الأمانة الملقاة على الجماعة كلها ، وهم منها . . ثم هم يختانون أنفسهم في صورة أخرى . صورة تعريض أنفسهم للإثم الذي يجازون عليه شر الجزاء . حيث يكرههم الله ، ويعاقبهم بما أثموا . وهي خيانة للنفس من غير شك . . وصورة ثالثة لخيانتهم لأنفسهم ، هي تلويث هذه الأنفس وتدنيسها بالمؤامرة والكذب والخيانة .
إن الله لا يحب من كان خوانا أثيمًا . .
وهذ عقوبة أكبر من كل عقوبة . . وهي تلقي إلى جانبها إيحاء آخر . فالذين لا يحبهم الله لا يجوز أن يجادل عنهم أحد ، ولا أن يحامي عنهم أحد . وقد كرههم الله للإثم والخيانة !
{ وَلاَ تُجَادِلْ عَنِ الّذِينَ يَخْتَانُونَ أَنْفُسَهُمْ إِنّ اللّهَ لاَ يُحِبّ مَن كَانَ خَوّاناً أَثِيماً } . .
يعني بذلك جلّ ثناؤه : { وَلا تُجادِلْ } يا محمد فتخاصم { عَنِ الّذِينَ يَخْتانُونَ أنْفُسَهُمْ } يعني : يخوّنون أنفسهم ، يجعلونها خونة بخيانتهم ما خانوا من أموال من خانوه ماله وهم بنو أبيرق ، يقول : لا تخاصم عنهم من يطالبهم بحقوقهم ، وما خانوه فيه من أموالهم . { إنّ اللّهَ لا يُحِبّ مَنْ كانَ خَوّانا أثِيما } يقول : إن الله لا يحبّ من كان من صفته خيانة الناس في أموالهم ، وركوب الإثم في ذلك وغيره ، مما حرّمه الله عليه .
وبنحو الذي قلنا في ذلك قال أهل التأويل ، وقد تقدّم ذكر الرواية عنهم .
حدثنا الحسن بن يحيى ، قال : أخبرنا عبد الرزاق ، قال : أخبرنا معمر ، عن قتادة : { وَلا تُجادلْ عَن الّذِينَ يَخْتانُونَ أنْفُسَهُمْ } قال : اختان رجل عمّا له درعا ، فقذف بها يهوديا كان يغشاهم ، فجادل عمّ الرجل قومه ، فكان النبيّ صلى الله عليه وسلم عذره ، ثم لحق بأرض الشرك ، فنزلت فيه : { وَمَنْ يُشاقِقِ الرّسُولَ مَنْ بَعْدِ ما تَبَيّنَ لَهُ الهُدَى } . . . الاَية .
{ ولا تجادل عن الذين يختانون أنفسهم } يخونونها فإن وبال خيانتهم يعود عليها ، أو جعل المعصية خيانة لها كما جعلت ظلما عليها ، والضمير لطعمة وأمثاله أو له ولقومه فإنهم شاركوه في الإثم حيث شهدوا على براءته وخاصموا عنه . { إن الله لا يحب من كان خوانا } مبالغا في الخيانة مصرا عليها . { أثيما } منهمكا فيها . روي : أن طعمة هرب إلى مكة وارتد ونقب حائطا بها ليسرق أهله فسقط الحائط عليه فقتله .
وقوله تعالى : { ولا تجادل عن الذين يختانون أنفسهم } لفظ عام يندرج طيه أصحاب النازلة ويتقرر به توبيخهم ، وقوله تعالى : { إن الله لا يحب من كان خواناً أثيماً } رفق وإبقاء ، فإن الخوان : هو الذي تتكرر منه الخيانة ، والأثيم : هو الذي يقصدها ، فيخرج من هذا الشديد الساقط مرة واحدة ونحو ذلك مما يجيء من الخيانة بغير قصد أو على غفلة ، واختيان الأنفس : هو بما يعود عليها من الإثم والعقوبة في الدنيا والآخرة .
جامع البيان عن تأويل آي القرآن للطبري 310 هـ :
{وَلا تُجادِلْ} يا محمد فتخاصم {عَنِ الّذِينَ يَخْتانُونَ أنْفُسَهُمْ}: يخوّنون أنفسهم، يجعلونها خونة بخيانتهم ما خانوا من أموال من خانوه ماله وهم بنو أبيرق، يقول: لا تخاصم عنهم من يطالبهم بحقوقهم، وما خانوه فيه من أموالهم. {إنّ اللّهَ لا يُحِبّ مَنْ كانَ خَوّانا أثِيما}: إن الله لا يحبّ من كان من صفته خيانة الناس في أموالهم، وركوب الإثم في ذلك وغيره، مما حرّمه الله عليه.
