قوله تعالى : { ولقد علمنا المستقدمين منكم ولقد علمنا المستأخرين } ، قال ابن عباس : أراد بالمستقدمين الأموات وبالمستأخرين الأحياء . قال الشعبي : الأولين والآخرين . وقال عكرمة : المستقدمون من خلق الله والمستأخرين من لم يخلق الله . قال مجاهد : المستقدمون القرون الأولى والمستأخرين أمة محمد صلى الله عليه وسلم . وقال الحسن : المستقدمون في الطاعة والخير ، والمستأخرون المبطئون عنها . وقيل : المستقدمون في الصفوف في الصلاة والمستأخرون فيها . وذلك أن النساء كن يخرجن إلى صلاة الجماعة فيقفن خلف الرجال ، فربما كان من الرجال من في قلبه ريبة فيتأخر إلى آخر صفوف الرجال ، ومن النساء من كانت في قلبها ريبة فتتقدم إلى أول صفوف النساء لتقرب من الرجال . فنزلت هذه الآية . وقال النبي صلى الله عليه وسلم : " خير صفوف الرجال أولها وشرها آخرها ، وخير صفوف النساء آخرها وشرها أولها " . وقال الأوزاعي : أراد المصلين في أول الوقت والمؤخرين إلى آخره . وقال مقاتل : أراد بالمستقدمين والمستأخرين في صف القتال . وقال ابن عيينة : أراد من يسلم ومن لا يسلم .
ثم أكد - سبحانه - شمول علمه لكل شئ بعد أن أكد شمول قدرته فقال - تعالى - :
{ وَلَقَدْ عَلِمْنَا الْمُسْتَقْدِمِينَ مِنكُمْ وَلَقَدْ عَلِمْنَا الْمُسْتَأْخِرِينَ }
والمراد بالمستقدمين من تقدم على غيره ولادة وموتا ، كما أن المراد بالمستأخرين من تأخر عن غيره فى ذلك ، ولم يمت بعد ، أو لم يوجد بعد فى عالم الأحياء .
والسين والتاء فى اللفظين للتأكيد .
وقيل : المراد بهما الأحياء والأموات ، وقيل المراد بالمستقدمين : من تقدم فى الوجود على الأمة الإِسلامية ، وبالمستأخرين : الأمة الإِسلامية .
وقيل : المراد بهما : من قتل فى الجهاد ومن لم يقتل ، وقيل المراد بهما من تقدم فى صفوف الصلاة ومن تأخر . . .
قال الإِمام ابن جرير بعد أن ساق جملة من الأقوال فى ذلك : " وأولى الأقوال عندى بالصحة ، قول من قال : ولقد علمنا الأموات منكم يا بنى آدم فتقدم موته ، ولقد علمنا المستأخرين الذين تأخر موتهم ممن هو حى ومن هو حادث منكم ممن لم يحدث بعد . . . " .
وقوله : وَلَقَدْ عَلِمْنا المُسْتَقْدِمينَ منْكُمْ وَلَقَدْ عَلمْنا المُسْتأخِرِينَ اختلف أهل التأويل في تأويل ذلك ، فقال بعضهم : معنى ذلك : ولقد علمنا من مضى من الأمم فتقدّم هلاكهم ، ومن قد خلق وهو حيّ ، ومن لم يخلق بعدُ ممن سيخلق . ذكر من قال ذلك :
حدثنا أحمد بن إسحاق ، قال : حدثنا أبو أحمد ، قال : حدثنا سفيان ، عن أبيه ، عن عكرمة : وَلَقَدْ عَلِمْنا المُسْتَقْدِمينَ منْكُمْ وَلَقَدْ عَلمْنا المُسْتأخِرِينَ قال : المستقدمون : من قد خلق ومن خلا من الأمم والمستأخرون : من لم يخلق .
حدثنا ابن حميد ، قال : حدثنا الحكم ، قال : حدثنا عمرو بن قيس ، عن سعيد بن مسروق ، عن عكرمة ، في قوله : وَلَقَدْ عَلِمْنا المُسْتَقْدِمينَ منْكُمْ وَلَقَدْ عَلمْنا المُسْتأخِرِينَ قال : هم خلق الله كلهم ، قد علم من خلق منهم إلى اليوم ، وقد علم من هو خالقه بعد اليوم .
