قوله تعالى : { لا جرم } ، حقا { أن الله يعلم ما يسرون وما يعلنون إنه لا يحب المستكبرين } .
أخبرنا أبو سعيد بكر بن محمد بن محمد بن محمي البسطامي ، أنبأنا أبو الحسن عبد الرحمن ابن إبراهيم بن سختونة ، أنبأنا أبو الفضل سفيان بن محمد الجوهري ، حدثنا علي بن الحسن بن أبي عيسى الهلالي ، حدثنا يحيى بن حماد ، حدثنا شعبة ، عن ابان بن تغلب ، عن فضيل العقيمي ، عن إبراهيم النخعي ، عن علقمة بن قيس ، عن عبد الله عن النبي صلى الله عليه وسلم قال : " لا يدخل الجنة من في قلبه مثقال ذرة من كبر ، ولا يدخل النار من في قلبه مثقال ذرة من إيمان ، فقال رجل : يا رسول الله إن الرجل يحب أن يكون ثوبه حسنا ؟ قال : إن الله جميل يحب الجمال ، الكبر بطر الحق وغمط الناس " .
ثم بين - سبحانه - سوء مصيرهم ، فقال : { لاَ جَرَمَ أَنَّ اللَّهَ يَعْلَمُ مَا يُسِرُّونَ وَمَا يُعْلِنُونَ إِنَّهُ لاَ يُحِبُّ الْمُسْتَكْبِرِينَ } .
وكلمة { لا جرم } وردت فى القرآن فى خمسة مواضع ، وفى كل موضع كانت متلوة بأن واسمها ، وليس بعدها فعل .
وجمهور النحاة على أنها مركبة من { لا } و { جرم } تركيب خمسة عشر ومعناها بعد التركيب معنى الفعل : حق وثبت ، والجملة بعدها فاعل .
قال الخليل : لا جرم ، كلمة تحقيق ولا تكون إلا جوابا ، يقال : فعلوا ذلك ، فيقال : لا جرم سيندمون .
وقال الفراء : { لا جرم } كلمة كانت فى الأصل بمنزلة لا بد ولا محالة ، فجرت على ذلك وكثرت حتى تحولت إلى معنى القسم ، وصارت بمنزلة حقا فلذلك يجاب عنها باللام ، كما يجاب بها عن القسم ألا تراهم يقولون لا جرم لآتينك .
والمعنى : حق وثبت أن الله - تعالى - يعلم ما يسره هؤلاء المشركون وما يعلنونه من أقوال وأفعال ، وسيجازيهم على ذلك بما يستحقونه من عقوبات ، لأنه - سبحانه - لا يحب المستكبرين عن الاستجابة للحق ، المغرورين بأموالهم وأولادهم ، الجاحدين لنعم الله وآلائه .
قال القرطبى : قال العلماء : وكل ذنب يمكن التستر منه وإخفاؤه ، إلا الكبر ، فإنه فسق يلزمه الإِعلان ، وهو أصل العصيان كله .
وفى الحديث الصحيح : " إن المتكبرين يحشرون أمثال الذَرِّ يوم القيامة ، يطؤهم الناس بأقدامهم لتكبرهم " أو كما قال صلى الله عليه وسلم : " تصغر لهم أجسامهم فى المحشر حتى يضرهم صغرها ، وتعظم لهم فى النار حتى يضرهم عظمها " .
وبعد أن أقامت السورة الكريمة الأدلة الساطعة ، على وحدانية الله ، وقدرته ، وعلى بطلان عبادة غيره . . أتبعت ذلك بحكاية بعض أقاويل المشركين ، وردت عليها بما يدحضها ، وببيان سوء عاقبتهم ، وعاقبة أشباههم من قبلهم ، فقال - تعالى - : { وَإِذَا قِيلَ لَهُمْ مَّاذَآ أَنْزَلَ رَبُّكُمْ قَالُواْ أَسَاطِيرُ الأَوَّلِينَ . . . } .
القول في تأويل قوله تعالى : { لاَ جَرَمَ أَنّ اللّهَ يَعْلَمُ مَا يُسِرّونَ وَمَا يُعْلِنُونَ إِنّهُ لاَ يُحِبّ الْمُسْتَكْبِرِينَ } .
