42- واذكروا حين كنتم في الوادي بأقرب الجانبين من المدينة ، وهم بأبعد الجانبين ، وركْب التجارة الذي تطلبونه أقرب إليكم مما يلي البحر ، ولو تواعدتم أنتم على التلاقي للقتال لما اتفقتم عليه ، ولكن الله دبر تلاقيكم على غير موعد ولا رغبة منهم . لينفذ أمراً كان ثابتاً في علمه أنه واقع لا محالة ، وهو القتال المؤدى إلى نصركم وهزيمتهم ، لتنقطع الشبهات ، فيهلك الهالكون عن حُجة بينة بالمشاهدة : وهي هزيمة الكثرة الكافرة ، ويحيا المؤمنون عن حجة بينة : وهي نصر الله للقلة المؤمنة . إن الله لسميع عليم لا يخفي عليه شيء من أقوال الفريقين ولا نياتهم .
قوله تعالى : { إذ أنتم } ، أي : إذ أنتم نزول يا معشر المسلمين .
قوله تعالى : { بالعدوة الدنيا } ، أي : بشفير الوادي الأدنى إلى المدينة ، والدنيا تأنيث الأدنى .
قوله تعالى : { وهم } ، يعني عدوكم من المشركين .
قوله تعالى : { بالعدوة القصوى } بشفير الوادي الأقصى من المدينة ، والقصوى تأنيث الأقصى ، قرأ ابن كثير وأهل البصرة : بالعدوة بكسر العين فيهما ، والباقون بضمهما ، وهما لغتان : كالكسوة والكسوة ، والرشوة والرشوة .
قوله تعالى : { والركب } ، يعني : العير ، يريد أبا سفيان وأصحابه .
قوله تعالى : { أسفل منكم } ، أي : في موضع أسفل منكم إلى ساحل البحر ، على ثلاثة أميال من بدر .
قوله تعالى : { ولو تواعدتم لاختلفتم في الميعاد } ، وذلك أن المسلمين خرجوا ليأخذوا العير ، وخرج الكفار ليمنعوها ، فالتقوا على غير ميعاد ، فقال تعالى : { ولو تواعدتم لاختلفتم في الميعاد } لقلتكم ، وكثرة عدوكم .
قوله تعالى : { ولكن } الله جمعكم على غير ميعاد .
قوله تعالى : { ليقضي الله أمراً كان مفعولا } ، من نصر أوليائه ، وإعزاز دينه ، وإهلاك أعدائه .
قوله تعالى : { ليهلك من هلك عن بينة } أي ليموت من يموت على بينة رآها ، وعبرة عاينها ، وحجة قامت عليه .
قوله تعالى : { ويحيي من حي عن بينة } ، ويعيش من يعيش على بينة لوعده ، { وما كنا معذبين حتى نبعث رسولاً } [ الإسراء : 15 ] . وقال محمد بن إسحاق : معناه ليكفر من كفر بعد حجة قامت عليه ، ويؤمن من آمن على مثل ذلك ، فالهلاك هو الكفر ، والحياة هي الإيمان ، وقال قتادة : ليضل من ضل عن بينة ، ويهتدي من اهتدى على بينة ، قرأ أهل الحجاز ، وأبو بكر ، ويعقوب ، حيي بيائين ، مثل خشي ، وقرأ الآخرون : بياء واحدة مشددة ، لأنه مكتوب بياء واحدة مشددة .
ثم حكى - سبحانه - بعض مظاهر فضله وحكمه في غزوة بدر ، فبين الأماكن التي نزل فيها كل فريق ، كما يبن الحكمة في لقاء المؤمنين والكافرين على غير ميعاد ، والحكمة في تقليل كل فريق منهما في عين الآخر . . فقال تعالى : { إِذْ أَنتُمْ بِالْعُدْوَةِ . . . تُرْجَعُ الأمور } .
قوله : { إِذْ أَنتُمْ بِالْعُدْوَةِ الدنيا } بدل من قوله { يَوْمَ الفرقان } أو معمول لفعل محذوف . والتقدير : اذكروا .
والعدوة - مثلثة العين - جانب الوادى وحافته . وهى من العدو بمعنى التجاوز سميت بذلك لأنها عدت . . - أي منعت - ما في الوادى من ماء ونحوه أن يتجاوزها .
والدنيا : تأنيث الأدنى بمعنى الأقرب . والقصوى : تأنيث الأقصى بمعنى الأبعد والركب : اسم جمع لراكب ، وهم العشرة فصاعدا من راكبى الإِبل .
قال القرطبى : ولا تقول العرب : ركب إلا للجماعة الراكبى الإِبل . .
والمراد بهذا الركب : أبو سفيان ومن معه من رجال قريش الذين كانوا قادمين بتجارتهم من بلاد الشام ومتجهين بها إلى مكة ، فلما بلغ النبى - صلى الله عليه وسلم - أمرها ، أشار على أصحابه بالخروج لملاقاته ، كما سبق أن بينا عند تفسيرنا لقوله - تعالى - { كَمَآ أَخْرَجَكَ رَبُّكَ مِن بَيْتِكَ بالحق . . } والمعنى : اذكروا - أيها المؤمنون - وقت أن خرجتم إلى بدر ، فسرتم إلى أن كنتم { بِالْعُدْوَةِ الدنيا } أى : بجانب الوادى وحافته الأقرب الى المدينة ، وكان اعداؤكم الذين قدموا لنجدة العير { بالعدوة القصوى } أى : بالجانب الآخر الأبعد من المدينة ، وكان أبو سفيان ومن معه من حراس العير { أَسْفَلَ مِنكُمْ } أى : في مكان أسفل من المكان الذي أنتم فيه ، بالقرب من ساحل البحر الأحمر ، على بعد ثلاثة أميال منكم .
قال الجمل : قوله { والركب أَسْفَلَ مِنكُمْ } الأحسن في هذه الواو ، والواو التي قبلها الداخلة على { هُم } أن تكون عاطفة ما بعدها على { أَنتُمْ } لأنها مبدأ تقسيم أحوالهم وأحوال عدوهم ويجوز أن يكونا واو حال ، واسفل منصوب على الظرف النائب عن الخبر ، وهو في الحقيقة صفة لظرف مكان محذوف . أى : والركب في مكان أسفل من مكانكم وكان الركب على ثلاثة أميال من بدر . .