تأويلات أهل السنة للماتريدي 333 هـ :
{يختانون أنفسهم} لا أحد يقصد خيانة نفسه. ولكن لما رجع في العاقبة حاصل الخداع إليهم صاروا كأنهم خدعوا أنفسهم...
معالم التنزيل في تفسير القرآن الكريم للبغوي 516 هـ :
والاستغفار في حق الأنبياء بعد النبوة على أحد الوجوه الثلاثة: إما لذنب تقدم على النبوة، أو لذنوب أمته وقرابته، أو لمباح جاء الشرع بتحريمه، فيتركه بالاستغفار، فالاستغفار يكون معناه: السمع والطاعة لحكم الشرع...
الكشاف عن حقائق التنزيل للزمخشري 538 هـ :
{يَخْتَانُونَ أَنفُسَهُمْ} يخونونها بالمعصية. كقوله: {عَلِمَ الله أَنَّكُمْ كُنتُمْ تَخْتانُونَ أَنفُسَكُمْ} [البقرة: 187] جعلت معصية العصاة خيانة منهم لأنفسهم كما جعلت ظلماً لها: لأنّ الضرر راجع إليهم.
فإن قلت: لم قيل {للخائنين} و {يَخْتَانُونَ أَنفُسَهُمْ} وكان السارق طعمة وحده؟ قلت: لوجهين، أحدهما: أنّ بني ظفر شهدوا له بالبراءة ونصروه، فكانوا شركاء له في الإثم. والثاني: أنه جمع ليتناول طعمة وكل من خان خيانته، فلا تخاصم لخائن قط ولا تجادل عنه.
فإن قلت: لم قيل {خَوَّاناً أَثِيماً} على المبالغة؟ قلت: كان الله عالماً من طعمة بالإفراط في الخيانة وركوب المآثم، ومن كانت تلك خاتمة أمره لم يشك في حاله. وقيل: إذا عثرت من رجل على سيئة فاعلم أن لها أخوات. وعن عمر رضي الله عنه أنه أمر بقطع يد سارق، فجاءت أمه تبكي وتقول: هذه أوّل سرقة سرقها فاعف عنه. فقال: كذبت، إن الله لا يؤاخذ عبده في أول مرة.
المحرر الوجيز في تفسير الكتاب العزيز لابن عطية 542 هـ :
قوله تعالى: {ولا تجادل عن الذين يختانون أنفسهم} لفظ عام يندرج طيه أصحاب النازلة ويتقرر به توبيخهم، وقوله تعالى: {إن الله لا يحب من كان خواناً أثيماً} رفق وإبقاء، فإن الخوان: هو الذي تتكرر منه الخيانة، والأثيم: هو الذي يقصدها، فيخرج من هذا التشديد الساقط مرة واحدة ونحو ذلك مما يجيء من الخيانة بغير قصد أو على غفلة، واختيان الأنفس: هو بما يعود عليها من الإثم والعقوبة في الدنيا والآخرة...
اعلم أن في الآية تهديدا شديدا، وذلك لأن النبي عليه الصلاة والسلام لما مال طبعه قليلا إلى جانب طعمة، وكان في علم الله أن طعمة كان فاسقا، فالله تعلى عاتب رسوله على ذلك القدر من إعانة المذنب، فكيف حال من يعلم من الظالم كونه ظالما ثم يعينه على ذلك الظلم، بل يحمله عليه ويرغبه فيه أشد الترغيب.
ثم قال تعالى: {إن الله لا يحب من كان خوانا أثيما} قال المفسرون: إن طعمة خان في الدرع، وأثم في نسبة اليهودي إلى تلك السرقة فلا جرم قال الله تعالى: {إن الله لا يحب من كان خوانا أثيما}.
فإن قيل: لم قال {خوانا أثيما} مع أن الصادر عنه خيانة واحدة وإثم واحد.