يعني تعالى ذكره بقوله : لا جرم حقّا أن الله يعلم ما يسرّ هؤلاء المشركون من إنكارهم ما ذكرنا من الأنباء في هذه السورة ، واعتقادهم نكير قولنا لهم : إلهكم إله واحد ، واستكبارهم على الله ، وما يعلنون من كفرهم بالله وفريتهم عليه . إنّهُ لا يُحِبّ المُسْتَكْبِرينَ يقول : إن الله لا يحبّ المستكبرين عليه أن يوحدوه ويخلعوا ما دونه من الاَلهة والأنداد . كما :
حدثنا محمد بن عمرو ، قال : حدثنا جعفر بن عون ، قال : حدثنا مِسْعر ، عن رجل : أن الحسن بن عليّ كان يجلس إلى المساكين ، ثم يقول : إنّهُ لا يُحِبّ المُسْتَكْبِرينَ .
جامع البيان عن تأويل آي القرآن للطبري 310 هـ :
لا جرم حقّا أن الله يعلم ما يسرّ هؤلاء المشركون من إنكارهم ما ذكرنا من الأنباء في هذه السورة، واعتقادهم نكير قولنا لهم: إلهكم إله واحد، واستكبارهم على الله، وما يعلنون من كفرهم بالله وفريتهم عليه.
"إنّهُ لا يُحِبّ المُسْتَكْبِرينَ" يقول: إن الله لا يحبّ المستكبرين عليه أن يوحدوه ويخلعوا ما دونه من الآلهة والأنداد.
تأويلات أهل السنة للماتريدي 333 هـ :
{لا جرم أن الله يعلم ما يسرون وما يعلنون} يحتمل قوله: {ما يسرون} من المكر برسول الله والكيد له {وما يعلنون} من المظاهرة عليه، أو {يعلم ما يسرون} من أعمالهم الخبيثة التي أسروها {وما يعلنون} وما أعلنوها. يخبر أنه لا يخفى عليه شيء من أعمالهم أسروا، أو أعلنوا.
{لا جرم} قال الأصم: {لا جرم} كلمة تستعملها العرب في إيجاب تحقيق أو نفي تحقيق كقولهم: حقا، ولعمري، و أيم الله، ونحوه. وقال الحسن: هي كلمة وعيد. وقال بعضهم: {لا جرم} حقا، و: بلى، ولابد، وكله في الحاصل يرجع إلى واحد، وهو وعيد لأن قوله: {يعلم ما يسرون وما يعلنون} وعيد، والله أعلم. وقوله تعالى: {إنه لا يحب المستكبرين} لأنه لا يحب الاستكبار، ولا يليق لأحد من الخلائق أن يتكبر على غيره من الخلق؛ لأن الخلق كلهم أشكال وأمثال، ولا يجوز لكل ذي مثل أو شكل أن يتكبر على شكله، ولأن تكبر بعض على بعض كذب وزور؛ إذ جعل (الخلق) كلهم أمثالا وأشكالا. لذلك كانوا زورا وكذبا، وقد حرم الله تعالى الكذب، والزور؛ وجعله قبيحا في العقول.
لطائف الإشارات للقشيري 465 هـ :
فيفضحهم ويبيِّنُ نفاقَهم، ويُعْلِنُ للمؤمنين كفرهم وشِقاقهم.
قوله جلّ ذكره: {إِنَّهُ لاَ يُحِبُّ المُسْتَكْبِرِينَ}. دليل الخطاب أنه يحب المتواضعين المتخاشعين، ويكفيهم فضلاً بشارة الحق لهم بمحبته لهم.
الكشاف عن حقائق التنزيل للزمخشري 538 هـ :
يجوز أن يريد المستكبرين عن التوحيد يعني المشركين. ويجوز أن يعمّ كل مستكبر، ويدخل هؤلاء تحت عمومه.
والمعنى أنه تعالى يعلم أن إصرارهم على هذه المذاهب الفاسدة ليس لأجل شبهة تصوروها أو إشكال تخيلوه، بل ذلك لأجل التقليد والنفرة عن الرجوع إلى الحق والشغف بنصرة مذاهب الأسلاف والتكبر والنخوة.
نظم الدرر في تناسب الآيات و السور للبقاعي 885 هـ :
{ما يسرون} أي يخفون مطلقاً أو بالنسبة إلى بعض الناس. ولما كان علم السر لا يستلزم علم الجهر -كما مضى غير مرة، قال: {وما يعلنون} فهوما أخبر بذلك إلا عن أمر قطعي لا يقبل المراء. ولما كان في ذلك معنى التهديد، لأن المراد: فليجازينهم على دق ذلك وجله من غير أن يغفر منه شيئاً- كما يأتي التصريح به في قوله: {ليحملوا أوزارهم كاملة} [النحل: 25] علل هذا المعنى بقوله: {إنه} أي العالم بالسر والعلن {لا يحب المستكبرين}
إرشاد العقل السليم إلى مزايا الكتاب الكريم لأبي السعود 982 هـ :
{إِنَّهُ لاَ يُحِبُّ المستكبرين} تعليلٌ لما تضمنه الكلامُ من الوعيد، أي لا يحب المستكبرين عن التوحيد أو عن الآيات الدالةِ عليها أو لا يحب جنسَ المستكبرين، فكيف بمن استكبر عما ذكر.
