258- ألم تر إلى من عمي عن أدلة الإيمان وجادل إبراهيم خليل الله في ألوهية ربه ووحدانيته ، وكيف أخرجه غروره بملكه - الذي وهبه ربه - من نور الفطرة إلى ظلام الكفر فعندما قال له إبراهيم : إن الله يحيي ويميت ، بنفخ الروح في الجسم وإخراجها منه ، قال : أنا أحيي وأميت بالعفو والقتل ، فقال إبراهيم ليقطع مجادلته : إن الله يأتي بالشمس من المشرق فأت بها من المغرب إن كنت إلها كما تدعى . فتحير وانقطع جدله من قوة الحُجة التي كشفت عجزه وغروره ، والله لا يوفق المصرِّين المعاندين لاتباع الحق .
قوله تعالى : { ألم تر إلى الذي حاج إبراهيم في ربه } . معناه هل انتهى إليك يا محمد خبر الذي حاج إبراهيم ؟ أي خاصم وجادل ، وهو نمرود وهو أول من وضع التاج على رأسه ، وتجبر في الأرض وادعى الربوبية .
قوله تعالى : { أن آتاه الله الملك } . أي لأن آتاه الله الملك فطغى ، أي كانت تلك المحاجة من بطر الملك وطغيانه ، قال مجاهد : ملك الأرض أربعة : مؤمنان وكافران ، فأما المؤمنان فسليمان وذو القرنين ، وأما الكافران : فنمرود وبختنصر . واختلفوا في وقت هذه المناظرة ، قال مقاتل : لما كسر إبراهيم الأصنام سجنه نمرود ، ثم أخرجه ليحرقه بالنار فقال له : من ربك الذي تدهونا إليه ؟ فقال : ربي الذي يحيي ويميت ، وقال آخرون : كان هذا بعد إلقائه في النار ، وذلك أن الناس قحطوا على عهد نمرود ، وكان الناس يمتارون من عنده الطعام ، فكان إذا أتاه الرجل في طلب الطعام سأله : من ربك ؟ فإن قال : أنت ، باع منه الطعام ، فأتاه إبراهيم فيمن أتاه فقال له نمرود : من ربك ؟ قال : ربي الذي يحيي ويميت ، فاشتغل بالمحاجة ولم يعطه شيئاً فرجع إبراهيم فمر على كثيب من رمل أعفر فأخذ منه تطييباً لقلوب أهله إذا دخل عليهم ، فلما أتى أهله ووضع متاعه نام ، فقامت امرأته إلى متاعه ففتحته فإذا هو أجود طعام ما رأته ، فأخذته فصنعت له منه فقربته إليه فقال : من أين هذا ؟ قالت : من الطعام الذي جئت به ، فعرف أن الله رزقه ، فحمد الله .
قال الله تعالى : { إذ قال إبراهيم ربي الذي يحيي ويميت } . وهذا جواب سؤال غير مذكور تقديره قال له : من ربك ؟ فقال إبراهيم : ربي الذي يحيي ويميت ، قرأ حمزة ، ( ربي الذي يحيي ويميت ) ، بإسكان الياء ، وكذلك ( حرم ربي الفواحش ) ، ( وعن آياتي الذين يتكبرون ) ، ( و قل لعبادي الذين ) ، ( وآتاني الكتاب ) ، ( ومسني الضر ) ، ( وعبادي الصالحون ) ، ( وعبادي الشكور ) ، ( ومسني الشيطان ) ، ( و إن أرادني الله ) ، ( وإن أهلكني الله ) أسكن الياء فيهن حمزة ، ووافق ابن عامر والكسائي في ( لعبادي الذين آمنوا ) ، وابن عامر ( آياتي الذين ) وفتحها الآخرون .
قوله تعالى : { قال } . نمرود .
قوله تعالى : { أنا أحيي وأميت } . قرأ أهل المدينة " أنا " بإثبات الألف والمد في الوصل إذا تلتها مفتوحة أو مضمومة ، والباقون بحذف الألف ، ووقفوا جميعا بالألف ، قال أكثر المفسرين : دعا نمرود برجلين فقتل أحدهما واستحيا الآخر ، فجعل القتل إماتة وترك القتل إحياء ، فانتقل إبراهيم إلى حجة أخرى ليعجزه ، فإن حجته كانت لازمة لأنه أراد بالأحياء إحياء الميت ، فكان له أن يقول : فأحي من أمت إن كنت صادقاً ، فانتقل إلى حجه أخرى أوضح من الأولى .
قوله تعالى : { قال إبراهيم فإن الله يأتي بالشمس من المشرق فأت بها من المغرب فبهت الذي كفر } . أي تحير ودهش وانقطعت حجته . فإن قيل : كيف بهت وكان يمكنه أن يعارض إبراهيم فيقول له : سل أنت ربك حتى يأتي بها من المغرب ؟ قيل : إنما لم يقله لأنه خاف أن لو سأل ذلك دعا إبراهيم ربه فكان زيادة في فضيحته ، وانقطاعه ، والصحيح أن الله صرفه عن تلك المعارضة إظهاراً للحجة عليه ، أو معجزة لإبراهيم عليه السلام . قوله تعالى : { والله لا يهدي القوم الظالمين } .
{ أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِي حَاجَّ إِبْرَاهِيمَ فِي رَبِّهِ أَنْ آتَاهُ اللَّهُ الْمُلْكَ إِذْ قَالَ إِبْرَاهِيمُ رَبِّيَ الَّذِي يُحْيِي وَيُمِيتُ قَالَ أَنَا أُحْيِي وَأُمِيتُ قَالَ إِبْرَاهِيمُ فَإِنَّ اللَّهَ يَأْتِي بِالشَّمْسِ مِنَ الْمَشْرِقِ فَأْتِ بِهَا مِنَ الْمَغْرِبِ فَبُهِتَ الَّذِي كَفَرَ وَاللَّهُ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ }
يقول تعالى : { ألم تر إلى الذي حاج إبراهيم في ربه } أي : إلى جرائته وتجاهله وعناده ومحاجته فيما لا يقبل التشكيك ، وما حمله على ذلك إلا { أن آتاه الله الملك } فطغى وبغى ورأى نفسه مترئسا على رعيته ، فحمله ذلك على أن حاج إبراهيم في ربوبية الله فزعم أنه يفعل كما يفعل الله ، فقال إبراهيم { ربي الذي يحيي ويميت } أي : هو المنفرد بأنواع التصرف ، وخص منه الإحياء والإماتة لكونهما أعظم أنواع التدابير ، ولأن الإحياء مبدأ الحياة الدنيا والإماتة مبدأ ما يكون في الآخرة ، فقال ذلك المحاج : { أنا أحيي وأميت } ولم يقل أنا الذي أحيي وأميت ، لأنه لم يدع الاستقلال بالتصرف ، وإنما زعم أنه يفعل كفعل الله ويصنع صنعه ، فزعم أنه يقتل شخصا فيكون قد أماته ، ويستبقي شخصا فيكون قد أحياه ، فلما رآه إبراهيم يغالط في مجادلته ويتكلم بشيء لا يصلح أن يكون شبهة فضلا عن كونه حجة ، اطرد معه في الدليل فقال إبراهيم : { فإن الله يأتي بالشمس من المشرق } أي : عيانا يقر به كل أحد حتى ذلك الكافر { فأت بها من المغرب } وهذا إلزام له بطرد دليله إن كان صادقا في دعواه ، فلما قال له أمرا لا قوة له في شبهة تشوش دليله ، ولا قادحا يقدح في سبيله { بهت الذي كفر } أي : تحير فلم يرجع إليه جوابا وانقطعت حجته وسقطت شبهته ، وهذه حالة المبطل المعاند الذي يريد أن يقاوم الحق ويغالبه ، فإنه مغلوب مقهور ، فلذلك قال تعالى : { والله لا يهدي القوم الظالمين } بل يبقيهم على كفرهم وضلالهم ، وهم الذين اختاروا لأنفسهم ذلك ، وإلا فلو كان قصدهم الحق والهداية لهداهم إليه ويسر لهم أسباب الوصول إليه ، ففي هذه الآية برهان قاطع على تفرد الرب بالخلق والتدبير ، ويلزم من ذلك أن يفرد بالعبادة والإنابة والتوكل عليه في جميع الأحوال ، قال ابن القيم رحمه الله : وفي هذه المناظرة نكتة لطيفة جدا ، وهي أن شرك العالم إنما هو مستند إلى عبادة الكواكب والقبور ، ثم صورت الأصنام على صورها ، فتضمن الدليلان اللذان استدل بهما إبراهيم إبطال إلهية تلك جملة بأن الله وحده هو الذي يحيي ويميت ، ولا يصلح الحي الذي يموت للإلهية لا في حال حياته ولا بعد موته ، فإن له ربا قادرا قاهرا متصرفا فيه إحياء وإماتة ، ومن كان كذلك فكيف يكون إلها حتى يتخذ الصنم على صورته ، ويعبد من دونه ، وكذلك الكواكب أظهرها وأكبرها للحس هذه الشمس وهي مربوبة مدبرة مسخرة ، لا تصرف لها بنفسها بوجه ما ، بل ربها وخالقها سبحانه يأتي بها من مشرقها فتنقاد لأمره ومشيئته ، فهي مربوبة مسخرة مدبرة ، لا إله يعبد من دون الله . " من مفتاح دار السعادة "
ثم ساق القرآن بعد ذلك بعض الأمثلة للمؤمنين المهتدين وللضالين المغرورين فقال - تعالى - :
{ أَلَمْ تَرَ إِلَى الذي حَآجَّ . . . }
أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِي حَاجَّ إِبْرَاهِيمَ فِي رَبِّهِ أَنْ آَتَاهُ اللَّهُ الْمُلْكَ إِذْ قَالَ إِبْرَاهِيمُ رَبِّيَ الَّذِي يُحْيِي وَيُمِيتُ قَالَ أَنَا أُحْيِي وَأُمِيتُ قَالَ إِبْرَاهِيمُ فَإِنَّ اللَّهَ يَأْتِي بِالشَّمْسِ مِنَ الْمَشْرِقِ فَأْتِ بِهَا مِنَ الْمَغْرِبِ فَبُهِتَ الَّذِي كَفَرَ وَاللَّهُ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ ( 258 )
{ حَآجَّ } أي جادل وخاصم والمحاجة : المخاصمة والمغالبة بالقول يقال حاججته فحججته أي خاصمته بالقول فتغلبت عليه وتستعمل المحاجة كثيراً في المخاصمة بالباطل ومن ذلك قوله - تعالى - : { فَإنْ حَآجُّوكَ فَقُلْ أَسْلَمْتُ وَجْهِيَ للَّهِ وَمَنِ اتبعن } وقوله - تعالى - : { وَحَآجَّهُ قَوْمُهُ قَالَ أتحاجواني فِي الله وَقَدْ هَدَانِ } والمعنى : لقد علمت أيها العاقل صفة ذلك الكافر المغرور الذي جادل إبراهيم - عليه السلام - في شأن خالقه عز وجل - ومن لم يعلم قصته فها نحن أولاء نخبره عن طريق هذا الكتاب العزيز الذي لا يأتيه الباطل من بين يديه ولا من خلفه .
والاستفهام للتعجب من شأن هذا الكافر وما صار إليه أمر غروره وبطره والمراد به - كما قال ابن كثير - نمرود بن كنعان بن كوس بن سام ابن نوح ملك بابل ، وكان معاصراً لسيدنا إبراهيم - عليه السلام - .
وأطلق القرآن على ما دار بين هذا الملك المغرور بين سيدنا إبراهيم أنها حاجة مع أنها مجادلة بالباطل من هذا الملك ، أطلق ذلك من باب المماثلة اللفظية أو هي محاجة في نظره السقيم ورأيه الباطل .
والضمير في قوله : { فِي رَبِّهِ } يعود إلى إبراهيم - عليه السلام - وقيل يعود إلى نمرود لأنه هو المتحدث عنه فالضمير يعود إليه والإِضافة - على الرأي الأول - للتشريف ، وللإِيذان من أول الأمر بأن الله - تعالى - مؤيد وناصر لعبده إبراهيم . وقوله : { أَنْ آتَاهُ الله الملك } بيان لسبب إقدام هذا الملك على ما أقدم عليه من ضلال وطغيان . أي سبب هذه المحاجة لأنه أعطاه الله - تعالى - الملك فبطر وتكبر ولم يشكره - سبحانه - على هذه النعمة ، بل استعملها في غير ما خلقت له فقوله : { أَنْ آتَاهُ } مفعول لأجله ، والكلام على تقدير حذف لام الجر ، وهو مطرد الحذف مع أن وأن .
