والقصد من قدحهم فيه واستهزائهم به تصلبهم على باطلهم وغرورا لضعفاء العقول{[579]} ولهذا قالوا : { إِنْ كَادَ } هذا الرجل { لَيُضِلُّنَا عَنْ آلِهَتِنَا } بأن يجعل الآلهة إلها واحدا { لَوْلَا أَنْ صَبَرْنَا عَلَيْهَا } لأضلنا زعموا -قبحهم الله- أن الضلال هو التوحيد وأن الهدى ما هم عليه من الشرك فلهذا تواصوا بالصبر عليه . { وَانْطَلَقَ الْمَلَأُ مِنْهُمْ أَنِ امْشُوا وَاصْبِرُوا عَلَى آلِهَتِكُمْ }
وهنا قالوا : { لَوْلَا أَنْ صَبَرْنَا عَلَيْهَا } والصبر يحمد في المواضع كلها ، إلا في هذا الموضع فإنه صبر على أسباب الغضب وعلى الاستكثار من حطب جهنم . وأما المؤمنون فهم كما قال الله عنهم : { وَتَوَاصَوْا بِالْحَقِّ وَتَوَاصَوْا بِالصَّبْرِ } ولما كان هذا حكما منهم بأنهم المهتدون والرسول ضال وقد تقرر أنهم لا حيلة فيهم توعدهم بالعذاب وأخبر أنهم في ذلك الوقت { حِينَ يَرَوْنَ الْعَذَابَ } يعلمون علما حقيقيا { مَنْ } هو { أَضَلُّ سَبِيلًا } { وَيَوْمَ يَعَضُّ الظَّالِمُ عَلَى يَدَيْهِ يَقُولُ يَا لَيْتَنِي اتَّخَذْتُ مَعَ الرَّسُولِ سَبِيلًا } الآيات .
ثم يشير القرآن إلى كذبهم فيما قالوه ، لأنهم مع إظهارهم للسخرية منه صلى الله عليه وسلم كانوا فى واقع أمرهم ، وحقيقة حالهم يعترفون له بقوة الحجة ، وهذا ما حكاه القرآن عنهم فى قوله : { إِن كَادَ لَيُضِلُّنَا عَنْ آلِهَتِنَا لَوْلاَ أَن صَبْرَنَا عَلَيْهَا } .
أى : أنهم كانوا يقولون فيما بينهم : إن هذا الرسول كاد أن يصرفنا بقوة حجته عن عبادة آلهتنا . لولا أننا قاومنا هذا الشعور وثبتنا على عبادة أصنامنا .
قال الآلوسى : قوله : { إِن كَادَ لَيُضِلُّنَا عَنْ آلِهَتِنَا } أى : يصرفنا عن عبادتها صرفا كليا بحيث يبعدنا عنها لا عن عبادتها فقط . لولا أن صبرنا عليها واستمسكنا بعبادتها . . . وهذا اعتراف منهم بأنه صلى الله عليه وسلم قد بلغ من الاجتهاد فى لدعوة إلى التوحيد . . . ما شارفوا معه أن يتركوا دينهم لولا فرط جهالاتهم ولجاجهم وغاية عنادهم .
وقوله - تعالى - : { وَسَوْفَ يَعْلَمُونَ حِينَ يَرَوْنَ العذاب مَنْ أَضَلُّ سَبِيلاً } تهديد لهم على سوء أدبهم ، وعلى جحودهم للحق بعد أن تبين لهم .
أى : وسوف يعلم هؤلاء الكافرون حين يرون العذاب مائلا أمام أعينهم ، من أبعد طريقا عن الحق ، أهم أم المؤمنون .
فالجملة الكريمة وعيد شديد لهم على استهزائهم بالرسول الكريم الذى جاءهم ليخرجهم من ظلمات الكفر إلى نور الإيمان .
القول في تأويل قوله تعالى : { إِن كَادَ لَيُضِلّنَا عَنْ آلِهَتِنَا لَوْلاَ أَن صَبْرَنَا عَلَيْهَا وَسَوْفَ يَعْلَمُونَ حِينَ يَرَوْنَ الْعَذَابَ مَنْ أَضَلّ سَبِيلاً } .
