ثم حكى - سبحانه - ما كان عليه هؤلاء العوام المقلدون من جمود وخضوع للباطل فقال . { وَإِذَا قِيلَ لَهُمْ تَعَالَوْاْ إلى مَآ أَنزَلَ الله وَإِلَى الرسول قَالُواْ حَسْبُنَا مَا وَجَدْنَا عَلَيْهِ آبَاءَنَآ } .
أي : وإذا قال قائل - على سبيل النصح والإِرشاد إلى الخير - لهؤلاء المقلدين المنقادين انقيادا أعمى للأوهام إذا قال لهم هذا القائل : تعالوا أي : أقبلوا واستجيبوا لما أنزل الله في كتابه ، ولما أنزل على رسوله من هدايات لتسعدوا وتفوزوا قالوا : بعناد وغباء - { حَسْبُنَا مَا وَجَدْنَا عَلَيْهِ آبَاءَنَآ } : كافينا في هذا الشأن ما وجدوا عليه آباءنا من عقائد وتقاليد وعادات . فلا نلتفت إلى ما سواه .
وهذه حجة كل ضال مقلد لمن سبقوه بغير تعقل ولا تدبر . إنه يترك معاني العزة والكرامة وإعمال الفكر ليعيش أسير ذلته للأوهام التي شب عليها وسار خلفها مقلداً غيره ومنقاداً له انقياد الخانعين الأذلاء .
ولم يذكر - سبحانه - القائل في قوله : { وَإِذَا قِيلَ لَهُمْ } للإِشارة إلى أن الذين يدعونهم إلى طريق الحق متعددون ، فالنبي صلى الله عليه وسلم يدعوهم ، والمؤمنون يدعونهم . والأدلة الدالة على صدق هذا الدين تدعوهم . ومع كل ذلك فهم في ضلالهم سادرون ، وتحت سلطان سادتهم خانعون .
وقوله - تعالى - { أَوَلَوْ كَانَ آبَاؤُهُمْ لاَ يَعْلَمُونَ شَيْئاً وَلاَ يَهْتَدُونَ } رد عليهم بأسلوب التأنيب والتعجيب من جهالاتهم وخضوعهم للباطل بدون مراجعة أو تفكير .
والواو في قوله { أَوَلَوْ كَانَ آبَاؤُهُمْ } وأو الحال . والهمزة التي دخلت عليها للانكار والتعجب من ضلالهم .
والمعنى : أيقولون حسبنا ما وجدنا عليه آباءنا . ويغلقون على أنفسهم باب الهداية ليبقوا في ظلمات الضلالة ولو كان آباؤهم لا يعلمون شيئاً من الحق ولا يهتدون إليه لانطماس بصيرتهم .
وليس المراد أن آباءهم لو كانوا يعلمون شيئاً أو يهتدون إلى شيء لجاز لهم ترك ما أنزل الله وإنما المراد هنا تسجيل الواقع المظلم الذي كانوا عليه وكان عليه آباؤهم من قبلهم . فآباؤهم كانوا كذلك يتبعون ما شرعه لهم آباؤهم بدون تأمل أو تفكير .
فالآية الكريمة زيادة في توبيخهم وتوبيخ آبائهم ؛ لأنهم جميعا مشتركون في الانغماس في الضلال والجهل .
ثم يزيد هذه المفارقة في قولهم وفعلهم إيضاحا :
( وإذا قيل لهم : تعالوا إلى ما أنزل الله وإلى الرسول ، قالوا : حسبنا ما وجدنا عليه آباءنا . أو لو كان آباؤهم لا يعلمون شيئا ولا يهتدون ) ؟ . .
إن ما شرعه الله بين . وهو محدد فيما أنزل الله ومبين بما سنه رسوله . . وهذا هو المحك . وهذه هي النقطة التي يفترق فيها طريق الجاهلية وطريق الإسلام . طريق الكفر وطريق الإيمان . . فإما أن يدعى الناس إلى ما أنزل الله بنصه وإلى الرسول ببيانه فيلبوا . . فهم إذن مسلمون . وإما أن يدعوا إلى الله والرسول فيأبوا . . فهم إذن كفار . . ولا خيار . .
