ولكن انقسم الناس -بحسب الإيمان بالقرآن والانتفاع به- قسمين :
{ فَأَمَّا الَّذِينَ آمَنُوا بِاللَّهِ } أي : اعترفوا بوجوده واتصافه بكل وصف كامل ، وتنزيهه من كل نقص وعيب . { وَاعْتَصَمُوا بِهِ } أي : لجأوا إلى الله واعتمدوا عليه وتبرأوا من حولهم وقوتهم واستعانوا بربهم . { فَسَيُدْخِلُهُمْ فِي رَحْمَةٍ مِّنْهُ وَفَضْلٍ } أي : فسيتغمدهم بالرحمة الخاصة ، فيوفقهم للخيرات ويجزل لهم المثوبات ، ويدفع عنهم البليات والمكروهات .
{ وَيَهْدِيهِمْ إِلَيْهِ صِرَاطًا مُّسْتَقِيمًا } أي : يوفقهم للعلم والعمل ، معرفة الحق والعمل به .
أي : ومن لم يؤمن بالله ويعتصم به ويتمسك بكتابه ، منعهم من رحمته ، وحرمهم من فضله ، وخلى بينهم وبين أنفسهم ، فلم يهتدوا ، بل ضلوا ضلالا مبينا ، عقوبة لهم على تركهم الإيمان فحصلت لهم الخيبة والحرمان ، نسأله تعالى العفو والعافية والمعافاة .
ثم بين - سبحانه - حسن عاقبة المستجيبين للحق ، السالكين الطريق المستقيم ، فقال : { فَأَمَّا الذين آمَنُواْ بالله واعتصموا بِهِ فَسَيُدْخِلُهُمْ فِي رَحْمَةٍ مِّنْهُ وَفَضْلٍ وَيَهْدِيهِمْ إِلَيْهِ صِرَاطاً مُّسْتَقِيماً } .
أى : أن الله - تعالى - قد ارسل إلى الناس رسوله وأنزل عليهم بواسطته قرآنه ، فمنهم من آمن واهتدى ، ومنهم من كفر وغوى ، فأما الذين آمنوا بالله - تعالى - حق الإِيمان ، واعتصموا به - سبحانه - مما يضرهم ويؤذيهم ، فلم يستجيروا إلا به ، ولم يخضعوا إلا له ، ولم يعتمدوا إلا عليه .
هؤلاء الذين فعلوا ذلك سيدخلهم الله - تعالى - فى رحمة منه وفضل أى سيدخلهم فى جنته ورضوانه ، ويضفى عليهم من فضله وإحسانه بما يشرح صدورهم ، ويبهج نفوسهم ، ويصلح بالهم .
وقوله { وَيَهْدِيهِمْ إِلَيْهِ صِرَاطاً مُّسْتَقِيماً } أى : ويوفقهم فى دنياهم إلى سلوك الطريق الحق وهو طريق الإِسلام ، الذى يفضى بهم فى آخرتهم إلى السعادة والأمان والفوز برضا الله - عز وجل - .
وقد ذكرت الآية ثواب الذين آمنوا بالله واعتصموا به ، ولم تذرك عقاب الذين كفروا إهمالا لهم ، لأنهم فى حيز الطرد والطرح ، أو لأن عاقبتهم السيئة معروفة لكل عاقل بسب كفرهم وسوقهم عن أمر الله .
والسين فى قوله { فَسَيُدْخِلُهُمْ فِي رَحْمَةٍ مِّنْهُ وَفَضْلٍ } للتأكيد . أى فسيدخلهم فى رحمة كائنة منه وفى فضل عظيم من عنده إدخالا لا شك فى حصوله ووقوعه .
وقوله { صِرَاطاً } مفعول ثان ليهدى لتضمنه معنى يعرفهم .
