50- ولقد أرسلنا إلى قوم عَادٍ الأولى أخاً لهم من قبيلتهم هو ( هود ) فقال لهم : يا قوم اعبدوا الله - وحده - إذ ليس لكم مَنْ يستحق العبادة غيره - وما أنتم إلا كاذبون في ادّعائكم أن لله شركاء في استحقاقهم للعبادة ليكونوا شفعاء لكم عند الله{[95]} .
ثم تابعت السورة الكريمة حديثها عن قصة هود - عليه السلام - مع قومه ، بعد حديثها عن قصة نوح - عليه السلام - مع قومه ، فقال - تعالى - :
{ وإلى عَادٍ أَخَاهُمْ هُوداً . . . } .
تلك هى قصة هود - عليه السلام - مع قومه كما حكتها هذه السورة ، وقد وردت قصته معهم فى سور أخرى منها : سورة الأعراف ، والشعراء ، والأحقاف .
وينتهى نسب هود إلى نوح - عليهما السلام - فهو - كما قال بعض المؤرخين - : هود بن عبد الله بن رباح بن الخلود بن عاد بن عوض بن إرم بن سام بن نوح " .
وقومه هم قبيلة عاد - نسبة إلى أبيهم الذى كان يسمى بهذا الاسم - ، وكانت مساكنهم بالأحقاف - جمع حقف وهو الرمل الكثير المائل - ، وهذا المكان يسمى الآن بالربع الخالى جنوب الجزيرة العربية .
وكان قوم هود - عليه السلام - يعبدون الأصنام ، فأرسله الله إليهم لهدايتهم .
ويقال إن هودا - عليه السلام - قد أرسله الله إلى عاد الأولى ، أما عاد الثانية فهم قوم صالح ، وبينهما زهاء مائة سنة .
وقوله - سبحانه - : { وإلى عَادٍ أَخَاهُمْ هُوداً قَالَ ياقوم اعبدوا الله مَا لَكُمْ مِّنْ إله غَيْرُهُ . . } معطوف على قصة نوح التى سبق الحديث عنها .
أى : وكما أرسلنا نوحا إلى قومه ليأمرهم بعبادة الله وحده ، أرسلنا إلى قبيلة عاد أخاهم هوداً ، فقال لهم ما قاله كل نبى لقومه : { ياقوم اعبدوا الله مَا لَكُمْ مِّنْ إله غَيْرُهُ . . } معطوف على قصة نوح التى سبق الحديث عنها .
أى : وكما أرسلنا نوحا إلى قومه ليأمرهم بعبادة الله وحده ، أرسلنا إلى قبيلة عاد أخاهم هوداً ، فقال لهم ما قاله كل نبى لقومه : { ياقوم اعبدوا الله مَا لَكُمْ مِّنْ إله غَيْرُهُ } ووصفه - سبحانه - بأنه { أخاهم } لأنه من قبيلتهم فى النسب ، أو لأنه أخوهم فى الإِنسانية وناداهم بقوله : { ياقوم } زيادة في التلطف معهم ، استجلابا لقلوبهم ، وترضية لنفوسهم ، وجملة { مَا لَكُمْ مِّنْ إله غَيْرُهُ } فى معنى العلة لما قبله .
أى : أنا آمركم بعبادة الله وحده ، لأنه ليس هناك إله آخر يستحق العبادة سواء ، فهو الذى خلقكم ورزقكم ، وهو الذى يحييكم ويميتكم .
ثم ختم - سبحانه - الآية بقوله : { إِنْ أَنتُمْ إِلاَّ مُفْتَرُونَ } .
والافتراء : الكذب المتعمد الذى لا شبهة لصاحبه فى النطق به .
أى : ما أنتم إلا معتمدون للكذب فى جعلكم الألوهية لغير الله - تعالى - .
وإلى عاد أخاهم هودا قال : يا قوم اعبدوا الله ما لكم من إله غيره . إن أنتم إلا مفترون . يا قوم لا أسألكم عليه أجرا . إن أجري إلا على الذي فطرني . أفلا تعقلون ؟ ويا قوم استغفروا ربكم ثم توبوا إليه ، يرسل السماء عليكم مدرارا ، ويزدكم قوة إلى قوتكم ، ولا تتولوا مجرمين . .
وكان هود من عاد . فهو أخوهم . واحد منهم ، تجمعه - كانت - آصرة القربى العامة بين أفراد القبيلة الواحدة . وتبرز هذه الآصرة هنا في السياق ، لأن من شأنها أن تقوم الثقة والتعاطف والتناصح بين الأخ وإخوته ، وليبدو موقف القوم من أخيهم ونبيهم شاذا ومستقبحا ! ثم لتقوم المفاصلة في النهاية بين القوم وأخيهم على أساس افتراق العقيدة . ويبرز بذلك معنى انقطاع الوشائج كلها حين تنقطع وشيجة العقيدة . لتتفرد هذه الوشيجة وتبرز في علاقات المجتمع الإسلامي ، ثم لكي تتبين طبيعة هذا الدين وخطه الحركي . . فالدعوة به تبدأ والرسول وقومه من أمة واحدة تجمع بينه وبينها أواصر القربى والدم والنسب والعشيرة والأرض . . . ثم تنتهي بالافتراق وتكوين أمتين مختلفتين من القوم الواحد . . أمة مسلمة وأمة مشركة . . وبينهما فرقة ومفاصلة . . وعلى أساس هذه المفاصلة يتم وعد الله بنصر المؤمنين وإهلاك المشركين . ولا يجيى ء وعد الله بهذا ولا يتحقق إلا بعد أن تتم المفاصلة ، وتتم المفارقة ، وتتميز الصفوف ، وينخلع النبي والمؤمنون معه من قومهم ، ومن سابق روابطهم ووشائجهم معهم ، ويخلعوا ولاءهم لقومهم ولقيادتهم السابقة ، ويعطوا ولاءهم كله لله ربهم ولقيادتهم المسلمة التي دعتهم إلى الله وإلى الدينونة له وحده وخلع الدينونة للعباد . . وعندئذ فقط - لا قبله - يتنزل عليهم نصر الله . .