وقوله : { إِذْ قَالَ إِبْرَاهِيمُ رَبِّيَ الذي يُحْيِي وَيُمِيتُ } حكاية لما قاله إبراهيم عليه السلام لذل كالملك في مقام التدليل على وحدانية الله وأنه - سبحانه - هو المستحق للعبادة أي قال له : ربي وحده هو الذي ينشئ الحياة ويوجدها ، ويميت الأرواح ويفقدها حياتها ، ولا يوجد أحد سواه يستطيع أن يفعل ذلك .
وقول إبراهيم - كما حكاه القرآن - : { رَبِّيَ الذي يُحْيِي وَيُمِيتُ } مفيد للقصر عن طريق تعريف المبتدأ وهو { رَبِّيَ } والخبر هو الموصول وصلته .
وعبر بالمضارع في قوله : { الذي يُحْيِي وَيُمِيتُ } لإفادة معنى التجدد والحدوث الذي يرى ويحس بين وقت وآخر .
أي ربي هو الذي يحيى الناس ويميتهم كما ترى ذلك مشاهداً في كثير من الأوقات ، فمن الواجب عليك أن تخصه بالعبادة والخضوع وأن تقلع عما أنت فيه من كفر وطغيان وضلال .
وقوله : { إِذْ قَالَ إِبْرَاهِيمُ } ظرف لقوله : { حَآجَّ } أو بدل اشتمال منه ، و في هذا القول الذي حكاه القرآن عن إبراهيم - عليه السلام - أوضح حجة وأقواها على وحدانية الله واستحقاقه للعبادة ، لأن كل عاقل يدرك أن الحق هو الذي يملك الإِحياء والإِماتة ويملك بعث الناس يوم القيامة ليحاسبهم على أعمالهم وهو أمر ينكره ذلك الملك الكافر .
قال الإِمام الرازي ما ملخصه : والظاهر أن قول إبراهيم { رَبِّيَ الذي يُحْيِي وَيُمِيتُ } جواب لسؤال سابق غير مذكور . وذلك أنه من المعلوم أن الأنبياء بعثوا للدعوة إلأى الله ، ومتى ادعى الرسول الرسالة فإن المنكر يطالبه بإثبات أن للعالم إلهاً . فالظاهر هنا أن إبراهيم ادعى الرسالة فقال له نمرود : من ربك ؟ فقال إبراهيم : ربي الذي يحيى ويميت ، إلا أن تلك المقدمة حذفت لأن الواقعة تدل عليها ، ودليل إبراهيم في غاية الصحة لأن الخلق عاجزون عن الإِحياء والإِماتة وقدم ذكر الحياة على الموت هنا . لأن من شأن الدليل أن يكون في غاية الوضوح والقوة ، ولا شك أن عجائب الخلقة حال الحياة أكثر ، واطلاع الإِنسان عليها أتم فلا جرم وجب تقديم الحياة ها هنا في الذكر .
م حكى القرآن جواب نمرود على إبراهيم فقال : { قَالَ أَنَا أُحْيِي وَأُمِيتُ } أي قال ذلك الطاغية : إذا كنت يا إبراهيم تدعى أن ربك وحده الذي يحيى ويميت فأنا أعرضك في ذلك لأنى أنا - أيضاً أحيي وأميت وما دام الأمر كذلك فأنا مستحق للربوبية . قالوا : ويقصد بقوله هذا أنه يستطيع أن يعفو عمن حكم بقتله ، ويقتل من شاء أن يقتله .
ولقد كان في استطاعة إبراهيم - عليه السلام - أن يبطل قوله ، بأن يبين له بأن ما يدعيه ليس من الأحياء والإِماتة المقصودين بالاحتجاج ، لأن ما قصده إبراهيم هو إنشاء الحياة وإنشاء الموت ، كان في استطاعة الخليل - عليه السلام - أن يفعل ذلك ، ولكنه آثر ترك فتح باب الجدال والمحاورة ، وأتاه بحجة هي غاية في الإِفحام فقال له - كما حكى القرآن : { فَإِنَّ الله يَأْتِي بالشمس مِنَ المشرق فَأْتِ بِهَا مِنَ المغرب } .
أي قال إبراهيم لخمه المغرور : لقد زعمت أنك تملك الإِحياء والإِماتة كما يملك الله - تعالى - ذلك ، ومن شأن هذا الزعم أن يجعلك مشاركاً لله - تعالى - في قدرته فإن كان ذلك صحيحاً فأنت ترى وغيرك يرى أن الله - تعالى - يأتي بالشمس من جهة المشرق عند شروقها فأت بها أنت من جهة المغرب في هذا الوقت فماذا كانت نتيجة هذه الحجة الدامغة التي قذفها إبراهيم - عليه السلام - في وجه خصمه ؟ كانت نتيجتها - كما حكى القرآن - { فَبُهِتَ الذي كَفَرَ } أي : غلبت وقهر ، وتحير وانقطع عن حجاجه ، واضطرب ولم يستطع أن يتكلم ، لأنه فوجئ بما لا يملك دفعه .
و ( بهت ) فعل ماض جاء على صورة الفعل المبني للمجهول - كزهي وزكم - والمعنى فيه على البناء للفاعل . وقوله : { الذي كَفَرَ } هو فاعله . والبهت : الانقطاع والحيرة ، وقرئ بوزن - علم ونصر وكرم .
والفاء في قوله : { فَإِنَّ الله يَأْتِي بالشمس } . . إلخ فصيحة لأنها أفصحت عن جواب لشرط مقدر أي إن كنت كما تزعم أنك تحيي وتميت وأن قدرتك كقدرة الله فإن الله - تعالى - يأتي بالشمس من المشرق فأت بها من الغرب .
وعبر عن هذا البهوت بقوله : { فَإِنَّ الله يَأْتِي بالشمس } للإِشعار بأن سبب حيرته واضطرابه هو كفره وعناده .
ثم ختم - سبحانه - الآية بقوله : { والله لاَ يَهْدِي القوم الظالمين } أي لا يهديهم إلى طريق الحق . ولا يلهمهم حجة ولا برهاناً . بسبب ظلمهم وطغيانهم وإيثارهم طريق الشيطان على طريق الرحمن .
وبذلك نرى أن الآية الكريمة قد حكت للناس لوناً من ألوان رعاية الله لأوليائه وخذلانه لأعدائه لكي يكون في ذلك عبرة وعظة لقوم يعقلون .
والآية الأولى تحكي حوارا بين إبراهيم - عليه السلام - وملك في أيامه يجادله في الله . لا يذكر السياق اسمه ، لأن ذكر اسمه لا يزيد من العبرة التي تمثلها الآية شيئا . وهذا الحوار يعرض على النبي [ ص ] وعلى الجماعة المسلمة في أسلوب التعجيب من هذا المجادل ، الذي حاج إبراهيم في ربه ؛ وكأنما مشهد الحوار يعاد عرضه من ثنايا التعبير القرآني العجيب :
( ألم تر إلى الذي حاج إبراهيم في ربه أن آتاه الله الملك ؟ إذ قال إبراهيم : ربي الذي يحيي ويميت . قال : أنا أحيي وأميت ! قال إبراهيم : فإن الله يأتي بالشمس من المشرق فأت بها من المغرب . فبهت الذي كفر . والله لا يهدي القوم الظالمين ) . .
إن هذا الملك الذي حاج إبراهيم في ربه لم يكن منكرا لوجود الله أصلا إنما كان منكرا لوحدانيته في الألوهية والربوبية ولتصريفه للكون وتدبيره لما يجري فيه وحده ، كما كان بعض المنحرفين في الجاهلية يعترفون بوجود الله ولكنهم يجعلون له اندادا ينسبون إليها فاعلية وعملا في حياتهم ! وكذلك كان منكرا أن الحاكمية لله وحده ، فلا حكم إلا حكمه في شؤون الأرض وشريعة المجتمع .
إن هذا الملك المنكر المتعنت إنما ينكر ويتعنت للسبب الذي كان ينبغي من أجله أن يؤمن ويشكر . هذا السبب هو ( أن آتاه الله الملك ) . . وجعل في يده السلطان ! لقد كان ينبغي أن يشكر ويعترف ، لولا أن الملك يطغي ويبطر من لا يقدرون نعمة الله ، ولا يدركون مصدر الإنعام . ومن ثم يضعون الكفر في موضع الشكر ؛ ويضلون بالسبب الذي كان ينبغي أن يكونوا به مهتدين ! فهم حاكمون لأن الله حكمهم ، وهو لم يخولهم استعباد الناس بقسرهم على شرائع من عندهم . فهم كالناس عبيد لله ، يتلقون مثلهم الشريعة من الله ، ولا يستقلون دونه بحكم ولا تشريع فهم خلفاء لا أصلاء !
ومن ثم يعجب الله من أمره وهو يعرضه على نبيه :
( ألم تر إلى الذي حاج إبراهيم في ربه أن آتاه الله الملك ؟ ) . .
ألم تر ؟ إنه تعبير التشنيع والتفظيع ؛ وإن الإنكار والاستنكار لينطلقان من بنائه اللفظي وبنائه المعنوي سواء . فالفعلة منكرة حقا : أن يأتي الحجاج والجدال بسبب النعمة والعطاء ! وأن يدعي عبد لنفسه ما هو من اختصاص الرب ، وأن يستقل حاكم بحكم الناس بهواه دون أن يستمد قانونه من الله .
( قال إبراهيم : ربي الذي يحيي ويميت ) . .
والإحياء والإماتة هما الظاهرتان المكرورتان في كل لحظة ، المعروضتان لحس الإنسان وعقله . وهما - في الوقت نفسه - السر الذي يحير ، والذي يلجيء الإدراك البشري الجاء إلى مصدر آخر غير بشري . وإلى أمر آخر غير أمر المخاليق . ولا بد من الالتجاء إلى الألوهية القادرة على الإنشاء والإفناء لحل هذا اللغز الذي يعجز عنه كل الأحياء .
إننا لا نعرف شيئا عن حقيقة الحياة وحقيقة الموت حتى اللحظة الحاضرة . ولكننا ندرك مظاهرهما في الأحياء والأموات . ونحن ملزمون أن نكل مصدر الحياة والموت إلى قوة ليست من جنس القوى التي نعرفها على الإطلاق . . قوة الله . .
ومن ثم عرف إبراهيم - عليه السلام - ربه بالصفة التي لا يمكن أن يشاركه فيها أحد ، ولا يمكن أن يزعمها أحد ، وقال وهذا الملك يسأله عمن يدين له بالربوبية ويراه مصدر الحكم والتشريع غيره . . قال : ربي الذي يحيي ويميت فهو من ثم الذي يحكم ويشرع .
وما كان إبراهيم - عليه السلام - وهو رسول موهوب تلك الموهبة اللدنية التي أشرنا إليها في مطلع هذا الجزء - ليعني من الأحياء والإماتة إلا إنشاء هاتين الحقيقتين إنشاء . فذلك عمل الرب المتفرد الذي لا يشاركه فيه أحد من خلقه . ولكن الذي حاج إبراهيم في ربه رأى في كونه حاكما لقومه وقادرا على إنفاذ أمره فيهم بالحياة والموت مظهرا من مظاهر الربوبية . فقال لإبراهيم : أنا سيد هؤلاء القوم وأنا المتصرف في شأنهم ، فأنا إذن الرب الذي يجب عليك أن تخضع له ، وتسلم بحاكميته :
عند ذلك لم يرد إبراهيم - عليه السلام - أن يسترسل في جدل حول معنى الإحياء والإماتة مع رجل يماري ويداور في تلك الحقيقة الهائلة . حقيقة منح الحياة وسلبها . هذا السر الذي لم تدرك منه البشرية حتى اليوم شيئا . . وعندئذ عدل عن هذه السنة الكونية الخفية ، إلى سنة أخرى ظاهرة مرئية ؛ وعدل عن طريقة العرض المجرد للسنة الكونية والصفة الإلهية في قوله : ( ربي الذي يحيي ويميت ) . . إلى طريقة التحدي ، وطلب تغيير سنة الله لمن ينكر ويتعنت ويجادل في الله ؛ ليريه أن الرب ليس حاكم قوم في ركن من الأرض ، إنما هو مصرف هذا الكون كله . ومن ربوبيته هذه للكون يتعين أن يكون هو رب الناس المشرع لهم :
( قال إبراهيم : فإن الله يأتي بالشمس من المشرق فأت بها من المغرب ) . .