وهؤلاء كانوا إذا قيل لهم : تعالوا إلى ما أنزل الله وإلى الرسول ، قالوا : حسبنا ما وجدنا عليه آباءنا ! فاتبعوا ما شرعه العبيد ، وتركوا ما شرعه رب العبيد . ورفضوا نداء التحرر من عبودية العباد للعباد ، واختاروا عبودية العقل والضمير ، للآباء والأجداد .
ثم يعقب السياق القرآني على موقفهم ذاك تعقيب التعجيب والتأنيب :
( أو لو كان آباؤهم لا يعلمون شيئا ولا يهتدون ؟ ) . .
وليس معنى هذا الاستنكار لاتباعهم لآبائهم ولو كانوا لا يعلمون شيئا ولا يهتدون ، أن لو كان يعلمون شيئا لجاز لهم اتباعهم وترك ما أنزل الله وترك بيان الرسول ! إنما هذا تقرير لواقعهم وواقع آبائهم من قبلهم . فآباؤهم كذلك كانوا يتبعون ما شرعه لهم آباؤهم أو ما شرعوه هم لأنفسهم . ولا يركن أحد إلى شرع نفسه أو شرع أبيه ، وبين يديه شرع الله وسنه رسوله ، إلا وهو لا يعلم شيئا ولا يهتدي ! وليقل عن نفسه أو ليقل عنه غيره ما يشاء : إنه يعلم وإنه يهتدي . فالله - سبحانه - أصدق وواقع الأمر يشهد . . وما يعدل عن شرع الله إلى شرع الناس إلا ضال جهول ! فوق أنه مفتر كفور !
{ وَإِذَا قِيلَ لَهُمْ تَعَالَوْا إِلَى مَا أَنزلَ اللَّهُ وَإِلَى الرَّسُولِ قَالُوا حَسْبُنَا مَا وَجَدْنَا عَلَيْهِ آبَاءَنَا } أي : إذا دعوا إلى دين الله وشرعه وما أوجبه وتَرْك ما حرمه ، قالوا : يكفينا ما وجدنا عليه الآباءَ والأجداد من الطرائق والمسالك ، قال الله تعالى { أَوَلَوْ كَانَ آبَاؤُهُمْ لا يَعْلَمُونَ شَيْئًا } أي : لا يفهمون حقًا ، ولا يعرفونه ، ولا يهتدون إليه ، فكيف يتبعونهم والحالة هذه ؟ لا يتبعهم إلا من هو أجهل منهم ، وأضل سبيلا .
والضمير في قوله { قيل لهم } عائد على الكفار المستنين بهذه الأشياء و { تعالوا } نداء بين ، هذا أصله ، ثم استعمل حيث الِبر وحيث ضده ، و { إلى ما أنزل الله } يعني القرآن الذي فيه التحريم الصحيح و { حسبنا } معناه كفانا وقوله { أوَلوْ كان آباؤهم } ألف التوقيف دخلت على واو العطف كأنهم عطفوا بهذه الجملة على الأولى والتزموا شنيع القول فإنما التوقيف توبيخ لهم ، كأنهم يقولون بعده نعم ولو كانوا كذلك .
تفسير مقاتل بن سليمان 150 هـ :
{وإذا قيل لهم}، يعني مشركي العرب، {تعالوا إلى ما أنزل الله} في كتابه من تحليل ما حرم من البحيرة والسائبة والوصيلة والحام، {وإلى الرسول} محمد صلى الله عليه وسلم، {قالوا حسبنا ما وجدنا عليه آباءنا} من أمر الدين، فإنا أمرنا أن نعبد ما عبدوا. يقول الله عز وجل: {أولو كان آباؤهم}، يعني فإن كان آباؤهم، {لا يعلمون شيئا} من الدين، {ولا يهتدون} له، أفتتبعونهم؟
جامع البيان عن تأويل آي القرآن للطبري 310 هـ :
وإذا قيل لهؤلاء الذين يبحرون البحائر ويسيبون السوائب الذين لا يعقلون أنهم بإضافتهم تحريم ذلك إلى الله تعالى يفترون على الله الكذب: تعالوا إلى تنزيل الله وآي كتابه وإلى رسوله، ليتبين لكم كذب قيلكم فيم تضيفونه إلى الله تعالى من تحريمكم ما تحرّمون من هذه الأشياء، أجابوا من دعاهم إلى ذلك، بأن يقولوا: حسبنا ما وجدنا عليه من قبلنا آباءنا يعملون به، ويقولون: نحن لهم تبع وهم لنا أئمة وقادة، وقد اكتفينا بما أخذنا عنهم ورضينا بما كانوا عليه من تحريم وتحليل. قال الله تعالى ذكره لنبيه محمد صلى الله عليه وسلم: ولو كان آباء هؤلاء القائلين هذه المقالة لا يعلمون شيئا، يقول: لم يكونوا يعلمون أن ما يضيفونه إلى الله تعالى من تحريم البحيرة والسائبة والوصيلة والحام كذب وفرية على الله، لا حقيقة لذلك ولا صحة لأنهم كانوا أتباع المفترين ابتدأوا تحريم ذلك افتراء على الله بقيلهم ما كانوا يقولون من إضافتهم إلى الله تعالى ما يضيفون ما كانوا فيما هم به عاملون من ذلك على استقامة وصواب، بل كانوا على ضلالة وخطأ.
