قوله تعالى : { وتمت كلمة ربك } ، قرأ أهل الكوفة ويعقوب { كلمة } على التوحيد ، وقرأ الآخرون { كلمات } بالجمع ، وأراد بالكلمات أمره ونهيه ووعده ووعيده .
قوله تعالى : { صدقاً وعدلاً } ، أي : صدعاً في الوعد والوعيد ، وعدلاً في الأمر والنهي ، قال قتادة ومقاتل : صدقاً فيما وعد ، وعدلاً فيما حكم .
قوله تعالى : { لا مبدل لكلماته } ، قال ابن عباس : لا راد لقضائه ، ولا مغير لحكمه ، ولا خلف لوعده .
قوله تعالى : { وهو السميع العليم } ، قيل : أراد بالكلمات القرآن ( لا مبدل له ) ، لا يزيد فيه المفترون ولا ينقصون .
ثم بين - سبحانه - أن هذا الكتاب كامل من حيث ذاته بعد أن بين كماله من حيث إضافته إليه - تعالى - بكونه منزلا منه بالحق فقال - تعالى - : { وَتَمَّتْ كَلِمَتُ رَبِّكَ صِدْقاً وَعَدْلاً } وقرىء ( كلمات ربك ) .
والمراد بها - كما قال قتادى وغيره - القرآن .
أى : كمل كلامه - تعالى - وهو القرآن ، وبلغ الغاية فى صدق أخباره ومواعيده ، وفى عدل أحكامه وقضاياه .
وصدقا وعدلا مصدران منصوبان على الحال من { رَبِّكَ } أو من { كَلِمَتُ } وقيل : هما منصوبان على التمييز .
وجملة { لاَّ مُبَدِّلِ لِكَلِمَاتِهِ } مستأنفة لبيان فضل هذه الكلمات على غيرها أثر بيان فضلها فى ذاتها . أى : لا مغير لها بخلف فى الأخبار ، أو نقض فى الأحكام ، أو تحريف أو تبديل كما حدث فى التوراة والإنجيل ، وهذا ضمان من الله - تعالى - لكتابه بالحفظ والصيانة ، قال - تعالى - { إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا الذكر وَإِنَّا لَهُ لَحَافِظُونَ } ثم ختمت الآية بقوله { وَهُوَ السميع العليم } أى : هو - سبحانه - السميع لكل ما من شأنه أن يسمع ، العليم بكل ما يسرون وما يعلنون .
وقوله : { وَتَمَّتْ كَلِمَةُ رَبِّكَ صِدْقًا وَعَدْلا } قال قتادة : صدقا فيما قال{[11099]} وعدلا فيما حكم .
يقول : صدقا في الأخبار وعدلا في الطلب ، فكل ما أخبر به فحق{[11100]} لا مرية فيه ولا شك ، وكل ما أمر به فهو العدل الذي لا عدل سواه ، وكل ما نهى عنه فباطل ، فإنه لا ينهى إلا عن مَفْسَدة ، كما قال : { يَأْمُرُهُمْ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَاهُمْ عَنِ الْمُنْكَرِ [ وَيُحِلُّ لَهُمُ الطَّيِّبَاتِ وَيُحَرِّمُ عَلَيْهِمُ الْخَبَائِثَ ] }{[11101]} إلى آخر الآية [ الأعراف : 157 ] .
{ لا مُبَدِّلَ لِكَلِمَاتِهِ } أي : ليس أحد يُعقِّبُ حكمه تعالى لا في الدنيا ولا في الآخرة ، { وَهُوَ السَّمِيعُ } لأقوال عباده ، { الْعَلِيمُ } بحركاتهم وسكناتهم ، الذي يجازي كل عامل بعمله .
{ تمت } في هذا الموضع بمعنى استمرت وصحت في الأزل صدقاً وعدلاً ، وليس بتمام من نقص ، ومثله ما وقع في كتاب السيرة من قولهم وتم حمزة على إسلامه في الحديث مع أبي جهل ، و «الكلمات » ما نزل على عباده ، وقرأ عاصم وحمزة والكسائي «كلمة » بالإفراد هنا وفي يونس في الموضعين وفي حم المؤمن . وقرأ نافع وابن عامر جميع ذلك «كلماتُ » بالجمع . وقرأ ابن كثير وأبو عمرو هنا فقط «كلمات » بالجمع ، وذهب الطبري إلى أنه القرآن كما يقال كلمة فلان في قصيدة الشعر والخطبة البليغة .
قال القاضي أبو محمد : وهذا عندي بعيد معترض ، وإنما القصد العبارة عن نفوذ قوله تعالى : { صدقاً } فيما تضمنه من خبر { وعدلاً } فيما تضمنه من حكم ، هما مصدران في موضع الحال ، قال الطبري نصباً على التمييز وهذا غير صواب ، و { لا مبدل لكلماته } معناه في معانيها بأن يبين أحد أن خبره بخلاف ما أخبر به أو يبين أن أمره لا ينفذ ، والمثال من هذا أن الله تعالى قال لنبيه عليه السلام { فإن رجعك الله إلى طائفة منهم فاستأذنوك للخروج } إلى { الخالفين }{[5069]} ، فقال المنافقون بعد ذلك للنبي عليه السلام وللمؤمنين ذرونا نتبعكم فقال الله لنبيه : { يريدون أن يبدلوا كلام الله قل لن تتبعونا كذلكم قال الله من قبل }{[5070]} أو في قوله { فقل لن تخرجوا معي أبداً }{[5071]} لأن مضمنه الخبر بأن لا يباح لهم خروج ، وأما الألفاظ فقد بدلتها بنو إسرائيل وغيرتها ، هذا مذهب جماعة من العلماء ، وروي عن ابن عباس أنهم إنما بدلوا بالتأويل والأول أرجح ، وفي حرف أبي بن كعب ، «لا مبدل لكلمات الله » .
