96- ولو أن أهل تلك القرى آمنوا بما جاء به الرسل ، وعملوا بوصاياهم وابتعدوا عما حرَّمه الله لأعطيناهم بركات من السماء والأرض ، كالمطر والنبات والثمار والأنعام والأرزاق والأمن والسلامة من الآفات ، ولكن جحدوا وكذبوا الرسل ، فأصبناهم بالعقوبات وهم نائمون ، بسبب ما كانوا يقترفون من الشرك والمعاصي ، فأخذهم بالعقوبة أَثرٌ لازم لكسبهم القبيح ، وعبرة لأمثالهم إن كانوا يعقلون .
ثم بين - سبحانه - أن سنته قد جرت بفتح أبواب خيراته للمحسنين ، وبإنزال نقمه على المكذبين الضالين فقال : { وَلَوْ أَنَّ أَهْلَ القرى آمَنُواْ واتقوا لَفَتَحْنَا عَلَيْهِمْ بَرَكَاتٍ مِّنَ السمآء والأرض } .
البركات : جمع بركة : وهى ثبوت الخير الإلهى في الشىء ، وسمى بذلك لثبوت الخير فيه كما يثبت الماء في البركة .
قال الراغب : ولما كان الخير الإلهى يصدر من حيث لا يحس ، وعلى وجه لا يحصى ولا يحصر ، قيل لكل ما يشاهد منه زيادة غير محسوسة هو مبارك وفيه بركة " .
والمعنى : ولو أن أهل تلك القرى المهلكة آمنوا بما جاء به الرسل . واتقوا ما حرمه الله عليهم ، لآتيناهم بالخير من كل وجه . ولوسعنا عليه الرزق سعة عظيمة ، ولعاشوا حياتهم عيشة رغدة لا يشوبها كدر ، ولا يخالطها خوف .
وفى قوله : { فَتَحْنَا } استعارة تبعيه ، لأنه شبه تيسير البركات وتوسعتها عليهم بفتح الأبواب في سهولة التناول .
وقيل : المراد بالبركات السماوية المطر ، وبالبركات الأرضية النبات والثمار وجميع ما فيها من خيرات .
وقوله : { ولكن كَذَّبُواْ فَأَخَذْنَاهُمْ بِمَا كَانُواْ يَكْسِبُونَ } بيان لموقفهم الجحودى .
أى : ولكنهم لم يؤمنوا ولم يتقوا بل كذبوا الرسل الذين جاءوا لهدايتهم فكانت نتيجة تكذيبهم وتماديهم في الضلال أن عاقبناهم بالعقوبة التي تناسب جرمهم واكتاسبهم للمعاصى ، فتلك هى سنتنا التي لا تتخلف ، نفتح للمؤمنين المتقين أبواب الخيرات ، وننقتم من المكذبين الضالين بفنون العقوبات .
وقد يقال : إننا ننظر فنرى كثيرا من الكافرين والعصاة مفتوحا عليهم في الرزق والقوة والنفوذ وألوان الخير ، وترى كثيرا من المؤمنين مضيقاً عليهم في الرزق وفى غيره من وجوه النعم ، فأين هذا من سنة الله التي حكتها الآية الكريمة ؟
والجواب على ذلك أن الكافرين والعصاة قد يبسط لهم في الأرزاق وفى ألوان الخيرات بسطا كبيراً ، ولكن هذا على سبيل الاستدراج كما في قوله - تعالى - : { فَلَمَّا نَسُواْ مَا ذُكِّرُواْ بِهِ فَتَحْنَا عَلَيْهِمْ أَبْوَابَ كُلِّ شَيْءٍ حتى إِذَا فَرِحُواْ بِمَآ أوتوا أَخَذْنَاهُمْ بَغْتَةً فَإِذَا هُمْ مُّبْلِسُونَ } ومما لا شك فيه أن الابتلاء بالنعمة الذي مر ذكره في الآية السابقة { ثُمَّ بَدَّلْنَا مَكَانَ السيئة الحسنة حتى عَفَوْاْ } لا يقل خطراً عن الابتلاء بالشدة . فقد ابتلى الله كثيراً من الناس بألوان النعم فأشروا وبطروا ولم يشكروه عليها فأخذهم الله أخذ عزيز مقتدر .