وبذلك نرى أن هذه الآيات الكريمة قد نهت أهل الكتاب عن المغالاة فى شأن عيسى - عليه السلام - ، وعرفتهم حقيقته ، ودعتهم إلى الإِيمان بوحدانية الله ، وبينت لهم ولغيرهم أن عيسى وغيره من الملائكة المقربين لن يستنكفوا عن عبادة الله ، وان من امتنع عن عابدة الله فسيحاسبه - سبحانه - حسابا عسيرا ، ويجازيه بما يستحقه من عقاب . أما من آمن بالله - تعالى - واتبع الحق الذى أنزله على رسله ، فسينال منه - سبحانه - الرحمة الواسعة ، والفضل العظيم ، والسعادة التى ليست بعدها سعادة .
( فأما الذين آمنوا بالله واعتصموا به فسيدخلهم في رحمة منه وفضل ، ويهديهم إليه صراطا مستقيمًا ) . .
والاعتصام بالله ثمرة ملازمة للإيمان به . . متى صح الإيمان ، ومتى عرفت النفس حقيقة الله وعرفت حقيقة عبودية الكل له . فلا يبقى أمامها إلا أن تعتصم بالله وحده . وهو صاحب السلطان والقدرة وحده . . وهؤلاء يدخلهم الله في رحمة منه وفضل . رحمة في هذه الحياة الدنيا - قبل الحياة الأخرى - وفضل في هذه العاجلة - قبل الفضل في الآجلة - فالإيمان هو الواحة الندية التي تجد فيها الروح الظلال من هاجرة الضلال في تيه الحيرة والقلق والشرود . كما أنه هو القاعدة التي تقوم عليها حياة المجتمع ونظامه ؛ في كرامة وحرية ونظافة واستقامة - كما أسلفنا - حيث يعرف كل إنسان مكانه على حقيقته . عبد لله وسيد مع كل من عداه . . وليس هذا في أي نظام آخر غير نظام الإيمان - كما جاء به الإسلام - هذا النظام الذي يخرج الناس من عبادة العباد إلى عبادة الله وحده . حين يوحد الألوهية ؛ ويسوي بين الخلائق جميعا في العبودية . وحيث يجعل السلطان لله وحده والحاكمية لله وحده ؛ فلا يخضع بشر لتشريع بشر مثله ، فيكون عبدا له مهما تحرر !
فالذين آمنوا في رحمة من الله وفضل ، في حياتهم الحاضرة ، وفي حياتهم الآجلة سواء . .
ويهديهم إليه صراطا مستقيمًا . .
وكلمة ( إليه ) . . تخلع على التعبير حركة مصورة . إذ ترسم المؤمنين ويد الله تنقل خطاهم في الطريق إلى الله على استقامة ؛ وتقربهم إليه خطوة خطوة . . وهي عبارة يجد مدلولها في نفسه من يؤمن بالله على بصيرة ، فيعتصم به على ثقة . . حيث يحس في كل لحظة أنه يهتدي ؛ وتتنضح أمامه الطريق ؛ ويقترب فعلا من الله كأنما هو يخطو إليه في طريق مستقيم .
{ فَأَمّا الّذِينَ آمَنُواْ بِاللّهِ وَاعْتَصَمُواْ بِهِ فَسَيُدْخِلُهُمْ فِي رَحْمَةٍ مّنْهُ وَفَضْلٍ وَيَهْدِيهِمْ إِلَيْهِ صِرَاطاً مّسْتَقِيماً } . .
يعني بذلك جلّ ثناؤه : فأما الذين صدّقوا بالله ، وأقرّوا بوحدانيته ، وما بعث به محمدا صلى الله عليه وسلم من أهل الملل وَاعْتَصَمُوا بِهِ يقول : وتمسكوا بالنور المبين الذي أنزل إلى نبيه كما :
حدثنا القاسم ، قال : حدثنا الحسين ، قال : ثني حجاج ، عن ابن جريج وَاعْتَصَمُوا بِهِ قال : بالقرآن .