حدثنا الحسن بن يحيى ، قال : أخبرنا عبد الرزاق . قال : أخبرنا ابن التيمي ، عن أبيه ، عن عكرمة ، قال : إن الله خلق الخلق ففرغ منهم ، فالمستقدمون : من خرج من الخلق ، والمستأخرون : من بقي في أصلاب الرجال لم يخرج .
حدثني محمد بن أبي معشر ، قال : أخبرني أبو معشر ، قال : سمعت عون بن عبد الله بن عتبة بن مسعود يذاكر محمد بن كعب في قول الله : وَلَقَدْ عَلِمْنا المُسْتَقْدِمينَ منْكُمْ وَلَقَدْ عَلمْنا المُسْتأخِرِينَ فقال عون بن عبد الله بن عتبة بن مسعود : خير صفوف الرجال المقدّم ، وشرّ صفوف الرجال المؤخّر ، وخير صفوف النساء المؤخّر ، وشرّ صفوف النساء المقدّم . فقال محمد بن كعب : ليس هكذا وَلَقَدْ عَلِمْنا المُسْتَقْدِمينَ منْكُمْ : الميت والمقتول والمُسْتَأْخرين : من يلحق بهم مِن بعدُ ، وإن ربك هو يحشرهم ، إنه حكيم عليم . فقال عون بن عبد الله : وفقك الله وجزاك خيرا .
حدثنا محمد بن عبد الأعلى ، قال : حدثنا المعتمر ، عن أبيه ، قال : قال قتادة : المستقدمين : من مضى ، والمستأخرين : من بقي في أصلاب الرجال .
حدثنا الحسن بن محمد ، قال : حدثنا سعيد بن منصور ، قال : حدثنا أبو الأحوص ، قال : حدثنا سعيد بن مسروق ، عن عكرمة وخصيف ، عن مجاهد ، في قوله : وَلَقَدْ عَلِمْنا المُسْتَقْدِمينَ منْكُمْ وَلَقَدْ عَلمْنا المُسْتأخِرِينَ قال : من مات ومن بقي .
حدثنا بشر ، قال : حدثنا يزيد ، قال : حدثنا سعيد ، عن قتادة ، قوله : وَلَقَدْ عَلِمْنا المُسْتَقْدِمينَ منْكُمْ قال : كان ابن عباس يقول : آدم صلى الله عليه وسلم ومن مضى من ذريته . وَلَقَدْ عَلمْنا المُسْتأخِرِينَ : من بقى في أصلاب الرجال .
حدثنا محمد بن عبد الأعلى ، قال : حدثنا محمد بن ثور ، عن معمر ، عن قتادة : وَلَقَدْ عَلِمْنا المُسْتَقْدِمينَ منْكُمْ وَلَقَدْ عَلمْنا المُسْتأخِرِينَ قال : المستقدمون آدم ومن بعده ، حتى نزلت هذه الاَية . والمستأخرون : قال : كلّ من كان من ذريّته .
قال أبو جعفر : أظنه أنا قال : ما لم يُخلق وما هو مخلوق .
حدثنا أحمد ، قال : حدثنا أبو أحمد ، قال : حدثنا سفيان ، عن أبيه ، عن عكرمة ، قال : المستقدمون : ما خرج من أصلاب الرجال . والمستأخرون : ما لم يخرج . ثم قرأ : وإنّ رَبّكَ هُوَ يَحْشُرُهُمْ إنّهُ حَكِيمٌ عَلِيم .
وقال آخرون : عنى بالمستقدمين : الذين قد هلكوا ، والمستأخرين : الأحياء الذين لم يهلكوا . ذكر من قال ذلك :
حدثنا محمد بن سعد ، قال : ثني أبي ، قال : ثني عمي ، قال : ثني أبي ، عن أبيه ، عن ابن عباس ، قوله : وَلَقَدْ عَلِمْنا المُسْتَقْدِمينَ منْكُمْ وَلَقَدْ عَلمْنا المُسْتأخِرِينَ يعني بالمستقدمين : من مات . ويعني بالمستأخرين : من هو حيّ لم يمت .
حُدثت عن الحسين ، قال : سمعت أبا معاذ يقول : أخبرنا عبيد ، قال : سمعت الضحاك يقول في قوله : وَلَقَدْ عَلِمْنا المُسْتَقْدِمينَ منْكُمْ يعني الأموات منكم . ولَقَدْ عَلمْنا المُسْتأخِرِينَ بقيتهم ، وهم الأحياء . يقول : علمنا من مات ومن بقي .