وشتان بين نعم تساق لإنسان على سبيل الاستدراج في الشرور والآثام فتكون نقمة على صاحبها لأنه يعاقب عقابا شديداً بسبب سوء استعمالها ، وبين النعم التي وعد بها من يؤمنون ويتقون . إنها نعم مصونة عن المحق والسلب والخوف ، لأن أصحابها شكروا الله عليها .
واستعملوها فيما خلقت له ، فكانت النتيجة أن زادهم الله غنى على غناهم ، وأن منحهم الأمان والاطمئنان وذلك فضل الله يؤتيه من يشاء .
هكذا تمضي سنة الله أبداً . وفق مشيئته في عباده . وهكذا يتحرك التاريخ الإنساني بإرادة الإنسان وعمله - في إطار سنة الله ومشيئته - وها هو ذا القرآن الكريم يكشف للناس عن السنة ؛ ويحذرهم الفتنة . . فتنة الاختبار والابتلاء بالضراء والسراء . . وينبه فيهم دواعي الحرص واليقظة ، واتقاء العاقبة التي لا تتخلف ، جزاء وفاقاً على اتجاههم وكسبهم . فمن لم يتيقظ ، ومن لم يتحرج ، ومن لم يتق ، فهو الذي يظلم نفسه ، ويعرضها لبأس الله الذي لا يرد . ولن تظلم نفس شيئاً .
( ولو أن أهل القرى آمنوا واتقوا لفتحنا عليهم بركات من السماء والأرض ، ولكن كذبوا فاخذناهم بما كانوا يكسبون ) . .
فذلك هو الطرف الآخر لسنة الله الجارية . فلو أن أهل القرى آمنوا بدل التكذيب ، واتقوا بدل الاستهتار ؛ لفتح الله عليهم بركات من السماء والأرض . . هكذا . . ( بركات من السماء والأرض ) مفتوحة بلا حساب . من فوقهم ومن تحت أرجلهم . والتعبير القرآني بعمومه وشموله يلقي ظلال الفيض الغامر ، الذي لا يتخصص بما يعهده البشر من الأرزاق والأقوات . .
وأمام هذا النص - والنص الذي قبله - نقف أمام حقيقة من حقائق العقيدة وحقائق الحياة البشرية والكونية سواء . وأمام عامل من العوامل المؤثرة في تاريخ الإنسان ، تغفل عنه المذاهب الوضعية وتغفله كل الإغفال . بل تنكره كل الإنكار ! . .
إن العقيدة الإيمانية في الله ، وتقواه ، ليست مسألة منعزلة عن واقع الحياة ، وعن خط تاريخ الإنسان . إن الإيمان بالله ، وتقواه ، ليؤهلان لفيض من بركات السماء والأرض . وعدا من الله . ومن أوفى بعهده من الله ؟
ونحن - المؤمنين بالله - نتلقى هذا الوعد بقلب المؤمن ، فنصدقه ابتداء ، لا نسأل عن علله وأسبابه ؛ ولا نتردد لحظة في توقع مدلوله . . نحن نؤمن بالله - بالغيب - ونصدق بوعده بمقتضى هذا الإيمان . .
ثم ننظر إلى وعد الله نظرة التدبر - كما يأمرنا إيماننا كذلك - فنجد علته وسببه !
إن إلايمان بالله دليل على حيوية في الفطرة ؛ وسلامة في أجهزة الاستقبال الفطرية ؛ وصدق في الإدراك الإنساني ، وحيوية في البنية البشرية ، ورحابة في مجال الإحساس بحقائق الوجود . . وهذه كلها من مؤهلات النجاح في الحياة الواقعية .
والإيمان بالله قوة دافعة دافقة ، تجمع جوانب الكينونة البشرية كلها ، وتتجه بها إلى وجهة واحدة ، وتطلقها تستمد من قوة الله ، وتعمل لتحقيق مشيئته في خلافة الأرض وعمارتها ، وفي دفع الفساد والفتنة عنها ، وفي ترقية الحياة ونمائها . . وهذه كذلك من مؤهلات النجاح في الحياة الواقعية .