وقال الإِمام الزمخشرى - رحمه الله - فإن قلت : ما فائدة هذا التوقيت ، وذكر مراكز الفريقين ، وأن العير كانت أسفل منهم ؟ .
قلت : الفائدة فيه الإِخبار عن الحال الدالة على قوة الشأن للعدو ، وتكامل عدته ، وتمهد أسباب الغلبة له ، وضعف شأن المسلمين ، والتياث أمرهم ، وأن غلبتهم في هذه الحال ليس إلا صنعا من الله - سبحانه - ودليلا على أن ذلك أمر لم يتيسر إلا بحوله وقوته وباهر قدرته .
وذلك أن العدوة القصوى التي أناخ بها المشركون ، كان فيه الماء ، وكانت أرضا لا بأس بها . ولا ماء العدوة الدنيا ، وهى خبار - أي أرض لينة رخوة - تسوخ فيها الأرجل ، ولا يمشى فيها إلا بتعب ومشقة .
وكانت العير وراء ظهور العدو ، مع كثرة عددهم ، فكانت الحماية دونها تضاعف حميتهم ، وتشحذ في المقاتلة عنها نياتهم ، ولهذا كانت العرب تخرج إلى الحرب بظعنهم وأموالهم ، ليبعثهم الذب عن الحريم على بذل جهودهم في القتال .
وفيه تصوير ما دبر - سبحانه - من أمر غزوة بدر { لِّيَقْضِيَ الله أَمْراً كَانَ مَفْعُولاً } ومن إعزاز دينه ، وإعلاء كلمته ، حين وعد المسلمين إحدى الطائفتين مبهمة غير مبينة حتى خرجوا ليأخذوا العير راغبين في الخروج ، وأقلق قريشا ما بلغهم من تعرض المسلمين لأموالهم ، فنفروا لمنع عيرهم ، وسبب الأسباب حتى أناخ هؤلاء بالعدوة الدنيا وهؤلاء بالعدوة القصوى ، وراءهم العير يحامون عليها ، حتى قامت الحرب في ساق ، وكان ما كان .
وقوله : { وَلَوْ تَوَاعَدتُّمْ لاَخْتَلَفْتُمْ فِي الميعاد ولكن لِّيَقْضِيَ الله أَمْراً كَانَ مَفْعُولاً } بيان لتدبير الله الحكيم ، وإرادته النافذة .
أى : ولو تواعدتم وأهل مكة على موعد تلتقون فيه للقتال ، لتخلفتم عن الميعاد المضروب بينكم ، لأن كل فريق منكم كان سيتهيب الإِقدام على صاحبه ، ولكن الله - تعالى - بتدبيره الخفى شاء أن يجمعكم للقتال على غير ميعاد ، ليقضى - سبحانه - أمراً كان مفعولا ، أى : ثابتا في علمه وحكمته ، وهو : إعزاز الإِسلام وأهله ، وخذلان الشرك وحزبه .
روى ابن جرير من حديث كعب بن مالك - رضى الله عنه - قال : إنما خرج رسول الله - صلى الله عليه وسلم - والمسلمون يريدون عير قريش ، حتى جمع الله بينهم وبين عدوهم على غير ميعاد . وروى - أيضا - عن عمير بن إسحاق قال : أقبل أبو سفيان في الكرب من الشام ، وخرج أبو جهل ليمنعه من رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وأصحابه فالتقوا ببدر ، ولا يشعر هؤلاء بهؤلاء ، ولا هؤلاء بهؤلاء ، حتى التقى السقاة قال : ونظر الناس بعضهم إلى بعض .
وقوله { لِّيَهْلِكَ مَنْ هَلَكَ عَن بَيِّنَةٍ ويحيى مَنْ حَيَّ عَن بَيِّنَةٍ } بدل من قوله { لِّيَقْضِيَ } بإعادة الحروف ، أو هو متعلق بقوله { مَفْعُولاً } .
والمراد بالهلاك والحياة هنا ما يشمل الحسى والمعنوى منهما .
والمراد بالبينة الحجة الدالة على حقية الإِسلام وبطلان الكفر .
قال الآلوسى : أى : ليموت من يموت عن حجة عاينها ، ويعيش من يعيش عن حجة شاهدها ، فلا يبقى محل للتعليل بالأعذار ، فإن وقعة بدر من الآيات الواضحة والحجج الغر المحجَّلة .
ويجوز أن يراد بالحياة : الإِيمان ، وبالموت : الكفر على سبيل الاستعارة أو المجاز المرسل بأن يراد بالبينة : إظهار كمال القدرة الدالة على الحجة الدامغة .
أى : ليصدر كفر من كفر وإيمان من آمن عن ووضح وبينة وإلى هذا ذهب قتادة وابن اسحاق . والظاهر أن { عَن } هنا بمعنى بعد كقوله - تعالى - { قَالَ عَمَّا قَلِيلٍ لَّيُصْبِحُنَّ نَادِمِينَ } وقرأ نافع وابن كثير وأبو بكر ويعقوب { حيى } - على وزن تعب - بفك الإِدغام . وقرأ الباقون بإدغام الياء الأولى في الثانية على وزن شد ومد .
وقوله { وَإِنَّ الله لَسَمِيعٌ عَلِيمٌ } تذييل قصد به الترغيب في الإِيمان - والترهيب من الكفر ، أى : وإن الله لسميع لأقوال أهل الايمان والكفر عليم بما تنطوى عليه قلوبهم وضمائرهم ، وسيجازى - كل إنسان بما يستحقه من ثواب أو عقاب على حساب ما يعلم وما يسمع منه .
يقول تعالى [ مخبرًا ]{[13014]} عن يوم الفرقان : { إِذْ أَنْتُمْ بِالْعُدْوَةِ الدُّنْيَا } أي : إذ أنتم نزول بعدوة الوادي الدنيا القريبة إلى المدينة ، { وَهُمْ } أي : المشركون نزول{ بِالْعُدْوَةِ الْقُصْوَى } أي : البعيدة التي من ناحية مكة ، { والرَّكْبُ } أي : العير الذي فيه أبو سفيان بما معه من التجارة{ أَسْفَلَ مِنْكُمْ } أي : مما يلي سيف البحر{ وَلَوْ تَوَاعَدْتُمْ } أي : أنتم والمشركون إلى مكان{ لاخْتَلَفْتُمْ فِي الْمِيعَادِ }
قال محمد بن إسحاق : وحدثني يحيى بن عباد بن عبد الله بن الزبير ، عن أبيه في هذه الآية قال : ولو كان ذلك عن ميعاد منكم ومنهم ، ثم بلغكم كثرة عددهم وقلة عددكم ، ما لقيتموهم ، { وَلَكِنْ لِيَقْضِيَ اللَّهُ أَمْرًا كَانَ مَفْعُولا } أي : ليقضي الله ما أراد بقدرته من إعزاز الإسلام وأهله ، وإذلال الشرك وأهله ، عن غير ملأ منكم ، ففعل ما أراد من ذلك بلطفه .
