أقسم الله بالبلد الحرام مكة موطن محمد صلى الله عليه وسلم الذي نشأ فيه وأحبه ، وبوالد وما ولد ، لأن بهما حفظ النوع وبقاء العمر على أن الإنسان خلق في مشقة ومكابدة متاعب ، ثم بين أنه مغتر يحسب أن قدرته لا تغلب ، وأنه ذو مال كثير ينفقه إرضاء لشهواته وأهوائه ، ثم عدد سبحانه ما أنعم به عليه مما ييسر له سبل الهداية واقتحام العقبة . ليكون من أهل الجنة أصحاب اليمين ، ويفر مما يجعله من أصحاب المشأمة الذين يرمى بهم في النار وتغلق عليهم أبوابها .
1- سورة " البلد " وتسمى سورة " لا أقسم " من السور المكية الخالصة ، وعلى ذلك سار المحققون من المفسرين .
قال القرطبي : سورة " البلد " مكية باتفاق . . ( {[1]} ) .
وقال الآلوسي : مكية في قول الجمهور بتمامها ، وقيل : مدنية بتمامها . وقيل : مدنية إلا أربع آيات من أولها . واعتراض كلا القولين بأنه يأباهما قوله [ بهذا البلد ] –إذ المقصود بهذا البلد مكة- ، ولقوة الاعتراض ادعى الزمخشري الإجماع على مكيتها . . ( {[2]} ) .
والذي تطمئن إليه النفس ، أن هذه السورة من السور المكية الخالصة ، ولا يوجد دليل يعتمد عليه يخالف ذلك .
قال الشوكاني : سورة " البلد " ، ويقال لها سورة " لا أقسم " وهي عشرون آية . وهي مكية بلا خلاف . وأخرج ابن الضريس والنحاس وابن مردويه والبيهقي عن ابن عباس قال : نزلت سورة " لا أقسم " بمكة . وأخرج ابن مردويه عن ابن الزبير مثله .
2- وهي السورة الخامسة والثلاثون في ترتيب نزول السور ، فقد كان نزولها بعد سورة " ق " ، وقبل سورة " الطارق " ، أما ترتيبها في المصحف فهي السورة التسعون .
ومن مقاصدها : التنويه بشأن مكة ، لشرفها وحرمتها ووجود البيت المعظم بها ، وتعداد نعم الله –تعالى- على الإنسان حتى يرجع عن عصيانه وغروره ، ويخلص العبادة لخالقه ، وبيان حسن عاقبة الأخيار ، وسوء عاقبة الأشرار . .
افتتحت السورة الكريمة بالقسم ، تشويقا لما يرد بعده ، وتأكيدا للمقسم عليه .
و " لا " فى مثل هذا التركيب ، يرى المحققون أنها مزيدة للتأكيد ، والمعنى : أقسم بهذا البلد . أى : مكة المكرمة ، وقد جاء القسم بها فى قوله - تعالى - : { والتين والزيتون . وَطُورِ سِينِينَ . وهذا البلد الأمين } قال الشيخ محمد عبده - رحمه الله - : قوله : { لاَ أُقْسِمُ . . } عبارة من عبارات العرب فى القسم ، يراد بها تأكيد الخبر ، كأنه فى ثبوته وظهوره لا يحتاج إلى قسم . ويقال إنه يؤتى بها فى القسم إذا أريد تعظيم المقسم به . كأن القائل يقول : إنى لا أعظمه بالقسم ، لأنه عظيم فى نفسه ، والمعنى فى كل حال على القسم . .
وقال بعض العلماء : " لا " هذه للنفى ، وهذه عبارة تعود العرب أن يقولوها عندما يكون المقسم عليه ظاهر أمره ، كأنه - تعالى - يقول : أنا لا أقسم بهذه الأشياء ، على إثبات هذا المطلوب الذى أذكره بعد ، لأن إثباته أظهر وأجلى وأقوى من أن يحاول محاول إثباته بالقسم .
ويقال : معناه : أنا لا أقسم بهذه الأشياء على إثبات المطلوب ، لأنه أعظم وأجل وأكبر من أن يقسم عليه ، بهذه الأمور الهينة الشأن ، والغرض على هذا الوجه ، تعظيم المقسم عليه ، وتفخيم شأنه . .
والإِشارة بلفظ " هذا " مع بيانه بالبلد ، إشارة إلى حاضر فى أذهان السامعين ، لأن مكة بعضهم كان يعيش فيها . وبعضهم كان يعرفها معرفة لاخفاء معها ، وشبيه بذلك قوله - تعالى - : { إِنَّمَآ أُمِرْتُ أَنْ أَعْبُدَ رَبَّ هَذِهِ البلدة الذي حَرَّمَهَا وَلَهُ كُلُّ شَيءٍ } وفائدة الإِتييان باسم الإِشارة هنا : تميييز المقسم به أكمل تمييز لقصد التنيويه به .
