( سورة البلد مكية ، وآياتها 20 آية ، نزلت بعد سورة ق )
وقد اشتملت السورة على تعظيم البلد الحرام ، والرسول الأمين صلى الله عليه وسلم ، وتكريم آدم وذريته ، وبيان أن الإنسان خلق في معاناة ومشقة ، في حمله وولادته ورسالته في الحياة وحسابه في الآخرة .
وجابهت السورة أحد المشركين ، وكشفت سوء أفعاله ، ورسمت الطريق الأمثل للوصول إلى رضوان الله .
1- لا أقسم بهذا البلد . أقسم الله عز وجل بمكة ، وفيها البيت الحرام والكعبة ، وعندها قبلة المسلمين ، وفيها زمزم والمقام ، والأمن والأمان .
قال تعالى : جعل الله الكعبة البيت الحرام قياما للناس . . . ( المائدة : 97 ) . ومعنى قياما : قواما ، أي يقوم عندها أمر الدين ، حيث يقدم الحجيج فيطوفون ويسعون ، ويؤدون المناسك ، ويشاهدون مهبط الوحي ، ويصير الرجل أمنا بدخوله الحرم ، قال تعالى : ومن دخله ، كان آمنا . . . ( آل عمران : 97 ) .
وقد ذكر القرآن تكريم مكة في آيات كثيرة ، فقد ولد بها النبي صلى الله عليه وسلم ، وبدأ بها نزول الوحي ، ومنها انبثق فجر الإسلام ، وإليها يحج الناس .
قال تعالى : وكذلك أوحينا إليك قرآنا عربيا لتنذر أمّ القرى ومن حولها وتنذر يوم الجمع لا ريب فيه فريق في الجنة وفريق في السعير . ( الشورى : 7 ) .
2- وأنت حلّ بهذا البلد . وأنت مقيم بهذا البلد ، يكرم الله نبيه محمدا صلى الله عليه وسلم ، الذي جعله خاتم المرسلين ، وأرسله هداية للعالمين ، وجعل مولده بمكة ، وهذا الميلاد يزيد مكة شرفا وتعظيما حيث إن أفضل خلق الله يقيم بها ويحل بين شعابها ، ويتنقل بين أماكنها داعيا إلى دين الله ، حاملا وحي السماء ، وهداية الناس .
3- ووالد وما ولد . أقسم الله بآدم وذريته لكرامتهم عليه سبحانه ، قال تعالى : ولقد كرّمنا بني آدم . . . ( الإسراء : 70 ) . وقيل : كل والد ومولود ، ( والأكثرون على أن الوالد إبراهيم وإسماعيل عليهما السلام ، والولد محمد صلى الله عليه وسلم ، كأنه أقسم ببلده ثم بوالده ثم به )i .
4- لقد خلقنا الإنسان في كبد . الكبد : المشقة والتعب ، أي : أوجدت الإنسان في تعب ومعاناة في هذه الحياة ، فهو في مشقة متتابعة ( من وقت احتباسه في الرحم إلى انفصاله ، ثم إلى زمان رضاعه ثم إلى بلوغه ، ثم ورود طوارق السراء ، وبوارق الضراء ، وعلائق التكاليف ، وعوائق التمدن والتعيش عليه إلى الموت ثم إلى البعث ، من المساءلة وظلمة القبر ووحشته ، ثم إلى الاستقرار في الجنة أو النار ، من الحساب والعتاب والحيرة والحسرةii .
ونظير الآية قوله تعالى : يا أيها الإنسان إنك كادح إلى ربك كدحا فملاقيه . ( الانشقاق : 6 )
وقوله سبحانه : الذي خلق الموت والحياة ليبلوكم أيكم أحسن عملا . . . ( الملك : 2 ) .
5-10- أيحسب أن لن يقدر عليه أحد* يقول أهلكت مالا لبدا* أيحسب أن لم يره أحد* ألم نجعل له عينين* ولسانا وشفتين* وهديناه النّجدين . لبدا : كثيرا ، النجدين : الطريقين ، وهما طريقا الخير والشر .