حدثني يونس ، قال : أخبرنا ابن وهب ، قال : قال ابن زيد ، في قوله : وَلَقَدْ عَلِمْنا المُسْتَقْدِمينَ منْكُمْ وَلَقَدْ عَلمْنا المُسْتأخِرِينَ قال : المستقدمون منكم : الذين مضوا في أوّل الأمم ، والمستأخرون : الباقون .
وقال آخرون : بل معناه : ولقد علمنا المستقدمين في أوّل الخلق والمستأخرين في آخرهم . ذكر من قال ذلك :
حدثنا محمد بن المثنى ، قال : حدثنا عبد الوهاب ، قال : حدثنا داود ، عن عامر في هذه الاَية : وَلَقَدْ عَلِمْنا المُسْتَقْدِمينَ منْكُمْ وَلَقَدْ عَلمْنا المُسْتأخِرِينَ قال أوّل الخلق وآخره .
حدثنا ابن المثنى ، قال : حدثنا ابن أبي عديّ ، عن داود ، عن الشعبيّ ، في قوله : وَلَقَدْ عَلِمْنا المُسْتَقْدِمينَ منْكُمْ وَلَقَدْ عَلمْنا المُسْتأخِرِينَ : ما استقدم في أوّل الخلق ، وما استأخر في آخر الخلق .
حدثنا الحسن بن محمد ، قال : حدثنا عليّ بن عاصم ، عن داود بن أبي هند ، عن عامر ، في قوله : وَلَقَدْ عَلِمْنا المُسْتَقْدِمينَ منْكُمْ قال : في العُصُر ، والمستأخرين منكم في أصلاب الرجال ، وأرحام النساء .
وقال آخرون : بل معنى ذلك : ولقد علمنا المستقدمين من الأمم ، والمستأخرين من أمة محمد صلى الله عليه وسلم . ذكر من قال ذلك :
حدثني محمد بن عمرو ، قال : حدثنا أبو عاصم ، قال : حدثنا عيسى وحدثني الحارث ، قال : حدثنا الحسن ، قال : حدثنا ورقاء وحدثنا الحسن بن محمد ، قال : حدثنا شبابة ، قال : أخبرنا ورقاء وحدثني المثنى ، قال : أخبرنا أبو حذيفة ، قال : حدثنا شبل جميعا ، عن ابن أبي نجيح ، عن مجاهد : المستقدمين منكم ، قال : القرون الأوَل ، والمستأخرين : أمة محمد صلى الله عليه وسلم .
حدثنا القاسم ، قال : حدثنا الحسين ، قال : ثني حجاج ، عن ابن جريج ، عن مجاهد ، مثله .
حدثنا الحسن بن محمد ، قال : حدثنا محمد بن عبيد ، قال : ثني عبد الملك ، عن قيس ، عن مجاهد ، في قوله : وَلَقَدْ عَلِمْنا المُسْتَقْدِمينَ منْكُمْ وَلَقَدْ عَلمْنا المُسْتأخِرِينَ قال : المستقدمون : ما مضى من الأمم ، والمستأخرون : أمة محمد صلى الله عليه وسلم .
حدثني المثنى ، قال : حدثنا عمرو بن عون ، قال : أخبرنا هشيم ، عن عبد الملك ، عن قيس ، عن مجاهد ، بنحوه .
حدثنا الحسن بن يحيى ، قال : أخبرنا عبد الرزاق ، قال : أخبرنا الثوري ، عن عبد الملك ، عن مجاهد بنحوه ، لم يذكر قيسا .
وقال آخرون : بل معناه : ولقد علمنا المستقدمين منكم في الخير والمستأخرين عنه . ذكر من قال ذلك :
حدثنا بشر بن معاذ ، قال : حدثنا يزيد ، قال : حدثنا سعيد ، عن قتادة : وَلَقَدْ عَلِمْنا المُسْتَقْدِمينَ منْكُمْ وَلَقَدْ عَلمْنا المُسْتأخِرِينَ قال : كان الحسن يقول : المستقدمون في طاعة الله ، والمستأخرون في معصية الله .
حدثني المثنى ، قال : حدثنا عمرو بن عون ، قال : أخبرنا هشيم ، عن عباد بن راشد ، عن الحسن ، قال : المستقدمين في الخير ، والمستأخرين : يقول : المبطئين عنه .
