قوله تعالى : { إن إبراهيم كان أمةً } ، قال ابن مسعود : الأمة ، معلم الخير ، أي : كان معلماً للخير ، يأتم به أهل الدنيا ، وقد اجتمع فيه من الخصال الحميدة ما يجتمع في أمة . قال مجاهد : كان مؤمناً وحده ، والناس كلهم كفار . قال قتادة : ليس من أهل دين إلا يتولونه ويرضونه . { قانتاً لله } ، مطيعاً له ، وقيل : قائماً بأوامر الله تعالى ، { حنيفاً } ، مسلماً مستقيماً على دين الإسلام . وقيل : مخلصاً { ولم يك من المشركين } .
فأنت ترى أن الله - تعالى - قد وصف خليله ابراهيم - عليه السلام - بجملة من الصفات الفاضلة . والمناقب الحميدة .
وصفه أولا - بأنه { كان أمة } .
ولفظ { أمة } يطلق فى اللغة بإطلاقات متعددة ، منها : الجماعة ، كما فى قوله - تعالى - : { وَلَمَّا وَرَدَ مَآءَ مَدْيَنَ وَجَدَ عَلَيْهِ أُمَّةً مِّنَ الناس يَسْقُونَ } أى : جماعة من الناس . . .
ومنها : الدين والملة ، كما فى قوله - تعالى - { إِنَّا وَجَدْنَآ آبَآءَنَا على أُمَّةٍ . . } أى : على دين وملة .
ومنها : الحين والزمان كما فى قوله - سبحانه - : { وَلَئِنْ أَخَّرْنَا عَنْهُمُ العذاب إلى أُمَّةٍ مَّعْدُودَةٍ } أى : إلى زمان معين .
والمراد بقوله - سبحانه - : { إِنَّ إِبْرَاهِيمَ كَانَ أُمَّةً . . } أى : كان عنده من الخير ما كان عند أمة ، أى جماعة كثيرة من الناس ، وهذا التفسير مروى عن ابن عباس .
وقال مجاهد : سمى - عليه السلام - أمة لانفراده بالإِيمان فى وقته مدة ما .
وفى صحيح البخارى أنه قال لزوجته سارة : ليس على الأرض اليوم مؤمن غيرى وغيرك .
ويصح أن يكون المراد بقوله - تعالى - : { إِنَّ إِبْرَاهِيمَ كَانَ أُمَّةً . . } أى : كان إماما يقتدى به فى وجوه الطاعات . وفى ألوان الخيرات ، وفى الأعمال الصالحات ، وفى إرشاد الناس إلى أنواع البر ، قال - تعالى - : { وَإِذِ ابتلى إِبْرَاهِيمَ رَبُّهُ بِكَلِمَاتٍ فَأَتَمَّهُنَّ قَالَ إِنِّي جَاعِلُكَ لِلنَّاسِ إِمَاماً . . } ووصفه ثانيا - بأنه كان { قانتا لله } أى مطيعا لله ، خاضعا لأوامره ونواهيه ، من القنوت وهو الطاعة مع الخضوع .
ووصفه - ثالثا - بأنه كان ، حنيفا ، أى : مائلا عن الأديان الباطلة إلى الدين الحق . من الحنف بمعنى الميل والاعوجاج ، يقال : فلان برجله حنف أى اعوجاج وميل .
ومنه قول أم الأحنف بن قيس وهى تداعبه :
والله لولا حنف برجله . . . ما كان فى فتيانكم من مثله
ووصفه - رابعا - بأنه منزه عن الإِشراك بالله - تعالى - فقال : { وَلَمْ يَكُ مِنَ المشركين } .
أى : ولم يكن ابراهيم - عليه السلام - من الذين أشركوا مع الله - تعالى - آلهة أخرى فى العبادة أو الطاعة ، أو فى أى من الأمور ، بل أخلص عبادته لخالقه - عز وجل - .