هذه الجملة معطوفة على جملة : { أفغير الله أبْتغي حَكَما } [ الأنعام : 114 ] لأنّ تلك الجملة مَقولُ قول مقدّر ، إذ التّقدير : قل أفغير الله أبتغي حكماً باعتبار ما في تلك الجملة من قوله : { وهو الذي أنزل إليكم الكتاب مفصّلاً } [ الأنعام : 114 ] فلمّا وصف الكتاب بأنّه منزّل من الله ، ووصف بوضوح الدّلالة بقوله : { وهو الذي أنزل إليكم الكتاب مفصّلاً } [ الأنعام : 114 ] ثمّ بشهادة علماء أهل الكتاب بأنَّه من عند الله بقوله : { والذين آتيناهم الكتاب يعلمون أنّه منزل من ربّك } [ الأنعام : 114 ] ، أعلَم رسوله عليه الصلاة والسلام والمؤمنين بأنّ هذا الكتاب تامّ الدلالة ، ناهض الحجّة ، على كلّ فريق : من مؤمن وكافر ، صادق وعدُه ووعيده ، عادل أمره ونهيه . ويجوز أن تكون معطوفة على جملة : { وجعلنا لكلّ نبيء عَدوّاً } وما بينهما اعتراض ، كما سنبيّنه .
والمراد بالتمام معنى مجازي : إمّا بمعنى بلوغ الشّيء إلى أحسن ما يبلغه ممّا يراد منه ، فإنّ التّمام حقيقته كون الشّيء وافراً أجزاءه ، والنقصان كونه فاقدا بعض أجزائه ، فيستعار لوفرة الصّفات التي تراد من نوعه ؛ وإمّا بمعنى التّحقّق فقد يطلق التّمام على حصول المنتظر وتحقّقه ، يقال : تَم ما أخبر به فلان ، ويقال : أتم وعده ، أي حقّقه ، ومنه قوله تعالى : { وإذِ آبتلى إبراهيم رَبُّه بكلمات فأتَمَّهُن } [ البقرة : 124 ] أي عمل بهنّ دون تقصير ولا ترخّص ، وقوله تعالى : { وتمّت كلمة ربّك الحسنى على بني إسرائيل بما صبروا } [ الأعراف : 137 ] أي ظهر وعده لهم بقوله : { ونريد أن نمنّ على الذين استضعفوا في الأرض } [ القصص : 5 ] الآية ، ومن هذا المعنى قوله تعالى : { والله متمّ نوره } [ الصف : 8 ] أي محقّق دينه ومثبتُه ، لأنَّه جعل الإتمام في مقابلة الإطفاء المستعمل في الإزالة مجازاً أيضاً .
وقوله : { كلمات ربك } قرأه الجمهور بصيغة الجمع وقرأه عاصم ، وحمزة ، والكسائي ، ويعقوب ، وخلف : كَلمة بالإفراد فقيل : المراد بالكلمات أو الكلمة القرآن ، وهو قول جمهور المفسّرين ، ونقل عن قتادة ، وهو الأظهر ، المناسب لجعْل الجملة معطوفة على جملة : { والذين آتيناهم الكتاب } [ الأنعام : 114 ] . فأمّا على قراءة الإفراد فإطلاق الكلمة على القرآن باعتبار أنّه كتاب من عند الله ، فهو من كلامه وقوله . والكلمة والكلام يترادفان ، ويقول العربُ : كلمة زهير ، يعنون قصيدته ، وقد أطلق في القرآن ( الكلمات ) على الكتب السّماوية في قوله تعالى : { فآمِنوا بالله ورسوله النّبيء الأمّي الذي يؤمن بالله وكلماته } [ الأعراف : 158 ] أي كتبه . وأمّا على قراءة الكلمات بالجمع فإطلاقها على القرآن باعتبار ما يشتمل عليه من الجمل والآيات . أو باعتبار أنواع أغراضه من أمر ، ونهي ، وتبشير ، وإنذار ، ومواعظ ، وإخبار ، واحتجاج ، وإرشاد ، وغير ذلك . ومعنى تمامها أنّ كلّ غرض جاء في القرآن فقد جاء وافياً بما يتطلّبه القاصد منه . واستبعد ابن عطيّة أن يكون المراد من { كلمات ربك } بالجمع أو الإفراد القرآن ، واستظهر أنّ المراد منها : قول الله ، أي نفذ قوله وحكمه .
وقريب منه ما أُثر عن ابن عبّاس أنّه قال : كلمات الله وَعده . وقيل : كلمات الله : أمره ونهيه ، ووعده ، ووعيده ، وفسّر به في « الكشاف » ، وهو قريب من كلام ابن عطيّة ، لكنّ السّياق يشهد بأنّ تفسير الكلمات بالقرآن أظهر .
وانتصب { صدقاً وعدلاً } على الحال ، عند أبي عليّ الفارسي ، بتأويل المصدر باسم الفاعل ، أي صادقة وعادلة ، فهو حال من { كلمات } وهو المناسب لكون التّمام بمعنى التّحقّق ، وجعلهما الطّبري منصوبين على التّمييز ، أي تمييز النّسبة ، أي تمّت من جهة الصّدق والعدل ، فكأنّه قال : تَمّ صدقُها وعدلها ، وهو المناسب لكون التمام بمعنى بلوغ الشّيء أحسنَ ما يطلب من نوعه . وقال ابن عطيّة : هذا غير صواب . وقلت : لا وجه لعدم تصويبه .