وفي حديث كعب بن مالك قال : إنما خرج رسول الله صلى الله عليه وسلم والمسلمون يريدون عِيرَ قريش ، حتى جمع الله بينهم وبين عدوهم على غير ميعاد{[13015]}
وقال ابن جرير : حدثني يعقوب ، حدثني ابن عُلَيَّة ، عن ابن عون ، عن عمير بن إسحاق قال : أقبل أبو سفيان في الركب من الشام ، وخرج أبو جهل ليمنعه من رسول الله صلى الله عليه وسلم وأصحابه ، فالتقوا ببدر ، لا يشعر هؤلاء بهؤلاء ، ولا هؤلاء بهؤلاء ، حتى التقت السقاة ، ونهد الناس بعضهم لبعض{[13016]}
وقال محمد بن إسحاق في السيرة : ومضى رسول الله صلى الله عليه وسلم على وجهه ذلك حتى إذا كان قريبًا من " الصفراء " بعث بَسْبَس بن عمرو ، وعدي بن أبي الزَّغباء الجُهَنيين ، يلتمسان الخبر عن أبي سفيان ، فانطلقا حتى إذا وردا بدرًا فأناخا بعيريهما إلى تل من البطحاء ، فاستقيا في شَنٍّ لهما من الماء ، فسمعا جاريتين يَختصمان ، تقول إحداهما لصاحبتها : اقضيني حقي . وتقول الأخرى : إنما تأتي العير غدا أو بعد غد ، فأقضيك حقك . فَخَلَّص بينهما مَجْدي بن عمرو ، وقال : صَدقت ، فسمع ذلك{[13017]} بَسْبَسُ وعَدِيّ ، فجلسا على بعيريهما ، حتى أتيا رسول الله صلى الله عليه وسلم فأخبراه الخبر . وأقبل أبو سفيان حين وليا وقد حَذِر ، فتقدم أمام عيره وقال لمجدي بن عمرو : هل أحسست على هذا الماء من أحد تنكره ؟ فقال : لا والله ، إلا أني قد رأيت راكبين أناخا إلى هذا التل ، فاستقيا في شَنّ لهما ، ثم انطلقا . فجاء أبو سفيان إلى مُناخ بعيريهما ، فأخذ من أبعارهما ، فَفَتَّه ، فإذا فيه النوى ، فقال : هذه والله علائف يثرب . ثم رجع سريعًا فضرب وجه عيره ، فانطلق بها فَسَاحَل حتى إذا رأى أن قد أحرز عيره بعث إلى قريش فقال : إن الله قد نجى عيرَكم وأموالكم ورجالكم ، فارجعوا .
فقال أبو جهل : والله{[13018]} لا نرجع حتى نأتي بدرا - وكانت بدرُ سوقًا من أسواق العرب - فنقيم بها ثلاثا ، فَنُطْعمُ بها الطعام ، وننحَرُ بها الجُزُر{[13019]} ونُسْقَى بها الخمر ، وتعزف علينا القيان ، وتسمع بنا العرب وبسيرنا ، فلا يزالون يهابوننا بعدها أبدا .
فقال الأخنس بن شُرَيْق : يا معشر بني زُهَرة ، إن الله قد نَجَّى أموالكم ، ونَجَّى صاحبكم ، فارجعوا . فأطاعوه ، فرجعت بنو زهرة ، فلم يشهدوها ولا بنو عدي{[13020]} قال محمد بن إسحاق : وحدثني يزيد بن رُوَمان ، عن عروة بن الزبير قال : وبعث رسول الله صلى الله عليه وسلم - حين دنا من بدر - عليَّ بن أبي طالب ، وسعدَ بن أبي وقاص ، والزبير بن العوام ، في نفر من أصحابه ، يتجسسون له الخبر فأصابوا سُقَاةً لقريش : غلاما لبني{[13021]} سعيد بن العاص ، وغلاما لبني الحجاج ، فأتوا بهما رسول الله صلى الله عليه وسلم ، فوجدوه يصلي ، فجعل أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم يسألونهما : لمن أنتما ؟{[13022]} فيقولان : نحن سُقاة لقريش ، بعثونا نسقيهم من الماء . فكره القوم خبرهما ، ورجَوا أن يكونا لأبي سفيان ، فضربوهما فلما ذلقوهما قالا نحن لأبي سفيان . فتركوهما ، وركع رسول الله صلى الله عليه وسلم وسجد سجدتين ، ثم سلم وقال : " إذا صدَقاكم ضربتموهما ، وإذا كذباكم تركتموهما . صدقا ، والله إنهما لقريش ، أخبراني عن قريش " . قالا هم وراء هذا الكَثيب الذي ترى بالعدوة القصوى - والكثيب : العَقَنْقَل - فقال لهما رسول الله صلى الله عليه وسلم : " كم القوم ؟ " قالا كثير . قال : " ما عدَّتهم ؟ " قالا ما ندري . قال : " كم ينحَرُون كل يوم ؟ " قالا يوما تسعًا ، ويوما عشرًا ، قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : " القوم ما بين التسعمائة إلى الألف " . ثم قال لهما : " فمن فيهم من أشراف قريش ؟ " قالا عتبة بن ربيعة ، وشيبة بن ربيعة ، وأبو البخْتري بن هشام ، وحكيم بن حِزَام ، ونوفل بن خويلد ، والحارث بن عامر بن نوفل ، وطُعَيمة بن عدي بن [ نوفل ، والنضر بن الحارث ، وزَمَعَة بن الأسود ، وأبو جهل بن هشام ، وأمية ]{[13023]} بن خلف ، ونُبَيْه ومُنَبِّه ابنا الحجاج ، وسهيل بن عمرو ، وعمرو بن عبد ود . فأقبل رسول الله صلى الله عليه وسلم على الناس فقال : " هذه مكة قد ألقت إليكم أفلاذ كبدها " {[13024]}