تأويلات أهل السنة للماتريدي 333 هـ :
كأنها نزلت في مشركي العرب، وكانوا أهل تقليد لا يؤمنون بالرسل، ولا يقرون بهم، إنما يقلدون آباءهم في عبادة الأوثان والأصنام. فإذا ما دعاهم رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى ما أنزل الله إليه، أو دعاهم أحد إلى ذلك {قَالُوا حَسْبُنَا مَا وَجَدْنَا عَلَيْهِ آبَاءَنَا} [وقالوا]: {إنا وجدنا آباءنا على أمة وإنا على ءاثارهم مقتدون} [الزخرف: 23] ونحو ذلك؛ يقلدون آباءهم في ذلك. فقال الله: {أَوَ لَوْ كَانَ آبَاؤُهُمْ لا يَعْلَمُونَ شَيْئاً وَلا يَهْتَدُونَ} أي تتبعون آباءكم، وتقتدون بهم، وإن كنتم تعلمون أن آباءكم لا يعلمون شيئا في أمر الدين، ولا يهتدون. وكذلك قوله تعالى: {قال أو لو جئتكم بأهدى مما وجدتم عليه ءاباءكم} [الزخرف: 24] تتبعون آباءكم، وتقتدون بهم، وإن جئتكم بأهدى مما كان عليه آباؤكم؛ يسفههم في أحلامهم في تقليدهم آباءهم، وإن ظهر عندهم أنهم على ضلال وباطل.
التبيان في تفسير القرآن للطوسي 460 هـ :
وفي الآية دلالة على فساد التقليد، لأن الله تعالى أنكر عليهم تقليد الآباء، فدل ذلك على أنه لا يجوز لأحد أن يعمل على شيء من أمر الدين إلا بحجة. وفيها دلالة على وجوب المعرفة وأنها ضرورية، لأن الله تعالى بين الحجاج عليهم في هذه الآية ليعرفوا صحة ما دعا الرسول إليه، ولو كانوا يعرفون الأحق ضرورة لم يكونوا مقلدين لآبائهم، وكان يجب أن يكون آباؤهم أيضا عارفين ضرورة، ولو كانوا كذلك لما صح الإخبار عنهم بأنهم لا يعلمون شيئا ولا يهتدون. وإنما نفى عنهم الاهتداء والعلم معا لأن بينهما فرقا، وذلك أن الاهتداء لا يكون إلا عن بيان وحجة. والعلم مطلق وقد يكون الاهتداء ضرورة.
لطائف الإشارات للقشيري 465 هـ :
إذا هتفت بهم دواعي الحقِّ بالجنوح إلى وصف الصدق صَدَّهم عن الإجابة ما مرنوا عليه من سهولة التقليد، وإن أسلافهم الذين وافقوهم لم يكونوا إلاَّ في ضلال.
الكشاف عن حقائق التنزيل للزمخشري 538 هـ :
والمعنى: أنّ الاقتداء إنما يصح بالعالم المهتدي، وإنما يعرف اهتداؤه بالحجة.