والصّدق : المطابقة للواقع في الإخبار : وتحقيق الخبر في الوعد والوعيد ، والنّفوذ في الأمر والنّهي ، فيشمل الصّدقُ كلّ ما في كلمات الله من نوع الإخبار عن شؤون الله وشؤون الخلائق . ويطلق الصّدق مجازاً على كون الشّيء كاملاً في خصائص نوعه .
والعدل : إعطاء من يستحقّ ما يستحقّ ، ودفع الاعتداء والظلممِ على المظلوم ، وتدبير أمور النّاس بما فيه صلاحهم . وتقدم بيانه عند قوله تعالى : { وإذا حكمتم بين النّاس أن تحكموا بالعدل } في سورة النّساء ( 58 ) . فيشمل العدل كلّ ما في كلمات الله : من تدبير شؤون الخلائق في الدّنيا والآخرة .
فعلى التّفسير الأوّل للكلمات أو الكلمة ، يكون المعنى : أن القرآن بلغ أقصى ما تبلغه الكتب : في وضوح الدّلالة ، وبلاغة العبارة ، وأنّه الصّادق في أخباره ، العادل في أحكامه ، لا يُعثر في أخباره على ما يخالف الواقع ، ولا في أحكامه على ما يخالف الحقّ ؛ فذلك ضرب من التحدّي والاحتجاج على أحقّيّة القرآن . وعلى التّفسيرين الثّاني والثّالث ، يكون المعنى : نفذ ما قاله الله ، وما وَعَدَ وأوْعَد ، وما أمر ونهى ، صادقاً ذلك كلُّه ، أي غير متخلّف ، وعادلاً ، أي غير جائر . وهذا تهديد للمشركين بأنْ سيحقُّ عليهم الوعيد ، الّذي توعّدهم به ، فيكون كقوله تعالى : { وتمَّت كلمة ربّك الحسنى على بني إسرائيل بما صبروا } [ الأعراف : 137 ] أي تَمّ ما وعدهم به من امتلاك مشارق الأرض ومغاربها الّتي بارك فيها ، وقوله : { وكذلك حقّت كلمات ربّك على الذين كفروا أنّهم أصحاب النّار } [ غافر : 6 ] أي حقّت كلمات وعيده .
ومعنى : { لا مبدل لكلماته } نفي جنس من يبدل كلمات الله ، أي من يبطل ما أراده في كلماته .
والتّبديل تقدّم عند قوله تعالى : { قال أتستبدلون الذي هو أدنى بالذي هو خير } من سورة البقرة ( 61 ) ، وتقدّم هناك بيان أنّه لا يوجد له فعل مجرّد ، وأنّ أصل مادّته هو التّبديل .
والتّبديل حقيقته جعل شيء مكان شيء آخر ، فيكون في الذّوات كما قال تعالى : { يوم تُبدّل الأرض غير الأرض } [ إبراهيم : 48 ] وقال النّابغة :
عهدتُ بها حيّاً كراماً فبُدّلت *** خنَاظِيل آجَالِ النِّعَاج الجَوافل
ويكون في الصّفات كقوله تعالى : { وليبدلنَّهم من بعد خوفهم أمنا } [ النور : 55 ] .
ويستعمل مجازاً في إبطال الشّيء ونقضه ، قال تعالى : { يريدون أن يبدّلوا كلام الله } [ الفتح : 15 ] أي يخالفوه وينقضوا ما اقتضاه ، وهو قوله : { قُل لن تتبعونا كذلكم قال الله من قبل } [ الفتح : 15 ] . وذلك أنّ النقض يستلزم الإتيان بشيء ضدّ الشّيء المنقوض . فكان ذلك اللّزوم هو علاقة المجاز . وقد تقدّم عند قوله تعالى : { فمن بدّله بعد ما سمعه } في سورة البقرة ( 181 ) . وقد استعمل في قوله : { لا مبدل لكلماته } مجازا في معنى المعارضة أو النقض على الاحتمالين في معنى التّمام من قوله : { وتمت كلمات ربك } ونفي المبَدّل كناية عن نفي التَبْديل .
فإن كان المراد بالكلمات القرآن ، كما تقدّم ، فمعنى انتفاء المبدّل لكلماته : انتفاء الإتيان بما ينقضه ويبطله أو يعارضه ، بأن يُظهر أنّ فيه ما ليس بتمام . فإن جاء أحد بما ينقضه كذباً وزوراً فليس ذلك بنقض . وإنَّما هو مكابرة في صورة النقض ، بالنّسبة إلى ألفاظ القرآن ونظمه ، وانتفاءُ ما يبطل معانيَه وحقائقَ حكمته ، وانتفاء تغيير ما شرعه وحكَم به . وهذا الانتفاء الأخير كناية عن النّهي عن أن يخالفهُ المسلمون . وبذلك يكون التّبديل مستعملاً في حقيقته ومجازه وكنايته .
