ثم بين - سبحانه - لونا ثالثا من ألوان أعمالهم القبيحة ، وعقائدهم الباطلة فقال { وَجَعَلُواْ للَّهِ أَندَاداً لِّيُضِلُّواْ عَن سَبِيلِهِ . . } .
والأنداد : جمع ند وهو مثل الشئ الذى يضاده وينافره ويتباعد عنه .
وأصله من ند البعير يند - بكسر النون - ندا - بالفتح - إذا نفر وذهب على وجهه شاردا .
وقوله { ليضلوا } قرأ الجمهور - بضم الياء - من أضل غيره إذا جعله ضلالا .
أى : أن هؤلاء الخاسرين لم يكتفوا بمقابلة نعمة الله بالجحود ، وإحلال قومهم دار البوار ، بل أضافوا إلى ذلك أنهم جعلوا لله - تعالى - أمثالا ونظراء ، ليصرفوا غيرهم عن الطريق الحق ، والصراط المستقيم ، الذى هو إخلاص العبادة لله - تعالى - وحده .
وقرأ ابن كثير وأبو عمرو { ليضلوا } - بفتح الياء - أى : ليستمروا فى ضلالهم ، فإنهم حين جعلهم الأنداد لله - تعالى - كانوا ضالين ، وجهلوا ذلك فاستمروا فى ضلالهم توهما منهم أنهم على صواب .
قال صاحب الكشاف : قرئ { ليضلوا } بفتح الياء وضمها . فإن قلت : الضلال لم يكن غرضهم فى اتخاذ الأنداد فما معنى اللام ؟
قلت : لما كان الضلال والإِضلال نتيجة اتخاذا الأنداد ، كما كان الإِكرام فى قولك ، جئتك لتكرمنى نتيجة المجئ ، دخلته اللام ، وإن لم يكن غرضاً ، على طريق التشبيه والتقريب .
وقوله - سبحانه - { قُلْ تَمَتَّعُواْ فَإِنَّ مَصِيرَكُمْ إِلَى النار } أمر منه - عز وجل - لنبيه - صلى الله عليه وسلم - بأن يهددهم بهذا المصير الأليم .
والتمتع بالشئ : الانتفاع به مع التلذذ والميل إليه .
أى : قل - أيها الرسول الكريم - لهؤلاء الخاسرين ، تمتعوا بما شئتم التمتع به من شهوات ولذائذ ، فإن مصيركم إلى النار لا محالة .
قال صاحب فتح القدير ما ملخصه : قوله { قُلْ تَمَتَّعُواْ } بما أنتم فيه من الشهوات ، وبما زينته لكم أنفسكم من كفران للنعم { فَإِنَّ مَصِيرَكُمْ إِلَى النار } أى : مرجعكم إليها ليس إلا .
ولما كان هذا حالهم ، وقد صاروا لفرط تهالكهم عليه لا يقلعون عنه . جعل - سبحانه - الأمر بمباشرته مكان النهى عن قربانه . إيضاحا لما تكون عليه عاقبتهم ، وأنهم لا محالة صائرون إلى النار .
فجعله { فَإِنَّ مَصِيرَكُمْ إِلَى النار } تعليل للأمر بالتمتع ، وفيه من التهديد ما لا يقادر قدره .
ويجوز أن تكون هذه الجملة جوابا لمحذوف دل عليه السياق كأنه قيل : قل تمتعوا فإن دمتم على ذلك فإن مصيركم إلى النار .
والأول أولى والنظم القرآنى عليه أدل ، وذلك كما يقال لمن يسعى فى مخالفة السلطان : " اصنع ما شئت من المخالفة فإن مصيرك إلى السيف " .
وشبيه بهذه الآية قوله - تعالى - : { قُلْ تَمَتَّعْ بِكُفْرِكَ قَلِيلاً إِنَّكَ مِنْ أَصْحَابِ النار } وقوله - تعالى - : { نُمَتِّعُهُمْ قَلِيلاً ثُمَّ نَضْطَرُّهُمْ إلى عَذَابٍ غَلِيظٍ } وقوله - تعالى - { لاَ يَغُرَّنَّكَ تَقَلُّبُ الذين كَفَرُواْ فِي البلاد . مَتَاعٌ قَلِيلٌ ثُمَّ مَأْوَاهُمْ جَهَنَّمُ وَبِئْسَ المهاد }
لقد استبدلوا بنعمة الرسول ودعوته كفرا . وكانت دعوته إلى التوحيد ، فتركوها :
( وجعلوا لله أندادا ليضلوا عن سبيله ) . .
جعلوا لله أقرانا مماثلين يعبدونهم كعبادته ، ويدينون لسلطانهم كما يدينون لسلطانه ، ويعترفون لهم بما هو من خصائص ألوهيته سبحانه !
جعلوا لله هذه الأنداد ليضلوا الناس عن سبيل الله الواحد الذي لا يتعدد ولا تتفرق به السبل .