وهي حقيقة كونية مكرورة كذلك ؛ تطالع الأنظار والمدارك كل يوم ؛ ولا تتخلف مرة ولا تتأخر . وهي شاهد يخاطب الفطرة - حتى ولو لم يعرف الإنسان شيئا عن تركيب هذا الكون ، ولم يتعلم شيئا من حقائق الفلك ونظرياته - والرسالات تخاطب فطرة الكائن البشري في أية مرحلة من مراحل نموه العقلي والثقافي والاجتماعي ، لتأخذ بيده من الموضع الذي هو فيه . ومن ثم كان هذا التحدي الذي يخاطب الفطرة كما يتحدث بلسان الواقع الذي لا يقبل الجدل :
فالتحدي قائم ، والأمر ظاهر ، ولا سبيل إلى سوء الفهم ، أو الجدال والمراء . . وكان التسليم أولى والإيمان أجدر . ولكن الكبر عن الرجوع إلى الحق يمسك بالذي كفر ، فيبهت ويبلس ويتحير . ولا يهديه الله إلى الحق لأنه لم يتلمس الهداية ، ولم يرغب في الحق ؛ ولم يلتزم القصد والعدل :
( والله لا يهدي القوم الظالمين ) . .
ويمضي هذا الجدل الذي عرضه الله على نبيه [ ص ] وعلى الجماعة المسلمة . مثلا للضلال والعناد ؛ وتجربة يتزود بها أصحاب الدعوة الجدد في مواجهة المنكرين ؛ وفي ترويض النفوس على تعنتالمنكرين !
كذلك يمضي بتقرير تلك الحقائق التي تؤلف قاعدة التصور الإيماني الناصع : ( ربي الذي يحيي ويميت ) . .
( فإن الله يأتي بالشمس من المشرق فأت بها من المغرب ! ) . . حقيقة في الأنفس وحقيقة في الآفاق . حقيقتان كونيتان هائلتان ؛ وهما - مع ذلك - مكرورتان معروضتان للبصائر والأبصار آناء الليل وأطراف النهار . لا تحتاجان إلى علم غزير ، ولا إلى تفكير طويل . فالله أرحم بعباده أن يكلهم في مسألة الإيمان به والاهتداء إليه ، إلى العلم الذي قد يتأخر وقد يتعثر ، وإلى التفكير الذي قد لا يتهيأ للبدائيين . إنما يكلهم في هذا الأمر الحيوي الذي لا تستغني عنه فطرتهم ، ولا تستقيم بدونه حياتهم ، ولا ينتظم مع فقدانه مجتمعهم . . ولا يعرف الناس بدونه من أين يتلقون شريعتهم وقيمهم وآدابهم . . يكلهم في هذا الأمر إلى مجرد التقاء الفطرة بالحقائق الكونية المعروضة على الجميع ، والتي تفرض نفسها فرضا على الفطرة ، فلا يحيد الإنسان عن إيحائها الملجيء إلا بعسر ومشقة ومحاولة ومحال وتعنت وعناد !
والشأن في مسألة الاعتقاد هو الشأن في كل أمر حيوي تتوقف عليه حياة الكائن البشري . فالكائن الحي يبحث عن الطعام والشراب والهواء - كما يبحث عن التناسل والتكاثر - بحثا فطريا ، ولا يترك الأمر في هذه الحيويات حتى يكمل التفكير وينضج ، أو حتى ينمو العلم ويغزر . . وإلا تعرضت حياة الكائن الحي إلى الدمار والبوار . . والإيمان حيوي للإنسان حيوية الطعام والشراب والهواء سواء بسواء . ومن ثم يكله الله فيه إلى تلاقي الفطرة بآياته المبثوثة في صفحات الكون كله في الأنفس والآفاق .
القول في تأويل قوله ( ألم تر إلى الذي حاج إبراهيم في ربه أن آتاه الله الملك ) يعني تعالى ذكره بقوله ألم تر إلى الذي حاج إبراهيم في ربه ألم تر يا محمد بقلبك الذي حاج إبراهيم يعني الذي خاصم إبراهيم يعني إبراهيم نبي الله صلى الله عليه وسلم في ربه أن آتاه الله الملك يعني بذلك حاجة فخاصمه في ربه لأن الله آتاه الملك وهذا تعجيب من الله تعالى ذكره نبيه محمدصلى الله عليه وسلم من الذي حاج إبراهيم في ربه ولذلك أدخلت إلى في قوله ألم تر إلى الذي حاج وكذلك تفعل العرب إذا أرادت التعجيب من رجل في بعض ما أنكرت من فعله قالوا ما ترى إلى هذا والمعنى هل رأيت مثل هذا أو كهذا وقيل إن الذي حاج إبراهيم في ربه جبار كان ببابل يقال له نمروذ بن كنعان بن كوش بن سام بن نوح وقيل إنه نمروذ بن فالخ بن عابر بن شالخ بن أرقخشذ ابن سام بن نوح . ذكر من قال ذلك .
حدثني المثنى قال ثنا أبو نعيم عن سفيان عن ليث عن مجاهد مثله .
حدثنا ابن وكيع قال ثنا أبي عن النضر بن عدي عن مجاهد مثله .
حدثنا بشر قال ثنا يزيد قال ثنا سعيد عن قتادة ألم تر إلى الذي حاج إبراهيم في ربه قال كنا نتحدث أنه ملك يقال له نمروذ وهو أول ملك تجبر في الأرض وهو صاحب الصرح ببابل .
الحسن بن يحيى قال أخبرنا عبد الرزاق قال أخبرنا معمر عن قتادة قال هو اسمه نمروذ وهو أول من تجبر في الأرض حاج إبراهيم في ربه .
حدثني المثنى قال ثنا إسحاق قال ثنا ابن أبي جعفر عن أبيه عن الربيع في قوله ألم تر إلى الذي حاج إبراهيم في ربه أن آتاه الله الملك قال ذكر لنا أن الذي حاج إبراهيم في ربه كان ملكاٌ يقال له نمروذ وهو أول جبار تجبر في الأرض وهو صاحب الصرح ببابل .
حدثنا موسى ، قال : حدثنا عمرو ، قال : حدثنا أسباط ، عن السدي ، قال : هو نمروذ بن كنعان .
حدثني يونس ، قال : أخبرنا ابن وهب ، قال : قال ابن زيد : هو نمروذ .
حدثنا ابن حميد ، قال : حدثنا سلمة ، عن ابن إسحاق ، مثله .
حدثنا الحسن بن يحيى ، قال : أخبرنا عبد الرزاق ، قال : أخبرنا معمر ، قال : أخبرني زيد بن أسلم ، بمثله .
حدثنا القاسم ، قال : حدثنا الحسين ، قال : ثني حجاج ، عن ابن جريج ، قال : أخبرني عبد الله بن كثير أنه سمع مجاهدا يقول : هو نمروذ . قال ابن جريج : هو نمروذ ، ويقال إنه أول ملك في الأرض .
القول في تأويل قوله تعالى : { إِذْ قَالَ إِبْرَاهِيمُ رَبّيَ الّذِي يُحْيِي وَيُمِيتُ قَالَ أَنَا أُحْيِي وَأُمِيتُ قَالَ إِبْرَاهِيمُ فَإِنّ اللّهَ يَأْتِي بِالشّمْسِ مِنَ الْمَشْرِقِ فَأْتِ بِهَا مِنَ الْمَغْرِبِ فَبُهِتَ الّذِي كَفَرَ وَاللّهُ لاَ يَهْدِي الْقَوْمَ الظّالِمِينَ }
يعني تعالى ذكره بذلك : ألم تر يا محمد إلى الذي حاجّ إبراهيم في ربه حين قال له إبراهيم : ربيَ الذي يحيي ويميت ، يعني بذلك : ربي الذي بيده الحياة والموت يحيي من يشاء ويميت من أراد بعد الإحياء ، قال : أنا أفعل ذلك ، فأحيي وأميت ، أستحيي من أردت قتله ، فلا أقتله ، فيكون ذلك مني إحياء له . وذلك عند العرب يسمى إحياء ، كما قال تعالى ذكره : { وَمَنْ أحْيَاها فَكأنّمَا أحْيا النّاسَ جَمِيعا } وأقتل آخر فيكون ذلك مني إماتة له . قال إبراهيم صلى الله عليه وسلم : فإن الله الذي هو ربي يأتي بالشمس من مشرقها ، فأت بها إن كنت صادقا أنك إله من مغربها ! قال الله تعالى ذكره : { فَبُهِتَ الّذِي كَفَرَ } يعني انقطع وبطلت حجته ، يقال منه : بُهت يُبْهَتُ بَهْتا ، وقد حكي عن بعض العرب أنها تقول بهذا المعنى : بَهِتَ ، ويقال : بَهَتّ الرجل إذا افتريت عليه كذبا بَهْتا وَبُهْتانا وبَهَاتةً . وقد روي عن بعض القرءة أنه قرأ : «فَبَهَتَ الّذِي كَفَرَ » بمعنى : فبهت إبراهيم الذي كفر .
وبنحو الذي قلنا في ذلك قال أهل التأويل . ذكر من قال ذلك :
حدثنا بشر ، قال : حدثنا يزيد ، قال : حدثنا سعيد ، عن قتادة في قوله : { إذْ قال إبْرَاهِيمُ رَبيَ الّذِي يُحْيي ويُمِيتُ ، قال أنا أُحْيِي وأُمِيتُ } وذكر لنا أنه دعا برجلين ، فقتل أحدهما ، واستحيا الاَخر ، فقال : أنا أحيي هذا ، أنا أستحيي من شئت ، وأقتل من شئت ، قال إبراهيم عند ذلك : { فإنّ اللّه يَأْتِي بالشّمْسِ مِنَ المَشْرِقِ فَأْتِ بِها مِنَ المَغْرِبِ فَبُهِتَ الّذِي كَفَرَ وَاللّهُ لاَ يَهْدِي القَوْمَ الظّالِمِينَ } .
حدثني المثنى ، قال : حدثنا أبو حذيفة ، قال : حدثنا شبل ، عن ابن أبي نجيح ، عن مجاهد ، قال : أنا أحيي وأميت : أقتل من شئت ، وأستحيي من شئت ، أدعه حيا فلا أقتله . وقال : ملك الأرض مشرقها ومغربها أربعة نفر : مؤمنان ، وكافران ، فالمؤمنان : سليمان بن داود ، وذو القرنين والكافرون : بختنصر ونمروذ بن كنعان ، لم يملكها غيرهم .
حدثنا الحسن بن يحيى ، قال : أخبرنا عبد الرزاق ، قال : أخبرنا معمر ، عن زيد بن أسلم : أول جبار كان في الأرض نمروذ ، فكان الناس يخرجون فيمتارون من عنده الطعام ، فخرج إبراهيم يمتار مع من يمتار ، فإذا مرّ به ناس قال : من ربكم ؟ قالوا : أنت . حتى مرّ إبراهيم ، قال : من ربك ؟ قال : الذي يحيي ويميت ، قال : أنا أحيي وأميت ، { قالَ إبراهيمُ فإنّ اللّهَ يَأتِي بالشّمْسِ مِنَ المَشْرِقِ فَأْتِ بِهَا مِنَ المَغْرِبِ فَبُهِتَ الّذِي كَفَرَ } قال : فردّه بغير طعام . قال : فرجع إبراهيم على أهله فمرّ على كثيب من رمل أعفر ، فقال : ألا آخذ من هذا فآتي به أهلي فتطيب أنفسهم حين أدخل عليهم ؟ فأخذ منه فأتى أهله ، قال : فوضع متاعه ثم نام ، فقامت امرأته إلى متاعه ، ففتحته ، فإذا هي بأجود طعام رأته ، فصنعت له منه ، فقرّبته إليه . وكان عهده بأهله أنه ليس عندهم طعام ، فقال : من أين هذا ؟ قالت : من الطعام الذي جئت به . فعلم أن الله رزقه ، فحمد الله . ثم بعث الله إلى الجبار ملكا أن آمن بي وأتركك على ملكك ! قال : وهل ربّ غيري ؟ فجاءه الثانية ، فقال له ذلك ، فأبى عليه . ثم أتاه الثالثة فأبى عليه ، فقال له الملك : اجمع جموعك إلى ثلاثة أيام ! فجمع الجبار جموعه ، فأمر الله الملك ، ففتح عليه بابا من البعوض ، فطلعت الشمس ، فلم يروها من كثرتها ، فبعثها الله عليهم فأكلت لحومهم ، وشربت دماءهم ، فلم يبق إلى العظام ، والمِلك كما هو لم يصبه من ذلك شيء . فبعث الله عليه بعوضة ، فدخلت في منخره ، فمكث أربعمائة سنة يضرب رأسه بالمطارق ، وأرْحَمُ الناس به من جَمَعَ يديه وضرب بهما رأسه . وكان جبارا أربعمائة عام ، فعذّبه الله أربعمائة سنة كملكه ، ثم أماته الله . وهو الذي بنى صرحا إلى السماء فأتى الله بنيانه من القواعد ، وهو الذي قال الله : { فَأتى اللّهُ بُنْيَانَهُمْ مِنَ القَوَاعِدِ } .