ويجوز أن تكون جملة : { وتمت كلمات ربك } عطفاً على جملة : { جعلنا لكلّ نبيء عدوّا } [ الأنعام : 112 ] وما بينهما اعتراضاً ، فالكلمات مراد بها ما سنّه الله وقدّره : من جعل أعداءَ لكلّ نبي يزخرفون القول في التّضليل ، لتصغى إليهم قلوب الذين لا يؤمنون بالآخرة ، ويتبّعوهم ، ويقترفوا السيئات ، وأنّ المراد بالتّمام التّحقّق ، ويكون قوله : { لا مبدل لكلماته } نفي أن يقدر أحد أن يغيّر سنّة الله وما قضاه وقدّره ، كقوله : { فلن تجد لِسُنَّتِ الله تبديلاً ولن تجد لِسُنَّتِ الله تحويلاً } [ فاطر : 43 ] فتكون هذه الآية في معنى قوله : { ولقد كُذّبت رسل من قبلك فصبروا على ما كذّبوا وأوذوا حتّى أتاهم نصرنا ولا مبدّل لكلمات الله } [ الأنعام : 34 ] . ففيها تأنيس للرسول صلى الله عليه وسلم وتطمين له وللمؤمنين بحلول النّصر الموعود به في إبَّانه .
وقوله : { وهو السميع العليم } تذييل لجملة : { وتمت كلمات ربك صدقاً وعدلاً لا مبدل لكلماته } أي : وهو المطّلع على الأقوال ، العليم بما في الضّمائر ، وهذا تعريض بالوعيد لمن يسعى لتبديل كلماته ، فالسّميع العالم بأصوات المخلوقات ، الّتي منها ما توحي به شياطين الإنس والجنّ ، بعضهم إلى بعض ، فلا يفوته منها شيء ؛ والعالم أيضاً بمن يريد أن يبدّل كلمات الله ، على المعاني المتقدّمة ، فلا يخفى عليه ما يخوضون فيه : من تبييت الكيد والإبطال له .
والعليم أعمّ ، أي : العليم بأحوال الخلق ، والعليم بمواقع كلماته ، ومَحَالّ تمامها ، والمنظم بحكمته لتمامها ، والموقت لآجال وقوعها .
فذكر هاتين الصّفتين هنا : وعيد لمن شملته آيات الذمّ السابقة ، ووعد لمن أُمر بالإعراض عنهم وعن افترائهم ، وبالتحاكم معهم إلى الله ، والّذين يعلمون أنّ الله أنزل كتابه بالحقّ .
جامع البيان عن تأويل آي القرآن للطبري 310 هـ :
يقول تعالى ذكره: وكمُلت "كلمة ربك"، يعني القرآن، سماه كلمة كما تقول العرب للقصيدة من الشعر يقولها الشاعر: هذه كلمة فلان.
"صِدْقا وَعَدْلاً "يقول: كملت كلمة ربك من الصدق والعدل...
"لا مُبَدّلَ لِكَلَماتِهِ" يقول: لا مغّير لما أخبر في كتبه أنه كائن من وقوعه في حينه وأجله الذي أخبر الله أنه واقع فيه...
لأنه لا يزيد المفترون في كتب الله ولا ينقصون منها، وذلك أن اليهود والنصارى لا شكّ أنهم أهل كتب الله التي أنزلها على أنبيائه، وقد أخبر جلّ ثناؤه أنهم يحرّفون غير الذي أخبر أنه لا مبدّل له.
وأما قوله: {وَهُوَ السّمِيعُ العَلِيمُ} فإن معناه: والله "السميع" لما يقول هؤلاء العادلون بالله، المقسمون بالله جهد أيمانهم: "لئن جاءتهم آية ليؤمننّ بها"، وغير ذلك من كلام خلقه، "العليم" بما تَؤول إليه أيمانهم من برّ وصدق وكذب وحنث وغير ذلك من أمور عباده.
تأويلات أهل السنة للماتريدي 333 هـ :
{وتمت كلمة ربك صدقا وعدلا} قيل: {صدقا} في الأنباء {وعدلا} في الأحكام؛ تمت أنباؤه بالصدق وأحكامه بالعدل حتى يعرف كل أحد صدق أنبائه وعدل أحكامه.
وقيل: {وتمت كلمة ربك صدقا وعدلا} بالحجج والبراهين لما يعرف كل من تأمل فيها، ونظر صدقها وعدلها، أنها من الله. {لا مبدل لكلماته} هذا تفسير التمام أنها تمت تماما، لا يرد عليها النقص ولا الجور ولا الخلف، ليست ككلمات الخلق أنها تبدل، وتنقص، وتمنع، لما يكون فيها من النقصان والفساد، فإنها تبدل، وتنقص. ويعجزون عن وفاء ما وعدوا، ويمنعون عن ذلك. فالله، تعالى، يتعالى عن أن يبدل كلماته، أو يمنع عن وفاء ما وعد، وأنبأ...
المحرر الوجيز في تفسير الكتاب العزيز لابن عطية 542 هـ :
{تمت} في هذا الموضع بمعنى: استمرت وصحت في الأزل "صدقاً وعدلاً"، وليس بتمام من نقص، ومثله ما وقع في كتاب السيرة من قولهم:"وتمّ حمزة على إسلامه... "في الحديث مع أبي جهل. و «الكلمات» ما نزل على عباده، وقرأ عاصم وحمزة والكسائي «كلمة» بالإفراد هنا وفي يونس في الموضعين وفي حم المؤمن. وقرأ نافع وابن عامر جميع ذلك «كلماتُ» بالجمع. وقرأ ابن كثير وأبو عمرو هنا فقط «كلمات» بالجمع، وذهب الطبري إلى أنه القرآن كما يقال كلمة فلان في قصيدة الشعر والخطبة البليغة...