قال محمد بن إسحاق ، رحمه الله تعالى : وحدثني عبد الله بن أبي بكر بن حزم : أن سعد بن معاذ قال لرسول الله صلى الله عليه وسلم ، لما التقى الناس يوم بدر : يا رسول الله ، ألا نبني لك عريشًا تكون فيه ، ونُنِيخ إليك ركائبك ، ونلقى عدونا ، فإن أظفرنا الله عليهم وأعزنا فذاك ما نحب ، فقال : وإن تكن الأخرى فتَجلسَ على ركائبك ، وتلحق بمن وراءنا من قومنا ، فقد - والله - تخلف عنك أقوام ما نحن بأشدَّ لك حبا منهم ، لو علموا أنك تلقى حربا ما تخلفوا عنك ، ويوادونك وينصرونك . فأثنى عليه رسول الله صلى الله عليه وسلم خيرًا ، ودعا له به . فبُنِيَ له عريش ، فكان فيه رسول الله صلى الله عليه وسلم وأبو بكر ، ما معهما غيرهما{[13025]}
قال ابن إسحاق : وارتحلت قريش حين أصبحت ، فلما أقبلت ورآها رسول الله صلى الله عليه وسلم تُصَوِّب من العَقَنْقَل - وهو الكثيب - الذي جاءوا منه إلى الوادي قال : " اللهم هذه{[13026]} قريش قد أقبلت بفخرها وخيلائها تحادك وتكذب رسولك ، اللهم أحنهم الغداة " {[13027]}
وقوله : { لِيَهْلِكَ مَنْ هَلَكَ عَنْ بَيِّنَةٍ وَيَحْيَى مَنْ حَيَّ عَنْ بَيِّنَةٍ } قال محمد بن إسحاق : أي ليكفر من كفر بعد الحجة ، لما رأى من الآية والعبرة ، ويؤمن من آمن على مثل ذلك .
وهذا تفسير جيد . وبَسْطُ ذلك أنه{[13028]} تعالى يقول : إنما جمعكم مع عدوكم في مكان واحد على غير ميعاد ، لينصركم عليهم ، ويرفع كلمة الحق على الباطل ، ليصير الأمر ظاهرًا ، والحجة قاطعة ، والبراهين ساطعة ، ولا يبقى لأحد حجة ولا شبهة ، فحينئذ{ يَهْلِكَ مَنْ هَلَكَ } أي : يستمر في الكفر من استمر فيه على بصيرة من أمره أنه مبطل ، لقيام الحجة عليه ، { وَيَحْيَى مَنْ حَيَّ } أي : يؤمن من آمن{ عَنْ بَيِّنَةٍ } أي : حجة وبصيرة . والإيمان هو حياة القلوب ، قال الله تعالى : { أَوَمَنْ كَانَ مَيْتًا فَأَحْيَيْنَاهُ وَجَعَلْنَا لَهُ نُورًا يَمْشِي بِهِ فِي النَّاسِ } [ الأنعام : 122 ] ، وقالت عائشة في قصة الإفك : فيَّ هلك من هلك أي : قال فيها ما قال من الكذب والبهتان والإفك .
وقوله : { وَإِنَّ اللَّهَ لَسَمِيعٌ } أي : لدعائكم وتضرعكم واستغاثتكم به{ عَلِيمٌ } أي : بكم وأنكم تستحقون النصر على أعدائكم الكفرة المعاندين .
القول في تأويل قوله تعالى : { إِذْ أَنتُمْ بِالْعُدْوَةِ الدّنْيَا وَهُم بِالْعُدْوَةِ الْقُصْوَىَ وَالرّكْبُ أَسْفَلَ مِنكُمْ وَلَوْ تَوَاعَدتّمْ لاَخْتَلَفْتُمْ فِي الْمِيعَادِ وَلََكِن لّيَقْضِيَ اللّهُ أَمْراً كَانَ مَفْعُولاً لّيَهْلِكَ مَنْ هَلَكَ عَن بَيّنَةٍ وَيَحْيَىَ مَنْ حَيّ عَن بَيّنَةٍ وَإِنّ اللّهَ لَسَمِيعٌ عَلِيمٌ } .
يقول تعالى ذكره : أيقنوا أيها المؤمنون واعلموا أن قسم الغنيمة على ما بينه لكم ربكم إن كنتم آمنتم بالله وما أنزل على عبده يوم بدر ، إذ فرق بين الحقّ والباطل من نصر رسوله ، إذْ أنْتُمْ حينئذ بالعُدْوةِ الدّنْيا يقول : بشفير الوادي الأدنى إلى المدينة ، وَهُمْ بالعُدْوَةِ القُصْوَى يقول : وعدوّكم من المشركين نزول بشفير الوادي الأقصى إلى مكة ، وَالرّكْبُ أسْفَلَ مِنْكُمْ يقول : والعير فيه أبو سفيان وأصحابه في موضع أسفل منكم إلى ساحل البحر .
وبنحو الذي قلنا في ذلك قال أهل التأويل . ذكر من قال ذلك :
حدثنا محمد بن عبد الأعلى ، قال : حدثنا محمد بن ثور ، عن معمر ، عن قتادة : إذْ أنْتُمْ بالعُدْوَةِ الدّنْيا قال : شفير الوادي الأدنى وهي بشفير الوادي الأقصى . وَالرّكْبُ أسْفَلَ مِنْكُمْ قال : أبو سفيان وأصحابه أسفل منهم .
حدثنا بشر ، قال : حدثنا يزيد ، قال : حدثنا سعيد ، عن قتادة ، قوله : إذْ أنْتُمْ بالعُدْوَةِ الدّنْيا وَهُمْ بالعُدْوَةِ القُصْوَى وهما شفيرا الوادي ، كان نبيّ الله أعلى الوادي والمشركون بأسفله . وَالرّكْبُ أسْفَلَ مِنْكُمْ يعني أبا سفيان ، انحدر بالعير على حوزته حتى قدم بها مكة .