حدثني يونس ، قال : أخبرنا ابن وهب ، قال : أخبرني عبد الرحمن بن زيد بن أسلم في قول الله : { ألَمْ تَرَ إلى الّذِي حاجّ إبْرَاهِيمَ فِي رَبّهِ } قال : هو نمروذ كان بالموصل والناس يأتونه ، فإذا دخلوا عليه ، قال : من ربكم ؟ فيقولون : أنت ، فيقول : ميروهم ! فلما دخل إبراهيم ، ومعه بعير خرج يمتار به لولده قال : فعرضهم كلهم ، فيقول : من ربكم ؟ فيقولون : أنت ، فيقول : ميروهم ! حتى عرض إبراهيم مرّتين ، فقال : من ربك ؟ قال : ربي الذي يحيي ويميت ، قال : أنا أحيي وأميت ، إن شئت قتلتك فأمتك ، وإن شئت استحييتك . { قالَ إبرَاهِيمُ فإنّ اللّهَ يَأْتِي بالشّمْسِ مِنَ المَشْرِقِ فَأْتِ بِها مِنَ المَغْرِبِ فَبُهِتَ الّذِي كَفَرَ وَاللّهُ لاَ يَهْدِي القَوْمَ الظّالِمِينَ } قال : أخرجوا هذا عني فلا تميروه شيئا ! فخرج القوم كلهم قد امتاروا . وجُوَالِقا إبراهيم يصطفقان ، حتى إذا نظر إلى سواد جبال أهله ، قال : ليحزنني صبياي إسماعيل وإسحاق ، لو أني ملأت هذين الجوالقين من هذه البطحاء فذهبت بهما قرّت عينا صبيّيّ ، حتى إذا كان الليل أهرقته . قال : فملأهما ثم خيطهما ، ثم جاء بهما ، فترامى عليهما الصبيان فرحا ، وألقى رأسه في حجر سارة ساعة ، ثم قالت : ما يجلسني ! قد جاء إبراهيم تعبا لغبا ، لو قمت صنعت له طعاما إلى أن يقوم ! قال : فأخذت وسادة فأدخلتها مكانها ، وانسلت قليلاً قليلاً لئلا توقظه . قال : فجاءت إلى إحدى الغِرارتين ففتقتها ، فإذا حوّاري من النقي لم يروا مثله عند أحد قط ، فأخذت منه فطحنته وعجنته . فلما أتت توقظ إبراهيم جاءته حتى وضعته بين يديه ، فقال : أيّ شيء هذا يا سارة ؟ قالت : من جُوالقك ، لقد جئت وما عندنا قليل ولا كثير . قال : فذهب ينظر إلى الجوالق الاَخر فإذا هو مثله ، فعرف من أين ذاك .
حدثني المثنى ، قال : حدثنا إسحاق ، قال : حدثنا ابن أبي جعفر ، عن أبيه ، عن الربيع ، قال : لما قال له إبراهيم : ربي الذي يحيي ويميت ، قال هو ، يعني نمروذ : فأنا أحيي وأميت ، فدعا برجلين ، فاستحياأحدهما ، وقتل الاَخر ، قال : أنا أحيي وأميت ، قال : أي أستحيي من شئت ، فقال إبراهيم : { فإنّ اللّهَ يَأْتِي بالشّمْسِ مِنَ المَشْرِقِ فأْتِ بِها مِنَ المَغْرِبِ فَبُهِتَ الّذِي كَفَرَ وَاللّهُ لاَ يَهْدِي القَوْمَ الظّالِمِينَ } .
حدثني موسى ، قال : حدثنا عمرو ، قال : حدثنا أسباط ، عن السدي ، قال : لما خرج إبراهيم من النار ، أدخلوه على الملك ، ولم يكن قبل ذلك دخل عليه فكلمه ، وقال له : من ربك ؟ قال : ربي الذي يحيي ويميت ، قال نمروذ : أنا أحيي وأميت ، أنا أدخل أربعة نفر بيتا ، فلا يطعمون ولا يسقون ، حتى إذا هلكوا من الجوع أطعمت اثنين وسقيتهما فعاشا ، وتركت اثنين فماتا ! فعرف إبراهيم أن له قدرة بسلطانه وملكه على أن يفعل ذلك . قال له إبراهيم : فإن ربي الذي يأتي بالشمس من المشرق ، فأت بها من المغرب ! فبهت الذي كفر ، وقال : إن هذا إنسان مجنون ، فأخرجوه ! ألا ترون أنه من جنونه اجترأ على آلهتكم فكسرها ، وأن النار لم تأكله ؟ وخشي أن يفتضح في قومه أعني نمروذ وهو قول الله تعالى ذكره : { وَتِلكَ حُجّتُنَا آتَيْنَاها إبْرَاهِيمَ عَلَى قَوْمِهِ } فكان يزعم أنه ربّ . وأمر بإبراهيم فأخرج .
حدثنا القاسم ، قال : حدثنا الحسين ، قال : حدثني حجاج ، عن ابن جريج ، قال : أخبرني عبد الله بن كثير أنه سمع مجاهدا يقول : قال : أنا أحيي وأميت ، أحيي فلا أقتل ، وأميت من قتلت . قال ابن جريج ، كان أتى برجلين ، فقتل أحدهما ، وترك الاَخر ، فقال : أنا أحيي وأميت ، قال : أقتل فأميت من قتلت ، وأحيي ، قال : أستحيي فلا أقتل .
حدثنا ابن حميد ، قال : حدثنا سلمة ، قال : ثني محمد بن إسحاق ، قال : ذكر لنا والله أعلم . أن نمروذ قال لإبراهيم فيما يقول : أرأيت إلهك هذا الذي تعبده ، وتدعو إلى عبادته ، وتذكر من قدرته التي تعظمه بها على غيره ، ما هو ؟ قال له إبراهيم : ربي الذي يحيي ويميت . قال نمروذ : فأنا أحيي وأميت . فقال له إبراهيم : كيف تحيي وتميت ؟ قال : آخذ رجلين قد استوجبا القتل في حكمي ، فأقتل أحدهما فأكون قد أمّته ، وأعفو عن الاَخر فأتركه وأكون قد أحييته . فقال له إبراهيم عند ذلك : فإن الله يأتي بالشمس من المشرق ، فأت بها من المغرب ، أعرفْ أنه كما تقول ! فبهت عند ذلك نمروذ ، ولم يرجع إليه شيئا ، وعرف أنه لا يطيق ذلك . يقول تعالى ذكره : { فَبُهِتَ الّذِي كَفَرَ } يعني وقعت عليه الحجة ، يعني نمروذ
وقوله : { وَاللّهُ لاَ يَهْدِي القَوْمَ الظّالِمِينَ } يقول : والله لا يهدي أهل الكفر إلى حجة يدحضون بها حجة أهل الحق عند المحاجة والمخاصمة ، لأن أهل الباطل حججهم داحضة . وقد بينا أن معنى الظلم : وضع الشيء في غير موضعه ، والكافر : وضع جحوده ما جحد في غير موضعه ، فهو بذلك من فعله ظالم لنفسه . وبنحو الذي قلنا في ذلك قال ابن إسحاق .
حدثنا ابن حميد ، قال : حدثنا سلمة ، قال : ثني محمد بن إسحاق : { وَاللّهُ لاَ يَهْدِي القَوْمَ الظّالِمِينَ } أي لا يهديهم في الحجة عند الخصومة لما هم عليه من الضلالة .
{ ألم تر إلى الذي حاج إبراهيم في ربه } تعجيب من محاجة نمرود وحماقته . { أن آتاه الله الملك } لأن آتاه أي أبطره إيتاء الملك وحمله على المحاجة ، أو حاج لأجله شكرا له على طريقة العكس كقولك عاديتني لأني أحسنت إليك ، أو وقت أن آتاه الله الملك وهو حجة على من منع إيتاء الله الملك الكافر من المعتزلة . { إذ قال إبراهيم } ظرف ل{ حاج } ، أو بدل من { أن آتاه الله الملك } على الوجه الثاني . { ربي الذي يحيي ويميت } بخلق الحياة والموت في الأجساد . وقرأ حمزة " رب " بحذف الياء . { قال أنا أحيي وأميت } بالعفو عن القتل وبالقتل . وقرأ نافع " أنا " بلا ألف . { قال إبراهيم فإن الله يأتي بالشمس من المشرق فأت بها من المغرب } أعرض إبراهيم عليه الصلاة والسلام عن الاعتراض على معارضته الفاسدة إلى الاحتجاج بما لا يقدر فيه على نحو هذا التمويه دفعا للمشاغبة ، وهو في الحقيقة عدول عن مثال خفي إلى مثال جلي من مقدوراته التي يعجز عن الإتيان بها غيره ، لا عن حجة إلى أخرى . ولعل نمروذ زعم أنه يقدر أن يفعل كل جنس يفعله الله فنقضه إبراهيم بذلك ، وإنما حمله عليه بطر الملك وحماقته ، أو اعتقاد الحلول . وقيل لما كسر إبراهيم عليه الصلاة والسلام الأصنام سجنه أياما ثم أخرجه ليحرقه ، فقال له من ربك الذي تدعو إليه وحاجه فيه . { فبهت الذي كفر } فصار مبهوتا . وقرئ { فبهت } أي فغلب إبراهيم الكافر . { والله لا يهدي القوم الظالمين } الذين ظلموا أنفسهم بالامتناع عن قبول الهداية . وقيل لا يهديهم محجة الاحتجاج أو سبيل النجاة ، أو طريق الجنة يوم القيامة .
تفسير مقاتل بن سليمان 150 هـ :
{ألم تر إلى الذي حاج إبراهيم في ربه}: وهو نمروذ بن كنعان...
{أن آتاه الله}: أن أعطاه الله {الملك}، وذلك أن إبراهيم صلى الله عليه وسلم حين كسر الأصنام سجنه نمروذ، ثم أخرجه ليحرقه بالنار، فقال لإبراهيم، عليه السلام: من ربك؟ {إذ قال إبراهيم ربي الذي يحيي ويميت}، وإياه أعبد ومنه أسأل الخير.
{قال} نمروذ {أنا أحيي وأميت}. قال له إبراهيم: أرني بيان الذي تقول، فجاء برجلين فقتل أحدهما، واستحيا الآخر، وقال: كان هذا حيا فأمته، وأحييت هذا ولو شئت قتلته.
{قال إبراهيم فإن الله يأتي بالشمس من المشرق فأت بها من المغرب فبهت} الجبار {الذي كفر} بتوحيد الله عز وجل، يقول: بهت نمروذ الجبار، فلم يدر ما يرد على إبراهيم...
{والله لا يهدي القوم الظالمين}: إلى الحجة.
جامع البيان عن تأويل آي القرآن للطبري 310 هـ :
"ألم تر إلى الذي حاج إبراهيم في ربه أن آتاه الله الملك": ألم تر يا محمد بقلبك الذي حاج إبراهيم، يعني الذي خاصم إبراهيم نبي الله صلى الله عليه وسلم في ربه "أن آتاه الله الملك "يعني بذلك حاجه فخاصمه في ربه لأن الله آتاه الملك. وهذا تعجيب من الله تعالى ذكره نبيه محمدا صلى الله عليه وسلم من الذي حاج إبراهيم في ربه، ولذلك أدخلت "إلى "في قوله "ألم تر إلى الذي حاج" وكذلك تفعل العرب إذا أرادت التعجيب من رجل في بعض ما أنكرت من فعله قالوا: ما ترى إلى هذا؟ والمعنى: هل رأيت مثل هذا؟ أو كهذا؟ وقيل إن الذي حاج إبراهيم في ربه جبار كان ببابل يقال له نمرود بن كنعان.