أحكام القرآن لابن العربي 543 هـ :
الْمَسْأَلَةُ الْأُولَى: في ارْتِبَاطهَا بِمَا قَبْلَهَا:
وَذَلِكَ بَيِّنٌ؛ فَإِنَّ اللَّهَ تَعَالَى أَخْبَرَ عَنْ جَهَالَةِ الْعَرَبِ فِيمَا تَحَكَّمَتْ فِيهِ بِآرَائِهَا السَّقِيمَةِ فِي الْبَحَائِرِ وَالسَّوَائِبِ وَالْحَوَامِي، وَاحْتِجَاجُهُمْ فِي ذَلِكَ بِأَنَّهُ أَمْرٌ وَجَدُوا عَلَيْهِ آبَاءَهُمْ؛ فَاتَّبَعُوهُمْ فِي ذَلِكَ، وَتَرَكُوا مَا أَنْزَلَ اللَّهُ عَلَى رَسُولِهِ وَأَمَرَ بِهِ من دِينِهِ.
الْمَسْأَلَةُ الثَّانِيَةُ: قَدْ قَدَّمْنَا أَنَّ الْعُقُولَ لَا حُكْمَ لَهَا بِتَحْسِينٍ وَلَا تَقْبِيحٍ، وَلَا تَحْلِيلٍ وَلَا تَحْرِيمٍ؛ وَإِنَّمَا ذَلِكَ إلَى الشَّرْعِ؛ إذْ الْعُقُولُ لَا تَهْتَدِي إلَى الْمَنَافِعِ الَّتِي تُرْشِدُ من ضَلَالِ الْخَوَاطِرِ، وَتُنْجِي من أَهْوَالِ الْآخِرَةِ بِمَا لَا يَهْتَدِي الْعَقْلُ إلَى تَفْصِيلِهِ، وَلَا يَتَمَكَّنُ من تَحْصِيلِهِ، فَكَيْفَ أنْ تَغَيَّرَ مَا مَهَّدَهُ الشَّرْعُ، وَتَبَدَّلَ مَا سَنَّهُ وَأَوْضَحَهُ، وَذَلِكَ [كُلُّهُ] من غُرُورِ الشَّيْطَانِ وَوَسَاوِسِهِ وَتَحَكُّمِهِ عَلَى الْخَلْقِ بِالْوَعْدِ الصَّادِقِ: لَأَجْلِبَنَّ عَلَيْهِمْ وَلِأُشَارِكَنهُمْ وَلَأَعِدَنَّهُمْ.
قَالَ اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ: {وَأَجْلِبْ عَلَيْهِمْ بِخَيْلِك وَرَحلِك وَشَارِكْهُمْ فِي الْأَمْوَالِ وَالْأَوْلَادِ وَعِدْهُمْ وَمَا يَعِدُهُمْ الشَّيْطَانُ إلَّا غُرُورًا}.
الْمَسْأَلَةُ الثَّالِثَةُ: تَعَلَّقَ قَوْمٌ بِهَذِهِ الْآيَةِ فِي ذَمِّ التَّقْلِيدِ، وَقَدْ ذَكَرَ اللَّهُ سُبْحَانَهُ ذَمَّ الْكُفَّارِ بِاتِّبَاعِهِمْ لِآبَائِهِمْ بِالْبَاطِلِ، وَاقْتِدَائِهِمْ بِهِمْ فِي الْكُفْرِ وَالْمَعْصِيَةِ فِي مَوَاضِعَ من الْقُرْآنِ. وَأَكَّدَ النَّبِيُّ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- ذَلِكَ؛ وَإِنَّمَا يَكُونُ كَمَا فَسَّرْنَاهُ فِي الْبَاطِلِ. فَأَمَّا التَّقْلِيدُ فِي الْحَقِّ فَأَصْلٌ من أُصُولِ الدِّينِ، وَعِصْمَةٌ من عِصَمِ الْمُسْلِمِينَ يَلْجَأُ إلَيْهَا الْجَاهِلُ الْمُقَصِّرُ عَنْ دَرْكِ النَّظَرِ.