وهذا عندي بعيد معترض، وإنما القصد العبارة عن نفوذ قوله تعالى {صدقاً} فيما تضمنه من خبر {وعدلاً} فيما تضمنه من حكم، هما مصدران في موضع الحال، قال الطبري نصباً على التمييز وهذا غير صواب. و {لا مبدل لكلماته} معناه في معانيها بأن يبين أحد أن خبره بخلاف ما أخبر به أو يبين أن أمره لا ينفذ، والمثال من هذا أن الله تعالى قال لنبيه عليه السلام {فإن رجعك الله إلى طائفة منهم فاستأذنوك للخروج} إلى {الخالفين}، فقال المنافقون بعد ذلك للنبي عليه السلام وللمؤمنين ذرونا نتبعكم فقال الله لنبيه: {يريدون أن يبدلوا كلام الله قل لن تتبعونا كذلكم قال الله من قبل} أو في قوله {فقل لن تخرجوا معي أبداً} لأن مضمنه الخبر بأن لا يباح لهم خروج، وأما الألفاظ فقد بدلتها بنو إسرائيل وغيرتها، هذا مذهب جماعة من العلماء، وروي عن ابن عباس أنهم إنما بدلوا بالتأويل والأول أرجح...
تعلق هذه الآية بما قبلها أنه تعالى بين في الآية السابقة أن القرآن معجز، فذكر في هذه الآية أنه تمت كلمة ربك، والمراد بالكلمة –القرآن- أي تم القرآن في كونه معجزا دالا على صدق محمد عليه السلام... المسألة الثالثة: اعلم أن هذه الآية تدل على أن كلمة الله تعالى موصوفة بصفات كثيرة. فالصفة الأولى: كونها تامة وإليه الإشارة بقوله: {وتمت كلمت ربك} وفي تفسير هذا التمام وجوه: الأول: ما ذكرنا أنها كافية وافية بكونها معجزة دالة على صدق محمد عليه الصلاة والسلام، والثاني: أنها كافية في بيان ما يحتاج المكلفون إليه إلى قيام القيامة عملا وعلما، والثالث: أن حكم الله تعالى هو الذي حصل في الأزل، ولا يحدث بعد ذلك شيء، فذلك الذي حصل في الأزل هو التمام، والزيادة عليه ممتنعة، وهذا الوجه هو المراد من قوله صلى الله عليه وسلم: (جف القلم بما هو كائن إلى يوم القيامة). الصفة الثانية: من صفات كلمة الله كونها صدقا، والدليل عليه أن الكذب نقص والنقص على الله محال...
الصفة الثالثة: من صفات كلمات الله: كونها عدلا وفيه وجهان:
الأول: أن كل ما حصل في القرآن نوعان، الخبر والتكليف. أما الخبر فالمراد كل ما أخبر الله عن وجوده أو عن عدمه...
وأما التكليف فيدخل فيه كل أمر ونهي توجه منه سبحانه على عبده... وإذا عرفت انحصار مباحث القرآن في هذين القسمين فنقول: قال تعالى: {وتمت كلمة ربك صدقا} إن كان من باب الخبر {وعدلا} إن كان من باب التكاليف، وهذا ضبط في غاية الحسن.
والقول الثاني: في تفسير قوله: {وعدلا} أن كل ما أخبر الله تعالى عنه من وعد ووعيد وثواب وعقاب فهو صدق لأنه لا بد وأن يكون واقعا، وهو بعد وقوعه عدل لأن أفعاله منزهة عن أن تكون موصوفة بصفة الظلمية.
الصفة الرابعة: من صفات كلمة الله قوله: {لا مبدل لكلماته} وفيه وجوه: الأول: أنا بينا أن المراد من قوله: {وتمت كلمة ربك} أنها تامة في كونها معجزة دالة على صدق محمد صلى الله عليه وسلم. ثم قال: {لا مبدل لكلماته} والمعنى أن هؤلاء الكفار يلقون الشبهات في كونها دالة على صدق محمد عليه الصلاة والسلام إلا أن تلك الشبهات لا تأثير لها في هذه الدلائل التي لا تقبل التبديل البتة لأن تلك الدلالة ظاهرة باقية جلية قوية لا تزول بسبب ترهات الكفار وشبهات أولئك الجهال. والوجه الثاني: أن يكون المراد أنها تبقى مصونة عن التحريف والتغيير كما قال تعالى: {إنا نحن نزلنا الذكر وإنا له لحافظون}. والوجه الثالث: أن يكون المراد أنها مصونة عن التناقض كما قال: {ولو كان من عند غير الله لوجدوا فيه اختلافا كثيرا}. والوجه الرابع: أن يكون المراد أن أحكام الله تعالى لا تقبل التبديل والزوال لأنها أزلية والأزلي لا يزول...
الجامع لأحكام القرآن للقرطبي 671 هـ :
..ودلت الآية على وجوب اتباع دلالات القرآن؛ لأنه حق لا يمكن تبديله بما يناقضه، لأنه من عند حكيم لا يخفى عليه شيء من الأمور كلها...
أنوار التنزيل وأسرار التأويل للبيضاوي 685 هـ :
{وتمت كلمة ربك} بلغت الغاية أخباره وأحكامه ومواعيده...
{لا مبدل لكلماته} لا أحد يبدل شيئا منها بما هو أصدق وأعدل، أو لا أحد يقدر أن يحرفها شائعا ذائعا كما فعل بالتوراة على أن المراد بها القرآن، فيكون ضمانا لها من الله سبحانه وتعالى بالحفظ كقوله: {وإنا له لحافظون} أو لا نبي ولا كتاب بعدها ينسخها ويبدل أحكامها...