وقال آخرون : بل معنى ذلك : ولقد علمنا المستقدمين منكم في الصفوف في الصلاة ، والمستأخرين فيها بسبب النساء . ذكر من قال ذلك :
حدثنا محمد بن عبد الأعلى ، قال : حدثنا المعتمر بن سليمان ، عن أبيه ، عن رجل أخبرنا عن مروان بن الحكم أنه قال : كان أناس يستأخرون في الصفوف من أجل النساء قال : فأنزل الله : وَلَقَدْ عَلِمْنا المُسْتَقْدِمينَ منْكُمْ وَلَقَدْ عَلمْنا المُسْتأخِرِينَ .
حدثنا الحسن بن يحيى ، قال : أخبرنا عبد الرزاق ، قال : أخبرنا جعفر بن سليمان ، قال : أخبرني عمرو بن مالك ، قال سمعت أبا الجوزاء يقول في قول الله : وَلَقَدْ عَلِمْنا المُسْتَقْدِمينَ منْكُمْ وَلَقَدْ عَلمْنا المُسْتأخِرِينَ قال : المستقدمين منكم في الصفوف في الصلاة والمستأخرين .
حدثني محمد بن موسى الحرسي ، قال : حدثنا نوح بن قيس ، قال : حدثنا عمرو بن مالك ، عن أبي الجوزاء ، عن ابن عباس ، قال : كانت تصلي خلف رسول الله صلى الله عليه وسلم امرأة ، قال ابن عباس : لا والله ما إن رأيت مثلها قط فكان بعض المسلمين إذا صلوا وبعض يستأخرون ، فإذا سجدوا نظروا إليها من تحت أيديهم ، فأنزل الله : وَلَقَدْ عَلِمْنا المُسْتَقْدِمينَ منْكُمْ وَلَقَدْ عَلمْنا المُسْتأخِرِينَ .
حدثنا أبو كريب ، قال : حدثنا عبيد الله بن موسى ، قال : أخبرنا نوح بن قيس وحدثنا أبو كريب ، قال : حدثنا مالك بن إسماعيل ، قال : حدثنا نوح بن قيس ، عن عمرو بن مالك ، عن أبي الجوزاء ، عن ابن عباس قال : كانت تصلي خلف رسول الله صلى الله عليه وسلم امرأة حسناء من أحسن الناس ، فكان بعض الناس يستقدم في الصفّ الأوّل لئلا يراها ، ويستأخر بعضهم حتى يكون في الصفّ المؤخر ، فإذا ركع نظر من تحت إبطيه في الصفّ ، فأنزل الله في شأنها : وَلَقَدْ عَلِمْنا المُسْتَقْدِمينَ منْكُمْ وَلَقَدْ عَلمْنا المُسْتأخِرِينَ .
قال أبو جعفر : وأولى الأقوال عندي في ذلك بالصحة قول من قال : معنى ذلك : ولقد علمنا الأموات منكم يا بني آدم فتقدّم موته ، ولقد علمنا المستأخرين الذين استأخر موتهم ممن هو حيّ ومن هو حادث منكم ممن لم يحدث بعدُ لدلالة ما قبله من الكلام ، وهو قوله : وَإنّا لَنَحْنُ نُحْيِي ونُمِيتُ وَنَحْنُ الْوَارِثُونَ وما بعده وهو قوله : وإنّ رَبّكَ هُوَ يَحْشُرُهُمْ على أن ذلك كذلك ، إذ كان بين هذين الخبرين ، ولم يجر قبل ذلك من الكلام ما يدلّ على خلافه ، ولا جاء بعد . وجائز أن تكون نزلت في شأن المستقدمين في الصفّ لشأن النساء والمستأخرين فيه لذلك ، ثم يكون الله عزّ وجلّ عمّ بالمعنى المراد منه جميع الخلق ، فقال جلّ ثناؤه لهم : قد علمنا ما مضى من الخلق وأحصيناهم ، وما كانوا يعملون ، ومن هو حيّ منكم ومن هو حادث بعدكم أيها الناس ، وأعمال جميعكم خيرها وشرّها ، وأحصينا جميع ذلك ونحن نحشر جميعهم ، فنجازي كلاّ بأعماله ، إن خيرا فخيرا وإن شرّا فشرّا . فيكون ذلك تهديدا ووعيدا للمستأخرين في الصفوف لشأن النساء ولكلّ من تعدّى حدّ الله وعمل بغير ما أذن له به ، ووعدا لمن تقدّم في الصفوف لسبب النساء وسارع إلى محبة الله ورضوانه في أفعاله كلها .
