{ تَكَادُ تَمَيَّزُ مِنَ الغَيْظِ } أي تكاد النار تتقطع وينفصل بعضها عن بعض ، لشدة غضبها عليهم ، والتهامها لهم ، وتميز أصله تتميز ، فحذفت إحدى التاءين تخفيفا .
والغيظ أشد الغضب ، والجملة فى محل نصب على الحال ، أو في محل رفع على أنها خبر لمبتدأ محذوف . أي : هي تكاد تتقطع من شدة غضبها عليهم . .
وقوله : { كُلَّمَا أُلْقِيَ فِيهَا فَوْجٌ سَأَلَهُمْ خَزَنَتُهَآ . . } كلام مستأنف لبيان حال أهلها .
والفوج : الجماعة من الناس ، ولفظ { كلما } مركب من كل الدال على الشمول ، ومن ما المصدرية الظرفية .
أي : في كل وقت وآن ، يلقى بجامعة من الكافرين فى النار ، يسألهم خزنتها من الملائكة ، سؤال تبكيت وتقريع ، بقولهم :
{ أَلَمْ يَأْتِكُمْ نَذِيرٌ } أي : ألم يأتكم يا معشر الكافرين نذير في الدنيا ، ينذركم ويخوفكم من أهوال هذا اليوم ، ويدعوكم إلى إخلاص العبادة لله - تعالى - وحده .
وقوله : { تَكَادُ تَمَيَّزُ مِنَ الْغَيْظِ } أي : يكاد ينفصل بعضها من بعض ، من شدة غيظها عليهم وحنقها بهم ، { كُلَّمَا أُلْقِيَ فِيهَا فَوْجٌ سَأَلَهُمْ خَزَنَتُهَا أَلَمْ يَأْتِكُمْ نَذِيرٌ قَالُوا بَلَى قَدْ جَاءَنَا نَذِيرٌ فَكَذَّبْنَا وَقُلْنَا مَا نزلَ اللَّهُ مِنْ شَيْءٍ إِنْ أَنْتُمْ إِلا فِي ضَلالٍ كَبِيرٍ } يذكر تعالى عدله في خلقه ، وأنه لا يعذب أحدًا إلا بعد قيام الحجة عليه وإرسال الرسول إليه ، كما قال : { وَمَا كُنَّا مُعَذِّبِينَ حَتَّى نَبْعَثَ رَسُولا } [ الإسراء : 15 ] وقال تعالى : { حَتَّى إِذَا جَاءُوهَا فُتِحَتْ أَبْوَابُهَا وَقَالَ لَهُمْ خَزَنَتُهَا أَلَمْ يَأْتِكُمْ رُسُلٌ مِنْكُمْ يَتْلُونَ عَلَيْكُمْ آيَاتِ رَبِّكُمْ وَيُنْذِرُونَكُمْ لِقَاءَ يَوْمِكُمْ هَذَا قَالُوا بَلَى وَلَكِنْ حَقَّتْ كَلِمَةُ الْعَذَابِ عَلَى الْكَافِرِينَ } [ الزمر : 71 ] .
القول في تأويل قوله تعالى : { تَكَادُ تَمَيّزُ مِنَ الغَيْظِ كُلّمَا أُلْقِيَ فِيهَا فَوْجٌ سَأَلَهُمْ خَزَنَتُهَآ أَلَمْ يَأْتِكُمْ نَذِيرٌ * قَالُواْ بَلَىَ قَدْ جَآءَنَا نَذِيرٌ فَكَذّبْنَا وَقُلْنَا مَا نَزّلَ اللّهُ مِن شَيْءٍ إِنْ أَنتُمْ إِلاّ فِي ضَلاَلٍ كَبِيرٍ } .
يقول تعالى ذكره : تَكادُ جهنم تَمَيّزُ يقول : تتفرّق وتتقطع مِنَ الغَيْظِ على أهلها . وبنحو الذي قلنا في ذلك قال أهل التأويل . ذكر من قال ذلك :
حدثني عليّ ، قال : حدثنا أبو صالح ، قال : ثني معاوية ، عن عليّ ، عن ابن عباس ، قوله : تَكادُ تَمَيّزُ مِنَ الغَيْظِ ، يقول : تتفرّق .
حدثني محمد بن سعد ، قال : ثني أبي ، قال : ثني عمي ، قال : ثني أبي ، عن أبيه ، عن ابن عباس ، قوله : تَكادُ تَمَيّزُ مِنَ الغَيْظِ ، تكاد يفارق بعضها بعضا وتنفطر .
حُدثت عن الحسين ، قال : سمعت أبا معاذ يقول : حدثنا عبيد ، قال : سمعت الضحاك يقول في قوله : تَكادُ تَمَيّزُ مِنَ الغَيْظِ ، يقول : تفرّق .
حدثني يونس ، قال : أخبرنا ابن وهب ، قال : قال ابن زيد ، في قوله : تَكادُ تَمَيّزُ مِنَ الغَيْظِ ، قال : التميز : التفرّق من الغيظ على أهل معاصي الله ، غضبا لله ، وانتقاما له .