نظم الدرر في تناسب الآيات و السور للبقاعي 885 هـ :
ثم لما حرموا هذه الأشياء اضطروا إلى تحليل الميتة فحرموا الطيب وأحلوا الخبيث. ولما اتخذوه ديناً واعتقدوه شرعاً ومضى عليه أسلافهم، دعتهم الحظوظ والأنفة من نسبة آبائهم إلى الضلال والشهادة عليهم بالسفه إلى الإصرار عليه وعدم الرجوع عنه بعد انكشاف قباحته وبيان شناعته حتى أفنى أكثرهم السيف ووطأتهم الدواهي، فوطأت أكتافهم وذللت أعناقهم وأكنافهم، فقال تعالى دالاً على ختام الآية التي قبله من عدم عقلهم: {وإذا قيل لهم} أي من أيّ قائل كان ولو أنه ربهم، بما ثبت من كلامهم بالعجز عنه أنه كلامه {تعالوا} أي ارفعوا أنفسكم عن هذا الحضيض السافل {إلى ما أنزل الله} أي الذي لا أعظم منه، وقد ثبت أنه أنزله بعجزكم عنه {وإلى الرسول} أي الذي من شأنه لكونه سبحانه أرسله أن يبلغكم ما يحبه لكم ويرضاه {قالوا حسبنا} أي يكفينا {ما وجدنا عليه آباءنا}. ولما كانوا عالمين بأنه ليس في آبائهم عالم، وأنه من تأمل أدنى تأمل عرف أن الجاهل لا يهتدي إلى شيء، قال منكراً عليهم موبخاً لهم: {أولو} أي يكفيهم ذلك إذا قالوا ذلك ولو {كان آباؤهم لا يعلمون شيئاً} أي من الأشياء حق علمه لكونهم لم يأخذوه عن الله بطريق من الطرق الواصلة إليه، ولما كان من لا يعلم قد يشعر بجهله فيتعلم فيهتدي فيصير أهلاً للاقتداء به، وقد لا يشعر لكونه جهله مركباً فلا يجوز الاقتداء به، بين أنهم من أهل هذا القسم فقال: {ولا يهتدون} أي لا يطلبون الهداية فلا توجد هدايتهم إلى صواب، لأن من لا يعلم لا صواب له، لأنه ليس للهدى آلة سوى العلم، وأدل دليل على عدم هدايتهم أنهم ضيعوا الطيب من أموالهم فاضطرهم ذلك إلى أكل الخبيث من الميتة، وأغضبوا بذلك خالقهم فدخلوا النار، فلا أقبح مما يختاره لنفسه المطبوع على الكدر، ولا أحسن مما يشرعه له رب البشر، وهذه الآية ناظرة إلى قوله تعالى في سورة النساء {إن يدعون من دونه إلا إناثاً وإن يدعون إلا شيطاناً مريداً} [الآية: 117] إلى قوله: {ولآمرنهم فليبتكن آذان الأنعام} [النساء: 119] فالتفت حينئذ إلى قوله: {رجس من عمل الشيطان} أيّ التفات.
تفسير المنار لرشيد رضا 1354 هـ :
وإذا قيل لهم اتبعوا ما أنزل الله تعالى في القرآن من الأحكام المؤيدة بالحجج والبينات، والمبنية على قواعد درء المفاسد وجلب المصالح دون العبث والخرافات، وإلى الرسول المبلغ لها، والمبين لمجملها، قالوا حسبنا ويكفينا ما وجدنا عليه آباءنا من عقائد وأحكام، وحلال وحرام، قال تعالى ردا عليهم {أولو كان آباؤهم لا يعلمون شيئا ولا يهتدون (104)} أي أيكفيهم ذلك ولو كان آباؤهم لا يعلمون شيئا من الشرائع الإلهية، ولا يهتدون سبيلا إلى مصالحهم الدينية والدنيوية؟ وإنما يعرف ما يكفي الأفراد والأمم وما لا يكفي بالعلم الصحيح الذي يميز به بين الحق والباطل، والاهتداء إلى الأعمال الصالحة والفضائل...
الآيات القرآنية الدالة على بطلان التقليد في الدين كثيرة جدا، وكذلك الأحاديث النبوية وأقوال علماء السلف الصالحين...ثم إن كتاب الله تعالى قد أوجب العلم بالدين، والتقليد ليس بعلم كما ثبت بالإجماع والعقل، وطالب بالدليل ولا سيما في القول على الله عز وجل، كقوله تعالى: {هل عندكم من سلطان بهذا؟ أتقولون على الله ما لا تعلمون؟} [يونس: 68] السلطان البرهان...وقد ذم الله تعالى المقلدين في كتابه العزيز في كثير من [الآيات]..
في ظلال القرآن لسيد قطب 1387 هـ :
ثم يزيد هذه المفارقة في قولهم وفعلهم إيضاحا:
(وإذا قيل لهم: تعالوا إلى ما أنزل الله وإلى الرسول، قالوا: حسبنا ما وجدنا عليه آباءنا. أو لو كان آباؤهم لا يعلمون شيئا ولا يهتدون)؟..