لما ذكر الإحياء والإماتة وكان الإحياء بكسر الهمزة يذكر بالأحياء بفتحها ، وكانت الإماتة تذكّر بالأموات الماضين تخلص من الاستدلال بالأحياء والإماتة على عظم القدرة إلى الاستدلال بلازم ذلك على عظم علم الله وهو علمه بالأمم البائدة وعلم الأمم الحاضرة ؛ فأريد بالمستقدمين الذين تقدموا الأحياء إلى الموت أو إلى الآخرة ، فالتقدم فيه بمعنى المضي ؛ وبالمستأخرين الذين تأخروا وهم الباقون بعد انقراض غيرهم إلى أجل يأتي .
والسين والتاء في الوصفين للتأكيد مثل استجاب ؛ ولكن قولهم استقدم بمعنى تقدم على خلاف القياس لأن فعله رباعي . وقد تقدم عند قوله تعالى { لا يستأخرون ساعة ولا يستقدمون } في سورة الأعراف ( 34 ) .
وقد تقدم في طالع تفسير هذه السورة الخبر الذي أخرجه الترمذي في جامعه من طريق نوح بن قيس ومن طريق جعفر بن سليمان في سبب نزول هذه الآية . وهو خبر واهٍ لا يلاقي انتظام هذه الآيات ولا يكون إلا من التفاسير الضعيفة .
تفسير مقاتل بن سليمان 150 هـ :
{ولقد علمنا المستقدمين منكم}، يعني: من بني آدم من مات منكم، {ولقد علمنا المستئخرين}، يقول: من بقي منكم فلم يمت...
جامع البيان عن تأويل آي القرآن للطبري 310 هـ :
اختلف أهل التأويل في تأويل ذلك:
فقال بعضهم: معنى ذلك: ولقد علمنا من مضى من الأمم فتقدّم هلاكهم، ومن قد خلق وهو حيّ، ومن لم يخلق بعدُ ممن سيخلق.
وقال آخرون: عنى بالمستقدمين: الذين قد هلكوا، والمستأخرين: الأحياء الذين لم يهلكوا...
وقال آخرون: بل معنى ذلك: ولقد علمنا المستقدمين من الأمم، والمستأخرين من أمة محمد صلى الله عليه وسلم...
وقال آخرون: بل معناه: ولقد علمنا المستقدمين منكم في الخير والمستأخرين عنه...
وقال آخرون: بل معناه: ولقد علمنا المستقدمين في أوّل الخلق والمستأخرين في آخرهم...
وقال آخرون: بل معنى ذلك: ولقد علمنا المستقدمين منكم في الصفوف في الصلاة، والمستأخرين فيها بسبب النساء...
وأولى الأقوال عندي في ذلك بالصحة قول من قال: معنى ذلك: ولقد علمنا الأموات منكم يا بني آدم فتقدّم موته، ولقد علمنا المستأخرين الذين استأخر موتهم ممن هو حيّ، ومن هو حادث منكم ممن لم يحدث بعدُ لدلالة ما قبله من الكلام، وهو قوله:"وَإنّا لَنَحْنُ نُحْيِي ونُمِيتُ وَنَحْنُ الْوَارِثُونَ" وما بعده وهو قوله: "وإنّ رَبّكَ هُوَ يَحْشُرُهُمْ "على أن ذلك كذلك، إذ كان بين هذين الخبرين، ولم يجر قبل ذلك من الكلام ما يدلّ على خلافه ولا جاء بعد. وجائز أن تكون نزلت في شأن المستقدمين في الصفّ لشأن النساء والمستأخرين فيه لذلك، ثم يكون الله عزّ وجلّ عمّ بالمعنى المراد منه جميع الخلق، فقال جلّ ثناؤه لهم: قد علمنا ما مضى من الخلق وأحصيناهم، وما كانوا يعملون، ومن هو حيّ منكم ومن هو حادث بعدكم أيها الناس، وأعمال جميعكم خيرها وشرّها، وأحصينا جميع ذلك ونحن نحشر جميعهم، فنجازي كلاّ بأعماله، إن خيرا فخيرا وإن شرّا فشرّا. فيكون ذلك تهديدا ووعيدا للمستأخرين في الصفوف لشأن النساء ولكلّ من تعدّى حدّ الله وعمل بغير ما أذن له به، ووعدا لمن تقدّم في الصفوف لسبب النساء وسارع إلى محبة الله ورضوانه في أفعاله كلها.
