معالم التنزيل في تفسير القرآن الكريم للبغوي - البغوي [إخفاء]  
{فَجَعَلَهُۥ غُثَآءً أَحۡوَىٰ} (5)

{ فجعله } بعد الخضرة ، { غثاءً } هشيماً بالياً ، كالغثاء الذي تراه فوق السيل . { أحوى } أسود بعد الخضرة ، وذلك أن الكلأ إذا جف ويبس اسود .

 
جامع البيان عن تأويل آي القرآن للطبري - الطبري [إخفاء]  
{فَجَعَلَهُۥ غُثَآءً أَحۡوَىٰ} (5)

وقوله : فَجَعَلَهُ غُثاءً أحْوَى يقول تعالى ذكره : فجعل ذلك المرعَى غُثاء ، وهو ما جفّ من النبات ويبس ، فطارت به الريح وإنما عُنِي به هاهنا أنه جعله هشيما يابسا متغيرا إلى الحُوّة ، وهي السواد ، من بعد البياض أو الخُضرة ، من شدّة اليبس . وبنحو الذي قلنا في ذلك قال أهل التأويل . ذكر من قال ذلك :

حدثني علي ، قال : حدثنا أبو صالح ، قال : ثني معاوية ، عن عليّ ، عن ابن عباس ، في قوله : غُثاءً أحْوَى يقول : هَشيما متغيرا .

حدثني محمد بن عمرو ، قال : حدثنا أبو عاصم ، قال : حدثنا عيسى وحدثني الحرث ، قال : حدثنا الحسن ، قال : حدثنا ورقاء ، جميعا عن ابن أبي نجيح ، عن مجاهد ، قوله : غُثاءً أحْوَى قال : غُثاء السيل أحوى ، قال : أسود .

حدثنا بشر ، قال : حدثنا يزيد ، قال : حدثنا سعيد ، عن قتادة ، في قوله : غُثاءً أحْوَى قال : يعود يبسا بعد خُضرة .

حدثني يونس ، قال : أخبرنا ابن وهب ، قال : قال ابن زيد ، في قوله : فَجَعَلَهُ غُثاءً أحْوَى قال : كان بقلاً ونباتا أخضر ، ثم هاج فيبُس ، فصار غُثاء أحوى ، تذهب به الرياح والسيول .

وكان بعض أهل العلم بكلام العرب يرى أن ذلك من المؤخّر الذي معناه التقديم ، وأن معنى الكلام : والذي أخرج المرعى أحوى : أي أخضر إلى السواد ، فجعله غثاء بعد ذلك ، ويعتلّ لقوله ذلك بقول ذي الرّمة :

حَوّاءُ قَرْحاءُ أشْراطِيّةُ وكَفَتْ *** فِيها الذّهابُ وحَفّتْها البَرَاعِيمُ

وهذا القول وإن كان غير مدفوع أن يكون ما اشتدّت خضرته من النبات ، قد تسميه العرب أسود ، غير صواب عندي بخلافه تأويل أهل التأويل في أن الحرف إنما يحتال لمعناه المخرج بالتقديم والتأخير إذا لم يكن له وجه مفهوم إلاّ بتقديمه عن موضعه ، أو تأخيره ، فإما وله في موضعه وجه صحيح فلا وجه لطلب الاحتيال لمعناه بالتقديم والتأخير .

 
المحرر الوجيز في تفسير الكتاب العزيز لابن عطية - ابن عطية [إخفاء]  
{فَجَعَلَهُۥ غُثَآءً أَحۡوَىٰ} (5)

و «الغثاء » ما يبس وجف وتحطم من النبات ، وهو الذي يحمله السيل ، وبه يشبه الناس الذين لا قدر لهم ، و «الأحوى » : قيل هو الأخضر الذي عليه سواد من شدة الخضرة والغضارة ، وقيل هو الأسود سواداً يضرب إلى الخضرة ومنه قول ذي الرمة : [ البسيط ]

لمياء في شفتيها حوّة لعس . . . وفي اللثاث وفي أنيابها شنب{[11748]}

قال قتادة : تقدير هذه الآية { أخرج المرعى } ، { أحوى } أسود من خضرته ونضارته ، { فجعله غثاء } عند يبسه ، ف { أحوى } حال ، وقال ابن عباس : المعنى { فجعله غثاء أحوى } أي أسود ، لأن الغثاء إذا قدم وأصابته الأمطار اسود وتعفن فصار { أحوى } بهذه الصفة .