وقال - كما حكى القرآن عنه - : { إِنِّي وَجَّهْتُ وَجْهِيَ لِلَّذِي فَطَرَ السماوات والأرض حَنِيفاً وَمَآ أَنَاْ مِنَ المشركين }
يمدح [ تبارك و ]{[16733]} تعالى عبده ورسوله وخليله إبراهيم ، إمام الحنفاء ووالد الأنبياء ، ويبرئه من المشركين ، ومن اليهودية والنصرانية فقال : { إِنَّ إِبْرَاهِيمَ كَانَ أُمَّةً قَانِتًا لِلَّهِ حَنِيفًا } ، فأما " الأمة " ، فهو الإمام الذي يقتدى به . والقانت : هو الخاشع المطيع . والحنيف : المنحرف قصدًا عن الشرك إلى التوحيد ؛ ولهذا قال : { وَلَمْ يَكُ مِنَ الْمُشْرِكِينَ }
قال سفيان الثوري ، عن سلمة بن كُهَيْل ، عن مسلم البَطِين ، عن أبي العبيدين : أنه سأل عبد الله بن مسعود عن الأمة القانت ، فقال : الأمة : معلم الخير ، والقانت : المطيع لله ورسوله .
وعن مالك قال : قال ابن عمر : الأمة الذي يعلم الناس دينهم .
وقال الأعمش ، [ عن الحكم ]{[16734]} عن يحيى بن الجزار ، عن أبي العُبَيدين ؛ أنه جاء إلى عبد الله فقال : مَنْ نسأل إذا لم نسألك ؟ فكأن ابن مسعود رقَّ له ، فقال : أخبرني عن الأمة{[16735]} فقال : الذي يعلم الناس الخير .
وقال الشعبي : حدثني فروَة بن نوفل الأشجعي قال : قال ابن مسعود : إن معاذًا كان أمة قانتا لله حنيفا ، فقلت في نفسي : غلط أبو عبد الرحمن ، إنما قال الله : { إِنَّ إِبْرَاهِيمَ كَانَ أُمَّةً } ، فقال : أتدري ما الأمة وما القانت ؟ قلت : الله [ ورسوله ]{[16736]} أعلم . قال : الأمة الذي يعلم [ الناس ]{[16737]} الخير . والقانت : المطيع لله ورسوله . وكذلك كان معاذ معلم الخير . وكان مطيعا لله ورسوله .
وقد روي من غير وجه ، عن ابن مسعود ؛ حرره ابن جرير{[16738]} .
وقال مجاهد : { أُمَّةً } ، أي : أمة وحده ، والقانت : المطيع . وقال مجاهد أيضًا : كان إبراهيم أمة ، أي : مؤمنا وحده ، والناس كلهم إذ ذاك كفار .
القول في تأويل قوله تعالى : إِنَّ إِبْرَاهِيمَ كَانَ أُمَّةً قَانِتًا لِلَّهِ حَنِيفًا وَلَمْ يَكُ مِنَ الْمُشْرِكِينَ ( 120 ) شَاكِرًا لأَنْعُمِهِ اجْتَبَاهُ وَهَدَاهُ إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ ( 121 )
يقول تعالى ذكره : إن إبراهيم خليل الله كان مُعَلِّم خَيْر ، يأتمّ به أهل الهدى قانتا ، يقول : مطيعًا لله حنيفا : يقول : مستقيما على دين الإسلام . ( وَلَمْ يَكُ مِنَ الْمُشْرِكِينَ ) ، يقول : ولم يك يُشرك بالله شيئا ، فيكون من أولياء أهل الشرك به ، وهذا إعلام من الله تعالى أهل الشرك به من قريش أن إبراهيم منهم بريء ، وأنهم منه برآء . ( شَاكِرًا لأنْعُمِهِ ) ، يقول : كان يخلص الشكر لله فيما أنعم عليه ، ولا يجعل معه في شكره في نعمه عليه شريكا من الآلهة والأنداد وغير ذلك ، كما يفعل مشركو قريش . ( اجْتَبَاهُ ) ، يقول : اصطفاه واختاره لخُلته . ( وَهَدَاهُ إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ ) ، يقول : وأرشده إلى الطريق المستقيم ، وذلك دين الإسلام لا اليهودية ولا النصرانية .
وبنحو الذي قلنا في معنى ( أُمَّةً قَانِتًا ) قال أهل التأويل .