{إِذْ قَالَ إِبْرَاهِيمُ رَبّيَ الّذِي يُحْيِي وَيُمِيتُ قَالَ أَنَا أُحْيِي وَأُمِيتُ قَالَ إِبْرَاهِيمُ فَإِنّ اللّهَ يَأْتِي بِالشّمْسِ مِنَ الْمَشْرِقِ فَأْتِ بِهَا مِنَ الْمَغْرِبِ فَبُهِتَ الّذِي كَفَرَ وَاللّهُ لاَ يَهْدِي الْقَوْمَ الظّالِمِينَ}: ألم تر يا محمد إلى الذي حاجّ إبراهيم في ربه حين قال له إبراهيم: ربيَ الذي يحيي ويميت، يعني بذلك: ربي الذي بيده الحياة والموت يحيي من يشاء ويميت من أراد بعد الإحياء، قال: أنا أفعل ذلك، فأحيي وأميت، أستحيي من أردت قتله، فلا أقتله، فيكون ذلك مني إحياء له. وذلك عند العرب يسمى إحياء، كما قال تعالى ذكره: {وَمَنْ أحْيَاها فَكأنّمَا أحْيا النّاسَ جَمِيعا} وأقتل آخر فيكون ذلك مني إماتة له. قال إبراهيم صلى الله عليه وسلم: فإن الله الذي هو ربي يأتي بالشمس من مشرقها، فأت بها إن كنت صادقا أنك إله من مغربها! قال الله تعالى ذكره: {فَبُهِتَ الّذِي كَفَرَ} يعني انقطع وبطلت حجته، وقد روي عن بعض القرأة أنه قرأ: «فَبَهَتَ الّذِي كَفَرَ» بمعنى: فبهت إبراهيم الذي كفر. {وَاللّهُ لاَ يَهْدِي القَوْمَ الظّالِمِينَ}: والله لا يهدي أهل الكفر إلى حجة يدحضون بها حجة أهل الحق عند المحاجة والمخاصمة، لأن أهل الباطل حججهم داحضة. وقد بينا أن معنى الظلم: وضع الشيء في غير موضعه، والكافر: وضع جحوده ما جحد في غير موضعه، فهو بذلك من فعله ظالم لنفسه. {وَاللّهُ لاَ يَهْدِي القَوْمَ الظّالِمِينَ}: لا يهديهم في الحجة عند الخصومة لما هم عليه من الضلالة.
تأويلات أهل السنة للماتريدي 333 هـ :
وفيه إباحة التكلم في الكلام والمناظرة فيه والحجاج بقوله: {حاج إبراهيم في ربه} ورد على من يمنع التكلم فيه، لأنا بدعاء الكفرة جميعا إلى وحدانية الله تعالى والإقرار به بذلك والمعرفة أنه كذلك، وكذلك الأنبياء بأجمعهم أمروا، وندبوا إلى دعاء الكفرة إلى شهادة لا إله إلا الله وحده، لا شريك له. فإن دعوناهم إلى ذلك فلا بد من أن يطلبوا منا الدليل على ذلك والبيان عليه والوصف له كما هو. والتقدير عندهم أنه كذا؛ فلا يكون ذلك إلا بعد المناظرة والحجاج فيه. لذلك قلنا: إنه لا بأس بالتكلم والمناظرة فيه... وفيه دلالة على إباحته في التوحيد، وفيه الإذن بالنظر في النظر لأنه حاجة لينظر...
{أن آتاه الله الملك}... {إذ قال إبراهيم ربي الذي يحي ويميت} وكان هذا من إبراهيم عليه السلام والله أعلم، عن سؤال سبق منه أن قال له ذلك الكافر: من ربك الذي تدعوني إليه؟ فقال: {ربي الذي يحي ويميت} وإلا لا يحتمل ابتداء الكلام بهذا على غير سبق سؤال كان منه، وهو ما ذكر في قصة فرعون حين دعاه موسى إلى الإيمان بربه {قال فمن ربكما يا موسى} {قال ربنا الذي أعطى كل شيء خلقه ثم هدى} [طه: 49 و 50]. فعلى ذلك الأول...
{قال أنا أحي وأميت} إنه دعا برجلين، فقتل أحدهما، وترك الآخر، على ما قيل في القصة: {قال إبراهيم} [عليه السلام]: {فإن الله يأتي بالشمس من المشرق فأت بها من المغرب}؛ قال بعض الجدليين: هذا من إبراهيم عليه السلام صرف المحاجة إلى غير ما كان ابتداؤها، ومثله في الظاهر انقطاع وحيد عن الجواب لأن جوابه أن يقول: أنا أفعل كما فعلت، أو أن يقول له: إن هذا الحي كان حيا، ولكن أحي هذا الميت، لكنه صلى الله عليه وسلم فعل هذا [لأمرين]:
[الأول]: ليظهر عجزه على الناس، لأن ذلك كان منه تمويها، و تلبيسا على قومه أخذ قلوبهم، فأراد إبراهيم صلى الله عليه وسلم أن يظهر عليه من الحجة ما هو أظهر وأعجز له وآخذ للقلوب.
والثاني: أراد أن يريه أن هذا مما قدر عليه بغيره إذ الذي لم يجعل له القدرة عليه ثم لم يقدر عليه. ثم لما ثبت عجزه في أحدهما ظهر عجزه في الآخرة، والله اعلم...
النكت و العيون للماوردي 450 هـ :
{قَالَ إِبْرَاهِيمُ: فإنَّ اللهَ يَأْتي بِالشَّمْسِ مِنَ الْمَشْرِقِ فَأْتِ بِهَا مِنَ الْمَغرِبِ}؛ فإن قيل: فَلِمَ عَدَل إبراهيم عن نصرة حجته الأولى إلى غيرها، وهذا يضعف الحجة ولا يليق بالأنبياء؟ ففيه جوابان: أحدهما... أنه لمّا كان في تلك الحجة إشغاب منه بما عارضها به من الشبهة، أحب أن يحتج عليه بما لا إشغاب فيه، قطعاً له واستظهاراً عليه قال: {فإنَّ اللهَ يَأْتي بِالشَّمْسِ مِنَ الْمَشْرِقِ فَأْتِ بِهَا مِنَ الْمَغرِبِ}
فإن قيل فَهَلاَّ عارضه النمرود بأن قال: فليأت بها ربك من المغرب؟ ففيه جوابان:
أحدهما: أن الله خذله بالصرف عن هذه الشبهة.
والجواب الثاني: أنه علم بما رأى معه من الآيات أنه يفعل فخاف أن يزداد فضيحة...
التبيان في تفسير القرآن للطوسي 460 هـ :
البهت: الحيرة عند استيلاء الحجة، لأنها كالحيرة للمواجهة بالكذب، لأن تحير المكذب في مذهبه كتحير المكذوب عليه، ومنه قوله: {أتأخذونه بهتانا وإثما مبينا} كأنه قال أتأخذونه ادعاء للكذب فيه...
{والله لا يهدي القوم الظالمين} لا يعارض قوله: {وأما ثمود فهديناهم فاستحبوا العمى على الهدى} لان الهدى يتصرف على وجوه وأصله واحد وهو الدلالة على الطريق المؤدي إلى البغية والله تعالى قد هدى جميع المكلفين بأن دلهم على طريق الحق وخص المؤمنين في هدايته لهم بالمعونة على سلوك طريق الحق، لأنه بمنزلة الدلالة على طريق الحق والله تعالى لا يهدي للمعونة على بلوغ البغية في فساد القوم الظالمين. وفي الآية دلالة على فساد قول من يقول: المعارف ضرورة، لأنها لو كانت ضرورة لما حاج إبراهيم الكافر، ولا ذكر له الدلالة على إثبات الصانع، وفيها دلالة على فساد التقليد وحسن المحاجة والجدال، لأنه لو كان ذلك غير جائز لما فعل إبراهيم (ع) ذلك...
لطائف الإشارات للقشيري 465 هـ :
وإن الحق سبحانه أخبر أن إبراهيم عليه السلام انتقل مع العدو اللعين من الحجة الصحيحة إلى أخرى، أَوْضَحَ منها -لا لِخَلَلٍ في الحجة- ولكنْ لقصورٍ في فهم الكافر، ومحكُّ مَنْ سُدَّتْ بصائره عن التحقيق تضييعُ الوقت بلا فائدة تُجدِي، لا بمقدار ما يكون من الحاجة لأمرٍ لا بُدَّ منه...
جهود الإمام الغزالي في التفسير 505 هـ :
147- اعلم أن الميزان الأكبر هو ميزان الخليل صلوات الله عليه وسلامه، الذي استعمله مع نمرود، فمنه تعلمنا هذا الميزان، لكن بواسطة القرآن...
الكشاف عن حقائق التنزيل للزمخشري 538 هـ :
{أَلَمْ تَرَ} تعجيب من محاجة نمرود في الله وكفره به {أَنْ آتاه الله الملك} متعلق بحاجَّ على وجهين:
أحدهما حاجّ لأن آتاه الله الملك، على معنى أن إيتاء الملك أبطره وأورثه الكبر والعتوَّ فحاجّ لذلك، أو على أنه وضع المحاجة في ربه موضع ما وجب عليه من الشكر على أن آتاه الله الملك، فكأن المحاجة كانت لذلك، كما تقول: عاداني فلان لأني أحسنت إليه، تريد أنه عكس ما كان يجب عليه من الموالاة لأجل الإحسان. ونحوه قوله تعالى: {وَتَجْعَلُونَ رِزْقَكُمْ أَنَّكُمْ تُكَذّبُونَ} [الواقعة: 82].
والثاني: حاجّ وقت أن آتاه الله الملك. فإن قلت: كيف جاز أن يؤتي الله الملك الكافر؟ قلت: فيه قولان: آتاه ما غلب به وتسلط من المال والخدم والأتباع، وأما التغليب والتسليط فلا. وقيل: ملكه امتحاناً لعباده.
و {إِذْ قَالَ} نصب بحاج أو بدل من آتاه إذ جعل بمعنى الوقت {أَنَاْ أُحْيي وَأُمِيتُ} يريد أعفو عن القتل وأقتل. وكان الاعتراض عتيداً ولكن إبراهيم لما سمع جوابه الأحمق لم يحاجه فيه، ولكن انتقل إلى ما لا يقدر فيه على نحو ذلك الجواب ليبهته أول شيء. وهذا دليل على جواز الانتقال للمجادل من حجة إلى حجة.
المحرر الوجيز في تفسير الكتاب العزيز لابن عطية 542 هـ :
{والله لا يهدي القوم الظالمين}، إخبار لمحمد عليه السلام وأمته... والمعنى: لا يرشدهم في حججهم على ظلمهم، لأنه لا هدى في الظلم، فظاهره العموم، ومعناه الخصوص، كما ذكرنا، لأن الله قد يهدي الظالمين بالتوبة والرجوع إلى الإيمان. ويحتمل أن يكون الخصوص فيمن يوافي ظالماً
اعلم أنه تعالى ذكر ههنا قصصا ثلاثة: الأولى: منها في بيان إثبات العلم بالصانع، والثانية والثالثة: في إثبات الحشر والنشر والبعث...
المسألة الثانية: دليل إبراهيم عليه السلام كان في غاية الصحة، وذلك لا سبيل إلى معرفة الله تعالى إلا بواسطة أفعاله التي لا يشاركه فيها أحد من القادرين، والإحياء والإماتة كذلك، لأن الخلق عاجزون عنهما...
أما قوله تعالى: {فبهت الذي كفر} فالمعنى: فبقي مغلوبا لا يجد مقالا، ولا للمسألة جوابه، وهو كقوله {بل تأتيهم بغتة فتبهتهم فلا يستطيعون ردها} [الأنبياء: 40]...
{والله لا يهدى القوم الظالمين}... اللائق بسياق الآية أن يقال إنه تعالى لما بين أن الدليل كان قد بلغ في الظهور والحجة إلى حيث صار المبطل كالمبهوت عند سماعه إلا أن الله تعالى لما لم يقدر له الاهتداء لم ينفعه ذلك الدليل الظاهر، ونظير هذا التفسير قوله {ولو أننا نزلنا إليهم الملائكة وكلمهم الموتى وحشرنا عليهم كل شيء قبلا ما كانوا ليؤمنوا إلا أن يشاء الله} [الأنعام: 111]...
الجامع لأحكام القرآن للقرطبي 671 هـ :
هذه الآية تدل على... إثبات المناظرة والمجادلة وإقامة الحجة. وفي القرآن والسنة من هذا كثير لمن تأمله، قال الله تعالى:"قل هاتوا برهانكم إن كنتم صادقين" [البقرة: 111]. "إن عندكم من سلطان "[يونس: 68] أي من حجة. وقد وصف خصومة إبراهيم عليه السلام قومه ورده عليهم في عبادة الأوثان كما في سورة [الأنبياء] وغيرها. وقال في قصة نوح عليه السلام: "قالوا يا نوح قد جادلتنا فأكثرت جدالنا" [هود: 32] الآيات إلى قوله: "وأنا بريء مما تجرمون" [هود: 35]. وكذلك مجادلة موسى مع فرعون إلى غير ذلك من الآي. فهو كله تعليم من الله عز وجل السؤال والجواب والمجادلة في الدين؛ لأنه لا يظهر الفرق بين الحق والباطل إلا بظهور حجة الحق ودحض حجة الباطل. وجادل رسول الله صلى الله عليه وسلم أهل الكتاب وباهلهم بعد الحجة، على ما يأتي بيانه في "آل عمران". وتحاج آدم وموسى فغلبه آدم بالحجة. وتجادل أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم يوم السقيفة وتدافعوا وتقرروا وتناظروا حتى صدر الحق في أهله، وتناظروا بعد مبايعة أبي بكر في أهل الردة، إلى غير ذلك مما يكثر إيراده. وفي قول الله عز وجل:"فلم تحاجون فيما ليس لكم به علم "[آل عمران: 66] دليل على أن الاحتجاج بالعلم مباح شائع لمن تدبر. قال المزني صاحب الشافعي: ومن حق المناظرة أن يراد بها الله عز وجل وأن يقبل منها ما تبين. وقالوا: لا تصح المناظرة ويظهر الحق بين المتناظرين حتى يكونوا متقاربين أو مستويين في مرتبة واحدة من الدين والعقل والفهم والإنصاف، وإلا فهو مراء ومكابرة...