فَسَيُدْخِلُهُمْ فِي رَحْمَةٍ مِنْهُ وَفَضْلٍ يقول : فسوف تنالهم رحمته التي تنجيهم من عقابه وتوجب لهم ثوابه ورحمته وجنته ، ويلحقهم من فضله ما ألحق أهل الإيمان به والتصديق برسله . وَيهْدِيهِمْ إلَيْهِ صِرَاطا مُسْتَقِيما يقول : ويوفقهم لإصابة فضله الذي تفضل به على أوليائه ، ويسدّدهم لسلوك منهج من أنعم عليه من أهل طاعته ، ولاقتفاء آثارهم ، واتباع دينهم . وذلك هو الصراط المستقيم ، وهو دين الله الذي ارتضاه لعباده ، وهو الإسلام . ونصب الصراط المستقيم على القطع من الهاء التي في قوله «إليه » .
ثم وعد تبارك وتعالى المؤمنين بالله ، المعتصمين به ، والضمير في { به } يحتمل أن يعود على الله تعالى ، ويحتمل أن يعود على القرآن الذي تضمنه قوله تعالى : { نوراً مبيناً } و «الاعتصام » به التمسك بسببه وطلب النجاة والمنعة به ، فهو يعصم كما تعصم المعاقل ، وهذا قد فسره قول النبي صلى الله عليه وسلم : «القرآن حبل الله المتين من تمسك به عصم » و «الرحمة » و «الفضل » : الجنة وتنعيمها ، { ويهديهم } ، معناه : إلى الفضل ، وهذه هداية طريق الجنان ، كما قال تعالى : { سيهديهم ويصلح بالهم }{[4391]} لأن هداية الإرشاد قد تقدمت وتحصلت حين آمنوا بالله واعتصموا بكتابه ، و { صراطاً } نصب بإضمار فعل يدل عليه { يهديهم } ، تقديره فيعرفهم ، ويحتمل أن ينتصب كالمفعول الثاني : إذ { يهديهم } في معنى يعرفهم ، ويحتمل أن ينتصب على ظرفية «ما » ويحتمل أن يكون حالاً من الضمير في { إليه } وقيل : من [ فضل ] والصراط : الطريق وقد تقدم تفسيره .
تفسير مقاتل بن سليمان 150 هـ :
{فأما الذين آمنوا بالله}: صدقوا بالله عز وجل بأنه واحد لا شريك له، {واعتصموا به}: احترزوا به، يعني بالله عز وجل، {فسيدخلهم في رحمة منه}: الجنة، {وفضل}: الرزق في الجنة، {ويهديهم إليه صراطا مستقيما}.
جامع البيان عن تأويل آي القرآن للطبري 310 هـ :
فأما الذين صدّقوا بالله، وأقرّوا بوحدانيته، وما بعث به محمدا صلى الله عليه وسلم من أهل الملل "وَاعْتَصَمُوا بِهِ": وتمسكوا بالنور المبين الذي أنزل إلى نبيه [أي] بالقرآن.
"فَسَيُدْخِلُهُمْ فِي رَحْمَةٍ مِنْهُ وَفَضْلٍ": فسوف تنالهم رحمته التي تنجيهم من عقابه وتوجب لهم ثوابه ورحمته وجنته، ويلحقهم من فضله ما ألحق أهل الإيمان به والتصديق برسله. "وَيهْدِيهِمْ إلَيْهِ صِرَاطا مُسْتَقِيما": ويوفقهم لإصابة فضله الذي تفضل به على أوليائه، ويسدّدهم لسلوك منهج من أنعم عليه من أهل طاعته، ولاقتفاء آثارهم، واتباع دينهم. وذلك هو الصراط المستقيم، وهو دين الله الذي ارتضاه لعباده، وهو الإسلام.
تأويلات أهل السنة للماتريدي 333 هـ :
{فأما الذين آمنوا بالله واعتصموا به} جعل الاعتصام به ما به تنال رحمته، وفضله في الاعتصام هو أن يلتجأ إليه في كل الأمور، وبه توكل، لا يلتجأ بمن دونه {ويهديهم إليه صراطا مستقيا} كأنه، والله أعلم، على التقديم والتأخير: فأما الذين آمنوا بالله واعتصموا به {ويهديهم إليه صراطا مستقيما} {فسيدخلهم في رحمة منهم}، يعني الجنة، {وفضل} كقوله تعالى: {فيوفيهم أجورهم ويزيدهم من فضله} (النساء: 173).