والإيمان بالله تحرر من العبودية للهوى ومن العبودية للعبيد . وما من شك أن الإنسان المتحرر بالعبودية لله ، أقدر على الخلافة في الأرض خلافة راشدة صاعدة . من العبيد للهوى ولبعضهم بعضاً !
وتقوى الله يقظة واعية تصون من الاندفاع والتهور والشطط والغرور ، في دفعة الحركة ودفعة الحياة . . وتوجه الجهد البشري في حذر وتحرج ، فلا يعتدي ، ولا يتهور ، ولا يتجاوز حدود النشاط الصالح .
وحين تسير الحياة متناسقة بين الدوافع والكوابح ، عاملة في الأرض ، متطلعة إلى السماء ، متحررة من الهوى والطغيان البشري ، عابدة خاشعة لله . . تسير سيرة صالحة منتجة تستحق مدد الله بعد رضاه . فلا جرم تحفها البركة ، ويعمها الخير ، ويظلها الفلاح . . - والمسألة - من هذا الجانب - مسألة واقع منظور - إلى جانب لطف الله المستور - واقع له علله وأسبابه الظاهرة ، إلى جانب قدر الله الغيبي الموعود . .
والبركات التي يعد الله بها الذين يؤمنون ويتقون ، في توكيد ويقين ، ألوان شتى لا يفصلها النص ولا يحددها . وإيحاء النص القرآني يصور الفيض الهابط من كل مكان ، النابع من كل مكان ، بلا تحديد ولا تفصيل ولا بيان . فهي البركات بكل أنواعها وألوانها ، وبكل صورها وأشكالها ، ما يعهده الناس وما يتخيلونه ، وما لم يتهيأ لهم في واقع ولا خيال !
والذين يتصورون الإيمان بالله وتقواه مسألة تعبدية بحتة ، لا صلة لها بواقع الناس في الأرض ، لا يعرفون الإيمان ولا يعرفون الحياة ! وما أجدرهم أن ينظروا هذه الصلة قائمة يشهد بها الله - سبحانه - وكفى بالله شهيداً . ويحققها النظر بأسبابها التي يعرفها الناس :
( ولو أن أهل القرى آمنوا واتقوا لفتحنا عليهم بركات من السماء والأرض . ولكن كذبوا فأخذناهم بما كانوا يكسبون ) . .
ولقد ينظر بعض الناس فيرى أمماً - يقولون : إنهم مسلمون - مضيقاً عليهم في الرزق ، لا يجدون إلا الجدب والمحق ! . . ويرى أمماً لا يؤمنون ولا يتقون ، مفتوحاً عليهم في الرزق والقوة والنفوذ . . فيتساءل : وأين إذن هي السنة التي لا تتخلف ؟
ولكن هذا وذلك وهم تخيله ظواهر الأحوال !
إن اولئك الذين يقولون : إنهم مسلمون . . لا مؤمنون ولا متقون ! إنهم لا يخلصون عبوديتهم لله ، ولا يحققون في واقعهم شهادة أن لا إله إلا الله ! إنهم يسلمون رقابهم لعبيد منهم ، يتألهون عليهم ، ويشرعون لهم - سواء القوانين أو القيم والتقاليد - وما أولئك بالمؤمنين . . فالمؤمن لا يدع عبداً من العبيد يتأله عليه ، ولا يجعل عبداً من العبيد ربه الذي يصرف حياته بشرعه وأمره . . ويوم كان أسلاف هؤلاء الذين يزعمون الإيمان مسلمين حقاً . دانت لهم الدنيا ، وفاضت عليهم بركات من السماء والأرض ، وتحقق لهم وعد الله .
فأما أولئك المفتوح عليهم في الرزق . . فهذه هي السنة : ( ثم بدلنا مكان السيئة الحسنة حتى عفوا ، وقالوا قد مس آباءنا الضراء والسراء ) ! فهو الابتلاء بالنعمة الذي مر ذكره . وهو أخطر من الابتلاء بالشدة . . وفرق بينه وبين البركات التي يعدها الله من يؤمنون ويتقون . فالبركة قد تكون مع القليل إذا أحسن الانتفاع به ، وكان معه الصلاح والأمن والرضى والارتياح . . وكم من أمة غنية قوية ولكنها تعيش في شقوة ، مهددة في أمنها ، مقطعة الأواصر بينها ، يسود الناس فيها القلق وينتظرها الانحلال . فهي قوة بلا أمن . وهو متاع بلا رضى . وهي وفرة بلا صلاح . وهو حاضر زاه يترقبه مستقبل نكد . وهو الابتلاء الذي يعقبه النكال . .