حدثنا ابن حميد ، قال : حدثنا سلمة ، عن ابن إسحاق : إذْ أنْتُمْ بالعُدْوَةِ الدّنْيا وَهُمْ بالعُدْوَةِ القُصَوَى من الوادي إلى مكة . وَالرّكْبُ أسْفَلَ مِنْكُمْ : أي عير أبي سفيان التي خرجتم لتأخذوها وخرجوا ليمنعوها عن غير ميعاد منكم ولا منهم .
حدثني محمد بن عمرو ، قال : حدثنا أبو عاصم ، قال : حدثنا عيسى ، عن ابن أبي نجيح ، عن مجاهد ، قوله : وَالرّكْبُ أسْفَلَ مِنْكُمْ قال : أبو سفيان وأصحابه مقبلون من الشام تجارا ، لم يشعروا بأصحاب بدر ، ولم يشعر محمد صلى الله عليه وسلم بكفار قريش ولا كفار قريش بمحمد وأصحابه ، حتى التقيا على ماء بدر من يسقى لهم كلهم ، فاقتتلوا ، فغلبهم أصحاب محمد صلى الله عليه وسلم ، فأسروهم .
حدثني المثنى ، قال : حدثنا أبو حذيفة ، قال : حدثنا شبل ، عن ابن أبي نجيح ، عن مجاهد ، بنحوه .
حدثني المثنى ، قال : حدثنا إسحاق ، قال : حدثنا عبد الله ، عن ورقاء ، عن ابن أبي نجيح ، عن مجاهد مثله .
حدثني محمد بن الحسين ، قال : حدثنا أحمد بن المفضل ، قال : حدثنا أسباط ، عن السديّ ، قال : ذكر منازل القوم والعير ، فقال : إذْ أنْتُمْ بالعُدْوَةِ الدّنْيا وَهُمْ بالعُدْوَةِ القُصَوَى والركب : هو أبو سفيان وعيره ، أسفل منكم على شاطىء البحر .
واختلفت القرّاء في قراءة قوله : إذْ أنْتُمْ بالعُدْوَةِ فقرأ ذلك عامة قرّاء المدنيين والكوفيين : بالعُدْوَةِ بضم العين ، وقرأه بعض المكيين والبصريين : «بالعِدْوَةِ » بكسر العين . وهما لغتان مشهورتان بمعنى واحد ، فبأيتهما قرأ القارىء فمصيب ، يُنْشَد بيت الراعي :
وَعَيْنانِ حُمْرٌ مَآقِيهِما ***كما نظَرَ العِدْوَةَ الجُؤْذَرُ
بكسر العين من العدوة ، وكذلك ينشد بيت أوس بن حجر :
وفارِسٍ لَوْ تَحُلّ الخَيْلُ عِدْوَتَه ***وَلّوْا سِرَاعا وَما هَمّوا بإقْبالِ
القول في تأويل قوله تعالى : وَلَوْ تَوَاعَدْتُمْ لاخْتَلَفْتُمْ فِي المِيعادِ وَلَكِنْ لِيَقْضِيَ اللّهُ أمْرا كانَ مَفْعُولاً .
يعني تعالى ذكره : ولو كان اجتماعكم في الموضع الذي اجتمعتم فيه أنتم أيها المؤمنون وعدوّكم من المشركين عن ميعاد منكم ومنهم ، لاختلفتم في الميعاد لكثرة عدد عدوّكم وقلة عددكم ولكن الله جمعكم على غير ميعاد بينكم وبينهم ليقضي الله أمرا كان مفعولاً . وذلك القضاء من الله كان نصره أولياءه من المؤمنين بالله ورسوله ، وهلاك أعدائه وأعدائهم ببدر بالقتل والأسر كما :
حدثنا ابن حميد ، قال : حدثنا سلمة ، عن ابن إسحاق : وَلَوْ تَوَاعَدْتُمْ لاخْتَلَفْتُمْ فِي المِيعادِ ولو كان ذلك عن ميعاد منكم ومنهم ثم بلغكم كثرة عددهم وقلة عددكم ما لقيتموهم . وَلَكِنْ لِيَقْضِيَ اللّهُ أمْرا كانَ مَفْعُولاً : أي ليقضي الله ما أراد بقدرته من إعزاز الإسلام وأهله ، وإذلال الشرك وأهله ، عن غير بلاء منكم ففعل ما أراد من ذلك بلطفه .
حدثني يونس ، قال : أخبرنا ابن وهب ، قال : قال ابن زيد : أخبرني يونس بن شهاب ، قال : أخبرني عبد الرحمن بن عبد الله بن كعب بن مالك ، أن عبد الله بن كعب ، قال : سمعت كعب بن مالك يقول في غزوة بدر : إنما خرج رسول الله صلى الله عليه وسلم والمسلمون يريدون عير قرَيش ، حتى جمع الله بينهم وبين عدوّهم على غير ميعاد .
حدثني يعقوب ، قال : حدثنا ابن علية ، عن ابن عون ، عن عمير بن إسحاق ، قال : أقبل أبو سفيان في الركب من الشام ، وخرج أبو جهل ليمنعه من رسول الله صلى الله عليه وسلم وأصحابه ، فالتقوا ببدر ، ولا يشعر هؤلاء بهؤلاء ولا هؤلاء بهؤلاء ، حتى التقت السقاة ، قال : ونهد الناس بعضهم لبعض .
القول في تأويل قوله تعالى : لِيَهْلِكَ مَنْ هَلَكَ عَنْ بَيّنَةٍ وَيحْيا مَنْ حَيّ عَنْ بَيّنَةٍ وَإنّ اللّهَ لَسَمِيعٌ عَلِيمٌ .
يقول تعالى ذكره : ولكن الله جمعهم هنالك ليقضي أمرا كان مفعولاً ، لِيَهْلِكَ مَنْ هَلَكَ عَنْ بَيّنَةٍ . وهذه اللام في قوله : لِيَهْلِكَ مكررة على اللام في قوله : لِيَقْضِيَ كأنه قال : ولكن ليهلك من هلك عن بينة ، جَمَعَكُمْ .
ويعني بقوله : لِيَهْلِكَ مَنْ هَلَكَ عَنْ بَيّنَةٍ ليموت من مات من خلقه عن حجة لله قد أثبتت له ، وقطعت عذره ، وعبرة قد عاينها ورآها . وَيحْيا مَنْ حَيّ عَنْ بَينَةٍ يقول : وليعيش من عاش منهم عن حجة لله قد أثبتت له وظهرت لعينه ، فعلمها جمعنا بينكم وبين عدوكم هنالك .