أرسلناه إليهم كما أرسلنا نوحا إلى قومه في القصة السابقة .
بهذا التودد ، والتذكير بالأواصر التي تجمعهم ، لعل ذلك يستثير مشاعرهم ويحقق اطمئنانهم إليه فيما يقول . فالرائد لا يكذب أهله ، والناصح لا يغش قومه .
( قال : يا قوم اعبدوا الله ما لكم من إله غيره ) . .
القولة الواحدة التي جاء بها كل رسول وكانوا قد انحرفوا - كما أسلفنا - عن عبادة الله الواحد التي هبط بها المؤمنون مع نوح من السفينة . ولعل أول خطوة في هذا الانحراف كانت هي تعظيم ذكرى الفئة المؤمنة القليلة التي حملت في السفينة مع نوح ! ثم تطور هذا التعظيم جيلا بعد جيل فإذا أرواحهم المقدسة تتمثل في أشجار وأحجار نافعة ؛ ثم تتطور هذه الأشياء فإذا هي معبودات ، وإذا وراءها كهنة وسدنة يعبدون الناس للعباد منهم باسم هذه المعبودات المدعاة - في صورة من صور الجاهلية الكثيرة . ذلك أن الانحراف خطوة واحدة عن نهج التوحيد المطلق . الذي لا يتجه بشعور التقديس لغير الله وحده ولا يدين بالعبودية إلا الله وحده . . الانحراف خطوة واحدة لا بد أن تتبعه مع الزمن خطوات وانحرافات لا يعلم مداها إلا الله .
على أية حال لقد كان قوم هود مشركين لا يدينون لله وحده بالعبودية ، فإذا هم يدعوهم تلك الدعوة التي جاء بها كل رسول :
( يا قوم اعبدوا الله ما لكم من إله غيره ) . . ( إن أنتم إلا مفترون ) . .
مفترون فيما تعبدونه من دون الله ، وفيما تدعونه من شركاء لله .
{ وإلى عاد } عطف على قوله { إلى قومه } [ هود : 25 ] في قصة نوح{[6384]} ، و { عاد } قبيلة وكانت عرباً - فيما ذكر - و «هود » عليه السلام منهم ، وجعله { أخاهم } بحسب النسب والقرابة ؛ فإن فرضناه ليس منهم فالأخوة بحسب المنشأ واللسان والجيرة . وأما قول من قال هي أخوة بحسب النسب الآدمي فضعيف .
عطف على { ولقد أرسَلنا نوحاً إلى قومه } [ هود : 25 ] ، فعطف { وإلى عاد } على { إلى قومه } [ هود : 25 ] ، وعطف { أخاهم } على { نوحاً } [ هود : 25 ] ، والتقدير : وأرسلنا إلى عاد أخاهم هوداً . وهو من العطف على معموليْ عامل واحد .
وتقديم المجرور للتنبيه على أن العطف من عطف المفردات لا من عطف الجمل لأن الجارّ لا بد له من متعلّق ، وقضاءً لحق الإيجاز ليُحْضَر ذكر عَاد مرتين بلفظه ثم بضميره .
ووصف ( هود ) بأنه أخو عاد لأنه كان من نسبهم كما يقال : يا أخا العرب ، أي يا عربي .
وتقدم ذكر عاد وهود في سورة الأعراف .
وجملة { قال } مبينة للجملة المقدّرة وهي { أرسلنا } [ هود : 25 ] .
ووجه التصريح بفعل القول لأن فعل ( أرسلنا ) محذوف ، فلو بين بجملة { يا قوم اعبدوا } كما بين في قوله : { ولقد أرسلنا نوحاً إلى قومه إني لكم نذير مبين } [ هود : 25 ] لكان بياناً لمعدوم وهو غير جليّ .
وافتتاح دعوته بنداء قومه لاسترعاء أسماعهم إشارة إلى أهمية ما سيلقي إليهم .
وجملة { ما لكم من إله غيره } حال من ضمير { اعبدوا } أو من اسم الجلالة . والإتيان بالحال الاستقصاد إبطال شركهم بأنّهم أشركوا غيره في عبادته في حال أنّهم لا إله لهم غيره ، أو في حال أنّه لا إله لهم غيره . وذلك تشنيع للشّرك .
وجملة { إن أنتم إلا مفترون } توبيخ وإنكار . فهي بيان لجملة { ما لكم من إله غيره } ، أي ما أنتم إلاّ كاذبون في ادّعاء إلهية غير الله تعالى .