إن البركات الحاصلة مع الإيمان والتقوى ، بركات في الأشياء ، وبركات في النفوس ، وبركات في المشاعر ، وبركات في طيبات الحياة . . بركات تنمي الحياة وترفعها في آن . وليست مجرد وفرة مع الشقوة والتردي والانحلال .
{ ولو أن أهل القرى } يعني القرى المدلول عليها بقوله : { وما أرسلنا في قرية من نبي } وقيل مكة وما حولها . { آمنوا واتقوا } مكان كفرهم وعصيانهم . { لفتحنا عليهم بركات من السماء والأرض } لوسعنا عليهم الخير ويسرناه لهم من كل جانب وقيل المراد المطر والنبات . وقرأ ابن عامر " لفتّحنّا " بالتشديد . { ولكن كذبوا } الرسل . { فأخذناهم بما كانوا يكسبون } من الكفر والمعاصي .
عُطفت جملة { ولو أن أهل القرى } على جملة : { وما أرسلنا في قرية من نبيء إلاّ أخذنا أهلها بالبأساء والضراء } [ الأعراف : 94 ] أي : ما أرسلنا في قرية نبيئاً فكذبه أهلها إلاّ نبهناهم واستدرجناهم ثم عاقبناهم ، ولو أن أهل تلك القرى المُهْلَكَةِ آمنوا بما جاءهم به رسولهم واتقوا ربهم لما أصبناهم بالبأساء ولأحييناهم حياة البركة ، أي : ما ظلمهم الله ولكنهم ظلموا أنفسهم .
وشرط ( لو ) الامتناعية يحصل في الزمن الماضي ، ولما جاءت جملة شرطها مقترنة بحرف ( أنّ ) المفيد للتأكيد والمصدرية ، وكان خبر ( أنّ ) فعلاً ماضياً توفر معنى المضي في جملة الشرط . والمعنى : لو حصل إيمانهم فيما مضى لفتحنا عليهم بركات .
والتقْوى : هي تقوى الله بالوقوف عند حدوده وذلك بعد الإيمان .
والتعريف في { القرى } تعريف العهد ، فإضافة { أهل } إليه تفيد عمومه بقدر ما أضيف هو إليه ، وهذا تصريح بما أفهمه الإيجاز في قوله : { وما أرسلنا في قرية من نبيء إلاّ أخذنا أهلها بالبأساء والضراء } [ الأعراف : 94 ] الآية كما تقدم ، وتعريض بإنذار الذين كذبوا محمداً صلى الله عليه وسلم من أهل مكة ، وتعريض ببشارة أهل القُرى الذين يؤمنون كأهل المدينة ، وقد مضى في صدر تفسير هذه السورة ما يقرّب أنها من آخر ما نزل بمكة ، وقيل ، إن آيات منها نزلت بالمدينة كما تقدم وبذلك يظهر موقع التعريض بالنذارة والبشارة للفريقين من أهل القرى ، وقد أخذ الله أهل مكة بعد خروج المؤمنين منها فأصابهم بسبع سنين من القحط ، وبارك لأهل المدينة وأغناهم وصرف عنهم الحمى إلى الجُحفة ، والجُحفة يومئذٍ بلاد شرك .
والفتح : إزالة حَجْز شيء حاجز عن الدخول إلى مكان ، يقال : فتح الباب وفتح البيت ، وتعديته إلى البيت على طريقة التوسع ، وأصله فتح للبيت ، وكذلك قوله هنا : { لفتحنا عليهم بركات } وقولُه : { ما يفتح الله للناس من رحمة فلا ممسك لها } [ فاطر : 2 ] ، ويقال : فتح كوة ، أي : جعلها فتحة ، والفتح هنا استعارة للتمكين ، كما تقدم في قوله تعالى : { فلما نسوا ما ذكروا به فتحنا عليهم أبواب كل شيء } في سورة الأنعام ( 44 ) .