قلنا: علم الله تعالى أنه كان في طبع ذلك الرجل الخيانة الكثيرة والإثم الكثير، فذكر اللفظ الدال على المبالغة بسبب ما كان في طبعه من الميل إلى ذلك، ويدل عليه ما رويناه أنه بعد هذه الواقعة هرب إلى مكة وارتد ونقب حائط إنسان لأجل السرقة فسقط الحائط عليه ومات، ومن كان خاتمته كذلك لم يشك في خيانته، وأيضا طلب من النبي عليه الصلاة والسلام أن يدفع السرقة عنه ويلحقها باليهودي، وهذا يبطل رسالة الرسول، ومن حاول إبطال رسالة الرسول وأراد إظهار كذبه فقد كفر، فلهذا المعنى وصفه الله بالمبالغة في الخيانة والإثم.
واعلم أنه تعالى لما خص هذا الوعيد بمن كان عظيم الخيانة والإثم دل ذلك على أن من كان قليل الخيانة والإثم فهو خارج عنه.
نظم الدرر في تناسب الآيات و السور للبقاعي 885 هـ :
لما نهاه عن الخصام لمطلق الخائن، وهو من وقعت منه خيانة ما؛ أتبعه النهي عن المجادلة عمن تعمد الخيانة فقال سبحانه وتعالى: {ولا تجادل} أي في وقت ما {عن الذين يختانون} أي يتجدد منهم تعمد أن يخونوا {أنفسهم} بأن يوقعوها في الهلكة بالعصيان فيما اؤتمنوا عليه من الأمور الخفية،... ثم أشار سبحانه وتعالى إلى أن من خان غيره كان مبالغاً في الخيانة بالعزم وخيانة الغير المستلزمة لخيانة النفس فلذا ختمت بالتعليل بقوله: {إن الله} أي الجليل العظيم ذا الجلال والإكرام {لا يحب} أي لا يكرم {من كان خواناً أثيماً}...
تفسير المنار لرشيد رضا 1354 هـ :
إن هؤلاء الخائنين يوجدون في كل زمان ومكان. وهذا النهي لم يكن موجها إلى النبي صلى الله عليه وسلم خاصة. وإنما هو تشريع وجه إلى المكلفين كافة، وفي جعله بصيغة الخطاب له وهو أعدل الناس وأكملهم مبالغة في التحذير من هذه الخلة المعهودة من الحكام، {إن الله لا يحب من كان خوانا أثيما} أي من اعتاد الخيانة وألف الإثم فلم يعد ينفر منه، ولا يخاف العقاب الإلهي عليه، فيراقبه فيه، وإنما يحب الله أهل الأمانة والاستقامة.
في ظلال القرآن لسيد قطب 1387 هـ :
ثم تكرار هذا النهي؛ ووصف هؤلاء الخائنين، الذين جادل عنهم صلى الله عليه وسلم بأنهم يختانون أنفسهم. وتعليل ذلك بأن الله لا يحب من كان خوانا أثيمًا:
(ولا تجادل عن الذين يختانون أنفسهم. إن الله لا يحب من كان خوانا أثيمًا).
وهم خانوا غيرهم في الظاهر. ولكنهم في الحقيقة خانوا أنفسهم. فقد خانوا الجماعة ومنهجها، ومبادئها التي تميزها وتفردها. وخانوا الأمانة الملقاة على الجماعة كلها، وهم منها.. ثم هم يختانون أنفسهم في صورة أخرى. صورة تعريض أنفسهم للإثم الذي يجازون عليه شر الجزاء. حيث يكرههم الله، ويعاقبهم بما أثموا. وهي خيانة للنفس من غير شك.. وصورة ثالثة لخيانتهم لأنفسهم، هي تلويث هذه الأنفس وتدنيسها بالمؤامرة والكذب والخيانة.
إن الله لا يحب من كان خوانا أثيمًا..
وهذ عقوبة أكبر من كل عقوبة.. وهي تلقي إلى جانبها إيحاء آخر. فالذين لا يحبهم الله لا يجوز أن يجادل عنهم أحد، ولا أن يحامي عنهم أحد. وقد كرههم الله للإثم والخيانة!
التحرير والتنوير لابن عاشور 1393 هـ :
{يختانون} بمعنى يَخونون، وهو افتعال دالّ على التكلّف والمحاولة لقصد المبالغة في الخيانة. ومعنى خيانتهم أنفسهم أنّهم بارتكابهم ما يضرّ بهم كانوا بمنزلة من يخون غيره كقوله: {عَلم الله أنّكم كنتم تختانون أنفسكم} [البقرة: 187]. ولك أن تجعل {أنفسهم} هنا بمعنى بني أنفسهم، أي بني قومهم، كقوله {تقتلون أنفسكم وتخرجون فريقاً منكم من ديارهم} [البقرة: 85]، وقولِه {فسلّموا على أنفسكم} [النور: 61]، أي الذين يختانون ناساً من أهلهم وقومهم...