النكت و العيون للماوردي 450 هـ :
اعتصموا بالله من زيغ الشيطان وهوى الإنسان.
لطائف الإشارات للقشيري 465 هـ :
{وَيَهْدِيَهُمْ إِلَيْهِ صِرَاطًا مُّسْتَقِيمًا}؛ هذه الهداية هي إكرامهم بأن عرفوا أن هذه الهداية من الله فضل لا لأنهم استوجبوها بطلبهم وجهدهم، ولا بتعبهم وكدِّهم.
الكشاف عن حقائق التنزيل للزمخشري 538 هـ :
{فِي رَحْمَةٍ مَّنْهُ وَفَضْلٍ} في ثواب مستحق وتفضل {وَيَهْدِيهِمْ إِلَيْهِ} إلى عبادته {صراطا مُّسْتَقِيماً} وهو طريق الإسلام. والمعنى: توفيقهم وتثبيتهم.
المحرر الوجيز في تفسير الكتاب العزيز لابن عطية 542 هـ :
والاعتصام به: التمسك بسببه وطلب النجاة والمنعة به، فهو يعصم كما تعصم المعاقل...
زاد المسير في علم التفسير لابن الجوزي 597 هـ :
وفي "الفضل "قولان: أحدهما: أنه الرزق في الجنة، قاله مقاتل. والثاني: أنه الإحسان، قاله أبو سليمان.
ولما قرر على كل العالمين كون محمد رسولا وكون القرآن كتابا حقا أمرهم بعد ذلك أن يتمسكوا بشريعة محمد صلى الله عليه وسلم ووعدهم عليه بالثواب فقال {فأما الذين ءامنوا بالله واعتصموا به} والمراد آمنوا بالله في ذاته وصفاته وأفعاله وأحكامه وأسمائه، واعتصموا به أي بالله في أن يثبتهم على الإيمان ويصونهم عن نزغ الشيطان ويدخلهم في رحمة منه وفضل ويهديهم إليه صراطا مستقيما، فوعد بأمور ثلاثة: الرحمة والفضل والهداية. قال ابن عباس: الرحمة الجنة، والفضل ما يتفضل به عليهم مما لا عين رأت ولا أذن سمعت {ويهديهم إليه صراطا مستقيما} يريد دينا مستقيما. وأقول: الرحمة والفضل محمولان على ما في الجنة من المنفعة والتعظيم، وأما الهداية فالمراد منها السعادات الحاصلة بتجلي أنوار عالم القدس والكبرياء في الأرواح البشرية وهذا هو السعادة الروحانية، وأخر ذكرها عن القسمين الأولين تنبيها على أن البهجة الروحانية أشرف من اللذات الجسمانية.
تفسير القرآن العظيم لابن كثير 774 هـ :
{وَيَهْدِيهِمْ إِلَيْهِ صِرَاطًا مُسْتَقِيمًا} أي: طريقا واضحا قَصْدا قَوَاما لا اعوجاج فيه ولا انحراف. وهذه صفة المؤمنين في الدنيا والآخرة، فهم في الدنيا على منهاج الاستقامة وطريق السلامة في جميع الاعتقادات والعمليات، وفي الآخرة على صراط الله المستقيم المفضي إلى روضات الجنات. وفي حديث الحارث الأعور عن علي بن أبي طالب رضي الله عنه، عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال:"القرآن صراطُ اللهِ المستقيمُ وحبلُ الله المتين".
نظم الدرر في تناسب الآيات و السور للبقاعي 885 هـ :
{واعتصموا به} أي جعلوه عصاماً لهم في الفرائض التي هي من أعظم مقاصد هذه السورة، يربطهم ويضبطهم عن أن يضلوا بعد الهدى، ويرجعوا من الاستبصار إلى العمى، لأن العصام هو الرابط للوعاء أن يخرج شيء مما فيه، وصيغة الافتعال تدل على الاجتهاد في ذلك، لأن النفس داعية إلى الإهمال المنتج للضلال.