روي أن هذه الآيات نزلت في بعض صناديد قريش ، الذين كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يكابد منهم ما يكابد ، وهو أبو الأشد أسيد بن كلدة الجمحي ، وكان مغترا بقوته البدنية ، وقيل : نزلت في الوليد بن المغيرةiii ، وسواء أكانت هذه الآيات نزلت في أحدهما أم في غيرهما فإن معناها عام .
أيظن ذلك الصنديد في قومه ، المفتون بما أنعمنا عليه ، أن لن يقدر أحد على الانتقام منه ، وأن لن يكون هناك حساب وجزاء ، فتراه يجحد القيامة ، ويتصرف تصرف القوي القادر ، فيطغى ويبغي ، ويبطش ويظلم ، ويفسق ويفجر ، دون أن يتحرج ، وهذه صفات الإنسان الذي يتعرى قلبه من الإيمان .
ثم إنه إذا دعى للخير والبذل يقول : أهلكت مالا لبدا . وأنفقت شيئا كثيرا ، فحسبي ما أنفقت وما بذلت أيحسب أن عين الله لا تراه ، وتعلم أن ما أعطاه الله له أكثر مما أنفقه ، وتعلم أنه إنما أنفق رياء وسمعة ، وطلبا للمحمدة بين الناس ؟
ثم بين الله جلائل نعمه على هذا الإنسان ، وعلى كل إنسان فقال : ألم نجعل له عينين . يبصر بهما المرئيات ، ولسانا وشفتين . ليعبر عما في نفسه ، وليتمكن من الأكل والشراب ، والنفخ والنطق ، وهديناه النّجدين . ليختار أيهما شاء ، ففي طبيعته الاستعداد لسلوك طريق الخير أو طريق الشر ، لأن الله منحه العقل والتفكير ، والإرادة والاختيار ، وميّزه على جميع المخلوقات ، فالكون كله خاضع لله خضوع القهر والغلبة ، والإنسان هو المتميز بالاختيار والحرية ، ليكون سلوكه متسما بالمسئولية .
11-13- فلا اقتحم العقبة* وما أدراك ما العقبة* فكّ رقبة . بعد أن بين الله جليل نعمه على الإنسان ، وبخاصة الأغنياء ، أخذ يحث أغنياء مكة على صلة الرحم ، والعطف على المساكين ، والمشاركة في عتق الرقاب ، والتخفيف عن العبيد والإماء .
وقد بدأت الآيات بالحث والتحريض على اقتحام العقبة ، ثم استفهم عنها في أسلوب يراد به التفخيم والتهويل ، ثم أجاب بأنها فك رقبة ، وهي عتق العبد أو الإعانة على عتقه ، والمشاركة في نقله من عالم الأرقاء إلى عالم الأحرار .
14- أو إطعام في يوم ذي مسبغة . أو إطعام جائع في أيام عوز ومجاعة .
15- يتيما ذا مقربة . إطعام يتيم في يوم المجاعة وبخاصة إذا كان قريبا .
16- أو مسكينا ذا متربة . أو إطعام مسكين عاجز عن الكسب ، لصقت بطنه بالتراب من شدة فقره .
17- ثم كان من الذين آمنوا وتواصوا بالصبر وتواصوا بالمرحمة . أي : جمع إلى الصفات المتقدمة الإيمان الصادق والصبر الجميل ، وحث الناس عليه والوصية به ، والتواصي بالرحمة والعطف .
ونلحظ أن التواصي بالصبر أمر زائد على الصبر ، ومعناه إشاعة الثبات واليقين والطمأنينة بين المؤمنين . وكذلك التواصي بالمرحمة ، فهو أمر زائد على المرحمة ، ويتمثل في إشاعة الشعور بواجب التراحم في صفوف الجماعة ، عن طريق التواصي به ، والتحاض عليه ، واتخاذه واجبا جماعيا فرديا في الوقت ذاته ، يتعارف عليه الجميع ، ويتعاون عليه الجميع . فمعنى الجماعة قائم في هذا التوجيه ، لأن الإسلام دين جماعة ، ومنهج أمة ، مع وضوح التبعة الفردية والحساب الفردي فيه وضوحا كاملا .