حدثني زكريا بن يحيى ، قال : ثنا ابن إدريس ، عن الأعمش ، عن الحكم ، عن يحيى بن الجزار ، عن أبي العُبَيدين ، أنه جاء إلى عبد الله فقال : من نسأل إذا لم نسألك ؟ فكأنّ ابن مسعود رقّ له ، فقال : أخبرني عن الأمَّة ، قال : الذي يُعلّم الناس الخير .
حدثنا محمد بن بشار ، قال : ثنا أبو أحمد ، قال : ثنا سفيان ، عن سلمة بن كهيل ، عن مسلم البطين ، عن أبي العُبَيدين أنه سأل عبد الله بن مسعود ، عن الأمَّة القانت ، قال : الأمَّة : معلم الخير ، والقانت : المطيع لله ورسوله .
حدثني يعقوب ، قال : ثنا ابن عُلَية ، عن منصور ، يعني ابن عبد الرحمن ، عن الشعبي ، قال : ثني فروة بن نوفل الأشجعي ، قال : قال ابن مسعود : إن معاذا كان أُمَّة قانتا لله حنيفا ، فقلت في نفسي : غلط أبو عبد الرحمن ، إنما قال الله تعالى ( إِنَّ إِبْرَاهِيمَ كَانَ أُمَّةً قَانِتًا لِلَّهِ ) ، فقال : تدري ما الأمَّة ، وما القانت ؟ قلت : الله أعلم ، قال : الأمَّة : الذي يعلم الخير ، والقانت : المطيع لله ولرسوله ، وكذلك كان مُعاذ بن جبل يعلم الخير ، وكان مطيعًا لله ولرسوله .
حدثنا محمد بن المثنى ، قال : ثنا محمد بن جعفر ، قال : ثنا شعبة ، قال : سمعت فراسا يحدّث ، عن الشعبيّ ، عن مسروق ، عن عبد الله بن مسعود ، أنه قال : إن مُعاذا كان أُمَّة قانتًا لله ، قال : فقال رجل من أشجع يُقال له فروة بن نوفل : نسي إنما ذاك إبراهيم ، قال : فقال عبد الله : من نسي إنما كنا نشبهه بإبراهيم ، قال : وسُئِل عبد الله عن الأمَّة ، فقال : معلم الخير ، والقانت : المطيع لله ورسوله .
حدثنا ابن بشار ، قال : ثنا عبد الرحمن ، قال : ثنا سفيان ، عن فراس ، عن الشعبيّ ، عن مسروق قال : قرأت عند عبد الله هذه الآية : ( إِنَّ إِبْرَاهِيمَ كَانَ أُمَّةً قَانِتًا لِلَّهِ ) ، فقال : كان معاذ أُمَّةً قانتًا ، قال : هل تدري ما الأمَّة ، الأمَّة الذي يعلم الناس الخير ، والقانت : الذي يطيع الله ورسوله .
حدثنا أبو هشام الرفاعيّ ، قال : ثنا ابن فضيل ، قال : ثنا بيان بن بشر البَجَلي ، عن الشعبيّ ، قال : قال عبد الله : إن معاذا كان أُمَّة قانتا لله حنيفا ولم يك من المشركين ، فقال له رجل : نسيت ، قال : لا ولكنه شبيه إبراهيم ، والأمَّة : معلِّم الخير ، والقانت : المطيع .
حدثني عليّ بن سعيد الكندي ، قال : ثنا عبد الله بن المبارك ، عن ابن عون ، عن الشعبيّ ، في قوله : ( إِنَّ إِبْرَاهِيمَ كَانَ أُمَّةً قَانِتًا لِلَّهِ حَنِيفًا ) قال : مطيعا .
حدثنا أبو كريب ، قال : ثنا أبو بكر ، قال : قال عبد الله : إن معاذا كان أُمَّة قانتا معلِّم الخير .
وذُكر في الأمَّة أشياء مختلف فيها ، قال : { وَادَّكَرَ بَعْدَ أُمَّةٍ } ، يعني : بعد حين و { أُمَّةً وَسَطًا } .
حدثنا ابن حميد ، قال : ثنا حكام ، عن سعيد بن سابق ، عن ليث ، عن شَهْر بن حَوْشَب ، قال : لم تبق الأرض إلا وفيها أربعة عشر يدفع الله بهم عن أهل الأرض وتخرج بركتها ، إلا زمن إبراهيم فإنه كان وحده .