هذا قسم من الله عز وجل{[30075]} بمكة أم القرى في حال كون الساكن فيها حالا ؛ لينبه على عظمة قدرها في حال إحرام أهلها .
قال خَصيف ، عن مجاهد : { لا أُقْسِمُ بِهَذَا الْبَلَدِ } لا رد عليهم ؛ أقسم بهذا البلد .
وقال شَبيب بن بشر ، عن عِكْرِمة ، عن ابن عباس : { لا أُقْسِمُ بِهَذَا الْبَلَدِ } يعني : مكة .
وهي مكية في قول جمهور المفسرين ، وقال قوم : هي مدنية{[1]} .
قرأ الحسن بن أبي الحسن «لأقسم » دون ألف ، وقرأ الجمهور : «لا أقسم » ، واختلفوا فقال الزجاج ويغره : «لا » صلة زائدة مؤكدة ، واستأنف قوله { أقسم } ، وقال مجاهد { لا } رد للكلام متقدم للكفار ، ثم استأنف قوله { أقسم } ، وقال بعض المتأولين { لا } نفي للقسم بالبلد ، أخبر الله تعالى أنه لا يقسم به ، ولا خلاف بين المفسرين أن { البلد } المذكور هو مكة .
سميت هذه السورة في ترجمتها عن صحيح البخاري { سورة لا أقسم } وسميت في المصاحف وكتب التفسير { سورة البلد } . وهو إما على حكاية اللفظ الواقع في أولها لإرادة البلد المعروف وهو مكة .
وهي مكية وحكى الزمخشري والقرطبي الاتفاق عليه واقتصر عليه معظم المفسرين وحكى ابن عطية عن قوم : أنها مدنية . ولعل هذا قول من فسر قوله { وأنت حل بهذا البلد } أن الحل الإذن له في القتال يوم الفتح وحمل { وأنت حل } على معنى : وأنت الآن حل ، وهو يرجع إلى ما روى القرطبي عن السدي وأبي صالح وعزي لابن عباس . وقد أشار في الكشاف إلى إبطاله بأن السورة نزلت بمكة بالاتفاق ، وفي رده بذلك مصادرة ، فالوجه أن يورد بأن في قوله { أيحسب أن لن يقدر عليه أحد } إلى قوله { فلا اقتحم العقبة } ضمائر غيبة يتعين عودها إلى الإنسان في قوله } لقد خلقنا الإنسان في كبد } وإلا لخلت الضمائر عن معاد . وحكى في الإتقان قولا أنها مدنية إلا الآيات الأربع من أولها .
وقد عدت الخامسة والثلاثين في عدد نزول السور ، نزلت بعد سورة ق وقبل سورة الطارق .
حوت من الأغراض التنويه بمكة . وبمقام النبي صلى الله عليه وسلم بها . وبركته فيها وعلى أهلها .
والتنويه بأسلاف النبي صلى الله عليه وسلم من سكانها الذين كانوا من الأنبياء مثل إبراهيم وإسماعيل أو من أتباع الحنيفية مثل عدنان ومضر كما سيأتي .
والتخلص إلى ذم سيرة أهل الشرك . وإنكارهم البعث . وما كانوا عليه من التفاخر المبالغ فيه ، وما أهملوه من شكر النعمة على الحواس ، ونعمة النطق ، ونعمة الفكر ، ونعمة الإرشاد فلم يشكروا ذلك بالبذل في سبل الخير وما فرطوا فيه من خصال الإيمان وأخلاقه .
ابتدئت بالقسم تشويقاً لما يرد بعده وأطيلت جملة القسم زيادة في التشويق .
و { لا أقسم } معناه : أقسم . وقد تقدم ذلك غير مرة منها ما في سورة الحاقة .
وتقدم القول في : هل حرف النفي مزيد أو هو مستعمل في معناه كناية عن تعظيم أمر المقسم به .
والإِشارة ب« هذا » مع بيانه بالبلد ، إشارة إلى حاضر في أذهان السامعين كأنهم يرونه لأن رؤيته متكررة لهم وهو بلد مكة ، ومثله ما في قوله : { إنما أُمرت أن أعبد ربَّ هذه البلدة } [ النمل : 91 ] . وفائدة الإِتيان باسم الإِشارة تمييز المقسم به أكْمَلَ تمييز لقصد التنويه به .
والبلد : جانب من متسع من أرض عامرةً كانتْ كما هو الشائع أم غامرة كقول رؤبة بن العجاج :
وأطلق هنا على جانب من الأرض مجعولة فيه بيوت من بناء وهو بلدة مكة والقسم بالبلدة مع أنها لا تدل على صفة من صفات الذات الإلهية ولا من صفات أفعاله كنايةٌ عن تعظيم الله تعالى إياه وتفضيله .