[11748]:البيت في الديوان، واللسان، والقرطبي، والبحر المحيط، وفتح القدير، والشفة اللمياء هي اللطيفة القليلة الدم، وهذا يعطيها سمرة كانت محبوبة عند العرب، والحوة: السواد الضارب إلى الخضرة، وهو موضع الاستشهاد بالبيت هنا، واللعس –بفتح اللام المشددة والعين: لون الشفة إذا كانت تميل إلى السواد القليل، واللثات: جمع لثة، والشنب: برودة وعذوبة في الفم ورقة في الأسنان.
 
التحرير والتنوير لابن عاشور - ابن عاشور [إخفاء]  
{فَجَعَلَهُۥ غُثَآءً أَحۡوَىٰ} (5)

والغُثاء : بضم الغين المعجمة وتخفيف المثلثة ، ويقال بتشديد المثلثة هو اليابس من النبت .

والأحوى : الموصوف بالحُوَّة بضم الحاء وتشديد الواو ، وهي من الألوان : سُمرة تقرب من السواد . وهو صفة { غثاء } لأن الغثاء يابس فتصير خضرته حُوّة .

وهذا الوصف أحوى لاستحضار تغيُّر لونه بعد أن كان أخضر يانعاً وذلك دليل على تصرفه تعالى بالإنشاء وبالإنهاء . وفي وصف إخراج الله تعالى المرعى وجعله غُثاء أحوى مع ما سبقه من الأوصاف في سياق المناسبة بينها وبين الغرض المسوق له الكلام إيماء إلى تمثيل حال القرآن وهدايته وما اشتمل عليه من الشريعة التي تنفع الناس بحال الغيث الذي يَنبت به المرعَى فتنتفع به الدواب والأنعام ، وإلى أن هذه الشريعة تكمل ويبلغ ما أراد الله فيها كما يكمل المرعَى ويبلغ نُضجه حين يصير غثاء أحوى ، على طريقة تمثيلية مكنية رُمز إليها بذكر لازم الغيث وهو المرعى .

وقد جاء بيان هذا الإِيماء وتفصيله بقول النبي صلى الله عليه وسلم « مثل ما بَعَثني الله به من الهُدى والعِلم كمثَل الغيث الكثير أصابَ أرضاً فكان منها نَقِيُّةٌ قَبِلَتْ الماء فأنبتت الكلأ والعُشُبَ الكثير ، وكانت منها أجادب أمسكت الماء ، فنفع الله بها الناس فشربوا وسَقوا وزرعوا » الحديث .

ويجوز أن يكون المقصود من جملة : { فجعله غثاء أحوى } إدماج العبرة بتصاريف ما أودع الله في المخلوقات من مختلف الأطوار من الشيء إلى ضده للتذكير بالفناء بعد الحياة كما قال تعالى : { اللَّه الذي خلقكم من ضعف ثم جعل من بعد ضعف قوة ثم جعل من بعد قوة ضعفاً وشيبة يخلق ما يشاء وهو العليم القدير } [ الروم : 54 ] للإِشارة إلى أن مدة نضارة الحياة للأشياء تشبه المدة القصيرة ، فاستعير لعطف { جعله غثاء } الحرفُ الموضوع لعطف ما يحصل فيه حكم المعطوف بعدَ زمن قريب من زمن حصول المعطوف عليه ، ويكون ذلك من قبيل قوله تعالى : { إنما مثل الحياة الدنيا كماء أنزلناه من السماء فاختلط به نبات الأرض مما يأكل الناس والأنعام } إلى قوله : { فجعلناها حصيداً كأن لم تغن بالأمس } [ يونس : 24 ] .