إن ما شرعه الله بين. وهو محدد فيما أنزل الله ومبين بما سنه رسوله.. وهذا هو المحك. وهذه هي النقطة التي يفترق فيها طريق الجاهلية وطريق الإسلام. طريق الكفر وطريق الإيمان.. فإما أن يدعى الناس إلى ما أنزل الله بنصه وإلى الرسول ببيانه فيلبوا.. فهم إذن مسلمون. وإما أن يدعوا إلى الله والرسول فيأبوا.. فهم إذن كفار.. ولا خيار..
وهؤلاء كانوا إذا قيل لهم: تعالوا إلى ما أنزل الله وإلى الرسول، قالوا: حسبنا ما وجدنا عليه آباءنا! فاتبعوا ما شرعه العبيد، وتركوا ما شرعه رب العبيد. ورفضوا نداء التحرر من عبودية العباد للعباد، واختاروا عبودية العقل والضمير، للآباء والأجداد.
ثم يعقب السياق القرآني على موقفهم ذاك تعقيب التعجيب والتأنيب:
(أو لو كان آباؤهم لا يعلمون شيئا ولا يهتدون؟)..
وليس معنى هذا الاستنكار لاتباعهم لآبائهم ولو كانوا لا يعلمون شيئا ولا يهتدون، أن لو كان يعلمون شيئا لجاز لهم اتباعهم وترك ما أنزل الله وترك بيان الرسول! إنما هذا تقرير لواقعهم وواقع آبائهم من قبلهم. فآباؤهم كذلك كانوا يتبعون ما شرعه لهم آباؤهم أو ما شرعوه هم لأنفسهم. ولا يركن أحد إلى شرع نفسه أو شرع أبيه، وبين يديه شرع الله وسنه رسوله، إلا وهو لا يعلم شيئا ولا يهتدي! وليقل عن نفسه أو ليقل عنه غيره ما يشاء: إنه يعلم وإنه يهتدي. فالله -سبحانه- أصدق وواقع الأمر يشهد.. وما يعدل عن شرع الله إلى شرع الناس إلا ضال جهول! فوق أنه مفتر كفور!
التحرير والتنوير لابن عاشور 1393 هـ :
أي أنّهم ينسبون إلى الله ما لم يأمر به كذباً، وإذا دعوا إلى اتّباع ما أمر الله به حقّاً أو التدبّر فيه أعرضوا وتمسّكوا بما كان عليه آباؤهم. فحالهم عجيبة في أنّهم يقبلون ادّعاء آبائهم أنّ الله أمرهم بما اختلقوا لهم من الضلالات، مثل البحيرة والسائبة وما ضاهاهما، ويعرضون على دعوة الرسول الصادق بلا حجّة لهم في الأولى، وبالإعراض عن النظر في حجة الثانية أو المكابرة فيها بعد علمها.
والأمر في قوله {تعالَوْا} مستعمل في طلب الإقبال، وفي إصغاء السمع، ونظر الفكر، وحضور مجلس الرسول صلى الله عليه وسلم وعدم الصدّ عنه، فهو مستعمل في حقيقته ومجازه. وتقدّم الكلام على فعل (تعالَ) عند الكلام على نظير هذه الآية في سورة النساء.
و {ما أنزل الله}: هو القرآنُ. وعطف {والى الرسول} لأنّه يرشدهم إلى فهم القرآن. وأعيد حرف (إلى) لاختلاف معنيي الإقبال بالنسبة إلى متعلّقي {تعالوا} فإعادة الحرف قرينة على إرادة معنيي {تعالوا} الحقيقي والمجازي.
وقوله {قالوا حسبنا} أي كافينا، إذا جُعلت (حَسْب) اسماً صريحاً و {ما وجدنا} هو الخبر، أو كفانا إذا جُعلت (حسب) اسمَ فعل و {ما وجدنا} هو الفاعلَ. وقد تقدّم ذلك عند قوله تعالى {وقالوا حسبنا الله ونعم الوكيل} في سورة آل عمران (173).
و (على) في قوله: {ما وجدنا عليه ءاباءنا} مجاز في تمكّن التلبّس، وتقدّم في قوله تعالى: {أولئك على هدى من ربّهم} [البقرة: 5].