حدثنا القاسم ، قال : ثنا الحسين ، قال : أخبرنا هشيم ، قال : أخبرنا سيار ، عن الشعبيّ ، قال : وأخبرنا زكريا ومجالد ، عن الشعبيّ ، عن مسروق ، عن ابن مسعود ، نحو حديث يعقوب ، عن ابن عُلَية وزاد فيه : الأمَّة : الذي يعلم الخير ويُؤْتمّ به ، ويقتدى به ؛ والقانت : المطيع لله وللرسول ، قال له أبو فروة الكندي : إنك وهمت .
حدثني محمد بن عمرو ، قال : ثنا أبو عاصم ، قال : ثنا عيسى ؛ وحدثني الحارث ، قال : ثنا الحسن ، قال : ثنا ورقاء ، جميعا ، عن ابن أبي نجيح ، عن مجاهد ( إِنَّ إِبْرَاهِيمَ كَانَ أُمَّةً ) ، على حدة ، ( قَانِتًا لِلَّهِ ) ، قال : مطيعا .
حدثنا القاسم ، قال : ثنا الحسين ، قال : ثني حجاج ، عن ابن جريج ، عن مجاهد ، مثله ، إلا أنه قال : مطيعًا لله في الدنيا .
قال ابن جريج : وأخبرني عويمر ، عن سعيد بن جبير ، أنه قال : قانتًا : مطيعًا .
حدثنا بشر ، قال : ثنا يزيد ، قال : ثنا سعيد ، عن قتادة ، قوله : ( إِنَّ إِبْرَاهِيمَ كَانَ أُمَّةً قَانِتًا لِلَّهِ ) ، قال : كان إمام هُدًى مطيعًا تُتَّبع سُنَّته ومِلَّته .
حدثنا ابن عبد الأعلى ، قال : ثنا محمد بن ثور ، عن مَعْمر ، عن قتادة ، أن ابن مسعود قال : إن مُعاذ بن جَبَل كان أُمَّةً قانتا ، قال غير قتادة : قال ابن مسعود : هل تدرون : ما الأمَّة ؟ الذي يعلم الخير .
حدثنا الحسن بن يحيى ، قال : أخبرنا عبد الرزاق ، قال : أخبرنا الثوريّ ، عن فراس ، عن الشعبيّ ، عن مسروق ، قال : قرأت عند عبد الله بن مسعود : ( إِنَّ إِبْرَاهِيمَ كَانَ أُمَّةً قَانِتًا ) ، فقال : إن معاذا كان أُمَّةً قانتا ، قال : فأعادوا ، فأعاد عليهم ، ثم قال : أتدرون ما الأمَّة ؟ الذي يعلم الناس الخير ، والقانت : الذي يطيع الله .
وقد بيَّنا معنى الأمَّة ووجوهها ، ومعنى القانت باختلاف المختلفين فيه في غير هذا الموضع من كتابنا بشواهده ، فأغنى بذلك عن إعادته في هذا الموضع .
{ إن إبراهيم كان أمّةً } لكماله واستجماعه فضائل لا تكاد توجد إلا مفرقة في أشخاص كثيرة كقوله :
ليس من الله بمُستنكرٍ *** أن يجمع العالم في واحدِ
وهو رئيس الموحدين وقدوة المحققين الذي جادل فرق المشركين ، وأبطل مذاهبهم الزائغة بالحجج الدامغة ، ولذلك عقب ذكره بتزييف مذاهب المشركين من الشرك والطعن في النبوة وتحريم ما أحله ، أو لأنه كان وحده مؤمنا وكان سائر الناس كفارا . وقيل : هي فعلة بمعنى مفعول ، كالرحلة والنخبة من أمه إذا قصده ، أو اقتدى به فإن الناس كانوا يؤمونه للاستفادة ، ويقتدون بسيرته كقوله : { إني جاعلك للناس إماما } ، { قانتاً لله } ، مطيعا له قائما بأوامره . { حنيفا } ، مائلا عن الباطل . { ولم يكُ من المشركين } ، كما زعموا فإن قريشا كانوا يزعمون أنهم على ملة إبراهيم .