يقول تعالى ذكره مخبرا عن هؤلاء المشركين الذين كانوا يهزءون برسول الله صلى الله عليه وسلم : إنهم يقولون إذا رأوه : قد كاد هذا يضلنا عن آلهتنا التي نعبدها ، فيصدّنا عن عبادتها لولا صبرنا عليها ، وثبوتنا على عبادتها . وَسَوْفَ يَعْلَمُونَ حِينَ يَرَوْنَ العذَابَ يقول جلّ ثناؤه : سيبين لهم حين يعاينون عذاب الله قد حلّ بهم على عبادتهم الاَلهة مَنْ أضَلّ سَبِيلاً يقول : من الراكب غير طريق الهدى ، والسالك سبيل الردى أنت أوهم . وبنحو ما قلنا في تأويل قوله لَوْلا أن صَبرْنا عَلَيْها قال أهل التأويل . ذكر من قال ذلك :
حدثنا القاسم ، قال : حدثنا الحسين ، قال : حدثنا حجاج ، عن ابن جُرَيج إنْ كادَ لَيُضِلّنا عَنْ آلِهَتِنا لَوْلا أنْ صَبرْنا عَلَيْها قال : ثبتنا عليها .
{ إن } إنه { كاد ليضلنا عن آلهتنا } ليصرفنا عن عبادتها بفرط اجتهاده في الدعاء إلى التوحيد وكثرة ما يوردها مما يسبق إلى الذهن بأنها حجج ومعجزات . { لولا أن صبرنا عليها } ثبتنا عليها واستمسكنا بعبادتها و { لولا } في مثله تقيد الحكم المطلق من حيث المعنى دون اللفظ . { وسوف يعلمون حين يرون العذاب من أضل سبيلا } كالجواب لقولهم { وإن كان ليضلنا } فإنه يفيد نفي ما يلزمه ويكون الموجب له ، وفيه وعيد ودلالة على أنه لا يمهلهم وإن أمهلهم .
{ إن كاد ليضلنا عن ءالهتنا لولا أن صبرنا عليها }
{ إنْ } مخفَّفَة من ( إنّ ) المشددة ، والأكثر في الكلام إهمالها ، أي ترك عملها نصبَ الاسم ورفعَ الخبر ، والجملة التي تليها يلزم أن تكون مفتتحة بفعل من أخوات كان أو من أخوات ظنّ وهذا من غرائب الاستعمال . ولو ذهبنا إلى أن اسمها ضمير شأن وأن الجملة التي بعدها خبر عن ضمير الشأن كما ذهبوا إليه في ( أنّ ) المفتوحة الهمزة إذا خففت لما كان ذلك بعيداً . وفي كلام صاحب « الكشاف » ما يشهد له في تفسير قوله تعالى : { وإن كانوا من قبلُ لفي ضلال مبين } في سورة آل عمران ( 164 ) ، والجملة بعدها مستأنفة ، واللاّم في قوله لَيُضِلّنا } هي الفارقة بين ( إنْ ) المحققة وبين ( إنْ ) النافية .
والصبر : الاستمرار على ما يشق عمله على النفس . ويعدّى فعله بحرف ( على ) لما يقتضيه من التمكن من الشيء المستمر عليه .
و { لولا } حرف امتناع لوجود ، أي امتناع وقوع جوابها لأجل وجود شرطها فتقتضي جواباً لشرطها ، والجواب هنا محذوف لدلالة ما قبل { لولا } عليه ، وهو { إن كاد ليضلنا } . وفائدة نسج الكلام على هذا المنوال دون أن يؤتى بأداة الشرط ابتداء متلوة بجوابها قصد العناية بالخبر ابتداء بأنه حاصل ثم يؤتى بالشرط بعده تقييداً لإطلاق الخبر فالصناعة النحوية تعتبر المقدَّم دليلَ الجواب ، والجواب محذوفاً لأن نظر النحوي لإقامة أصل التركيب ، فأما أهل البلاغة فيعتبرون ذلك للاهتمام وتقييد الخبر بعد إطلاقه ، ولذا قال في « الكشاف » : « { لولا } في مثل هذا الكلام جار مجرى التقييد للحكم المطلق من حيث المعنى لا من حيث الصنعة » فهذا شأن الشروط الواقعة بعد كلام مقصود لذاته كقوله تعالى : { لا تتخذوا عدوّي وعدوّكم أولياء } إلى قوله : { إن كنتم خرجتم جهاداً في سبيلي } [ الممتحنة : 1 ] فإن قوله : { إن كنتم } قيد في المعنى للنهي عن موالاة أعداءِ الله . وتأخير الشرط ليَظهر أنه قيد للفعل الذي هو دليل الجواب . قال في « الكشاف » : { إن كنتم خرجتم } متعلق ب { لا تتخذوا } يعني : لا تتولوا أعدائي إن كنتم أوليائي . وقولُ النحويين في مثله هو شرط جوابه محذوف لدلالة ما قبله عليه » اه . وكذلك ما قدم فيه على الشرط ما حقه أن يكون جواباً للشرط تقديماً لقصد الاهتمام بالجواب كقوله تعالى : { قل فأتوا بالتوراة فاتلوها إن كنتم صادقين } [ آل عمران : 93 ] .