وقوله: {أو لو كان آباؤهم لا يعلمون} الخ، تقدّم القول على نظيره في سورة البقرة (170) عند قوله: {وإذا قيل لهم اتّبعوا ما أنزل الله قالوا بل نتّبع ما ألفينا عليه آباءنا أو لو كان آباؤكم} الآية.
وليس لهذه الآية تعلّق بمسألة الاجتهاد والتقليد كما توهّمه جمع من المفسّرين، لأنّ هذه الآية في تنازع بين أهل ما أنزل الله وأهل الافتراء على الله، فأمّا الاجتهاد والتقليد في فروع الإسلام فذلك كلّه من اتّباع ما أنزل الله. فتحميل الآية هذه المسألة إكراه للآية على هذا المعنى.
التيسير في أحاديث التفسير للمكي الناصري 1415 هـ :
[نص مكرر لاشتراكه مع الآية 105]
وأقل نظر إلى هذه الآية بتعمق وإمعان يؤدي إلى فهم المقصود منها على أحسن وجه، إذ هي واردة في سياق الآية التي سبقتها، وهي قوله تعالى: {وإذا قيل لهم تعالوا إلى ما أنزل الله وإلى الرسول قالوا حسبنا ما وجدنا عليه آباءنا} فها هنا دعوة موجهة إلى المشركين من الرسول والمؤمنين، ليتركوا ما هم عليه من ضلال وخبال، لكنهم يصرون على تقليدهم الأعمى، ويأبون الاستجابة إلى الدعوة الإسلامية. وما دام الأمر هكذا، وما دام الرسول والمؤمنون قد بذلوا كل ما في وسعهم للقيام بتوجيه الدعوة وتبليغ الرسالة، وحاولوا بكل الوسائل إقناع المشركين دون جدوى، فقد برئت ذمتهم ولم يبق أمامهم إلا العمل على نجاة أنفسهم وخلاصها، ولن يحاسبوا على ضلال من أصر على الضلال، بعد دعوتهم لهم باستمرار، ورفضه لدعوتهم بكامل الرفض ومزيد من الإنكار. وليس معنى هذه الآية الإذن للمسلم بالتخلي عن واجباته نحو المجتمع الإسلامي والدولة الإسلامية، ولا الترخيص له بالوقوف منهما موقف المتفرج الذي لا يهمه من أمرهما شيء، فذلك فهم مقلوب للإسلام، وتأويل مضاد للمعنى المقصود من هذه الآية. روى أصحاب السنن أن أبا بكر الصديق رضي الله عنه قام فحمد الله وأثنى عليه ثم قال: أيها الناس إنكم تقرؤون هذه الآية {يا أيها الذين آمنوا عليكم أنفسكم لا يضركم من ضل إذا اهتديتم} وإنكم تضعونها على غير موضعها، وإني سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: (إن الناس إذا أرادوا المنكر ولا يغيرونه يوشك الله عز وجل أن يعمهم بعقابه). ومما لا يسوغ للمسلم التخلي عنه ولا إهماله أبدا أمر أسرته وأولاده، امتثالا لقوله تعالى: {يا أيها الذين آمنوا قوا أنفسكم وأهليكم نارا} وقوله تعالى: {وأنذر عشيرتك الأقربين}.
والمدقق للنظر في آيات القرآن يجدها تمثل برنامجا مطمئنا لحياة الإنسان على الأرض، وكأنها حاسب آلي يضبط إيقاع حركة الإنسان في الأرض بدقة تتفوق بكل المقاييس على دقة أي حاسب آلي من صنع البشر... فالسماء تعدل للإنسان سلوكه إن ذهب بعيدا عن الصراط المستقيم. ولا يقولن إنسان: إنما أنا أتبع ما كان عليه آبائي، لأن الحق سبحانه وتعالى يقول:
{وإذا قيل لهم تعالوا إلى ما أنزل الله وإلى الرسول قالوا حسبنا ما وجدنا عليه آباءنا أولو كان آباؤهم لا يعلمون شيئا ولا يهتدون (104)}.
بل عل الإنسان إن يلتفت إلى أن أول تغيير لمنهج الله كان من أحد الآباء الذين أصابتهم الغفلة. وقول الإنسان: إنما أتبع ما كان عليه آبائي، هو قضية منقوضة؛ لأن الذي غير أول تغيير لم يقل: {حسبنا ما وجدنا عليه آباءنا} لأنه لم يقلد أبا له، وأيضا فمن المحتمل أن الآباء لم يعقلوا ما غيروه من منهج الله ولم يهتدوا إلى الحق.