وتعدية فعل الفتح إلى البركات هنا استعارة مكنية بتشبيه البركات بالبيوت في الانتفاع بما تحتويه ، فهنا استعارتان مكنية وتبعية ، وقرأ ابن عامر : { لفتّحنا } بتشديد التاءِ وهو يفيد المبالغة .
والبركات : جمع بركة ، والمقصود من الجمع تعددها ، باعتبار تعدد أصناف الأشياء المباركة . وتقدم تفسير البركة عند قوله تعالى : { وهذا كتاب أنزلناه مبارك } في سورة الأنعام ( 92 ) . وتقدم أيضاً في قوله تعالى : { إن أول بيت وضع للناس للّذي بمكّة مباركاً } في سورة آل عمران ( 96 ) . وتقدم أيضاً في قوله تعالى : { تَبارك الله رب العالمين } في هذه السورة ( 54 ) ، وجُماع معناها هو الخير الصالح الذي لا تبعة عليه في الآخرة فهو أحسن أحوال النعمة ، ولذلك عبر في جانب المغضوب عليهم المستدرَجين بلفظ الحسنة } بصيغة الإفراد في قوله : { مكان السيئة الحسنة } [ الأعراف : 95 ] وفي ج انب المؤمنين بالبركات مجموعة .
وقوله : { من السماء والأرض } مراد به حقيقته ، لأن ما يناله الناس من الخيرات الدنيوية لا يعدو أن يكون ناشئاً من الأرض ، وذلك معظم المنافع ، أو من السماء مثل ماء المطر وشعاع الشمس وضوء القمر والنجوم والهواء والرياح الصالحة .
وقوله : { ولكن كذبوا } استثناء لنقيض شرط ( لو ) فإن التكذيب هو عدم الإيمان فهو قياس استثنائي .
وجملة : { فأخذناهم } متسببة على جملة : { ولكن كذبوا } وهو مثل نتيجة القياس ، لأنه مساوي نقيضِ التالي ، لأن أخذهم بما كسبوا فيه عدم فتح البركات عليهم .
وتقدم معنى الأخذ آنفاً في قوله تعالى : { فأخذناهم بغتة } [ الأعراف : 95 ] ، والمراد به أخذ الاستئصال .
تفسير مقاتل بن سليمان 150 هـ :
{ولو أن أهل القرى} التي عذبت، {آمنوا} بتوحيد الله، {واتقوا} الشرك ما قحط عليهم المطر، و {لفتحنا عليهم بركات من السماء}، يعني المطر، {والأرض}، يعني النبات، {ولكن كذبوا فأخذناهم} بالعذاب، {بما كانوا يكسبون} من الشرك والتكذيب.
تأويلات أهل السنة للماتريدي 333 هـ :
... وقوله تعالى: {ولو أن أهل القرى آمنوا واتقوا} قيل {آمنوا واتقوا} قبل أن يهلكوا بعد ما أصابهم من الشدائد والبلايا {لفتحنا عليهم بركات...}؛ أي لأعطُوا كل خير، ينال من السماء والأرض. البركة كل ما ينال من خير على غير مؤنة، والبركة كل شيء ينال بلا تبعة عليه ولا شدة. ذكر ههنا أنه يفتح عليهم بركات من السماء والأرض، لو آمنوا ونسوا ما ذكّروا به، أنه يفتح عليهم أبواب كل شيء، ولم يذكر البركة. ففي ما لم يذكر البركة ينغّصهم ما فتح عليهم من كل شيء، ويسوؤهم، وفي ما ذكر فيه البركة بعد الإيمان لا يلحقهم من ذلك تبعة ولا غرم، والله اعلم. وقوله تعالى: {ولكن كذّبوا} الرسل {فأخذناهم بما كانوا يكسبون} ويحتمل قوله تعالى: {ولكن كذّبوا} النعم التي أنعمها عليهم أي الرسل {فأخذناهم بما كانوا يكسبون} من التكذيب، والله أعلم...
الكشف والبيان في تفسير القرآن للثعلبي 427 هـ :
{وَلَوْ أَنَّ أَهْلَ الْقُرَى آمَنُواْ وَاتَّقَواْ} يعني وحدوا الله وأطاعوه. {بِمَا كَانُواْ يَكْسِبُونَ} من الكفر والمعصية والأعمال الخبيثة.