وبَهُت الرجل وبَهِت وبُهت إذا انقطع وسكت متحيراً؛ عن النحاس وغيره
أنوار التنزيل وأسرار التأويل للبيضاوي 685 هـ :
{قال إبراهيم فإن الله يأتي بالشمس من المشرق فأت بها من المغرب} أعرض إبراهيم عليه الصلاة والسلام عن الاعتراض على معارضته الفاسدة إلى الاحتجاج بما لا يقدر فيه على نحو هذا التمويه دفعا للمشاغبة، وهو في الحقيقة عدول عن مثال خفي إلى مثال جلي من مقدوراته التي يعجز عن الإتيان بها غيره، لا عن حجة إلى أخرى...
البحر المحيط لأبي حيان الأندلسي 745 هـ :
{ألم تر إلى الذي حاج إبراهيم في ربه أن آتاه الله الملك} مناسبة هذه الآية لما قبلها أنه تعالى: لما أخبر أنه ولي الذين آمنوا، وأخبر: أن الكفار أولياؤهم الطاغوت، ذكر هذه القصة التي جرت بين إبراهيم والذي حاجه، وانه ناظر ذلك الكافر فغلبه وقطعه، إذ كان الله وليه، وانقطع ذلك الكافر وبهت إذ كان وليه هو الطاغوت: {ألا ان حزب الله هم الغالبون} {ألا ان حزب الله هم المفلحون} فصارت هذه القصة مثلاً للمؤمن والكافر اللذين تقدّم ذكرهما...
نظم الدرر في تناسب الآيات و السور للبقاعي 885 هـ :
لما ذكر ما له سبحانه وتعالى من الإحاطة والعظمة وأتبعه أمر الإيمان وتوليه حزبه وأمر الكفران وخذلانه أهله أخذ يدل على ذلك بقصة المحاج للخليل والمار على القرية مذكراً بقصة الذين قال لهم موتوا ثم أحياهم في سياق التعجيب من تلك الجرأة – قال الحرالي: ولما كان ما أظهره الحق في آية عظمته وما اتصل بها في خاصة عباده اختص هذا الخطاب بالنبي صلى الله عليه وسلم لعلو مفهوم مغزاه عمن دونه... – فقال تعالى: {ألم تر} أي تعلم بما نخبرك به علماً هو عندك كالمشاهدة لما لك من كمال البصيرة وبما أودعناه فيك من المعاني المنيرة.
ولما كان هذا المحاج بعيداً من الصواب كثيف الحجاب أشار إلى بعده بحرف الغاية فقال: {إلى الذي حآج إبراهيم} أي الذي هو أبو العرب وهم أحق الناس بالاقتداء به {في ربه} الضمير يصح أن يعود على كل منهما أي فيما يختص به خالقه المربي له المحسن إليه بعد وضوح هذه الأدلة وقيام هذه البراهين إشارة إلى أنه سبحانه أوضح على لسان كل نبي أمره وبين عظمته وقدره مع أنه ركز ذلك في جميع الفطر وقادها إلى بحور جلاله بأدنى نظر فكأن نمرود المحاج للخليل ممن أخرجته الشياطين من النور إلى الظلمات.
ولما كان ذلك أمراً باهراً معجباً بين أن علته الكبر الذي أشقى إبليس فقال: {أن} أي لأجل أن {آتاه الله} أي الملك الأعلى بفيض فضله {الملك} الفاني في الدنيا الدنيئة، فجعل موضع ما يجب عليه من شكر من ملكه ذلك محاجته فيه وكبره رغم عليه، وعرفه إشارة إلى كماله بالنسبة إلى الآدميين بالحكم على جميع الأرض... قال الحرالي: وفي إشعاره أن الملك فتنة وبلاء على من أوتيه... فتكبر بما خوله الله فيه على عباد الله وهم يطيعونه لما مكّن الله له من الأسباب إلى أن رسخت قدمه في الكبر المختص بالملك الأعظم مالك الملك ومبيد الملوك فظن جهلاً أنه أهل له.
ولما أخبر سبحانه وتعالى بمحاجته بين ما هي تقريراً لآية {فقال لهم الله موتوا ثم أحياهم} [البقرة: 243] دلالة على البعث ليوم لا بيع فيه ولا خلة ولا شفاعة فقال: {إذ} أي حاجه حين {قال إبراهيم ربي} أي الذي أحسن إليّ بخلقي وإدامة الهداية لي {الذي يحيي ويميت} أي وحده، وهذه العبارة تدل على تقدم كلام في هذا وادعاء أحد لمشاركة في هذه الصفة.
ولما كان كأنه قيل: هذا أمر ظاهر مجمع عليه فما ذا الذي يحاج المحاج فيه؟ أجيب بقوله: {قال} أي ذلك المحاج بجرأة وعدم تأمل لما ألفه من ذل الناس له وطواعيتهم لجبروته {أنا} أي أيضاً {أحيي وأميت} بأن أمُنَّ على من استحق القتل وأقتل من لا يستحق القتل...
فلما رأى إبراهيم عليه الصلاة والسلام أنه قد اجترأ على عظيم وأن محاجته في نفس الإحياء ربما خفيت أو طالت رأى أن يعجل إبهاته مع بيان حقارته بما هو أجلى من ذلك، وفيه أنه دون ما ادعاه بمراتب لأن الإحياء إفاضة الروح على صورة بعد إيجادها من العدم بأن {قال إبراهيم}
قال الحرالي: ولما كان من حسن الاحتجاج ترك المراء بمتابعة الحجة الملبسة كما قال تعالى {فلا تمار فيهم إلا مراء ظاهراً} [الكهف: 53] نقل المحاج من الحجة الواقعة في الأنفس إلى الحجة الواقعة في الآفاق بأعظم كواكبها الشمس {سنريهم آياتنا في الآفاق وفي أنفسهم} [فصلت: 53] ففي ظاهر الاحتجاج انتقال وفي طيه تقرير الأول لأن الروح شمس البدن فكأنه ضرب مثل من حيث إن الإحياء إنما هو أن يؤتى بشمس الروح من حيث غربت فكان في ظاهر واستقبال حجة قاطعة باطنه تتميم للحجة الأولى قال تعالى: {فإن} بالفاء الرابطة بين الكلامين إشعاراً لتتمة الحجة الأولى بالحجة الثانية... أي تسبب عن دعواك هذه أن أقول لك: إن {الله} بما له من العظمة والجلال باستجماع صفات الكمال {يأتي بالشمس} أي وهو الذي أوجدها {من المشرق} أي في كل يوم من قبل أن توجد أنت بدهور {فأت بها} أنت {من المغرب} ولو يوماً واحداً.
قال الحرالي: إظهاراً لمرجع العالم بكليته إلى واحد، وأن قيوم الإنسان في الإحياء والإماتة هو قيوم الآفاق في طلوع الشمس وغروبها، وفي لحنه إشعار بأن الله سبحانه وتعالى لا بد وأن يأتي بالشمس من المغرب ليكون في ذلك إظهار تصريفه لها حيث شاء حتى يطلعها من حيث غربت كما يطلع الروح من حيث قبضت ليكون طلوع الشمس من مغربها آية مقاربة قيام الساعة وطلوع الأرواح من أبدانها...
{فبهت} قال الحرالي: من البهت وهو بقاء الشيء على حاله وصورته لا يتغير عنها لأمر يبهره وقعه أي فتسبب عن ذلك أنه بهت {الذي كفر} أي حصل له الكفر بتلك الدعوى التي لزمه بها إنكاره لاختصاصه سبحانه وتعالى بالقدرة على ذلك وادعاؤه لنفسه الشركة، فبين له الخليل عليه الصلاة والسلام بهذا المثال أنه عاجز عن تحويل صورة صورها الله سبحانه وتعالى ووضعها في جهة إلى غير تلك الجهة فكيف له بأن يوجد صورة من العدم فكيف ثم كيف بإفاضة الروح عليها فكيف بالروح الحساسة فكيف بالروح الناطقة! وسيأتي لهذا الشأن في سورة الشعراء مزيد بيان، فيالله ما أعلى مقامات الأنبياء! وما أصفى بصائرهم! وما أسمى درجاتهم وأزكى عناصرهم! عليهم أجمعين مني أعظم الصلاة والسلام وأعلى التحية والإكرام. قال الحرالي: فعرفه أي في قوله: {كفر} بوصفه من حيث دخل عليه البهت منه... أي لأنه ستر ما يعلمه من عجز نفسه وقدرة خالقه، فكشف سبحانه وتعالى بلسان خليله صلى الله عليه وسلم الستر الذي أرخاه كشفاً واضحاً وهتكه بعظيم البيان هتكاً فاضحاً. ولما كان التقدير: لأنه ظلم في ادعائه ذلك وفي الوجه الذي ادعى ذلك بسبه من قتل البريء وترك المجترىء، قال سبحانه وتعالى: {والله} أي الذي لا أمر لأحد معه {لا يهدي القوم} أي الذين أعطاهم قوة المقاومة للأمور {الظالمين *} عامة لوضعهم الأشياء بإرادته وتقديره في غير مواضعها، لأنه أظلم قلوبهم فجعلها أحلك من الليل الحالك فلم يبق لهم ذلك وجهاً ثابتاً يستمسكون به، فأين منهم الهداية وقد صاروا بمراحل عن مواطن أهل العناية! وقصر فعل الهداية لإفادة العموم، قال الإمام: فاختصر اللفظ إفادة لزيادة المعنى وهو من اللطائف القرآنية...
إرشاد العقل السليم إلى مزايا الكتاب الكريم لأبي السعود 982 هـ :
{أَلَمْ تَرَ إِلَى الذي حَاجَّ إبراهيم فِي رِبّهِ} استشهادٌ على ما ذكر من أن الكفَرةَ أولياؤُهم الطاغوتُ وتقريرٌ له على طريقة قوله تعالى: {أَلَمْ تَرَ أَنَّهُمْ فِي كُلّ وَادٍ يَهِيمُونَ} [الشعراء، الآية 225] كما أن ما بعده استشهاد على ولايته تعالى للمؤمنين وتقريرٌ لها وإنما بُدئ بهذا لرعاية الاقترانِ بينه وبين مدلولِه ولاستقلاله بأمر عجيبٍ حقيق بأن يُصدَّر به المقالُ وهو اجتراؤه على المُحاجّة في الله عز وجل وما أتى بها في أثنائها من العظيمة المنادية بكمال حماقته ولأن فيما بعده تعدداً وتفصيلاً يورث تقديمُه انتشار النظم على أنه قد أشير في تضاعيفه إلى هداية الله تعالى أيضاً بواسطة إبراهيمَ عليه السلام فإنه يحكى عنه من الدعوة إلى الحق وإدحاضِ حجةِ الكافر من آثار ولايته تعالى، وهمزةُ الاستفهامِ لإنكار النفي وتقريرِ المنفي أي ألم تنظُرْ أو ألم ينتهِ علمُك إلى هذا الطاغوت المارد كيف تصدى لإضلال الناس وإخراجهم من النور إلى الظلمات أي قد تحققت الرؤيةُ وتقرَّرت بناءً على أن أمره من الظهور بحيث لا يكاد يخفى على أحد ممن له حظٌّ من الخطاب فظهر أن الكفَرةَ أولياؤُهم الطاغوتُ وفي التعرض لعنوان الربوبية مع الإضافة إلى ضميره عليه السلام تشريفٌ له وإيذانٌ بتأييده في المُحاجة...
{والله لاَ يَهْدِي القوم الظالمين} تذييلٌ مقرِّر لمضمون ما قبله أي لا يهدي الذين ظلموا أنفسَهم بتعريضها للعذاب المخلد بسبب إعراضِهم عن قبول الهداية إلى مناهج الاستدلالِ أو إلى سبيل النجاة أو إلى طريق الجنةِ يوم القيامة...
تفسير المنار لرشيد رضا 1354 هـ :
{ألم تر إلى الذي حاج إبراهيم في ربه} للتعجيب من هذه المحاجة وغرور صاحبها وغباوته مع الإنكار.
