تفسير القرآن الكريم لعبد الله شحاته - شحاته  
{لَآ أُقۡسِمُ بِهَٰذَا ٱلۡبَلَدِ} (1)

مقدمة السورة:

تفسير سورة البلد

أهداف سورة البلد

( سورة البلد مكية ، وآياتها 20 آية ، نزلت بعد سورة ق )

وقد اشتملت السورة على تعظيم البلد الحرام ، والرسول الأمين صلى الله عليه وسلم ، وتكريم آدم وذريته ، وبيان أن الإنسان خلق في معاناة ومشقة ، في حمله وولادته ورسالته في الحياة وحسابه في الآخرة .

وجابهت السورة أحد المشركين ، وكشفت سوء أفعاله ، ورسمت الطريق الأمثل للوصول إلى رضوان الله .

مع آيات السورة

1- لا أقسم بهذا البلد . أقسم الله عز وجل بمكة ، وفيها البيت الحرام والكعبة ، وعندها قبلة المسلمين ، وفيها زمزم والمقام ، والأمن والأمان .

قال تعالى : جعل الله الكعبة البيت الحرام قياما للناس . . . ( المائدة : 97 ) . ومعنى قياما : قواما ، أي يقوم عندها أمر الدين ، حيث يقدم الحجيج فيطوفون ويسعون ، ويؤدون المناسك ، ويشاهدون مهبط الوحي ، ويصير الرجل أمنا بدخوله الحرم ، قال تعالى : ومن دخله ، كان آمنا . . . ( آل عمران : 97 ) .

وقد ذكر القرآن تكريم مكة في آيات كثيرة ، فقد ولد بها النبي صلى الله عليه وسلم ، وبدأ بها نزول الوحي ، ومنها انبثق فجر الإسلام ، وإليها يحج الناس .

قال تعالى : وكذلك أوحينا إليك قرآنا عربيا لتنذر أمّ القرى ومن حولها وتنذر يوم الجمع لا ريب فيه فريق في الجنة وفريق في السعير . ( الشورى : 7 ) .

2- وأنت حلّ بهذا البلد . وأنت مقيم بهذا البلد ، يكرم الله نبيه محمدا صلى الله عليه وسلم ، الذي جعله خاتم المرسلين ، وأرسله هداية للعالمين ، وجعل مولده بمكة ، وهذا الميلاد يزيد مكة شرفا وتعظيما حيث إن أفضل خلق الله يقيم بها ويحل بين شعابها ، ويتنقل بين أماكنها داعيا إلى دين الله ، حاملا وحي السماء ، وهداية الناس .

3- ووالد وما ولد . أقسم الله بآدم وذريته لكرامتهم عليه سبحانه ، قال تعالى : ولقد كرّمنا بني آدم . . . ( الإسراء : 70 ) . وقيل : كل والد ومولود ، ( والأكثرون على أن الوالد إبراهيم وإسماعيل عليهما السلام ، والولد محمد صلى الله عليه وسلم ، كأنه أقسم ببلده ثم بوالده ثم به )i .

4- لقد خلقنا الإنسان في كبد . الكبد : المشقة والتعب ، أي : أوجدت الإنسان في تعب ومعاناة في هذه الحياة ، فهو في مشقة متتابعة ( من وقت احتباسه في الرحم إلى انفصاله ، ثم إلى زمان رضاعه ثم إلى بلوغه ، ثم ورود طوارق السراء ، وبوارق الضراء ، وعلائق التكاليف ، وعوائق التمدن والتعيش عليه إلى الموت ثم إلى البعث ، من المساءلة وظلمة القبر ووحشته ، ثم إلى الاستقرار في الجنة أو النار ، من الحساب والعتاب والحيرة والحسرةii .

ونظير الآية قوله تعالى : يا أيها الإنسان إنك كادح إلى ربك كدحا فملاقيه . ( الانشقاق : 6 )

وقوله سبحانه : الذي خلق الموت والحياة ليبلوكم أيكم أحسن عملا . . . ( الملك : 2 ) .