وفي موضع آخر من القرآن الكريم يقول تبارك وتعالى:
{وإذا قيل لهم اتبعوا ما أنزل الله قالوا بل نتبع ما ألفينا عليه آباءنا أولو كان آباؤهم لا يعقلون شيئا ولا يهتدون (170)} (سورة البقرة).
إن الآية التي نحن بصدد خواطرنا الإيمانية عنها: {وإذا قيل لهم تعالوا} لم يقل الله فيها اتبعوا ولكن قال: (تعالوا) أي ارتفعوا كأنهم انحطوا وتسفلوا بقولهم: {حسبنا ما وجدنا عليه آباءنا} إنهم بذلك يرفضون وينكرون كل ما يأتي إليهم من غير طريق تقليد الآباء، فقد قفلوا الطريق وسدوه على أنفسهم.
أما آية سورة البقرة: {بل نتبع ما ألفينا عليه آباءنا} فيحتمل أن يقولوا: ونتبع كذلك ما جاء به الدين، فالنكير أشد على من قال: {حسبنا ما وجدنا عليه آباءنا}.
وعلى هذا فالاستدراك من الله في كل آية من الآيتين جاء مناسبا لحالهم. كيف ذلك؟ لأن الذي لا يعقل يمكن أن يعلم عن طريق شخص آخر استخرج واستنبط واكتشف، فإنه إن فاته التعقل لم يفته أن يأخذ العلم من غيره، أما الذي لا يعلم فقد باء ورجع بالجهل؛ لأنه لم يصل إلى العلم بنفسه، وكذلك لم يتعلم من غيره.
وجاء – سبحانه وتعالى – بهمزة الإنكار لمسألة إتباع الآباء دون منهج الله. ونلحظ أن الحق جاء بعملية الهداية كأمر مشترك في الآيتين، ذلك أن الهداية من السماء، أما التعقل والعلم فهما عمليتان إنسانيتان. وجاء – سبحانه وتعالى – بهمزة الإنكار لمسألة إتباع الآباء دون منهج الله. ونلحظ أن الحق جاء بعملية الهداية كأمر مشترك في الآيتين، ذلك أن الهداية من السماء، أما التعقل والعلم فهما عمليتان إنسانيتان.
تفسير من و حي القرآن لحسين فضل الله 1431 هـ :
وجاءت هذه الآية لتطرح هذا التصوّر الخاطئ، وهذا المنهج المنحرف، لأنَّهم يرفضون الدعوة الجديدة المنطلقة من وحي الله ونهج الرّسول (ص)، ويمتنعون عن مناقشتها بعيداً عن مسألة الوضوح في الخط، في ما يرفضه الإنسان وفي ما يؤيده، بل لأنَّهم لا يريدون أيّ فكرٍ جديدٍ في غير طريق فكر الآباء والأجداد. وأراد الله منهم أن يرجعوا إلى تفكيرهم ليناقشوا الموضوع بهدوء، فمن هم هؤلاء الآباء والأجداد؟ إنَّهم مثل النَّاس الَّذين يعيشون معهم، فمنهم العاقل ومنهم غير العاقل، ومنهم المهتدي وغير المهتدي، فكيف يُمكن أن يربطوا مصيرهم بهم دون مناقشةٍ ومراجعةٍ تفصيليّة لما يحملونه من أفكار ولما يواجهونه من مواقف؟ فماذا إذا كانوا ممن {لاَ يَعْلَمُونَ شَيْئاً وَلاَ يَهْتَدُونَ}؟ ماذا إذا كانوا من الَّذين لا يحملون مسؤوليّة الفكر والحياة؟ هل يجوز للإنسان العاقل الَّذي يحترم نفسه أن يندفع في هذا الاتجاه؟ وهل يسوّغ للإنسان الواعي أن ينسحق أمام العاطفة ويسير معها إلى المدى الَّذي يدمر فيه نفسه ومصيره؟ إنَّ القرآن يطرح التساؤل، لا ليأخذ الجواب، بل ليوحي لهم بالجواب الحاسم من خلال جوّ الأفكار لهذا المنهج الَّذي ينتهجونه في ما يوحيه السؤال من إنكار، ليتحرّك الجواب في خطوات الواقع الَّذي يتغيّر بتغيّر النَّاس في أنفسهم. والله العالم.