وقوله : كُلّما أُلْقِيَ فِيها فَوْجٌ سألَهُمْ ، يقول جلّ ثناؤه : كلما ألقي في جهنم جماعة سألهم خَزَنَتُها ، ألَمْ يأْتِكُمْ نَذِيرٌ ، يقول : سأل الفوجَ خزنةُ جهنم ، فقالوا لهم : ألم يأتكم في الدنيا نذيرٌ ينذركم هذا العذاب الذي أنتم فيه ؟ فأجابهم المساكين فقالُوا : بَلى قَدْ جاءَنا نَذِيرٌ ينذرنا هذا ، فَكَذّبْناهُ وَقُلْنَا له : ما نَزّلَ اللّهُ مِنْ شَيْءٍ إن أنْتُمْ إلاّ فِي ضَلالٍ كَبِيرٍ . يقول : في ذهاب عن الحقّ بعيد .
و { الغيظ } أشد الغضب . وقوله : { تكاد تميز من الغيظ } خبر ثان عن ضمير { وهي } ، مثلت حالة فورانها وتصاعد ألسنة لهيبها ورطمها ما فيها والتهام من يُلقون إليها ، بحال مغتاظ شديد الغيظ لا يترك شيئاً مما غاظه إلاّ سلط عليه ما يستطيع من الإِضرار .
واستعمل المركب الدال على الهيئة المشبه بها مع مرادفاته كقولهم : يكاد فلان يتميز غيظاً ويتقصف غَضَباً ، أي يكاد تتفرق أجزاؤه فيتميز بعضها عن بعض وهذا من التمثيلية المكنية وقد وضحناها في تفسير قوله تعالى : { أولئك على هدى من ربهم } في سورة البقرة ( 5 ) .
ونظير هذه الاستعارة قوله تعالى : { فوجدا فيها جداراً يريد أن ينقضّ } في سورة الكهف ( 77 ) إذ مثل الجدار بشخص له إرادة .
و{ تميَّز } أصله تتميز ، أي تنفصل ، أي تتجزأ أجزاءً تخييلاً لشدة الاضطراب بأن أجزاءها قاربت أن تتقطع ، وهذا كقولهم : غضب فلان فطارت منه شقة في الأرض وشقة في السماء .
{ كلما ألقي فيها فوج سألهم خزنتها ألم يأتكم نذير }
أُتبع وصف ما يجده أهل النار عند إلقائهم فيها من فظائع أهوالها بوصف ما يتلقاهم به خزنة النار .
فالجملة استئناف بياني أثاره وصف النار عند إلقاء أهل النار فيها إذ يَتساءل السامع عن سبب وقوع أهل النار فيها فجاء بيانه بأنه تكذيبهم رسل الله الذين أرسلوا إليهم ، مع ما انضمّ إلى ذلك من وصف ندامة أهل النار على ما فرط منهم من تكذيب رسل الله وعلى إهمالهم النظر في دعوة الرسل والتدبر فيما جاءوهم به .
و { كلما } مركب من ( كل ) اسم دال على الشمول ومن ( ما ) الظرفية المصدرية وهي حرف يؤوَّل مع الفعل الذي بعده بمصدره .
والتقدير : في كل وقت إلقاء فوج يسأل خزنتُها الفوجَ .
وباتصال ( كل ) بحرف ( ما ) المصدرية الظرفية اكتسبَ التركيب معنى الشرط وشابه أدوات الشرط في الاحتياج إلى جملتين مُرتبة إحداهما على الأخرى .
وجيء بفعلي { أُلقي } و { سألهم } ماضيين لأن أكثر ما يقع الفعل بعد { كلما } أن يكون بصيغة المضي لأنها لما شابهت الشرط استوى الماضي والمضارع معها لظهور أنه للزمن المستقبل فأوثر فعل المضي لأنه أخف .
والفوج : الجماعة أي جماعة ممن حق عليهم الخلود ، وتقدم عند قوله تعالى : { ويوم نحشر من كل أمة فوجاً } في سورة النمل ( 83 ) .
وجيء بالضمائر العائدة إلى الفوج ضمائر جمع في قوله : سألهم } الخ . لتأويل الفوج بجماعة أفراده كما في قوله : { وإن طائفتان من المؤمنين اقتتلوا } [ الحجرات : 9 ] .
وخزنة النار : الملائكة الموكل إليهم أمر جهنم وهو جمع خازن للموكل بالحفظ وأصل الخازن : الذي يخزن شيئاً ، أي يحفظه في مكان حصين ، فإطلاقه على الموكلين مجاز مرسل .
وجملة { ألم يأتكم نذير } بيان لجملة { سألهم } كقوله : { فوسوس إليه الشيطان قال يا آدم هل أدلك على شجرة الخلد } [ طه : 120 ] .
والاستفهام في { ألم يأتكم نذير } للتوبيخ والتنديم ليزيدهم حسرة .
والنذير : المنذر ، أي رسول منذر بعقاب الله وهو مصوغ على غير قياس كما صيغ بمعنى المسمع السميع في قول عمرو بن معد يكرب :
والمراد أفواج أهل النار من جميع الأمم التي أرسلت إليهم الرسل فتكون جملة : { كلما أُلقي فيها فوج } الخ بمعنى التذييل .