{ وسوف يعلمون حين يرون العذاب من أضل سبيلا }
هذا جواب قولهم { إن كاد لَيُضِلنا عن آلهتنا لولا أن صبرنا عليها } المتضمن أنهم على هدى في دينهم ، وكان الجواب بقطع مُجادلتهم وإحالتهم على حين رؤيتهم العذاب ينزل بهم ، فتضمن ذلك وعيداً بعذاب . والأظهر أن المراد عذاب السيف النازل بهم يوم بدر ، وممن رآه أبو جهل سيّد أهل الوادي ، وزعيم القالة في ذلك النادي .
ولما كان الجواب بالإعراض عن المحاجّة ارتكب فيه أسلوب التهكم بجعل ما ينكشف عنه المستقبل هو معرفة من هو أشد ضلالاً من الفريقين على طريقة المجاراة وإرخاء العنان للمخطىءِ إلى أن يقف على خطئه وقد قال أبو جهل يوم بدر وهو مثخَّن بالجراح في حالة النزع لما قال له عبد الله بن مسعود : أنتَ أبو جهل ؟ فقال : « وهَل أعمد من رجل قتله قومه » .
تفسير مقاتل بن سليمان 150 هـ :
{إن كاد ليضلنا عن ءالهتنا} يعني: ليستزلنا عن عبادة آلهتنا، {لولا أن صبرنا} يعني: تثبتنا {عليها} يعني: على عبادتها ليدخلنا في دينه،
{وسوف يعلمون حين يرون العذاب} في الآخرة {من أضل سبيلا}، يعني: من أخطأ طريق الهدى، أهم أم المؤمنون؟.
جامع البيان عن تأويل آي القرآن للطبري 310 هـ :
يقول تعالى ذكره مخبرا عن هؤلاء المشركين الذين كانوا يهزؤون برسول الله صلى الله عليه وسلم: إنهم يقولون إذا رأوه: قد كاد هذا يضلنا عن آلهتنا التي نعبدها، فيصدّنا عن عبادتها لولا صبرنا عليها، وثبوتنا على عبادتها. "وَسَوْفَ يَعْلَمُونَ حِينَ يَرَوْنَ العذَابَ "يقول جلّ ثناؤه: سيبين لهم حين يعاينون عذاب الله قد حلّ بهم على عبادتهم الآلهة "مَنْ أضَلّ سَبِيلاً" يقول: من الراكب غير طريق الهدى، والسالك سبيل الردى أنت أوهم.
تأويلات أهل السنة للماتريدي 333 هـ :
... في قوله تعالى: {إن كاد ليضلنا عن} عبادة {آلهتنا} دلالة أنه إنما أراد أن يضلهم عن عبادتهم الأصنام بالحجج والآيات؛ إذ ليس في وسع النبي صرفهم ومنعهم عن ذلك إلا من وجه لزوم الآيات والحجج، إلا أنهم عاندوا تلك الآيات والحجج وكابروها، وثبتوا على عبادة الأصنام والأوثان. وإلا علموا من جهة الآيات والحجج التي أقامها عليهم أنه على الحق وأنهم على باطل.
ثم قوله تعالى: {وسوف يعلمون حين يرون العذاب من أضل سبيلا} أي يعلمون حين لا يقدرون على الجحود والإنكار إذا نزل بهم العذاب ووقع، {من أضل سبيلا} هم أو المؤمنون، لأنهم علموا بالآيات والحجج أنه على حق وأنهم على باطل وعلموا الموعود من العذاب. فأخبر أنهم يعلمون عند وقوعه بهم علما، لا يقدرون على جحوده ولا إنكاره كقوله: {فلما رأوا بأسنا قالوا آمنا بالله وحده} [غافر: 84] وهذه الآية وقوله: {أبصرنا وسمعنا فارجعنا نعمل صالحا إنا موقنون} [السجدة: 12] وأمثال ذلك إذا عاينوا الموعود في الدنيا يقرون به، لا يقدرون على الجحود؛ فكذلك قوله: {وسوف يعلمون} علما لا يقدرون على الإنكار والجحود {حين يرون العذاب من أضل سبيلا}.