حدثنا ابن حميد ، قال : حدثنا سلمة ، عن ابن إسحاق : لِيَهْلِكَ مَنْ هَلَكَ عَنْ بَيّنَةٍ لما رأى من الاَيات والعبر ، ويؤمن من آمن على مثل ذلك .
وأما قوله : وَإنّ اللّهَ لَسَمِيِعٌ عَلِيمٌ فإن معناه : وإن الله أيها المؤمنون لسميع لقولكم وقول غيركم حين يرى الله نبيه في منامه ، ويريكم عدوكم في أعينكم قليلاً وهم كثير ، ويراكم عدوكم في أعينهم قليلاً ، عليم بما تضمره نفوسكم وتنطوي عليه قلوبكم ، حينئذ وفي كل حال . يقول جلّ ثناؤه لهم ولعباده : واتقوا ربكم أيها الناس في منطقكم أن تنطقوا بغير حقّ ، وفي قلوبكم أن تعتقدوا فيها غير الرشد ، فإن الله لا يخفى عليه خافية من ظاهر أو باطن .
{ إذ } بدل من { يوم التقى الجمعان } [ الأنفال : 41 ] فهو ظرف ب { لأنزلنا } [ الأنفال : 41 ] أي زمن أنتم بالعدوة الدنيا ، وقد أريد من هذا الظرف وما أضيف إليه تذكيرهم بحالة حرجة كان المسلمون فيها ، وتنبيههم للطف عظيم حفّهم من الله تعالى ، وهي حالة موقع جيش المسلمين من جيش المشركين ، وكيف التقى الجيشان في مكان واحد عن غير ميعاد ، ووجَد المسلمون أنفسهم أمام عدوّ قوي العِدّة والعُدّة والمَكانة من حسن الموقع . ولولا هذا المقصد من وصف هذه الهيئة لما كان من داع لهذا الإطناب إذ ليس من أغراض القرآن وصف المنازل إذا لم تكن فيه عبرة .
والعدوة بتثليث العين صفة الوادي وشاطئه ، والضمّ والكسر في العين أفصح وعليهما القراءات المشهورة ، فقرأه الجمهور بضمّ العين ، وقرأه ابن كثير ، وأبو عمرو ، و يعقوب بكسر العين .
والمراد بها شاطىء وادي بدر . وبدر اسم ماء . { والدنيا } هي القريبة أي العدوة التي من جهة المدينة ، فهي أقربُ لجيش المسلمين من العُدوة التي من جهة مكة . و { العدوة القصوى } هي التي ممّا يلي مكة ، وهي كثيب ، وهي قصوى بالنسبة لموقع بلد المسلمين .
والوصف ب { الدنيا } و { القصوى } يَشعُر المخاطبون بفائدته ، وهي أنّ المسلمين كانوا حريصين أن يسبقوا المشركين إلى العدوة القصوى ، لأنّها أصلب أرضاً فليس للوصف بالدنو والقصُو أثر في تفضيل إحدى العدوتين على الأخرى ، ولكنّه صادف أن كانت القصوى أسعدَ بنزول الجيش ، فلمّا سبق جيشُ المشركين إليها اغتمّ المسلمون ، فلمّا نزل المسلمون بالعدوة الدنيا أرسل الله المطر وكان الوادي دَهْساً فلبّد المطرُ الأرضَ ولم يعقهم عن المسير وأصاب الأرض التي بها قريش فعطّلهم عن الرحيل ، فلم يبلغوا بدراً إلاّ بعد أن وصل المسلمون وتخيروا أحسن موقع وسبقوا إلى الماء ، فاتّخذوا حوضاً يكفيهم وغوروا الماء ، فلمّا وصل المشركون إلى الماء وجدوه قد احتازه المسلمون ، فكان المسلمون يشربون ولا يجد المشركون ماء .
وضمير { وهم } عائد إلى ما في لفظ { الجمعان } من معنى : جمعكم وجمع المشركين ، فلمّا قال : { إذ أنتم بالعدوة الدنيا } لم يبق معاد لضمير { وهم } إلاّ الجمع الآخر وهو جمع المشركين .
و { الركب } هو ركب قريش الراجعون من الشام ، وهو العِير . { أَسْفَلَ } من الفريقين أي أخفض من منازلهما ، لأن العيِر كانوا سائِرين في طريق الساحل ، وقد تركوا ماءَ بدر عن يسارهم . ذلك أنّ أبا سفيان لمّا بلغه أنّ المسلمين خرجوا لتلقي عيره رجع بالعير عن الطريق التي تمرّ ببدر ، وسلك طريق الساحل لينجو بالعير ، فكان مسيره في السهول المنخفضة ، وكان رجال الركب أربعين رجلاً .
والمعنى : والركب بالجهة السفلى منكم ، وهي جهة البحر وضمير { منكم } خطاب للمسلمين المخاطبين بقوله : { إذ أنتم بالعدوة الدنيا } والمعنى أنّ جيش المسلمين كان بين جماعتين للمشركين ، وهما جيش أبي سفيان بالعدوة القصوى ، وعير القوم أسفل من العدوة الدنيا ، فلو علم العدوّ بهذا الوضع لطبّق جماعتيه على جيش المسلمين ، ولكن الله صرفهم عن التفطّن لذلك وصرف المسلمين عن ذلك ، وقد كانوا يطمعون أن يصادفوا العير فينتهبوها كما قال تعالى : { وتودون أن غير ذات الشوكة تكون لكم } [ الأنفال : 7 ] ولو حاولوا ذلك لوقعوا بين جماعتين من العدوّ .
وانتصب { أسفل } على الظرفية المكانية وهو في محلّ رفع خبر عن ( الركب ) أي والركب قد فاتكم وكنتم تأملون أن تدركوه فتنتهبوا ما فيه من المتاع .