5-10- أيحسب أن لن يقدر عليه أحد* يقول أهلكت مالا لبدا* أيحسب أن لم يره أحد* ألم نجعل له عينين* ولسانا وشفتين* وهديناه النّجدين . لبدا : كثيرا ، النجدين : الطريقين ، وهما طريقا الخير والشر .

روي أن هذه الآيات نزلت في بعض صناديد قريش ، الذين كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يكابد منهم ما يكابد ، وهو أبو الأشد أسيد بن كلدة الجمحي ، وكان مغترا بقوته البدنية ، وقيل : نزلت في الوليد بن المغيرةiii ، وسواء أكانت هذه الآيات نزلت في أحدهما أم في غيرهما فإن معناها عام .

والمعنى :

أيظن ذلك الصنديد في قومه ، المفتون بما أنعمنا عليه ، أن لن يقدر أحد على الانتقام منه ، وأن لن يكون هناك حساب وجزاء ، فتراه يجحد القيامة ، ويتصرف تصرف القوي القادر ، فيطغى ويبغي ، ويبطش ويظلم ، ويفسق ويفجر ، دون أن يتحرج ، وهذه صفات الإنسان الذي يتعرى قلبه من الإيمان .

ثم إنه إذا دعى للخير والبذل يقول : أهلكت مالا لبدا . وأنفقت شيئا كثيرا ، فحسبي ما أنفقت وما بذلت أيحسب أن عين الله لا تراه ، وتعلم أن ما أعطاه الله له أكثر مما أنفقه ، وتعلم أنه إنما أنفق رياء وسمعة ، وطلبا للمحمدة بين الناس ؟

ثم بين الله جلائل نعمه على هذا الإنسان ، وعلى كل إنسان فقال : ألم نجعل له عينين . يبصر بهما المرئيات ، ولسانا وشفتين . ليعبر عما في نفسه ، وليتمكن من الأكل والشراب ، والنفخ والنطق ، وهديناه النّجدين . ليختار أيهما شاء ، ففي طبيعته الاستعداد لسلوك طريق الخير أو طريق الشر ، لأن الله منحه العقل والتفكير ، والإرادة والاختيار ، وميّزه على جميع المخلوقات ، فالكون كله خاضع لله خضوع القهر والغلبة ، والإنسان هو المتميز بالاختيار والحرية ، ليكون سلوكه متسما بالمسئولية .

11-13- فلا اقتحم العقبة* وما أدراك ما العقبة* فكّ رقبة . بعد أن بين الله جليل نعمه على الإنسان ، وبخاصة الأغنياء ، أخذ يحث أغنياء مكة على صلة الرحم ، والعطف على المساكين ، والمشاركة في عتق الرقاب ، والتخفيف عن العبيد والإماء .

وقد بدأت الآيات بالحث والتحريض على اقتحام العقبة ، ثم استفهم عنها في أسلوب يراد به التفخيم والتهويل ، ثم أجاب بأنها فك رقبة ، وهي عتق العبد أو الإعانة على عتقه ، والمشاركة في نقله من عالم الأرقاء إلى عالم الأحرار .

14- أو إطعام في يوم ذي مسبغة . أو إطعام جائع في أيام عوز ومجاعة .

15- يتيما ذا مقربة . إطعام يتيم في يوم المجاعة وبخاصة إذا كان قريبا .

16- أو مسكينا ذا متربة . أو إطعام مسكين عاجز عن الكسب ، لصقت بطنه بالتراب من شدة فقره .

17- ثم كان من الذين آمنوا وتواصوا بالصبر وتواصوا بالمرحمة . أي : جمع إلى الصفات المتقدمة الإيمان الصادق والصبر الجميل ، وحث الناس عليه والوصية به ، والتواصي بالرحمة والعطف .