تفسير المنار لرشيد رضا 1354 هـ :
{وَتَمَّتْ كَلِمَتُ رَبِّكَ صِدْقًا وَعَدْلاً} الكلمة تطلق على الجملة والطائفة من القول في معنى واحد أو غرض واحد طال أو قصر، فإذا ألقى أفراد خطبا أو كتبوا مقالات في موضوع ما، قيل في كل خطبة وكل مقالة: هذه كلمة فلان، وروي أن العرب كانت تسمي القصيدة من الشعر كلمة لأن القصيدة تقال في غرض واحد وإن اشتملت على معاني كثيرة، وتسمى جملة {لا إله إلا الله} كلمة التوحيد ومن هنا قال بعض المفسرين إن المراد بالكلمة في هذه الآية القرآن، وهو جائز لغة ولكنه غير ظاهر معنى، وإنما الظاهر المتبادر بقرينة السياق أن الكلمة هنا من قبيل قوله تعالى: {وتمت كلمة ربك لأملأن جهنم من الجنة والناس أجمعين} (هود 118} وقوله: {وتمت كلمة ربك الحسنى على بني إسرائيل بما صبروا} (الأعراف 136} الآية فمعنى الجملة: وتمت كلمة ربك أيها الرسول فيما وعدك به من نصرك وما أوعد به هؤلاء المستهزئين بالقرآن المقترحين للآيات وأمثالهم وأقتالهم من معاندي قومك المستكبرين عن الإيمان بك من خذلانهم وهلاكهم، كما تمت من قبل في الرسل وأعدائهم من قبلك وهي قوله تعالى: {ولقد سبقت كلمتنا لعبادنا المرسلين إنهم لهم المنصورون وإن جندنا لهم الغالبون} (الصافات 171) وما في معناها من عام كقوله تعالى: {إنا لننصر رسلنا والذين آمنوا في الحياة الدنيا ويوم يقوم الأشهاد} (غافر 51) وخاص كقوله لرسوله عليه الصلاة والسلام: {إنا كفيناك المستهزئين} الحجر 95}.
أما تمامها صدقا فهو وقوع مضمونها من حيث كونها خبرا، وأما تمامها عدلا فمن حيث كونها جزاء للكافرين المعاندين للحق بما يستحقون وللمؤمنين المهتدين بما يستحقون وإن كانوا بمقتضى الفضل يزادون، وإذا كانت هذه الآية نزلت بمكة قبل نصر الله تعالى نبيه على طغاة قومه في بدر وغيرها فالفعل الماضي فيها "تمت "بمعنى المستقبل فهو لتحقق وقوعه كأنه وقع، وهذا من ضروب المبالغة البليغة. وفيه وجه آخر وهو أن المراد بالخبر هنا لازمه وهو تأكيد ما تضمنته هذه الآيات من تسلية النبي صلى الله عليه وسلم عن كفر هؤلاء المعاندين وإيذائهم ولأصحابه وإيئاس الطامعين من المسلمين في إيمانهم بإيتائهم الآيات المقترحة كأنه يقول تمت كلمتي بنصر المرسلين، وخذلان هؤلاء الأعداء الطغاة المفسدين.
{لاَّ مُبَدِّلِ لِكَلِمَاتِهِ} كما أنه لا تبديل لسنته {سنة الله في الذين خلوا من قبل ولن تجد لسنة الله تبديلا} (الأحزاب 62} والتبديل بالبدل وهذه الجملة تعليل لما قبلها، والمعنى أن كلمة الله تعالى في نصرك أيها الرسول وخذلان أعدائك قد تمت وأصبح نفوذها حتما لا مرد له لأن كلمات الله التي هي من أفرادها لا مبدل لها إذ لا يستطيع أحد من خلقه وكل ما عداه فهو من خلقه أن يزيل كلمة من كلماته بكلمة أخرى تخالفها أو يمنع صدقها على من وردت فيهم، كأن يجعل الوعد وعيدا أو الوعيد وعدا أو يصرفهما عن الموعود بالثواب أو الموعد بالعقاب إلى غيرهما أو يحول دون وقوعهما البتة...
فإن قيل ألا يدل قوله {لا مبدل لكلماته} على استحالة التحريف أو التبديل في الكتب أي في لفظها وعبارتها كاستحالة التبديل في صدقها ونفوذها؟ قلنا إنما ورد السياق والنص في صدقها وعدلها لا في لفظها وقد أثبت الله في كتابه تحريف أهل الكتاب قبلنا لكلامه ونسيانهم حظا منه وما كفل تعالى حفظ كتاب من كتبه بنصه إلا هذا القرآن المجيد الذي قال له: {إنا نحن نزلنا الذكر وإنا له لحافظون} (الحجر 9) وظهر صدق كفالته بتسخير الألوف الكثيرة في كل عصر لحفظه عن ظهر قلب، ولكتابةِ النُّسَخ التي لا تحصى منه في كل عصر من زمن الصحابة رضوان الله تعالى عليهم إلى هذا العصر، وناهيك بما طبع من ألوف الألوف من نسخه في عهد وجود الطباعة بمنتهى الدقة والتصحيح. ولم يتفق مثل ذلك لكتاب إلهي ولا غير إلهي، فأهل الكتاب لم يحفظوا كتب رسلهم في الصدور ولا في السطور، وسيأتي بسط هذا في موضعه إن شاء الله تعالى.
وقد ختمت هذه الآية بقوله تعالى: {وَهُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ} لأنه تذييل للسياق الأخير كله لا لهذه الآية فقط وهو سياق محاجة المشركين المعاندين مقترحي الآيات وفيه ذكر اقتراحهم وأيمانهم الكاذبة وذكر سائر أعداء الرسل أمثالهم من شياطين الإنس والجن وخداعهم للناس بزخرف القول وصغي قلوب منكري البعث والجزاء إليه وضلالهم به فهو يقول إنه تعالى سميع لتلك الأقوال الخادعة منهم، عليم بما في قلوبهم من ذلك الصغي والميل وغيره من مقاصدهم ونياتهم وبما يقترفون من السيئات بكفرهم وغرورهم.