تفسير المنار لرشيد رضا 1354 هـ :
الاعتصام الأخذ والتمسك بما يعصم ويحفظ، مأخوذ من العصام وهو الحبل الذي تشد به القرابة والإداوة لتحمل به، والأعصم الوعل يعتصم في شعاف الجبال وقننها، فالذين يعتصمون بهذا القرآن يدخلهم الله في رحمة خاصة منه لا يدخل فيها سواهم، وفضل خاص لا يتفضل به على غيرهم ويدل على هذا التخصيص تنكير الفضل والرحمة، ورحمة الله وفضله غير محصورين، ولكنه يختص من يشاء بما شاء من أنواعهما.
في ظلال القرآن لسيد قطب 1387 هـ :
والاعتصام بالله ثمرة ملازمة للإيمان به.. متى صح الإيمان، ومتى عرفت النفس حقيقة الله وعرفت حقيقة عبودية الكل له. فلا يبقى أمامها إلا أن تعتصم بالله وحده. وهو صاحب السلطان والقدرة وحده.. وهؤلاء يدخلهم الله في رحمة منه وفضل. رحمة في هذه الحياة الدنيا -قبل الحياة الأخرى- وفضل في هذه العاجلة -قبل الفضل في الآجلة- فالإيمان هو الواحة الندية التي تجد فيها الروح الظلال من هاجرة الضلال في تيه الحيرة والقلق والشرود. كما أنه هو القاعدة التي تقوم عليها حياة المجتمع ونظامه؛ في كرامة وحرية ونظافة واستقامة..
التحرير والتنوير لابن عاشور 1393 هـ :
(أمّا) في قوله: {فأما الذين آمنوا بالله} يجوز أن يكون للتفصيل: تفصيلاً لِمَا دَلّ عليه {يا أيها الناس} من اختلاف الفرق والنزعات: بين قابل للبرهان والنّور، ومكابر جاحد، ويكون مُعادل هذا الشقّ محذوفاً للتهويل، أي: وأمَّا الذين كفروا فلا تسل عنهم، ويجوز أن يكون (أمّا) لمجرد الشرط دون تفصيل، وهو شرط لِعموم الأحوال، لأنّ (أمّا) في الشرط بمعنى (مَهما يكُنْ من شيء) وفي هذه الحالة لا تفيد التفصيل ولا تطلب معادلاً.
والاعتصام: اللوْذ، والاعتصام بالله استعارة للوذ بدينه، وتقدّم في قوله {واعتصموا بحبل الله جميعاً} في سورة آل عمران (103). والإدخال في الرحمة والفضل عبارة عن الرضى.
وقوله: ويهديهم إليه صراطاً مستقيماً}: تعلَّق الجار والمجرور ب (يهدي) فهو ظرف لَغو، و {صراطاً} مفعول (يهدي)، والمعنى يهديهم صراطاً مستقيماً ليصلوا إليه، أي إلى الله، وذلك هو متمنّاهم، إذ قد علموا أنّ وعدهم عنده.
زهرة التفاسير - محمد أبو زهرة 1394 هـ :
ذكر الله سبحانه وتعالى وصفين للذين اهتدوا وزادهم هدى. أول هذين الوصفين أنهم آمنوا بالله تعالى، وثاني هذين الوصفين أنهم اعتصموا به، فلا يلجؤون إلا إليه ولنتكلم في كل من هذين الوصفين ومقامهما من إتباع الحق، والاهتداء بهديه.
أما الإيمان بالله فمعناه الإيمان بعظمته وجلاله، والإحساس بأنه فوق كل شيء، وهو القاهر فوق عباده والإذعان له، والمحبة لذاته الكريمة واجبة، على الإنسان وأن يذكره دائما كأنه يراه، كما في الحديث، "اعبد الله كأنك تراه، فإن لك تكن تراه فإنه يراك"، والإيمان بالله تعالى يقتضي اعتقاد الوحدانية وأنه لا منشئ للكون سواه، ولا يعبد بحق غيره ويقتضي أن يحب الوجود لأن الله تعالى خالق الوجود ويقتضي ألا يحب شيئا إلا ابتغاء مرضاة الله، كما قال النبي صلى الله عليه وسلم: "لا يؤمن أحدكم حتى يحب الشيء لا يحبه إلا لله "فالإيمان بالله تعالى يقتضي الإخلاص المطلق لذاته العلية، وإذا وجد ذلك الإخلاص اتجه اتجاها مستقيما، وإذا اتجه ذلك الاتجاه أشرق عليه بنور الحكمة وطلب الحق لذات الحق، وتجرد من تدرن النفس بالهوى، والشهوة وبذلك يكون للحق ولا يكون منه إلا الحق، لأنه أخلص للحق جل جلاله.
