اللباب في علوم الكتاب لابن عادل - ابن عادل  
{لَا جَرَمَ أَنَّ ٱللَّهَ يَعۡلَمُ مَا يُسِرُّونَ وَمَا يُعۡلِنُونَۚ إِنَّهُۥ لَا يُحِبُّ ٱلۡمُسۡتَكۡبِرِينَ} (23)

قوله تعالىِ : { إلهكم إله وَاحِدٌ } لما زيف طريقة عبدة الأصنام وفساد مذاهبهم ، قال { إلهكم إله وَاحِدٌ } ثمَّ ذكر ما لأجله أصرَّ الكفار على الشركِ ؛ فقال : { فالذين لاَ يُؤْمِنُونَ بالآخرة قُلُوبُهُم مُّنكِرَةٌ } جاحدة { وَهُم مُّسْتَكْبِرُونَ } مستعظمون أي : إنَّ المؤمنين في الآخرة يرغبون بالفوز في الثواب الدائم ، ويخافون العقاب الدائم ، فإذا سمعوا الدلائل خافوا ، وتأملوا ، وتفكروا فيما يسمعون ، فلا جرم ينتفعون بسماع الدلائل ، ويرجعون إلى الحقِّ .

وأمَّا الذين لا يؤمنون بالآخرة وينكرونها ، فإنهم لا يرغبون في الثواب ولا يرهبون عن الوقوع في العقاب ، فيبقون منكرين لكلِّ كلامٍ يخالف قولهم ، ويستكبرون عن الرجوع إلى قول غيرهم ، فيبقون مصرِّين على الجهل والضلال .

قوله تعالى : { لاَ جَرَمَ أَنَّ الله يَعْلَمُ مَا يُسِرُّونَ وَمَا يُعْلِنُونَ إِنَّهُ لاَ يُحِبُّ المستكبرين } .

قد تقدم الكلام على لفظة " لا جَرمَ " في سورة هودٍ - عليه السلام - والعامة على فتح الهمزة من " أن اللهَ " ، وكسرها عيسى{[19772]} الثقفي رحمه الله ، وفيها وجهان :

أظهرهما : الاستئناف .

والثاني : جريان " لا جرمَ " مجرى القسم فيتلقى بما يتلقى به .

وقال بعض العرب : " لا جَرمَ واللهِ لا [ فَارَقْتَُكَ ]{[19773]} " وهذا يضعف كونها للقسم ؛ لتصريحه بالقسم بعدها ، وإن كان أبُو حيَّان أتى بذلك مقوِّياً لجريانها مجرى القسم .

قوله : { إِنَّهُ لاَ يُحِبُّ المستكبرين } ، أي : أنَّ إصرارهم على الكفر ليس لأجل شبهة تصوروها ، بل لأجل التقليد لأسلافهم ، والتَّكبُّر ؛ قال عليه الصلاة والسلام : " لا يَدْخُل الجَنَّة مَنْ كَانَ في قَلْبهِ مِثْقَالُ ذرَّةٍ مِنْ كِبْر ، ولا يدْخُلُ النَّارَ مَنْ كَانَ في قَلْبِه مِثقَالُ ذرَّةٍ من إيمانٍ ، فقال رجُلٌ : يا رسُولَ الله - صلّى الله عَليْكَ - إنَّ الرَّجُلَ يُحِبُّ أنْ يكُونَ ثَوْبهُ حَسناً ، قال صلى الله عليه وسلم : إنَّ الله - تعَالَى - جَمِيلٌ يُحِبُّ الجَمالَ ، الكِبْرُ : بَطرُ الحقِّ ، وغَمْطُ البَاطلِ {[19774]} " .


[19772]:ينظر: الشواذ 72، البحر 5/469، الدر المصون 4/320.
[19773]:في أ: أفارقك.
[19774]:أخرجه مسلم (1/193) كتاب الإيمان: باب تحريم الكبر وبيانه (147/91) وأبو عوانة (1/31) والبغوي في "شرح السنة" (6/535).