.. وقد فهم نمرود على طغيانه وغروره من الحجة ما لا يفهم هؤلاء القائلون. فهم أن مراد إبراهيم أن هذا النظام في سير الشمس لا بد له من فاعل حكيم إذ لا يكون مثله بالمصادفة والاتفاق وإن ربي الذي أعبده هو ذلك الفاعل الحكيم الذي قضت حكمته بأن تكون الشمس على ما نرى.
ولما رأى إبراهيم أنه لم يفهم أن مراده بالذي يحيي ويميت مصدر التكوين الذي يحيا كل حي بإحيائه ويموت بقطع إمداده له بالحياة {قال إبراهيم فإن الله يأتي بالشمس من المشرق فات بها من المغرب} فهذا إيضاح لقوله الأول وإزالة لشبهة الخصم لا أنه جواب كما فهم الجلال وغيره والمعنى أن ربي الذي يعطي الحياة ويسلبها بقدرته وحكمته هو الذي يطلع الشمس من المشرق أي هو المكون لهذه الكائنات بهذا النظام والسنن الحكيمة التي نشاهدها عليها. فإن كنت تفعل كما يفعل فغير لنا نظام طلوع الشمس وائت بها من الجهة المقابلة للجهة التي جرت سنته تعالى بظهورها منها {فبهت الذي كفر} أي أدركته الحيرة وأخذه الحصر من نصوع الحجة وسطوعها فلم يحر جوابا.
{والله لا يهدي القوم الظالمين}. قال الأستاذ الإمام: هذا ترشيح للكلام والمراد بالظلم في هذا المقام الإعراض عن النور الإلهي وهو نور العقل الذي يسير به المرء في طريق الدين فمن ظلم نفسه بإطفاء هذا المصباح فسار يتخبط في الظلمات فإنه لا يهتدي في سيره إلى الصراط المستقيم الموصل إلى السعادة بل يضل عنه حتى يهلك دون غاية.
تيسير الكريم المنان في تفسير القرآن لابن سعدي 1376 هـ :
في هذه الآية برهان قاطع على تفرد الرب بالخلق والتدبير، ويلزم من ذلك أن يفرد بالعبادة والإنابة والتوكل عليه في جميع الأحوال، قال ابن القيم رحمه الله: وفي هذه المناظرة نكتة لطيفة جدا، وهي أن شرك العالم إنما هو مستند إلى عبادة الكواكب والقبور، ثم صورت الأصنام على صورها، فتضمن الدليلان اللذان استدل بهما إبراهيم إبطال إلهية تلك جملة بأن الله وحده هو الذي يحيي ويميت، ولا يصلح الحي الذي يموت للإلهية لا في حال حياته ولا بعد موته، فإن له ربا قادرا قاهرا متصرفا فيه إحياء وإماتة، ومن كان كذلك فكيف يكون إلها حتى يتخذ الصنم على صورته، ويعبد من دونه، وكذلك الكواكب أظهرها وأكبرها للحس هذه الشمس وهي مربوبة مدبرة مسخرة، لا تصرف لها بنفسها بوجه ما، بل ربها وخالقها سبحانه يأتي بها من مشرقها فتنقاد لأمره ومشيئته، فهي مربوبة مسخرة مدبرة، لا إله يعبد من دون الله. "من مفتاح دار السعادة"...
في ظلال القرآن لسيد قطب 1387 هـ :
هذه الآيات الثلاث تتناول موضوعا واحدا في جملته:سر الحياة والموت، وحقيقة الحياة والموت. وهي بهذا تؤلف جانبا من جوانب التصور الإسلامي؛ يضاف إلى القواعد التي قررتها الآيات السابقة منذ مطلع هذا الجزء؛ وتتصل اتصالا مباشرا بآية الكرسي وما قررته من صفات الله تعالى.. وهي جميعا تمثل جانبا من جوانب الجهد الطويل المتجلي في القرآن الكريم لإنشاء التصور الصحيح لحقائق هذا الوجود في ضمير المسلم وفي إدراكه. الأمر الذي لا بد منه للإقبال على الحياة بعد ذلك إقبالا بصيرا، منبثقا من الرؤية الصحيحة الواضحة، وقائما على اليقين الثابت المطمئن. فنظام الحياة ومنهج السلوك وقواعد الأخلاق والآداب.. ليست بمعزل عن التصور الاعتقادي؛ بل هي قائمة عليه، مستمدة منه. وما يمكن أن تثبت وتستقيم ويكون لها ميزان مستقر إلا أن ترتبط بالعقيدة، وبالتصور الشامل لحقيقة هذا الوجود وارتباطاته بخالقه الذي وهبه الوجود.. ومن ثم هذا التركيز القوي على إيضاح قواعد التصور الاعتقادي الذي استغرق القرآن المكي كله؛ وما يزال يطالع الناس في القرآن المدني بمناسبة كل تشريع وكل توجيه في شؤون الحياة جميعا.
والآية الأولى تحكي حوارا بين إبراهيم -عليه السلام- وملك في أيامه يجادله في الله. لا يذكر السياق اسمه، لأن ذكر اسمه لا يزيد من العبرة التي تمثلها الآية شيئا. وهذا الحوار يعرض على النبي [ص] وعلى الجماعة المسلمة في أسلوب التعجيب من هذا المجادل، الذي حاج إبراهيم في ربه؛ وكأنما مشهد الحوار يعاد عرضه من ثنايا التعبير القرآني العجيب...
فإن الله يأتي بالشمس من المشرق فأت بها من المغرب. فبهت الذي كفر. والله لا يهدي القوم الظالمين).. إن هذا الملك الذي حاج إبراهيم في ربه لم يكن منكرا لوجود الله أصلا إنما كان منكرا لوحدانيته في الألوهية والربوبية ولتصريفه للكون وتدبيره لما يجري فيه وحده، كما كان بعض المنحرفين في الجاهلية يعترفون بوجود الله ولكنهم يجعلون له اندادا ينسبون إليها فاعلية وعملا في حياتهم! وكذلك كان منكرا أن الحاكمية لله وحده، فلا حكم إلا حكمه في شؤون الأرض وشريعة المجتمع... إن هذا الملك المنكر المتعنت إنما ينكر ويتعنت للسبب الذي كان ينبغي من أجله أن يؤمن ويشكر. هذا السبب هو (أن آتاه الله الملك).. وجعل في يده السلطان! لقد كان ينبغي أن يشكر ويعترف، لولا أن الملك يطغي ويبطر من لا يقدرون نعمة الله، ولا يدركون مصدر الإنعام. ومن ثم يضعون الكفر في موضع الشكر؛ ويضلون بالسبب الذي كان ينبغي أن يكونوا به مهتدين! فهم حاكمون لأن الله حكمهم، وهو لم يخولهم استعباد الناس بقسرهم على شرائع من عندهم. فهم كالناس عبيد لله، يتلقون مثلهم الشريعة من الله، ولا يستقلون دونه بحكم ولا تشريع فهم خلفاء لا أصلاء!... ومن ثم يعجب الله من أمره وهو يعرضه على نبيه: {ألم تر إلى الذي حاج إبراهيم في ربه أن آتاه الله الملك؟}..
ألم تر؟ إنه تعبير التشنيع والتفظيع؛ وإن الإنكار والاستنكار لينطلقان من بنائه اللفظي وبنائه المعنوي سواء. فالفعلة منكرة حقا: أن يأتي الحجاج والجدال بسبب النعمة والعطاء! وأن يدعي عبد لنفسه ما هو من اختصاص الرب، وأن يستقل حاكم بحكم الناس بهواه دون أن يستمد قانونه من الله.
{قال إبراهيم: ربي الذي يحيي ويميت}.. والإحياء والإماتة هما الظاهرتان المكرورتان في كل لحظة، المعروضتان لحس الإنسان وعقله. وهما -في الوقت نفسه- السر الذي يحير، والذي يلجئ الإدراك البشري الجاء إلى مصدر آخر غير بشري. وإلى أمر آخر غير أمر المخاليق. ولا بد من الالتجاء إلى الألوهية القادرة على الإنشاء والإفناء لحل هذا اللغز الذي يعجز عنه كل الأحياء. إننا لا نعرف شيئا عن حقيقة الحياة وحقيقة الموت حتى اللحظة الحاضرة. ولكننا ندرك مظاهرهما في الأحياء والأموات. ونحن ملزمون أن نكل مصدر الحياة والموت إلى قوة ليست من جنس القوى التي نعرفها على الإطلاق.. قوة الله...
ومن ثم عرف إبراهيم -عليه السلام- ربه بالصفة التي لا يمكن أن يشاركه فيها أحد، ولا يمكن أن يزعمها أحد، وقال وهذا الملك يسأله عمن يدين له بالربوبية ويراه مصدر الحكم والتشريع غيره.. {قال: ربي الذي يحيي ويميت} فهو من ثم الذي يحكم ويشرع. وما كان إبراهيم -عليه السلام- وهو رسول موهوب تلك الموهبة اللدنية التي أشرنا إليها في مطلع هذا الجزء -ليعني من الأحياء والإماتة إلا إنشاء هاتين الحقيقتين إنشاء. فذلك عمل الرب المتفرد الذي لا يشاركه فيه أحد من خلقه. ولكن الذي حاج إبراهيم في ربه رأى في كونه حاكما لقومه وقادرا على إنفاذ أمره فيهم بالحياة والموت مظهرا من مظاهر الربوبية. فقال لإبراهيم: أنا سيد هؤلاء القوم وأنا المتصرف في شأنهم، فأنا إذن الرب الذي يجب عليك أن تخضع له، وتسلم بحاكميته: {قال: أنا أحيي وأميت}!... عند ذلك لم يرد إبراهيم- عليه السلام -أن يسترسل في جدل حول معنى الإحياء والإماتة مع رجل يماري ويداور في تلك الحقيقة الهائلة. حقيقة منح الحياة وسلبها. هذا السر الذي لم تدرك منه البشرية حتى اليوم شيئا.. وعندئذ عدل عن هذه السنة الكونية الخفية، إلى سنة أخرى ظاهرة مرئية؛ وعدل عن طريقة العرض المجرد للسنة الكونية والصفة الإلهية في قوله: (ربي الذي يحيي ويميت).. إلى طريقة التحدي، وطلب تغيير سنة الله لمن ينكر ويتعنت ويجادل في الله؛ ليريه أن الرب ليس حاكم قوم في ركن من الأرض، إنما هو مصرف هذا الكون كله. ومن ربوبيته هذه للكون يتعين أن يكون هو رب الناس المشرع لهم: {قال إبراهيم: فإن الله يأتي بالشمس من المشرق فأت بها من المغرب}... وهي حقيقة كونية مكرورة كذلك؛ تطالع الأنظار والمدارك كل يوم؛ ولا تتخلف مرة ولا تتأخر. وهي شاهد يخاطب الفطرة- حتى ولو لم يعرف الإنسان شيئا عن تركيب هذا الكون، ولم يتعلم شيئا من حقائق الفلك ونظرياته -والرسالات تخاطب فطرة الكائن البشري في أية مرحلة من مراحل نموه العقلي والثقافي والاجتماعي، لتأخذ بيده من الموضع الذي هو فيه. ومن ثم كان هذا التحدي الذي يخاطب الفطرة كما يتحدث بلسان الواقع الذي لا يقبل الجدل:
{فبهت الذي كفر}... فالتحدي قائم، والأمر ظاهر، ولا سبيل إلى سوء الفهم، أو الجدال والمراء.. وكان التسليم أولى والإيمان أجدر. ولكن الكبر عن الرجوع إلى الحق يمسك بالذي كفر، فيبهت ويبلس ويتحير. ولا يهديه الله إلى الحق لأنه لم يتلمس الهداية، ولم يرغب في الحق؛ ولم يلتزم القصد والعدل:
{والله لا يهدي القوم الظالمين}.. ويمضي هذا الجدل الذي عرضه الله على نبيه [ص] وعلى الجماعة المسلمة. مثلا للضلال والعناد؛ وتجربة يتزود بها أصحاب الدعوة الجدد في مواجهة المنكرين؛ وفي ترويض النفوس على تعنت المنكرين! كذلك يمضي بتقرير تلك الحقائق التي تؤلف قاعدة التصور الإيماني الناصع: (ربي الذي يحيي ويميت)...