التبيان في تفسير القرآن للطوسي 460 هـ :
وقوله "إن كاد ليضلنا عن آلهتنا "أي قد قارب أن يأخذ بنا في غير جهة عبادة آلهتنا، على وجه يؤدي إلى هلاكنا. والإضلال: الأخذ بالشيء إلى طريق الهلاك...
الكشاف عن حقائق التنزيل للزمخشري 538 هـ :
وقولهم: {إِن كَادَ لَيُضِلُّنَا} دليل على فرط مجاهدة رسول الله صلى الله عليه وسلم في دعوتهم، وبذله قصارى الوسع والطاقة في استعطافهم، مع عرض الآيات والمعجزات عليهم حتى شارفوا – بزعمهم- أن يتركوا دينهم إلى دين الإسلام، لولا فرط لجاجهم واستمساكهم بعبادة آلهتهم...
{وَسَوْفَ يَعْلَمُونَ} وعيد ودلالة على أنهم لا يفوتونه وإن طالت مدّة الإمهال، ولا بدّ للوعيد أن يلحقهم فلا يغرّنهم التأخير.
وقوله: {مَنْ أَضَلُّ سَبِيلاً} كالجواب عن قولهم {إِن كَادَ لَيُضِلُّنَا} لأنه نسبة لرسول الله إلى الضلال من حيث لا يضلّ غيره إلاّ من هو ضال في نفسه.
{إن كاد ليضلنا عن آلهتنا لولا أن صبرنا عليها} وذلك يدل على أمور؛
الأول: أنهم سموا ذلك إضلالا، وذلك يدل على أنهم كانوا مبالغين في تعظيم آلهتهم وفي استعظام صنيعه صلى الله عليه وسلم في صرفهم عنه، وذلك يدل على أنهم كانوا يعتقدون أن هذا هو الحق... ثم نسبهم الله تعالى إلى الكفر والضلال، وقولهم: {لولا أن صبرنا عليها} يدل أيضا على ذلك. الثاني: يدل هذا القول منهم على جد الرسول عليه السلام واجتهاده في صرفهم عن عبادة الأوثان، ولولا ذلك لما قالوا: {إن كاد ليضلنا عن آلهتنا لولا أن صبرنا عليها} وهكذا كان عليه السلام فإنه في أول الأمر بالغ في إيراد الدلائل والجواب عن الشبهات وتحمل ما كانوا يفعلونه من أنواع السفاهة وسوء الأدب. الثالث: أن هذا يدل على اعتراف القوم بأنهم لم يعترضوا البتة على دلائل الرسول صلى الله عليه وسلم وما عارضوها إلا بمحض الجحود والتقليد لأن قولهم: {لولا أن صبرنا عليها} إشارة إلى الجحود والتقليد، ولو ذكروا اعتراضا على دلائل الرسول عليه السلام لكان ذكر ذلك أولى من ذكر مجرد الجحود والإصرار الذي هو دأب الجهال، وذلك يدل على أن القوم كانوا مقهورين تحت حجته عليه السلام، وأنه ما كان في أيديهم إلا مجرد الوقاحة. الرابع: الآية تدل على أن القوم صاروا في ظهور حجته عليه السلام عليهم كالمجانين لأنهم استهزأوا به أولا، ثم وصفوه بأنه كاد يضلنا عن آلهتنا لولا أن قابلناه بالجحود والإصرار، فهذا الكلام الأخير يدل على أن القوم سلموا له قوة الحجة وكمال العقل والكلام الأول وهو السخرية والاستهزاء لا يليق إلا بالجاهل العاجز، فالقوم لما جمعوا بين هذين الكلامين دل ذلك على أنهم كانوا كالمتحيرين في أمره، فتارة بالوقاحة يستهزئون منه، وتارة يصفونه بما لا يليق إلا بالعالم الكامل. ثم إنه سبحانه لما حكى عنهم هذا الكلام زيف طريقتهم في ذلك من ثلاثة أوجه أولها: قوله: {وسوف يعلمون حين يرون العذاب من أضل سبيلا} لأنهم لما وصفوه بالإضلال في قولهم: {إن كاد ليضلنا} بين تعالى أنه سيظهر لهم من المضل ومن الضال عند مشاهدة العذاب الذي لا مخلص لهم منه فهو وعيد شديد لهم على التعامي والإعراض عن الاستدلال والنظر...