التحرير والتنوير لابن عاشور 1393 هـ :
... والمراد بالتمام معنى مجازي: إمّا بمعنى بلوغ الشّيء إلى أحسن ما يبلغه ممّا يراد منه، فإنّ التّمام حقيقته كون الشّيء وافراً أجزاءه، والنقصان كونه فاقدا بعض أجزائه، فيستعار لوفرة الصّفات التي تراد من نوعه؛ وإمّا بمعنى التّحقّق فقد يطلق التّمام على حصول المنتظر وتحقّقه، يقال: تَم ما أخبر به فلان، ويقال: أتم وعده، أي حقّقه، ومنه قوله تعالى: {وإذِ ابتلى إبراهيم رَبُّه بكلمات فأتَمَّهُن} [البقرة: 124] أي عمل بهنّ دون تقصير ولا ترخّص، وقوله تعالى: {وتمّت كلمة ربّك الحسنى على بني إسرائيل بما صبروا} [الأعراف: 137] أي ظهر وعده لهم بقوله: {ونريد أن نمنّ على الذين استضعفوا في الأرض} [القصص: 5] الآية، ومن هذا المعنى قوله تعالى: {والله متمّ نوره} [الصف: 8] أي محقّق دينه ومثبتُه، لأنَّه جعل الإتمام في مقابلة الإطفاء المستعمل في الإزالة مجازاً أيضاً.
وقوله: {كلمات ربك} قرأه الجمهور بصيغة الجمع وقرأه عاصم، وحمزة، والكسائي، ويعقوب، وخلف: كَلمة بالإفراد فقيل: المراد بالكلمات أو الكلمة القرآن، وهو قول جمهور المفسّرين، ونقل عن قتادة، وهو الأظهر، المناسب لجعْل الجملة معطوفة على جملة: {والذين آتيناهم الكتاب} [الأنعام: 114]. فأمّا على قراءة الإفراد فإطلاق الكلمة على القرآن باعتبار أنّه كتاب من عند الله، فهو من كلامه وقوله. والكلمة والكلام يترادفان، ويقول العربُ: كلمة زهير، يعنون قصيدته، وقد أطلق في القرآن (الكلمات) على الكتب السّماوية في قوله تعالى: {فآمِنوا بالله ورسوله النّبيء الأمّي الذي يؤمن بالله وكلماته} [الأعراف: 158] أي كتبه. وأمّا على قراءة الكلمات بالجمع فإطلاقها على القرآن باعتبار ما يشتمل عليه من الجمل والآيات. أو باعتبار أنواع أغراضه من أمر، ونهي، وتبشير، وإنذار، ومواعظ، وإخبار، واحتجاج، وإرشاد، وغير ذلك. ومعنى تمامها أنّ كلّ غرض جاء في القرآن فقد جاء وافياً بما يتطلّبه القاصد منه. واستبعد ابن عطيّة أن يكون المراد من {كلمات ربك} بالجمع أو الإفراد القرآن، واستظهر أنّ المراد منها: قول الله، أي نفذ قوله وحكمه.
وقريب منه ما أُثر عن ابن عبّاس أنّه قال: كلمات الله وَعده. وقيل: كلمات الله: أمره ونهيه، ووعده، ووعيده، وفسّر به في « الكشاف»، وهو قريب من كلام ابن عطيّة، لكنّ السّياق يشهد بأنّ تفسير الكلمات بالقرآن أظهر.
وانتصب {صدقاً وعدلاً} على الحال، عند أبي عليّ الفارسي، بتأويل المصدر باسم الفاعل، أي صادقة وعادلة، فهو حال من {كلمات} وهو المناسب لكون التّمام بمعنى التّحقّق، وجعلهما الطّبري منصوبين على التّمييز، أي تمييز النّسبة، أي تمّت من جهة الصّدق والعدل، فكأنّه قال: تَمّ صدقُها وعدلها، وهو المناسب لكون التمام بمعنى بلوغ الشّيء أحسنَ ما يطلب من نوعه. وقال ابن عطيّة: هذا غير صواب. وقلت: لا وجه لعدم تصويبه.
والصّدق: المطابقة للواقع في الإخبار: وتحقيق الخبر في الوعد والوعيد، والنّفوذ في الأمر والنّهي، فيشمل الصّدقُ كلّ ما في كلمات الله من نوع الإخبار عن شؤون الله وشؤون الخلائق. ويطلق الصّدق مجازاً على كون الشّيء كاملاً في خصائص نوعه.
والعدل: إعطاء من يستحقّ ما يستحقّ، ودفع الاعتداء والظلمِ على المظلوم، وتدبير أمور النّاس بما فيه صلاحهم. وتقدم بيانه عند قوله تعالى: {وإذا حكمتم بين النّاس أن تحكموا بالعدل} في سورة النّساء (58). فيشمل العدل كلّ ما في كلمات الله: من تدبير شؤون الخلائق في الدّنيا والآخرة.