. (فإن الله يأتي بالشمس من المشرق فأت بها من المغرب!).. حقيقة في الأنفس وحقيقة في الآفاق. حقيقتان كونيتان هائلتان؛ وهما- مع ذلك -مكرورتان معروضتان للبصائر والأبصار آناء الليل وأطراف النهار. لا تحتاجان إلى علم غزير، ولا إلى تفكير طويل. فالله أرحم بعباده أن يكلهم في مسألة الإيمان به والاهتداء إليه، إلى العلم الذي قد يتأخر وقد يتعثر، وإلى التفكير الذي قد لا يتهيأ للبدائيين. إنما يكلهم في هذا الأمر الحيوي الذي لا تستغني عنه فطرتهم، ولا تستقيم بدونه حياتهم، ولا ينتظم مع فقدانه مجتمعهم.. ولا يعرف الناس بدونه من أين يتلقون شريعتهم وقيمهم وآدابهم.. يكلهم في هذا الأمر إلى مجرد التقاء الفطرة بالحقائق الكونية المعروضة على الجميع، والتي تفرض نفسها فرضا على الفطرة، فلا يحيد الإنسان عن إيحائها الملجئ إلا بعسر ومشقة ومحاولة ومحال وتعنت وعناد!...
والشأن في مسألة الاعتقاد هو الشأن في كل أمر حيوي تتوقف عليه حياة الكائن البشري. فالكائن الحي يبحث عن الطعام والشراب والهواء- كما يبحث عن التناسل والتكاثر -بحثا فطريا، ولا يترك الأمر في هذه الحيويات حتى يكمل التفكير وينضج، أو حتى ينمو العلم ويغزر.. وإلا تعرضت حياة الكائن الحي إلى الدمار والبوار.. والإيمان حيوي للإنسان حيوية الطعام والشراب والهواء سواء بسواء. ومن ثم يكله الله فيه إلى تلاقي الفطرة بآياته المبثوثة في صفحات الكون كله في الأنفس والآفاق...
التحرير والتنوير لابن عاشور 1393 هـ :
جرى هذا الكلام مجرى الحجة على مضمون الجملة الماضية أو المثالِ لها؛ فإنّه لما ذكر أنّ الله يخرج الذين آمنوا من الظلمات إلى النور وأنّ الطاغوت يخرجون الذين كفروا من النور إلى الظلمات، ساق ثلاثة شواهد على ذلك هذا أولها وأجمعها لأنّه اشتمل على ضلال الكافر وهدى المؤمن، فكان هذا في قوّة المثال. والمقصود من هذا تمثيل حال المشركين في مجادلتهم النبي صلى الله عليه وسلم في البعث بحال الذي حاجّ إبراهيم في ربه.. فمعنى {الذي حاجّ إبراهيم} أنّه خاصمه خصاماً باطلاً في شأن صفات الله ربّ إبراهيم.
والآية دليل على جواز المجادلة والمناظرة في إثبات العقائد، والقرآن مملوء بذلك، وأما ما نهي عنه من الجدل فهو جدال المكابرة والتعصّب وترويج الباطل والخطأ.
زهرة التفاسير - محمد أبو زهرة 1394 هـ :
وخلاصة المعنى: لقد عرفت هذه القصة بالخبر القرآني اليقيني معرفة واضحة جلية بينة كأنها في تعينها ووضوحها المعرفة بطريق الرؤية البصرية والنظر، وهذا على أن رأى بمعنى أبصر. وإن كانت رأى بمعنى علم فالمعنى: تأمل وانظر بعين بصيرتك وادرس حال تلك النفس الطاغية التي تحمل الناس على الظلمات بطغيانها، وإذا تأملتها علمت أيها المكلف أو أيها القارئ للقرآن إلى أي مدى يصل الطغيان من الظلمات والضلالات...
و الفاء في قوله تعالى:"فإن الله يأتي" هي فاء الإفصاح التي تفصح عن شرط مقدر وتقدير القول: إذا كنت تدعي الألوهية أو الربوبية فأظهر أمارات قدرتك وسلطانك على الكون بأن تأتي بالشمس من جهة غروبها الآن بدل أن تخرج من جهة شروقها، والمعنى أن ذلك الكون قد خلق على نظام محكم، وأحكم تنسيقه بنظم قدرها منشئه، وأمارة قدرتك أن تغير هذه النظم فافعل إن كنت قديرا، فليست القدرة في أن تدعي إنشاء نظام وجد قبل أن توجد أنت وأشباهك من الطغاة، إنما القدرة تكون في تغييره، فافعل هذا التغيير. وما كان ذلك في قدرته لأنه ضال مضل، ولذا حكى الله سبحانه وتعالى حاله في قوله: {فبهت الذي كفر} أي تحير واضطرب ولم يجد جوابا ولم يستطع أن يتكلم قليلا أو كثيرا. وقد عبر عنه بقوله: {الذي كفر} للإشارة إلى أن سبب الحيرة هو كفره، إذ لو كان طالب هداية لكانت الحجة القاطعة الملزمة هادية بدل أن تكون محيرة ولكنه صمم على الكفر وأصر عليه، فكانت نفسه حائرة بين حق ظهرت بيناته وباطل قد عض عليه بالنواجذ، وكذلك شأن كل من أضله الله على علم...
التفسير الحديث لدروزة 1404 هـ :
وورود القصة بعد تقرير صفات الله وعظمته ووضوح الرشد من الغي يلهم أنها قد استهدفت التذكير والعظة وهذا هو شأن القصص القرآنية. كأنما أريد أن يقال: إنه إذا كان أناس يقفون من دعوة النبي صلى الله عليه وسلم إلى الله وحده موقف المكابرة والعناد ويعمون عن الرشد مهما أفحمتهم البينات فقد كان ممن سبقهم من يقف مثل هذا الموقف. والفقرة الأخيرة من الآية توثق هذا التوجيه بما فيها من نعي على الظالمين وتنديد بهم نعياً وتنديداً ينطويان على تقرير كون عدم إسعاد الظالمين المنحرفين عن جادة الحق وهدايتهم هو بسبب ما غلب عليهم من خبث وارتكسوا فيه من ظلم وانحراف؛ حيث يمنعهم ذلك من الاهتداء بهدي الله ونوره. وقد تكون الفقرة منطوية في ذات الوقت على قصد التسرية عن النبي صلى الله عليه وسلم أيضا تجاه مواقف العناد والمكابرة التي كان يقفها الظالمون البغاة، وهم أكثر العرب وزعماؤهم في الظرف الذي نزلت فيه الآية، والذي يرجح أنه أوائل العهد المدني...
فإذا ذهب بعض المفسرين إلى القول: إنه ملك واسمه النمرود، فإننا نقول لهم: شكراً لاجتهادكم، ولكن لو شاء الله تحديد اسم الرجل لحدّده لنا، والذي يهمنا هو أنه واحد خرج على رسول الله إبراهيم عليه السلام وجادله في هذه المسألة، والتشخيص هنا ليس ضرورياً، والحق سبحانه وتعالى حينما يريد شيوع الأمر وإمكان حدوثه في أي زمان أو مكان فإن الله لا يشخّص الأمر، فأي إنسان في أي مكان قد يحاجج أي مؤمن. وليس كذلك الأمر بالنسبة لأي تشخيص أو تحديد، ومثال ذلك هؤلاء الذين يريدون أن يعرفوا قصة أهل الكهف، ويتساءلون: أين ومتى، وكم عددهم، ومن هم؟...
وعلينا ونحن نتدبر آيات القرآن بالخواطر الإيمانية أن نفهم الفرق بين الإماتة والقتل. الصحيح أن الإماتة والقتل يشتركان في أمر واحد وهو خروج الروح من الجسد. والإماتة تختلف عن القتل بأنه لا يقدر عليها إلا واهب الحياة الذي وضع مقوّمات خاصة في البنية الإنسانية حتى تسكنها الروح، وهو القادر على أن يسلب الروح بأمر غير مُحس. أما القتل فهو أن تجرح إنساناً فيموت، أو تنقض بنيته، تكسر له رأسه مثلاً، أما (الإماتة) فهي أن تنقبض حياته بمجرد الأمر دون أن تقربه، هل أحد من البشر يقدر على هذه؟ لا...
تفسير من و حي القرآن لحسين فضل الله 1431 هـ :
ثلاث آيات تتلاحق الواحدة تلو الأخرى نلتقي فيها بالحديث عن فكرة إحياء الله للأشياء التي تدبّ فيها الحياة، ولكن بطريقة لا تعتمد الاستدلال بالبراهين العقليّة، بل بطريقة إيحائية، توحي بالفكرة من خلال القصة الخاطفة، من خلال حوار يدور بين إبراهيم (ع) وبين طاغية زمانه، فيصور لنا الفكرة حقيقة لا تحتمل الريب، في تمثلها في العقيدة بالله الواحد، فلا يملك الطاغية مجالاً للهروب منها إلا بالتلاعب بالألفاظ والضحك على قول السذّج من البسطاء... ونتمثلها في قصة الإنسان الذي وقف مدهوشاً أمام القرية التي يغمرها الموت بكل أفكارها، فيتساءل.. فيموت.. ثم يبعث في الدنيا.. وتتمثل الفكرة أمامه في كيانه الذي دبّت الحياة فيه من جديد، وفي حماره الذي شاهده تتجمع أعضاؤه أمامه في عملية الحياة. ثم يعود إبراهيم من جديد ليتساءل كيف يحيي الله الموتى، وتعيش التجربة في نطاق عمليّة خارقة للعادة يستجيب الله فيها لرغبته...
إن كل هذه القصص الثلاث التي تتصل بالجانب الغيبي من التفكير الديني، توحي لنا بالفكرة في أسلوب تقريري يجعل الفكرة والشعور يحملانها في جوّ من التفكير، تضج فيه غرابة لا تبتعد عن جانب الإيمان في الإنسان الذي يخشع إيمانه أمام الحق الذي ينزله الوحي في القرآن، وأمام القدرة التي لا يعجزها شيء في الإيمان بالله، وأمام الإيمان بالغيب الذي هو من أركان العقيدة في ما تقرره من الانطلاق مع حقائق الوجود الذي يهيمن عليه الله خالقه في عالم الشهود وفي عالم الغيب، وذلك هو أحد إثارات القرآن أمام الإنسان بغية إرشاده وتربيته روحياً وفكرياً. ما نستوحيه من الحوار أما فائدتنا من هذا الحوار، فهي مواجهة الكثيرين ممّن يحاولون أن يموّهوا على البسطاء من الناس، باللجوء إلى الأساليب الساذجة التي يخدعونهم بها، سواءٌ في ذلك ما يتعلق بشؤون العقيدة وما يتصل بأمور الحياة، فنعمل على أن نستلهم أسلوب إبراهيم النبي في الانتقال إلى التحديات الواضحة التي لا تخفى ولا تنطلي بالنتيجة على أحد، مما يعطّل خطة التمويه والتضليل.
ولا بدّ لنا في سبيل الوصول إلى ذلك
أولاً: من النفاذ إلى واقع الأساليب المضلّلة التي يخضع لها البسطاء من الناس، والأساليب الصارخة التي تملك قوّة التحدي، من دون أن يستطيع الآخرون ردّها أو مقاومتها على الأقل، وهذا ما يفرض على العاملين أن يقوموا به من أجل أن يلاحقوا الواقع وأساليبه التي تحكمه وتوجّه خطواته، بكل وعي ودقّةٍ وشمول وانفتاح...
ثانياً: القيام بالتوعية الثقافية للناس البسطاء من جهة التأكيد على الواقع الموضوعي للأشخاص الذين يملكون بعض مواقع القوة كالسلطة والمال والجاه ونحوها، ليواجه الناس نقاط ضعفه إلى جانب نقاط قوته، وليتوازنوا في تقدير الجوانب الإيجابية في شخصيته من خلال المقارنة بالجوانب السلبية فيها، حتى لا تتضخم ذاته في وجدانهم، بحيث يرتفعون بها إلى الدرجة التي لا تستحقها، كما لا ينتفخ هو عند نفسه في نظرته إلى موقعه إذا اندفع الناس نحوه من خلال هالة التقديس والتعظيم، لأن السبب في الكثير مما ينطلق به الواقع البشري من ظواهر الشخصيات التي تؤله نفسها أو يؤلهها الناس، هو فقدان التوازن في نظرة الناس إلى هؤلاء الأشخاص، وفي نظرتهم إلى أنفسهم.
وفي ضوء ذلك، لا بد من الابتعاد عن أساليب التزلف والمبالغة والاندفاع العشوائي في قضايا المدح والتعظيم في الواقع الاجتماعي والسياسي العام...
إننا نريد التنبيه على هذه النقطة من خلال ظاهرة النمرود الذي حاجّ إبراهيم في ربه في نظرته إلى نفسه من موقع الربوبية للناس، فإن ذلك لم يكن إلا من جهة الإخلال بتوازنه في نفسه وتوازن الناس معه، فلولا ذلك لما كان هناك مجال للمسألة، لأنه سوف يتحول في نظر الناس وفي نظر نفسه، إلى شخص عاديّ، كسائر الناس الذين يملكون بعض الصفات الإنسانية الإيجابية والسلبية...