روح المعاني في تفسير القرآن والسبع المثاني للآلوسي 1270 هـ :
وهذا اعتراف منهم بأنه صلى الله عليه وسلم قد بلغ من الاجتهاد في الدعوة إلى التوحيد وإظهار المعجزات وإقامة الحجج والبيانات ما شارفوا به أن يتركوا دينهم لولا فرط لجاجهم وغاية عنادهم، ولا ينافي هذا استحقارهم واستهزائهم السابق لأن هذا من وجه وذاك من وجه آخر زعموه سبباً لذلك قاتلهم الله تعالى.
وقيل: إن كلامهم قد تناقض لاضرابهم وتحيرهم فإن الاستفهام السابق دال على الاستحقار وهذا دال على قوة حجته وكمال عقله صلى الله عليه وسلم ففيما حكاه سبحانه عنهم تحميق لهم وتجهيل لاستهزائهم بما استعظموه...
وكان أولئك الكفرة لما جعلوا دعوته صلى الله عليه وسلم إلى التوحيد إضلالاً حيث قالوا {إِن كَادَ لَيُضِلُّنَا عَنْ ءالِهَتِنَا} الخ والمضل لغيره لا بد أن يكون ضالاً في نفسه جيء بهذه الجملة رداً عليهم ببيان أنه عليه الصلاة والسلام هاد لا مضل على أبلغ وجه فإنها تدل على نفي الضلال عنه صلى الله عليه وسلم لأن المراد أنهم يعلمون أنهم في غاية الضلال لا هو، ونفي اللازم يقتضي في ملزومه فيلزمه أن يكون عليه الصلاة والسلام هادياً لا مضلاً، وفي تقييد العلم بوقت رؤية العذاب وعيد لهم وتنبيه على أنه تعالى لا يهملهم وإن أمهلهم.
في ظلال القرآن لسيد قطب 1387 هـ :
وبينما كانوا يظهرون الهزء والاستخفاف كانت أقوالهم ذاتها تشي بمقدار ما في نفوسهم من شخصه ومن حجته ومن القرآن الذي جاء به، فيقولون:
(إن كاد ليضلنا عن آلهتنا لولا أن صبرنا عليها)..
فلقد زلزل قلوبهم إذن باعترافهم حتى كادوا يتركون آلهتهم وعبادتهم -على شدة حرصهم على استبقاء ديانتهم وما وراءها من مراكز ومغانم- لولا أنهم قاوموا تأثرهم به وصبروا على آلهتهم! والصبر لا يكون إلا على المقاومة العنيفة للجاذبية العنيفة. وهم يسمون الهداية إضلالا لسوء تقديرهم للحقائق وتقويمهم للقيم. ولكنهم لا يملكون إخفاء الزلزلة التي أصابت قلوبهم من دعوة محمد [صلى الله عليه وسلم] وشخصيته والقرآن الذي معه حتى وهم يتظاهرون بالاستخفاف بشخصه ودعوته، إصرارا وعنادا. ومن ثم يعاجلهم بالتهديد المجمل الرهيب:
(وسوف يعلمون حين يرون العذاب من أضل سبيلا)..
فيعلمون إن كان ما جاءهم به هو الهدى أو أنه هو الضلال. ولكن حين لا ينفع العلم، حين يرون العذاب. سواء أكان ذلك في الدنيا كما ذاقوا يوم بدر، أم كان في الآخرة كما يذوقون يوم الحساب.
زهرة التفاسير - محمد أبو زهرة 1394 هـ :
... إنه بماضيه وظهور صدقه، وعدم الدليل على كذبه في حججه المتوالية التي كانت تجيء دليلا ردف دليل قارب أن يبعدنا عن آلهتنا، أي يبعدنا عن عبادة آلهتنا، ويجنبنا، إياها، {لَوْلَا أَن صَبَرْنَا عَلَيْهَا} أي لولا أن حبسنا أنفسنا عليها، فصبر هنا بمعنى حبس، كقوله تعالى: {وَاصْبِرْ نَفْسَكَ مَعَ الَّذِينَ يَدْعُونَ رَبَّهُمْ بِالْغَدَاةِ وَالْعَشِيِّ يُرِيدُونَ وَجْهَهُ... (28)} [الكهف].