النكت و العيون للماوردي 450 هـ :
ويحتمل أن تكون بركات السماء قبول الدعاء. وبركات الأرض: تسهيل الحاجات.
لطائف الإشارات للقشيري 465 هـ :
لو آمنوا بالله، واتَّقُوا الشِّرْكَ لفتحنا عليهم بركاتٍ من السماء والأرض بأسبابِ العطاء -ولكنْ سَبَقَ بخلافه القضاء- وأبوابِ الرضاء، والرضاءُ أتمُّ من العطاء. ويقال ليست العِبْرة بالنعمة إنما العبرة بالبركة في النعمة، ولذا لم يَقُلْ أضعفنا لهم النعمة ولكنه قال: باركنا لهم فيما خوَّلنا.
الوجيز في تفسير الكتاب العزيز للواحدي 468 هـ :
{ولكن كذبوا} الرسل {فأخذناهم} بالجدوبة والقحط {بما كانوا يكسبون} من الكفر والمعصية
معالم التنزيل في تفسير القرآن الكريم للبغوي 516 هـ :
قوله تعالى: {ولو أن أهل القرى آمنوا واتقوا لفتحنا عليهم بركات من السماء والأرض}، يعني: المطر من السماء، والنبات من الأرض. وأصل البركة: المواظبة على الشيء، أي تابعنا عليهم المطر والنبات ورفعنا عنهم القحط والجدب...
الكشاف عن حقائق التنزيل للزمخشري 538 هـ :
"اللام" في القرى: إشارة إلى القرى التي دلّ عليها قوله: {وَمَا أَرْسَلْنَا فِي قَرْيَةٍ مّن نَّبِي} [الأعراف: 94] كأنه قال: ولو أنّ أهل تلك القرى الذين كذبوا وأهلكوا {ءامَنُواْ} بدل كفرهم {واتقوا} المعاصي مكان ارتكابها {لَفَتَحْنَا عَلَيْهِم بركات مّنَ السماء والأرض} لآتيناهم بالخير من كل وجه...
{ولكن كَذَّبُواْ فأخذناهم} بسوء كسبهم...
فإن قلت: ما معنى فتح البركات عليهم؟ قلت: تيسيرها عليهم كما ييسر أمر الأبواب المستغلقة بفتحها. ومنه قولهم: فتحت على القارئ إذا تعذرت عليه القراءة فيسرتها عليه بالتلقين.
المحرر الوجيز في تفسير الكتاب العزيز لابن عطية 542 هـ :
المعنى في هذه الآية أنهم لو كانوا ممن سبق في علم الله أن يكتسبوا الإيمان والطاعات ويتصفوا بالتقى لتبع ذلك من فضل الله ورحمته وإنعامه ما ذكر من بركات المطر والنبات، ولكنهم لما كانوا ممن سبق كفرهم وتكذيبهم تبع ذلك أخذ الله لهم بسوء ما اجترموه وكل مقدور، والثواب والعقاب متعلق بكسب البشر،... وفتح البركات إنزالها على الناس ومنه قوله تعالى: {ما يفتح الله للناس من رحمة}...
الجواهر الحسان في تفسير القرآن للثعالبي 875 هـ :
"بركات مِّنَ السماء والأرض" أي: مِنْ بركاتِ المطرِ والنباتِ، وتسخير الرياحِ والشمْسِ والقمر في مصالح العبادِ، وهذا بحَسَب ما يدركُه نَظَر البشر، وللَّه سبحانه خُدَّامٌ غير ذلك لا يحصى عددهم، وما في عِلْم اللَّه أكْثَرُ.
تفسير المنار لرشيد رضا 1354 هـ :
فالقاعدة المقررة في القرآن أن الإيمان الصحيح ودين الحق سبب لسعادة الدنيا ونعمتها بالحق والاستحقاق وأن الكفار قد يشاركونهم في الماديّ منها كما قال تعالى فيهم من سورة الأنعام {فلما نسوا ما ذكروا به فتحنا عليهم أبواب كل شيء} [الأنعام: 44] فذلك الفتح ابتلاء واختبار لحالهم كان أثره فيهم فرح البطر والأشر بدلا من الشكر، وترتب عليه العقاب الإلهي فكان نقمة لا نعمة، وفتنة لا بركة. وأما المؤمنون فإن ما يفتح عليهم يكون بركة ونعمة ويكون أثره فيهم الشكر لله عليه والرضا منه والاغتباط بفضله، واستعماله في سبيل الخير دون الشر وفي الإصلاح دون الإفساد، ويكون جزاؤهم عليه من الله تعالى زيادة النعم ونموها في الدنيا وحسن الثواب عليها في الآخرة، فالفارق بين الفتحين يؤخذ من جعل هذا من البركات الربانية، ومن تنكيره الدال على أنواع لم يعهدها الكفار.
