فتح البيان في مقاصد القرآن للقنوجي - صديق حسن خان  
{لَا جَرَمَ أَنَّ ٱللَّهَ يَعۡلَمُ مَا يُسِرُّونَ وَمَا يُعۡلِنُونَۚ إِنَّهُۥ لَا يُحِبُّ ٱلۡمُسۡتَكۡبِرِينَ} (23)

{ لاَ جَرَمَ أَنَّ اللّهَ يَعْلَمُ مَا يُسِرُّونَ وَمَا يُعْلِنُونَ إِنَّهُ لاَ يُحِبُّ الْمُسْتَكْبِرِينَ ( 23 ) }

{ لاَ جَرَمَ } قال الخليل : هي كلمة تحقيق ولا يكون إلا جوابا أي حقا ، قلت لا نافية وجرم بمعنى بد ، وهذا بحسب الأصل ، وأما الآن فقد ركبت لا مع جرم تركيب خمسة عشر وجعلا بمعنى كلمة واحدة ، وتلك الكلمة مصدر أو فعل معناه حق وثبت .

وقوله : { أَنَّ اللّهَ } فاعل لا جرم وقد مر تحقيق الكلام في لا جرم بأبسط من هذا قال أبو مالك لا جرم ، يعني الحق ، وقال الضحاك لا كذب { يَعْلَمُ مَا يُسِرُّونَ } من أقوالهم وأفعالهم { وَمَا يُعْلِنُونَ } من ذلك { إِنَّهُ لاَ يُحِبُّ الْمُسْتَكْبِرِينَ } أي لا يحب هؤلاء الذين يستكبرون عن توحيد الله والاستجابة لأنبيائه ، والجملة تعليل لما تضمنه الكلام المتقدم .

أخرج مسلم وأبو داود والترمذي وابن ماجة وغيرهم عن ابن مسعود قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : ( لا يدخل الجنة من كان في قلبه مثقال ذرة من كبر ، ولا يدخل النار من كان في قلبه مثقال ذرة من إيمان ، فقال رجل يا رسول الله الرجل يحب أن يكون ثوبه حسنا ونعله حسنا ؛ فقال :إن الله جميل يحب الجمال ؛ الكبر من بطر الحق وغمطُ الناس ) {[1046]} .

وفي ذم الكبر ومدح التواضع أحاديث كثيرة ، وكذلك في إخراج محبة حسن الثوب وحسن النعل ونحو ذلك من الكبر أحاديث كثيرة ، فقد روي عن الحسين بن علي أنه مر بمساكين قد قدموا كسراً لهم وهم يأكلون فقالوا : الغذاء يا أبا عبد الله فنزل وجلس معهم وقال : إنه لا يحب المستكبرين ثم أكل فلما فرغوا قال : قد أجبتكم فأجيبوني فقاموا معه إلى منزله فأطعمهم وسقاهم وأعطاهم فانصرفوا .

قال العلماء ؛ كل ذنب ستره وإخفاؤه إلا التكبر فإنه فسق يلزمه الإعلان وهو أصل العصيان كله ، وفي الحديث الصحيح : ( أن المتكبرين أمثال الذر يوم القيامة تطؤهم الناس بأقدامهم لتكبرهم ) {[1047]} أو كما قال صلى الله عليه وسلم : ( تصغر لهم أجسامهم في المحشر حين يضرهم تصغيرها وتعظم لهم في النار حين يضرهم عظمها ) ذكره القرطبي .

والحاصل أن النبي صلى الله عليه وسلم قد بين ماهية الكبر أنه بطر الحق وغمط الناس ، فهذا هو الكبر المذموم ، وقد ساق صاحب الدر المنثور عند تفسيره لهذه الآية أحاديث كثيرة ليس هذا مقام إيرادها ، بل المقام مقام ذكر ما له علاقة بتفسير الكتاب العزيز .


[1046]:مسلم 91.
[1047]:الترمذي كتاب القيامة باب 47 – الإمام أحمد 2 / 179.