ونلحظ أن التواصي بالصبر أمر زائد على الصبر ، ومعناه إشاعة الثبات واليقين والطمأنينة بين المؤمنين . وكذلك التواصي بالمرحمة ، فهو أمر زائد على المرحمة ، ويتمثل في إشاعة الشعور بواجب التراحم في صفوف الجماعة ، عن طريق التواصي به ، والتحاض عليه ، واتخاذه واجبا جماعيا فرديا في الوقت ذاته ، يتعارف عليه الجميع ، ويتعاون عليه الجميع . فمعنى الجماعة قائم في هذا التوجيه ، لأن الإسلام دين جماعة ، ومنهج أمة ، مع وضوح التبعة الفردية والحساب الفردي فيه وضوحا كاملا .

18- أولئك أصحاب الميمنة . أولئك الذين يقتحمون العقبة ، كما وصفها القرآن وحددها ، هم أصحاب الميمنة ، وأهل الحظ والسعادة ، وهم أصحاب اليمين الفائزون .

19- والذين كفروا بآياتنا . وجحدوا دلائل قدرتنا ، وأنكروا آيات الله العظام ، من بعث وحساب ، ونشور وجزاء ، وكذّبوا بآيات القرآن . هم أصحاب المشئمة . هم أصحاب الشمال ، أو هم أصحاب الشؤم والنحس والخسران .

20- عليهم نار موصدة . يصلون نارا مطبقة عليهم ، ومغلقة أبوابها لا يستطيعون الفرار منها ، وسيخلدون فيها .

هذه هي الحقائق الأساسية في حياة الكائن الإنساني ، وفي التصور الإيماني ، تعرض في هذه السورة القصيرة ، بهذه القوة وبهذا الوضوح ، وهذه هي خاصية التعبير القرآني الفريد .

***

مقاصد السورة

1- القسم بمكة وبالنبي الكريم صلى الله عليه وسلم بيانا لفضله .

2- بيان ما ابتلى به الإنسان في الدنيا من النصب والتعب .

3- اغترار الإنسان بقوته .

4- تعداد أنعم الله على الإنسان ، كالعين واللسان والعقل والفكر .

5- بيان سبيل النجاة الموصلة إلى السعادة .

6- الكفران بالآيات سبيل الشقاء .

ابتلاء الإنسان بالتعب ، واغتراره بقوته وماله .

بسم الله الرحمان الرحيم

{ لا أقسم بهذا البلد 1 وأنت حلّ بهذا البلد 2 ووالد وما ولد 3 لقد خلقنا الإنسان في كبد 4 أيحسب أن لن يقدر عليه أحد 5 يقول أهلكت مالا لبدا 6 أيحسب أن لم يره أحد 7 ألم نجعل له عينين 8 ولسانا وشفتين 9 وهديناه النّجدين 10 }

المفردات :

لا أقسم : أقسم ، و ( لا ) مزيدة .

بهذا البلد : بمكة المكرمة .

التفسير :

1- لا أقسم بهذا البلد .

لا مزيدة ، والمعنى : أقسم بهذا البلد ، وهي مكة أمّ القرى ، وبها بيت الحرام والكعبة المشرّفة ، وهي قبلة المسلمين .

قال تعالى : ومن حيث خرجت فول وجهك شطر المسجد الحرام ، وحيث ما كنتم فولّوا وجوهكم شطره . . ( البقرة : 150 ) .

وقد أمر الله بالحج والطواف بالبيت العتيق ، وهو أول بيت وضع للناس ، بناه إبراهيم وساعده إسماعيل ، ودعا إبراهيم ربه أن يبعث فيهم رسولا منهم .

قال تعالى : ربنا وابعث فيهم رسولا منهم يتلوا عليهم آياتك ويعلّمهم الكتاب والحكمة ويزكّيهم إنك أنت العزيز الحكيم . ( البقرة : 129 ) .