والقرآن حين يعدل عن يخونون أنفسهم إلى "يختانون أنفسهم "فلا بدأن لهذا معنى كبيرا، لأن الخيانة هي أن تأخذ غير الحق ومن المحتمل أن يخون الإنسان غيره، لكن أمن المعقول أن يخون الإنسان نفسه؟ إن مثل هذه العملية تحتاج إلى افتعال كبير، فقد يخون الإنسان غيره من أجل مصلحة نفسه أو ليعطي نفسه شهوة ومعصية عليها عقوبة وهذه خيانة للنفس، لأن الإنسان في مثل هذه الحالة يغفل عن العقوبة الآجلة بالشهوة العابرة العاجلة.
تفسير من و حي القرآن لحسين فضل الله 1431 هـ :
إن الإسلام يرفض الخيانة من الإنسان بأيّ شكل كانت، وفي أيّ موقع وجد، في الحقول العامة والخاصة من حياة الفرد والمجتمع، في قضايا المال والحكم والنفس والعرض والعلاقات... ويؤكد الإسلام، في رفضه لكل القيم الشريرة، على أن يتحرك الرفض في الفكر والشعور والعمل، فلا يعيش الإنسان فكر الخيانة كطريقةٍ يخطط بها الخطط، ليتحرك الفكر من هذا الموقع، ولا يرضى له بأن يتعاطف مع الخائنين بالشعور والكلمة والموقف، لأن المؤمن لا يجتمع في قلبه حب الأمانة وكره الخيانة مع محبة الخائنين؛ وعلى هذا، فلا بد من مواجهة الخونة بالموقف السلبي الحاسم الذي يتمثل فيه موقف المواجهة لهم، وترك الدفاع عنهم، ومناصرتهم بأية وسيلة كانت؛ وفي ضوء ذلك، لا يبيح الإسلام مهنة المحاماة إذا انطلقت في خط الدفاع عن المجرمين...
الأمثل في تفسير كتاب الله المنزل - لجنة تأليف بإشراف الشيرازي 2009 هـ :
بعد الآيات التي جاءت بتحريم الدّفاع عن الخائنين، تستطرد الآيات الثلاث الأخيرة في التشديد على حرمة الدفاع عن الخائنين، بالأخص أولئك الذين يخونون أنفسهم.
ويجب الانتباه هنا إِلى أن الآية (107) تشير إِلى الذين يخونون أنفسهم، بينما الذي عرفنا من سبب نزول الآيات السابقة، هو أنّها نزلت في شأن الذين يخونون الغير، وفي هذا إِشارة إِلى ذلك المعنى الدقيق الذي ينبه إِليه القرآن في العديد من الآيات، وهو أن أي عمل يصدر عن الإِنسان يتأثر بنتيجته سواء كانت حسنة أو سيئة الإِنسان ذاته قبل غيره، كما جاء في الآية (7) من سورة الإِسراء، إِذ تقول (إنْ أحسنتم أحسنتم لأنفسكم وإِنْ أسأتم فلها).
أو أنّ الآية المذكورة تشير إِلى موضوع آخر أكّد عليه القرآن أيضاً، وهو أن جميع أفراد البشر هم جميعاً كأعضاء جسد واحد، فإِذا أضر أحدهم بغيره فكأنما أضرّ بنفسه، أي يكون بالضبط كالذي يصنع نفسه بنفسه.
والأمر الآخر في الآية أنّها لا تخص الذين يرتكبون الخيانة لمرّة واحدة ثمّ يندمون على ما فعلوا، حيث لا ضرورة لاستعمال العنف والشدة مع هؤلاء، بل هم بحاجة إِلى الرأفة أكثر، والشدّة يجب أن تطبق على أولئك الذين يحترفون الخيانة وتكون جزءاً من حياتهم.
ويدل على هذه القرينة الواردة في الآية من خلال عبارة (يختانون) التي هي فعل مضارع يدل على الاستمرارية، بالإِضافة إِلى القرينة الأخرى التي تفهم من عبارتي (خوان) أي كثير الخيانة و (أثيم) أي كثير الذّنب، والكلمة الأخيرة جاءت لتأكيد عبارة «خوان» في الآية، كما أنّ الآية السابقة جاءت بكلمة «خائن» التي هي اسم فاعل والتي لها معنى وصفي يدل على تكرار الفعل.