تيسير التفسير لاطفيش 1332 هـ :
{إِنَّهُ لاَ يُحِبُّ الْمُسْتكْبِرِينَ} أي لا يرضى أَفعالهم ولا أقوالهم ولا اعتقادهم ولا استكبارهم، أَو لا يأمر بحالهم، أَولا يثيبهم عليها كما يثيب المؤمنين على إيمانهم بل يعاقبهم، والأصل أنه لا يحبهم، وأَظهر ليصرح بالعلة وهى الاستكبار فإِن تعليق الحكم بمعنى المشتق يؤذن بعلية معنى ما منه الاشتقاق، أو المتكبرين عام لكل مستكبر فالإِظهار على بابه ويدخل كفار قريش فيهم دخولا أَوليا، أَو المعنى لا يحب المستكبرين مطلقاً فكيف من استكبر على التوحيد واتباع الرسول صلى الله عليه وسلم، أَو المستكبر متعاطي الكبر بما ليس عنده فهو أَقبح من المتكبر، أَو لا يحب الذين يطلبون الكبر فلم يصلوه فكيف بمن طلبه وفعله، والأَولى أنه بمعنى المتكبر لقوله: فلبئس مثوى المتكبرين، والأولى أَنهما سواء وأن كلا منهما يطلق على من ادعى الكبرياءَ من الناس بما عنده، ومن ادعاها بما ليس عنده..والذنوب يمكن إخفاؤها إلا التكبر فإنه لا يخفى وهو أصل العصيان إذ تكبر إبليس فلم يسجد لآدم...
في ظلال القرآن لسيد قطب 1387 هـ :
والله الذي خلقهم يعلم ذلك منهم. فهو يعلم ما يسرون وما يعلنون. يعلمه دون شك ولا ريب ويكرهه فيهم. (إنه لا يحب المستكبرين) فالقلب المستكبر لا يرجى له أن يقتنع أو يسلم. ومن ثم فهم مكرهون من الله لاستكبارهم الذي يعلمه من يعلم حقيقة أمرهم ويعلم ما يسرون وما يعلنون.
التحرير والتنوير لابن عاشور 1393 هـ :
جملة {لا جرم أن الله يعلم} معترضة بين الجملتين المتعاطفتين. والجَرم بالتحريك: أصلهُ البُدُّ. وكثر في الاستعمال حتى صار بمعنى حَقّاً.
والتعريف في {المستكبرين} للاستغراق، لأن شأن التذييل العموم. ويشمل هؤلاء المتحدّث عنهم فيكون إثبات العقاب لهم كإثبات الشيء بدليله.
تفسير من و حي القرآن لحسين فضل الله 1431 هـ :
ولكنهم يحاولون أن يغطّوا هذه الحالة السلبية المعقّدة فيهم، والإيحاء بأن رفضهم للعقيدة الجديدة أو للرسول ينطلق من موقفٍ فكري حقيقيّ، موضوعه اختلاف المفاهيم الفكرية التي يحملونها عن قناعةٍ عما تطرحه دعوة الرسول من قضايا ومفاهيم، لإكساب معارضتهم نوعاً من الاحترام أمام جماعاتهم، كي لا تتحول إلى موقف عنادٍ وتمرّدٍ دون أساس. ولكن الله يفضح المسألة كلها، لأنه يعلم خفايا الأشياء كما يعلم ظواهرها {لاَ جَرَمَ أَنَّ اللَّهَ يَعْلَمُ مَا يُسِرُّونَ وَمَا يُعْلِنُونَ} فلا يمكنهم إخفاء حقيقة الموقف عنه، لأن علمه ينفذ إلى ما يفكرون، حتى يطلع على وساوس الصدور وخائنة الأعين، الأمر الذي يفقدهم محبة الله، لاطلاعه على طبيعة الكبرياء المعقّدة في مواقفهم.
{إِنَّهُ لاَ يُحِبُّ الْمُسْتَكْبِرِينَ} لأن الاستكبار لا يمثل موقف انفتاحٍ إنسانيّ، بل يمثل حالة انغلاقٍ معقّدٍ شيطانيّ مرفوضٍ من الله ورسالاته، لأنه يقهر إنسانية المستضعفين من الناس، وينحرف بالتفكير إلى اتجاهٍ مضادٍ للحقيقة، ويحوّل الحياة من حوله إلى ما يشبه الجحيم...