18- أولئك أصحاب الميمنة . أولئك الذين يقتحمون العقبة ، كما وصفها القرآن وحددها ، هم أصحاب الميمنة ، وأهل الحظ والسعادة ، وهم أصحاب اليمين الفائزون .
19- والذين كفروا بآياتنا . وجحدوا دلائل قدرتنا ، وأنكروا آيات الله العظام ، من بعث وحساب ، ونشور وجزاء ، وكذّبوا بآيات القرآن . هم أصحاب المشئمة . هم أصحاب الشمال ، أو هم أصحاب الشؤم والنحس والخسران .
20- عليهم نار موصدة . يصلون نارا مطبقة عليهم ، ومغلقة أبوابها لا يستطيعون الفرار منها ، وسيخلدون فيها .
هذه هي الحقائق الأساسية في حياة الكائن الإنساني ، وفي التصور الإيماني ، تعرض في هذه السورة القصيرة ، بهذه القوة وبهذا الوضوح ، وهذه هي خاصية التعبير القرآني الفريد .
1- القسم بمكة وبالنبي الكريم صلى الله عليه وسلم بيانا لفضله .
2- بيان ما ابتلى به الإنسان في الدنيا من النصب والتعب .
4- تعداد أنعم الله على الإنسان ، كالعين واللسان والعقل والفكر .
ابتلاء الإنسان بالتعب ، واغتراره بقوته وماله .
{ لا أقسم بهذا البلد 1 وأنت حلّ بهذا البلد 2 ووالد وما ولد 3 لقد خلقنا الإنسان في كبد 4 أيحسب أن لن يقدر عليه أحد 5 يقول أهلكت مالا لبدا 6 أيحسب أن لم يره أحد 7 ألم نجعل له عينين 8 ولسانا وشفتين 9 وهديناه النّجدين 10 }
لا أقسم : أقسم ، و ( لا ) مزيدة .
لا مزيدة ، والمعنى : أقسم بهذا البلد ، وهي مكة أمّ القرى ، وبها بيت الحرام والكعبة المشرّفة ، وهي قبلة المسلمين .
قال تعالى : ومن حيث خرجت فول وجهك شطر المسجد الحرام ، وحيث ما كنتم فولّوا وجوهكم شطره . . ( البقرة : 150 ) .
وقد أمر الله بالحج والطواف بالبيت العتيق ، وهو أول بيت وضع للناس ، بناه إبراهيم وساعده إسماعيل ، ودعا إبراهيم ربه أن يبعث فيهم رسولا منهم .
قال تعالى : ربنا وابعث فيهم رسولا منهم يتلوا عليهم آياتك ويعلّمهم الكتاب والحكمة ويزكّيهم إنك أنت العزيز الحكيم . ( البقرة : 129 ) .
مشروع تقني يهدف لتوفير قالب تقني أنيق وحديث يليق بالمحتوى الثري لمشروع الجامع التاريخي لتفسير القرآن الكريم الصادر عن مؤسسة البحوث والدراسات العلمية (مبدع)، وقد تم التركيز على توفير تصفح سلس وسهل للمحتوى ومتوافق تماما مع أجهزة الجوال، كما تم عمل بعض المميزات الفريدة كميزة التلوين التلقائي للنصوص والتي تم بناء خوارزمية برمجية مخصصة لهذا الغرض.
تم الحصول على المحتوى من برنامج الجامع التاريخي لتفسير القرآن الكريم.
المشروع لا يتبع أي جهة رسمية أو غير رسمية، إنما هي جهود فردية ومبادرات شخصية لبعض الخبراء في مجال البرمجيات.
المشروع لازال في بداياته وننوي إن شاء الله العمل على تطويره بشكل مستمر وسنضع خطة تطوير توضح المميزات التي يجري العمل عليها إن شاء الله.
الدعاء للقائمين عليه، نشر الموقع والتعريف به، إرسال الملاحظات والمقترحات.