فعلى التّفسير الأوّل للكلمات أو الكلمة، يكون المعنى: أن القرآن بلغ أقصى ما تبلغه الكتب: في وضوح الدّلالة، وبلاغة العبارة، وأنّه الصّادق في أخباره، العادل في أحكامه، لا يُعثر في أخباره على ما يخالف الواقع، ولا في أحكامه على ما يخالف الحقّ؛ فذلك ضرب من التحدّي والاحتجاج على أحقّيّة القرآن. وعلى التّفسيرين الثّاني والثّالث، يكون المعنى: نفذ ما قاله الله، وما وَعَدَ وأوْعَد، وما أمر ونهى، صادقاً ذلك كلُّه، أي غير متخلّف، وعادلاً، أي غير جائر. وهذا تهديد للمشركين بأنْ سيحقُّ عليهم الوعيد، الّذي توعّدهم به، فيكون كقوله تعالى: {وتمَّت كلمة ربّك الحسنى على بني إسرائيل بما صبروا} [الأعراف: 137] أي تَمّ ما وعدهم به من امتلاك مشارق الأرض ومغاربها الّتي بارك فيها، وقوله: {وكذلك حقّت كلمات ربّك على الذين كفروا أنّهم أصحاب النّار} [غافر: 6] أي حقّت كلمات وعيده.
ومعنى: {لا مبدل لكلماته} نفي جنس من يبدل كلمات الله، أي من يبطل ما أراده في كلماته.
والتّبديل تقدّم عند قوله تعالى: {قال أتستبدلون الذي هو أدنى بالذي هو خير} من سورة البقرة (61)، وتقدّم هناك بيان أنّه لا يوجد له فعل مجرّد، وأنّ أصل مادّته هو التّبديل.
والتّبديل حقيقته جعل شيء مكان شيء آخر، فيكون في الذّوات كما قال تعالى: {يوم تُبدّل الأرض غير الأرض} [إبراهيم: 48]...ويكون في الصّفات كقوله تعالى: {وليبدلنَّهم من بعد خوفهم أمنا} [النور: 55].
ويستعمل مجازاً في إبطال الشّيء ونقضه، قال تعالى: {يريدون أن يبدّلوا كلام الله} [الفتح: 15] أي يخالفوه وينقضوا ما اقتضاه، وهو قوله: {قُل لن تتبعونا كذلكم قال الله من قبل} [الفتح: 15]. وذلك أنّ النقض يستلزم الإتيان بشيء ضدّ الشّيء المنقوض. فكان ذلك اللّزوم هو علاقة المجاز. وقد تقدّم عند قوله تعالى: {فمن بدّله بعد ما سمعه} في سورة البقرة (181). وقد استعمل في قوله: {لا مبدل لكلماته} مجازا في معنى المعارضة أو النقض على الاحتمالين في معنى التّمام من قوله: {وتمت كلمات ربك} ونفي المبَدّل كناية عن نفي التَبْديل.
فإن كان المراد بالكلمات القرآن، كما تقدّم، فمعنى انتفاء المبدّل لكلماته: انتفاء الإتيان بما ينقضه ويبطله أو يعارضه، بأن يُظهر أنّ فيه ما ليس بتمام. فإن جاء أحد بما ينقضه كذباً وزوراً فليس ذلك بنقض. وإنَّما هو مكابرة في صورة النقض، بالنّسبة إلى ألفاظ القرآن ونظمه، وانتفاءُ ما يبطل معانيَه وحقائقَ حكمته، وانتفاء تغيير ما شرعه وحكَم به. وهذا الانتفاء الأخير كناية عن النّهي عن أن يخالفهُ المسلمون. وبذلك يكون التّبديل مستعملاً في حقيقته ومجازه وكنايته.
ويجوز أن تكون جملة: {وتمت كلمات ربك} عطفاً على جملة: {جعلنا لكلّ نبيء عدوّا} [الأنعام: 112] وما بينهما اعتراضاً، فالكلمات مراد بها ما سنّه الله وقدّره: من جعل أعداءَ لكلّ نبي يزخرفون القول في التّضليل، لتصغى إليهم قلوب الذين لا يؤمنون بالآخرة، ويتبّعوهم، ويقترفوا السيئات، وأنّ المراد بالتّمام التّحقّق، ويكون قوله: {لا مبدل لكلماته} نفي أن يقدر أحد أن يغيّر سنّة الله وما قضاه وقدّره، كقوله: {فلن تجد لِسُنَّتِ الله تبديلاً ولن تجد لِسُنَّتِ الله تحويلاً} [فاطر: 43] فتكون هذه الآية في معنى قوله: {ولقد كُذّبت رسل من قبلك فصبروا على ما كذّبوا وأوذوا حتّى أتاهم نصرنا ولا مبدّل لكلمات الله} [الأنعام: 34]. ففيها تأنيس للرسول صلى الله عليه وسلم وتطمين له وللمؤمنين بحلول النّصر الموعود به في إبَّانه.
وقوله: {وهو السميع العليم} تذييل لجملة: {وتمت كلمات ربك صدقاً وعدلاً لا مبدل لكلماته} أي: وهو المطّلع على الأقوال، العليم بما في الضّمائر، وهذا تعريض بالوعيد لمن يسعى لتبديل كلماته، فالسّميع العالم بأصوات المخلوقات، الّتي منها ما توحي به شياطين الإنس والجنّ، بعضهم إلى بعض، فلا يفوته منها شيء؛ والعالم أيضاً بمن يريد أن يبدّل كلمات الله، على المعاني المتقدّمة، فلا يخفى عليه ما يخوضون فيه: من تبييت الكيد والإبطال له.
والعليم أعمّ، أي: العليم بأحوال الخلق، والعليم بمواقع كلماته، ومَحَالّ تمامها، والمنظم بحكمته لتمامها، والموقت لآجال وقوعها.
فذكر هاتين الصّفتين هنا: وعيد لمن شملته آيات الذمّ السابقة، ووعد لمن أُمر بالإعراض عنهم وعن افترائهم، وبالتحاكم معهم إلى الله، والّذين يعلمون أنّ الله أنزل كتابه بالحقّ.