والنص يشير إلى أن كبراء القوم عمدوا عمدا إلى تضليل قومهم عن سبيل الله ، باتخاذ هذه الأنداد من دون الله . فعقيدة التوحيد خطر على سلطان الطواغيت ومصالحهم في كل زمان . لا في زمن الجاهلية الأولى ، ولكن في زمن كل جاهلية ينحرف الناس فيها عن التوحيد المطلق ، في أية صورة من صور الانحراف ، فيسلمون قيادهم إلى كبرائهم ، وينزلون لهم عن حرياتهم وشخصياتهم ، ويخضعون لأهوائهم ونزواتهم ، ويتلقون شريعتهم من أهواء هؤلاء الكبراء لا من وحي الله . . عندئذ تصبح الدعوة إلى توحيد الله خطرا على الكبراء يتقونه بكل وسيلة . ومنها كان اتخاذ الآلهة أندادا لله في زمن الجاهلية الأولى . ومنها اليوم اتخاذ شرائع من عمل البشر ، تأمر بما لم يأمر الله به ، وتنهى عما لم ينه عنه الله . فإذا واضعوها في مكان الند لله في النفوس المضللة عن سبيل الله ، وفي واقع الحياة !
فيا أيها الرسول( قل )للقوم : ( تمتعوا ) . . تمتعوا قليلا في هذه الحياة إلى الأجل الذي قدره الله . والعاقبة معروفة : ( فإن مصيركم إلى النار ) . .
عطف على { بدلوا } و { أحلوا } ، فالضمير راجع إلى { الذين } وهم أئمة الشرك . والجعل يصدق باختراع ذلك ما فعل عمرو بن لُحي وهو من خُزاعة . ويصدق بتقرير ذلك ونشره والاحتجاج له ، مثل وضع أهل مكة الأصنام في الكعبة ووضع هُبل على سطحها .
والأنداد : جمع نِدّ بكسر النون ، وهو المماثل في مجد ورفعة ، وتقدم عند قوله تعالى : { فلا تجعلوا لله أنداداً } في سورة البقرة ( 22 ) .
وقرأ الجمهور { ليضلوا } بضم الياء التحتية من أضل غيره إذا جعله ضالاً ، فجعل الإضلال علة لجعلهم لله أنداداً ، وإن كانوا لم يقصدوا تضليل الناس وإنما قصدوا مقاصد هي مساوية للتضليل لأنها أوقعت الناس في الضلال ، فعُبر على مساوي التضليل بالتضليل لأنه آيل إليه وإن لم يقصدوه ، فكأنه قيل : للضلال عن سبيله ، تشنيعاً عليهم بغاية فعلهم وهم ما أضلوا إلا وقد ضَلّوا ، فعلم أنهم ضلوا وأضلوا ، وذلك إيجاز .
وقرأ ابن كثير ، وأبو عمرو ، ورُويْس عن يعقوب { لِيَضلّو } بفتح الياء والمعنى : ليستمر ضلالهم فإنهم حين جعلوا الأنداد كان ضلالهم حاصلاً في زمن الحال . ومعنى لام التعليل أن تكون مستقبلة لأنها بتقدير { أن } المصدرية بعد لام التعليل .
ويعلم أنهم أضلوا الناس من قوله : { وأحلوا قومهم دار البوار } .
وسبيل الله : كل عمل يجري على ما يرضي الله . شبه العمل بالطريق الموصلة إلى المحلة ، وقد تقدم غير مرة .
وجملة { قل تمتعوا } مستأنفة استئنافاً بيانياً لأن المخاطب ب { ألم تر إلى الذين بدلوا } إذا علِم هذه الأحوال يتساءل عن الجزاء المناسب لجرمهم وكيف تركهم الله يرفلون في النعيم ، فأجيب بأنهم يصيرون إلى النار ، أي يموتون فيصيرون إلى العذاب .
وأُمر بأن يبلغهم ذلك لأنهم كانوا يزدهون بأنهم في تنعم وسيادة ، وهذا كقوله : { لا يغرنك تقلب الذين كفروا في البلاد متاع قليل ثم مأواهم جهنم وبئس المهاد } في سورة آل عمران ( 196 ، 197 ) .
مشروع تقني يهدف لتوفير قالب تقني أنيق وحديث يليق بالمحتوى الثري لمشروع الجامع التاريخي لتفسير القرآن الكريم الصادر عن مؤسسة البحوث والدراسات العلمية (مبدع)، وقد تم التركيز على توفير تصفح سلس وسهل للمحتوى ومتوافق تماما مع أجهزة الجوال، كما تم عمل بعض المميزات الفريدة كميزة التلوين التلقائي للنصوص والتي تم بناء خوارزمية برمجية مخصصة لهذا الغرض.
تم الحصول على المحتوى من برنامج الجامع التاريخي لتفسير القرآن الكريم.
المشروع لا يتبع أي جهة رسمية أو غير رسمية، إنما هي جهود فردية ومبادرات شخصية لبعض الخبراء في مجال البرمجيات.
المشروع لازال في بداياته وننوي إن شاء الله العمل على تطويره بشكل مستمر وسنضع خطة تطوير توضح المميزات التي يجري العمل عليها إن شاء الله.
الدعاء للقائمين عليه، نشر الموقع والتعريف به، إرسال الملاحظات والمقترحات.