وأما الاعتصام بالله تعالى فإن معناه ألا يجد لنفسه عاصما من الناس، إلا هو ولا ملجأ يلجأ إليه إلا هو، ولا معاد له إلا رب العالمين، وبهذا يعلوا عن طاعة المستكبرين ويتجافى عن الخضوع لذوي السلطان إلا بالحق، فلا يذل ولا يخضع ولا يجبن ولا ينافق ولا يكذب ولا يكون فيه إلا السلوك الفاضل، ولا يكون إلا المجتمع الفاضل المؤمن بالله، وبالحق لا يخشى في الله لوم لائم، ولا يدهن في كلامه ولا أفعاله ولا يخاف إلا الله تعالى الواحد الأحد الفرد الصمد الذي يخضع لكل شيء، تبارك وتعالى بيده الملك وهو على كل شيء قدير.
ولقد ذكر سبحانه وتعالى جزاء هؤلاء فقال تعالت كلماته:
{فسيدخلهم في رحمة منه وفضل ويهديهم إليه صراطا مستقيما} هذا جزاء الذين آمنوا بالله واعتصموا به، وهو جزاء مكون من ثلاثة أجزاء: رحمة وفضل، وهداية إلى الطريق المستقيم الذي لا عوج فيه ولا أمت.
ولكن ما هي الرحمة وما هو الفضل وما هي الهداية، ثم أهذا الجزاء في الدنيا أم هو في الآخرة؟ أم هو فيهما معا؟ لم يبين النص الكريم مكان ذلك الجزاء المؤكد، وعندي أن هذا الجزاء في الدنيا والآخرة.
وعلى هذا يكون معنى الرحمة في الدنيا أن يكونوا في سعادة واطمئنان وهدوء بال، لأنهم فوضوا أمورهم للعلي الأعلى الذي ليس كمثله شيء وهو العلي الحكيم وركنوا أنفسهم إلى الملجأ الأعصم والركن الأمكن فاطمأنوا بالله تعالى وبذكره، وبامتلاء قلوبهم به، كما قال تعالى: {الذين آمنوا وتطمئن قلوبهم بذكر الله ألا بذكر الله تطمئن القلوب (28)} (الرعد)، ولا شك أن شقاء الناس في الدنيا سببه انحرافهم عن الجادة وانشغالهم بأمور توجد بلبالا مستمرا، واضطرابا دائما، من خصومات وأحقاد وحسد ولجاجات، ومن شأن المؤمن أن يعلو عن سفساف هذه الأمور، فيكون في راحة واطمئنان بال، وكل آفة بالجسم تهون بجوار الاطمئنان بالله، وكل نعيم مادي دنيوي يذهب به القلق وعدم الاطمئنان.
هذه رحمة الدنيا أما رحمة الآخرة فهي النعيم المقيم وجنات عدن خالدين فيها أبدا.
هذه الرحمة بنوعيها ومعانيها أما الفضل فأصل معناه الزيادة وهو يطلق على الزيادة في الإحسان والزيادة في العطاء والزيادة في المنزلة.
والفضل في الدنيا هو علو المنزلة والسلطان العادل والتمكين لهم إذا كانوا على جادة الإيمان لم يجانبوها كما قال تعالت كلماته: {ونريد أن نمن على الذين استضعفوا في الأرض ونجعلهم أئمة ونجعلهم الوارثين (5)} (القصص).