والغرض من التقييد بهذا الوقت ، وبتلك الحالة : إحضارها في ذكْرهم ، لأجل ما يلزم ذلك من شكر نعمة الله ، ومن حسن الظنّ بوعده والاعتماد عليه في أمورهم ، فإنّهم كانوا حينئذ في أشدّ ما يكون فيه جيش تجاه عدوّه ، لأنّهم يعلمون أنّ تلك الحالة كان ظاهرها ملائِماً للعدوّ ، إذ كان العدوّ في شوكة واكتمال عدّة ، وقد تمهدت له أسباب الغلبة بحسن موقع جيشه ، إذ كان بالعدوة التي فيها الماء لسقياهم والتي أرضها متوسّطة الصلابة ، فَأما جيش المسلمين فقد وجدوا أنفسهم أمام العدوّ في عدوة تسوخ في أرضها الأرجل من لين رمْلها ، مع قلّة مائِها ، وكانت العير قد فاتت المسلمين وحلّت وراء ظهور جيش المشركين ، فكانت في مأمن من أن ينالها المسلمون ، وكان المشركون واثقين بمكنة الذبّ عن عيرهم ، فكانت ظاهرةُ هذه الحالة ظاهرةَ خيبة وخوف للمسلمين ، وظاهرةَ فوز وقوة للمشركين ، فكان من عجيب عناية الله بالمسلمين أن قلب تلك الحالة رَأساً على عَقب ، فأنزل من السماء مطراً تعبّدت به الأرض لجيش المسلمين فساروا فيها غير مشفوق عليهم ، وتطهّروا وسَقَوا ، وصَارت به الأرض لجيش المشركين وحلاً يثقل فيها السيرَ وفاضت المياه عليهم ، وألقى الله في قلوبهم تهوين أمر المسلمين ، فلم يأخذوا حذرهم ولا أعدّوا للحرب عدّتها ، وجعلوا مقامهم هنالك مقام لهو وطرب ، فجعل الله ذلك سبباً لنصر المسلمين عليهم ، ورأوا كيف أنجز الله لهم ما وعدهم من النصر الذي لم يكونوا يتوقّعونه . فالذين خوطبوا بهذه الآية هم أعلم السامعين بفائدة التوقيت الذي في قوله : { إذ أنتم بالعدوة الدنيا } الآية . ولذلك تعيّن على المفسّر وصف الحالة التي تضمنّتها الآية ، ولولا ذلك لكان هذا التقييد بالوقت قليل الجدوى .
وجملة { ولو تواعدتم لاختلفتم في الميعاد } في موضع الحال من { الجمعان } [ الأنفال : 41 ] وعامل الحال فعل { التقى } [ الأنفال : 41 ] أي في حال لقاء على غير ميعاد ، قد جاء ألزم ممّا لو كان على ميعاد ، فإنّ اللقاء الذي يكون موعوداً قد يتأخّر فيه أحد المتواعدَين عن وقته ، وهذا اللقاء قد جاء في إبان متّحد وفي مكان متجاور متقابل .
ومعنى الاختلاف في الميعاد : اختلاف وقته بأن يتأخّر أحد الفريقين عن الوقت المحدود فلم يأتوا على سواء .
والتلازم بين شرط { لو } وجوابها خفي هنا وقد أشكل على المفسّرين ، ومنهم من اضطرّ إلى تقدير كلام محذوف تقديره : ثم علمتم قلّتكم وكثرتكم ، وفيه أنّ ذلك يفضي إلى التخلّف عن الحضور لا إلى الاختلاف . ومنهم من قدر : وعلمتم قلّتكم وشعر المشركون بالخوف منكم لِما ألقى الله في قلوبهم من الرعب ، أي يجعل أحد الفريقين يتثاقل فلم تحضروا على ميعاد ، وهو يفضي إلى ما أفضى إليه القول الذي قبله ، ومنهم من جعل ذلك لما لا يخلو عنه الناس من عروض العوارض والقواطع ، وهذا أقرب ، ومع ذلك لا ينثلج له الصدر .
فالوجه في تفسير هذه الآية أنّ { لو } هذه من قبيل ( لو ) الصُهَيْبِية فإنَّ لها استعمالات ملاكها : أن لا يقصد من ( لو ) ربطُ انتفاء مضمون جوابها بانتفاء مضمون شرطها ، أي ربط حصول نقيض مضمون الجواب بحصول نقيض مضمون الشرط ، بل يقصد أنّ مضمون الجواب حاصل لا محالة ، سواء فرض حصول مضمون شرطها أو فرض انتفاؤه ، إمّا لأنّ مضمون الجواب أولى بالحصول عند انتفاء مضمون الشرط ، نحو قوله تعالى : { ولو سمعوا ما استجابوا لكم } [ فاطر : 14 ] ، وإمّا بقطع النظر عن أولَوية مضمون الجواب بالحصول عند انتفاء مضمون الشرط نحو قوله تعالى : { ولو ردوا لعادوا لما نهوا عنه } [ الأنعام : 28 ] . ومحصّل هذا أنّ مَضمون الجزاء مستمرُّ الحصول في جميع الأحوال في فرض المتكلم ، فيأتي بجملة الشرط متضمنّةً الحالةَ التي هي عند السامع مظنةُ أن يحصلُ فيها نقيضُ مضمون الجواب . ومن هذا قول طفيل في الثناء على بني جعفر بن كِلاب :
أبَوْا أنْ يمَلُّونا ولَوْ أنَّ أمَّنا *** تلاَقِي الذي لاَقَوْه منا لَمَلَّتِ
وقد تقدّمت الإشارة إلى هذا عند قوله تعالى : { ولو أسمعهم لتولوا وهم معرضون } في هذه السورة [ 23 ] ، وكنا أحلنا عليه وعلى ما في هذه الآية عند قوله تعالى : { ولو أنّنا نزّلنا إليهم الملائكة } الآية في سورة [ الأنعام : 111 ] .
والمعنى : لو تواعدتم لاختلفتم في الميعاد ، أي في وقت ما تواعدتم عليه ، لأن غالب أحوال المتواعِدَين أن لا يستوي وفاؤهما بما تواعدا عليه في وقت الوفاء به ، أي في وقت واحدٍ ، لأنّ التوقيت كان في تلك الأزمان تقريباً يقدّرونه بأجزاء النهار كالضحى والعَصر والغروب ، لا ينضبط بالدرج والدقائق الفلَكية ، والمعنى : فبالأحرى وأنتم لم تتواعدوا وقد أتيتم سواء في اتّحاد وقت حلولكم في العُدوتين فاعلموا أنّ ذلك تيسير بقدر الله لأنّه قدر ذلك لتعلموا أنّ نصركم من عنده على نحو قوله : { وما رميت إذ رميت ولكنّ الله رمى } [ الأنفال : 17 ] .