في ظلال القرآن لسيد قطب 1387 هـ :
فلو أن أهل القرى آمنوا بدل التكذيب، واتقوا بدل الاستهتار؛ لفتح الله عليهم بركات من السماء والأرض.. هكذا. مفتوحة بلا حساب. من فوقهم ومن تحت أرجلهم. والتعبير القرآني بعمومه وشموله يلقي ظلال الفيض الغامر، الذي لا يتخصص بما يعهده البشر من الأرزاق والأقوات.. والإيمان بالله تحرر من العبودية للهوى ومن العبودية للعبيد. وما من شك أن الإنسان المتحرر بالعبودية لله، أقدر على الخلافة في الأرض خلافة راشدة صاعدة. من العبيد للهوى ولبعضهم بعضاً! إن البركات الحاصلة مع الإيمان والتقوى، بركات في الأشياء، وبركات في النفوس، وبركات في المشاعر، وبركات في طيبات الحياة.. بركات تنمي الحياة وترفعها في آن. وليست مجرد وفرة مع الشقوة والتردي والانحلال.
التحرير والتنوير لابن عاشور 1393 هـ :
والفتح: إزالة حَجْز شيء حاجز عن الدخول إلى مكان، يقال: فتح الباب وفتح البيت، وتعديته إلى البيت على طريقة التوسع، وأصله فتح للبيت، وكذلك قوله هنا: {لفتحنا عليهم بركات} وقولُه: {ما يفتح الله للناس من رحمة فلا ممسك لها} [فاطر: 2]، ويقال: فتح كوة، أي: جعلها فتحة، والفتح هنا استعارة للتمكين، كما تقدم في قوله تعالى: {فلما نسوا ما ذكروا به فتحنا عليهم أبواب كل شيء} في سورة الأنعام (44).
وتعدية فعل الفتح إلى البركات هنا استعارة مكنية بتشبيه البركات بالبيوت في الانتفاع بما تحتويه، فهنا استعارتان مكنية وتبعية، وقرأ ابن عامر: {لفتّحنا} بتشديد التاءِ وهو يفيد المبالغة.
والبركات: جمع بركة، والمقصود من الجمع تعددها، باعتبار تعدد أصناف الأشياء المباركة. وتقدم تفسير البركة عند قوله تعالى: {وهذا كتاب أنزلناه مبارك} في سورة الأنعام (92). وتقدم أيضاً في قوله تعالى: {إن أول بيت وضع للناس للّذي بمكّة مباركاً} في سورة آل عمران (96). وتقدم أيضاً في قوله تعالى: {تَبارك الله رب العالمين} في هذه السورة (54)، وجُماع معناها هو الخير الصالح الذي لا تبعة عليه في الآخرة فهو أحسن أحوال النعمة، ولذلك عبر في جانب المغضوب عليهم المستدرَجين بلفظ الحسنة} بصيغة الإفراد في قوله: {مكان السيئة الحسنة} [الأعراف: 95] وفي ج انب المؤمنين بالبركات مجموعة.
وقوله: {من السماء والأرض} مراد به حقيقته، لأن ما يناله الناس من الخيرات الدنيوية لا يعدو أن يكون ناشئاً من الأرض، وذلك معظم المنافع، أو من السماء مثل ماء المطر وشعاع الشمس وضوء القمر والنجوم والهواء والرياح الصالحة.
وقوله: {ولكن كذبوا} استثناء لنقيض شرط (لو) فإن التكذيب هو عدم الإيمان فهو قياس استثنائي.
وجملة: {فأخذناهم} متسببة على جملة: {ولكن كذبوا} وهو مثل نتيجة القياس، لأنه مساوي نقيضِ التالي، لأن أخذهم بما كسبوا فيه عدم فتح البركات عليهم.