يؤمنون بالله تعالى ويعتصمون به، وينصرونه وينصرهم ويمكن لهم في الأرض ويمن عليهم بالعزة، وإذا وجدت الذين يحملون شعار أهل الإيمان في ذلة ومغلوبين على أمرهم بعد أن قامت دولة الحق، فاعلم أن ذلك لأنهم جانبوا طريق الإيمان وضعف إيمانهم بالله والأخذ بأوامره. {الذين آمنوا وتطمئن قلوبهم بذكر الله ألا بذكر الله تطمئن القلوب (28)} (الرعد).
هذا هو الفضل في الدنيا وأما الفضل في الآخرة فهو رضوان الله تعالى والرفعة في الدرجات والقرب منه سبحانه وذلك هو الفضل العظيم.
والجزء الثالث هو الهداية إلى الصراط المستقيم، وهو في الدنيا السبيل إلى الآخرة وذلك لأن الإيمان بالله تعالى حق الإيمان يضيء في القلب فيعرفه السبيل القويم الذي يوصل إليه تعالى فمن آمن بالله فقد اهتدى إليه ومن اعتصم به وبأوامره واجتنب نواهيه فقد سلك طريقه، ومن سلك طريق الحق في الدنيا، كان في الآخرة أهدى، ومن ضل طريق الحق في الدنيا وغوى فهو في الآخرة في الهاوية.
وفي الآية بعض مباحث لفظية تؤدي إلى توضيح معاني النص الكريم.
أولها: أن السين في قوله تعالى: {فسيدخلهم في رحمة منه} للتأكيد والسين وسوف في القرآن يدلان على توكيد الوقوع في المستقبل.
ثانيها: الضمير في قوله تعالى: {ويهديهم إليه} يعود على لفظ الجلالة، ذلك أن الهداية إلى الله تعالى هي ثمرة الإيمان به، وطريق النجاة وبها يهتدي المؤمنون إلى أقوام سبيل، وصراط الله تعالى طريقه الذي يوصل إلى الغاية.
ثالثها: إعراب "صراطا مستقيما" لقد قال بعض العلماء إنها مفعول ثان ليهدي، وآخرون قالوا إنها مفعول لفعل محذوف، وتقدير الكلام هكذا {ويهديهم إليه} ويعرفهم طريقا يوصل إلى أعلى الغايات، وكان قوله تعالى {ويهديهم إليه صراطا مستقيما} اشتمل على جزءين ساميين: أولهما الهداية إلى الله وهو نعمة في ذاته لأنه معرفة الله تعالى حق معرفته.
وثانيهما: معرفة الطريق المستقيم الذي يوصل إلى الحق، وتلك نعمة أخرى تفضل بها مانح النعم ومجريها رب العالمين.
تفسير من و حي القرآن لحسين فضل الله 1431 هـ :
{وَاعْتَصَمُواْ}: الاعتصام، اعتصم فلان بالله، أي امتنع من الشرّ به، والعصمة من الله: دفع الشر عن عبده، واعتصمت فلاناً: هيّأت له ما يعتصم به، والعصمة من الله على وجهين (أحدهما) بمعنى الحفظ، وهو أن يمنع عبده كيد الكائدين كما قال سبحانه لنبيهصلى الله عليه وسلم {وَاللَّهُ يَعْصِمُكَ مِنَ النَّاسِ} [المائدة: 67]، (والآخر) أن يلطف بعبده بشيء يمتنع عنده من المعاصي.
الإيمان بالله والاعتصام به ويتابع القرآن تأكيد الحقيقة الإلهية، على أساس انطلاقها من موقع الحجة والبرهان الذي يريد للناس أن يأخذوا به ويرتكزوا عليه؛ ويوجه الناس إلى أن يسيروا في طريق النور الواضح الذي يتمثل بالوحي الذي أنزله الله عليهم بواسطة رسوله؛ فإذا انسجموا مع أفكار الإيمان واعتصموا بحبل الله الذي يمتد منه، فسيجدون أمامهم الباب الذي يدخلون منه إلى رحمة الله، فيعيشون هناك في فضله، وينفتحون من خلال ذلك على خط الهداية الذي يقودهم إلى الصراط المستقيم، حيث يجدون عند الله الخير والرحمة والغفران.