وإن هذا النص الكريم الحاكي لأحوالهم النفسية يدل على أمرين: أولهما أنهم كانوا في مغالطة نفسية، بين باطل اعتنقوه وحق لاح نوره بين أيديهم بحججه وأدلته الناصعة المنيرة، والثاني أنهم لتقليدهم وتعصبهم لما كانوا عليه وما وجدوا عليه الآباء فكانوا يحاولون إبطال الحق وتأييد الباطل، فحبسوا أنفسهم على الباطل حبسا، وأنهم كانوا يتبعون الحق لولا أنهم حبسوا أنفسهم على الباطل، ولولا شرطها صبرنا، وجوابها محذوف دل عليه ما قبلها.
وهكذا المبطل دائما يكون غير مستقر على فكرة، بل الأوهام تسيطر، وتضع على الإدراك غشاء مانعا من أن يصلوا إلى الحقائق ويؤمنوا بها، ولا تحسبن الضالين يؤمنون بشيء.
وقوله تعالى: {وَسَوْفَ يَعْلَمُونَ حِينَ يَرَوْنَ الْعَذَابَ مَنْ أَضَلُّ سَبِيلًا} سوف هنا لتأكيد وقوع الفعل في المستقبل، أي سيعلمون علما مؤكدا في أي جانب كان الضلال، أكان مع الهادي المرشد الأمين، أم منكم، وأنتم تعبدون أحجارا لا تنفع ولا تضر، وقد حبستم أنفسكم عليها حبسا لا تخرجون من دائرة سلطانه الموهوم، وإنكم ستعرفون الحق الواضح الأبلج الناصع في نوره وبياضه عندما ترون العذاب، فالنفوس الضالة لا يهديها إلى الحق الحجة الدامغة، بل تزيدهم إصرارا على باطلهم، ويعلمون حينئذ الحق في وقته، إذ يعلمونه في وقت نزول العذاب، وهو علم ندم، ولات حين مندم.
وقوله تعالى: {مَنْ أَضَلُّ سَبِيلًا} استفهام لإنكار حالهم وتوبيخهم على جهلهم مع مجازاتهم على ما كان منهم في جنب النبي في الدنيا، {أَضَلُّ سَبِيلًا} أي أبعد عن الطريق المستقيم، والله بكل شيء عليم
تفسير من و حي القرآن لحسين فضل الله 1431 هـ :
{إِن كَادَ لَيُضِلُّنَا عَنْ آلِهَتِنَا لَوْلاَ أَن صَبْرَنَا عَلَيْهَا}. إنه يملك أسلوباً ساحراً في نظرته إلى القضايا، وفي معالجته لها، وفي طريقة إثارته للكلمة وللأسلوب في مواقع الإِقناع، ولذلك، فقد استطاع أن يزلزل البعض من الناس لمصلحة دعوته، وتطور الأمر به حتى بلغ درجةً شديدةً من الخطورة، وذلك، في محاولته الجادّة لإرباك قناعتنا بقداسة الالهة التي نعبدها، وربما استطاع أن ينفذ إلى بعض أفكارنا ومشاعرنا، وأن يترك تأثيره على إيماننا بها، وقد كان من الممكن أن يحوّلنا إلى الإيمان بالله الواحد والكفر بالأصنام، لأن خطته كانت أن يشغلنا عنها بحلاوة حديثه، وأن يبعدنا عن الالتزام بها بروعة أساليبه، لولا أننا انتبهنا إلى المسألة قبل فوات الأوان، فجاهدنا مشاعرنا حتى لا تهتز معه، وواجهنا أفكارنا حتى لا تقتنع به، واستطعنا أن نتحمل كل آلام المعاناة المضادّة لتوجهاته، وصبرنا على آلهتنا، والتزمنا الموقف الصلب معها على خط الثبات في الإخلاص لها وعبادتها.
ولكن الله يواجه هذا المنطق بقوّة الخالق الذي يتوعد عباده المشركين المنحرفين عن خط الاستقامة، ليوضح الفكرة الحاسمة التي تنتظر الجميع في نهاية المطاف، وذلك بقوله: {وَسَوْفَ يَعْلَمُونَ} هؤلاء الذين يقفون في مواجهة الرسول بأساليب السخرية {حِينَ يَرَوْنَ الْعَذَابَ} الذي ينتظرهم يوم القيامة، {مَنْ أَضَلُّ سَبِيلاً} عندما ينكشف لهم خط السير الذي يؤدي إلى الجنة للملتزمين بما جاء به رسول الله (ص)، وخط الانحراف الذي يؤدي إلى النار للذين التزموا عقيدة الكفر والإلحاد.