وتقدم معنى الأخذ آنفاً في قوله تعالى: {فأخذناهم بغتة} [الأعراف: 95]، والمراد به أخذ الاستئصال.
والباء للسببية أي بسبب ما كسبوه من الكفر والعصيان..
تفسير من و حي القرآن لحسين فضل الله 1431 هـ :
{لَفَتَحْنَا عَلَيْهِم بَرَكَاتٍ مِّنَ السَّمَآءِ وَالأرضِ} في ما يثيره الإيمان، وتتحرك به التقوى من البركات في انطلاقة الخير من فكر الإنسان وروحه وعمله، فتنمو الطاقات، وتتحرّك بالعطاء، وتنطلق بالخير، وتتحول الحياة من خلال ذلك إلى حركةٍ مسؤولةٍ في اتجاه الصلاح والإصلاح، وبذلك تتحرك بركات الأرض والسماء إلى نهر يتدفّق بكل ما يصلح الحياة والإنسان؛ لأن الإيمان والتقوى يعمّقان في الذات معنى المسؤولية التي تبتعد عن العبث والفساد والأنانية، فلا يبقى هناك إلا ما ينفع الناس، وبذلك تكون علاقة الإيمان والتقوى بالبركات علاقةً ترتبط بينابيع الخير التي يفجّرها عقل الإنسان وروحه وإرادته، في حركة المواقف والعلاقات والأعمال في الحياة. ويبقى للغيب دوره في هذا كله؛ فلله ألطافٌ خفيّةٌ من حيث لا نعرف، وله أرزاقٌ ونعم كثيرة يغدقها علينا من حيث لا نشعر. وهي أمورٌ لا تخضع لما نعرفه من قوانين الحياة العادية، بل هي غيبٌ ننتظره كلما أحسسنا بالرضى من الله ينساب في أعماقنا لطفاً وبركةً وإيماناً...
{فَأَخَذْنَهُمْ بِمَا كَانُواْ يَكْسِبُونَ} في ما يستحقونه من عقاب الله، بسبب عصيانهم أوامره ونواهيه، وفي ما تنتجه أعمالهم ومواقفهم من نتائج سلبيّةٍ على الأوضاع العامّة في حياتهم، على أساس ارتباط النتائج بمقدّماتها الطبيعيّة. وبهذا نفهم ارتباط الأخذ الإلهي بالكسب السلبي للإنسان في مواقف المعصية بجانب الاستحقاق من جهة، وبطبيعة الأشياء من جهةٍ أخرى فيلتقي فيه الجانب الغيبي بالجانب المادّي من الحياة...
الأمثل في تفسير كتاب الله المنزل - لجنة تأليف بإشراف الشيرازي 2009 هـ :
التّقدم والعمران في ظل الإيمان والتقوى:
في الآيات الماضية وقع البحث فيما جرى لأقوام مثل قوم هود وصالح وشعيب ونوح ولوط على نحو الإجمال، وإن كانت تلك الآيات كافية لبيان النتائج المشحونة بالعبر في هذه القصص، ولكن الآيات الحاضرة تبيّن النتائج بصورة أكثر وضوحاً فتقول: (ولو أن أهل القرى آمنوا واتقوا لفتحنا عليهم بركات من السماء والأرض)، أي لو أنّهم سلكوا سبيل الإيمان والتقوى، بدل الطغيان والتمرد وتكذيب آيات الله والظلم والفساد، لم يتخلصوا من غضب الله وعقوبته فحسب، بل لفتحت عليهم أبواب السماء والأرض.
ولكن للأسف تركوا الصراط المستقيم الذي هو طريق السعادة والرفاه والأمن، وكذبوا الأنبياء، وتجاهلوا برامجهم الإصلاحية، فعاقبناهم بسبب أعمالهم (ولكن كذّبوا فأخذناهم بما كانوا يكسبون). «البركات» جمع «بركة» وهذه الكلم تعني في الأصل «الثبات» والاستقرار، ويطلق على كل نعمة وموهبة تبقى ولا تزول، في مقابل الموجودات العارية عن البركة، والسريعة الفناء والزوال، والخالية عن الأثر...