تأويلات أهل السنة للماتريدي 333 هـ :
قال بعضهم: {ولقد علمنا المستقدمين} من المكذبين منكم ما حل بهم بالتكذيب {ولقد علمنا المستأخرين} من المكذبين منكم...
واعلم أنه تعالى لما قال: {وإنا لنحن نحيي ونميت} أتبعه بقوله: {ولقد علمنا المستقدمين منكم ولقد علمنا المستأخرين} تنبيها على أنه لا يخفى على الله شيء من أحوالهم. فيدخل فيه علمه تعالى بتقدمهم وتأخرهم في الحدوث والوجود. وبتقدمهم وتأخرهم في أنواع الطاعات والخيرات. ولا ينبغي أن نخص الآية بحالة دون حالة.
أنوار التنزيل وأسرار التأويل للبيضاوي 685 هـ :
وهو بيان لكمال علمه بعد الاحتجاج على كمال قدرته، فإن ما يدل على قدرته دليل على علمه.
نظم الدرر في تناسب الآيات و السور للبقاعي 885 هـ :
فلما ثبت بهذا كمال قدرته، وكانت آثار القدرة لا تكون محكمة إلا بالعلم، قال تعالى: {ولقد علمنا} أي بما لنا من الإحاطة المعجزة {المستقدمين منكم} وهم من قضينا بموته أولاً، فيكون في موته كأنه يسارع إلى التقدم إليه وإن كان هو وكل من أهله مجتهداً بالعلاج في تأخيره {ولقد علمنا} بعظمتنا {المستأخرين} أي الذين نمد في أعمارهم فنؤخر موتهم حتى يكونوا كأنهم يسابقون إلى ذلك وإن عالجوا الموت بشرب سم وغيره، أو عالجه لهم غيرهم بضربهم بالسيف أو غيره، فعرف بذلك قطعاً أن الفاعل واحد مختار، وكذا كل متقدم ومتأخر في وصف من الأوصاف غير الموت، والمعنى على الأول: فنحن لا نميت أحداً قبل أجله فلا تستعجلونا بالوعيد وتهيؤوا لدفاعه إن كنتم رجالاً، فإنه لا بد أن يأتي لأنه لا يبدل القول لديّ.
تيسير التفسير لاطفيش 1332 هـ :
...فالآية تهديد وترجية كما إذا فسرت بالتقدم في الطاعة والتأَخر فيها.
التحرير والتنوير لابن عاشور 1393 هـ :
لما ذكر الإحياء والإماتة وكان الإحياء بكسر الهمزة يذكر بالأحياء بفتحها، وكانت الإماتة تذكّر بالأموات الماضين تخلص من الاستدلال بالأحياء والإماتة على عظم القدرة إلى الاستدلال بلازم ذلك على عظم علم الله وهو علمه بالأمم البائدة وعلم الأمم الحاضرة؛ فأريد بالمستقدمين الذين تقدموا الأحياء إلى الموت أو إلى الآخرة، فالتقدم فيه بمعنى المضي؛ وبالمستأخرين الذين تأخروا وهم الباقون بعد انقراض غيرهم إلى أجل يأتي.والسين والتاء في الوصفين للتأكيد مثل استجاب؛ ولكن قولهم استقدم بمعنى تقدم على خلاف القياس لأن فعله رباعي. وقد تقدم عند قوله تعالى {لا يستأخرون ساعة ولا يستقدمون} في سورة الأعراف (34).
زهرة التفاسير - محمد أبو زهرة 1394 هـ :
{المستقدمين}، السين والتاء للطلب، وكذلك في {المستأخرين}، ومعنى السين والتاء هنا طلب الإيغال في التقدم والإيغال في التأخر، فالذين تقدموا إلى أبعد التقدم، والذين تأخروا إلى أعمق التأخر في علم الله تعالى، وعلمه الماضي والحاضر على سواء، ولقد أكد علمه بالمتقدم، وعلمه بالمتأخر بأبلغ المؤكدات، فأكد باللام وبقد وكلاهما لتأكيد التحقيق.