وهذا غير ما يقال ، في تقارب حصول حاللٍ لأناس : « كأنهم كانوا على ميعاد » كما قال الأسود بن يَعفر يرثي هلاك أحلافه وأنصاره :
جَرَتِ الرياحُ على محلّ ديارهم *** فكأنهم كانوا على مِيعاد
فإنّ ذلك تشبيه للحصول المتعاقب .
وضمير { اختلفتم } على الوجوه كلّها شامل للفريقين : المخاطبِين والغائبِين ، على تغليب المخاطبين ، كما هو الشأن في الضمائر مثله .
وقد ظهر موقع الاستدراك في قوله : { ولكن ليقضي الله أمراً كان مفعولا } إذ التقدير : ولكن لم تتواعدوا وجئتم على غيرِ اتّعاد ليقضي اللَّهَ أي ليحقّق ويُنجز ما أراده من نصركم على المشركين . ولمّا كان تعليل الاستدراك المفادِ بلكِنْ قد وقع بفعللٍ مسند إلى الله كان مفيداً أنّ مجيئهم إلى العُدوتين على غير تواعد كان بتقدير من الله عِنايةً بالمسلمين .
ومعنى { أمراً } هنا الشيء العظيم ، فتنكيره للتعظيم ، أو يجعل بمعنى الشأن وهم لا يطلقون ( الأمر ) بهذا المعنى إلاّ على شيءٍ مهمّ ، ولعلّ سبب ذلك أنه ما سمّي ( أمراً ) لا باعتبار أنّه ممّا يؤمر بفعله أو بعمله كقوله تعالى : { وكان أمراً مقضياً } [ مريم : 21 ] وقوله : { وكان أمر الله قدراً مقدوراً } [ الأحزاب : 38 ] .
و { كان } تدلّ على تحقّق ثبوت معنى خبرها لاسمها من الماضي مثل { وكان حقا علينا نصر المؤمنين } [ الروم : 47 ] أي ثبت له استحقاق الحَقية علينا من قديم الزمن . وكذلك قوله : { وكان أمراً مقضياً } [ مريم : 21 ] . فمعنى { كان مفعولا } أنّه ثبت له في علم الله أنّه يُفعل . فاشتق له صيغة مفعول من فَعَل للدلالة على أنّه حين قدرت مفعوليته فقد صار كأنّه فُعل ، فوصف لذلك باسم المفعول الذي شأنه أن يطلق على من اتّصف بتسلط الفعل في الحال لا في الاستقبال .
فحاصل المعنى : لينجز الله ويوقع حدثاً عظيماً متّصفاً منذ القدم بأنّه محقّق الوقوع عند إبّانه ، أي حقيقاً بأن يُفعل حتّى كأنّه قد فعل لأنّه لا يمنعه ما يحفّ به من الموانع المعتادة .
وجملة : { ليهلك من هلك عن بينة } في موضع بدل الاشتمال من جملة : { ليقضي الله أمراً كان مفعولا } لأنّ الأمر هو نصر المسلمين وقهر المشركين وذلك قد اشتمل على إهلاك المهزومين وإحياء المنصورين وحَفّه من الأحوال الدالّة على عناية الله بالمسلمين وإهانته المشركين ما فيه بيّنه للفريقين تقطع عذر الهالكين ، وتقتضي شكرَ الأحياء . ودخول لام التعليل على فعل { يهلك } تأكيد للام الداخلة على ل { يقضي } في الجملة المبدل منها . ولو لم تدخل اللام لقيل : يَهْلِكُ مرفوعاً .
والهلاك : الموت والاضمحلال ، ولذلك قوبل بالحياة . والهَلاك والحياة مستعاران لمعنى ذهاب الشوكة ، ولمعنى نهوض الأمة وقوتها ، لأنّ حقيقة الهلاك الموت ، وهو أشد الضرّ فلذلك يشبَّه بالهلاك كلّ ما كان ضُرّاً شديداً ، قال تعالى : { يهلكون أنفسهم } [ التوبة : 42 ] ، وبضدّه الحياة هي أنفع شيء في طبع الإنسان فلذلك يشبه بها ما كان مرغوباً ، قال تعالى : { لينذر من كان حياً } [ يس : 70 ] وقد جمع التشبيهين قوله تعالى : { أو من كان ميتاً فأحييناه } [ الأنعام : 122 ] . فإن الكفار كانوا في عزّة ومنعة ، وكان المسلمون في قِلّة ، فلما قضى الله بالنصر للمسلمين يوم بدر أخفق أمر المشركين ووهنوا ، وصار أمر المسلمين إلى جدّة ونهوض ، وكان كلّ ذلك ، عن بينة ، أي عن حجّة ظاهرة تدلّ على تأييد الله قوماً وخذلِه آخرين بدون ريبٍ .
ومن البعيد حمل { يهلك } و { يحيى } على الحقيقة لأنّه وإن تحمَّله المعنى في قوله : { ليهلك من هلك } فلا يتحمّله في قوله : { ويحيى ممن حي } لأنّ حياة الأحياء ثابتة لهم من قبل يوم بدر .
ودلّ معنى المجاوزة الذي في { عن } على أنّ المعنى ، أن يكون الهلاك والحياة صادرين عن بيّنة وبارزين منها .
وقرأ نافع ، والبَزّي عن ابن كثير ، وأبو بكر عن عاصم ، ويعقوب ، وخلف « حَييَ » بإظهار الياءَيْن ، وقرأه البقية : « حَيَّ » بإدغام إحدى الياءين في الأخرى على قياس الإدغام وهما وجهان فصيحان .
و { عن } للمجاوزة المجازية ، وهي بمعنى ( بعد ) ، أي : بعد بيّنة يتبيّن بها سبب الأمرين : هلاك من هلك ، وحياة من حيي .
وقوله : { وإن الله لسميع عليم } تذييل يشير إلى أنّ الله سميع دعاء المسلمين طلب النصر ، وسميع ما جرى بينهم من الحوار في شأن الخروج إلى بدر ومن مودّتهم أن تكون غير ذات الشوكة هي إحدى الطائفتين التي يلاقونها ، وغير ذلك ، وعليم بما يجول في خواطرهم من غير الأمور المسموعة وبما يصلح بهم ويبني عليه مجد مستقبلهم .