وقوله - تعالى - : { إِنَّا جَعَلْنَا مَا عَلَى الأرض زِينَةً لَّهَا لِنَبْلُوَهُمْ أَيُّهُم أَحْسَنُ عَمَلاً وَإِنَّا لَجَاعِلُونَ مَا عَلَيْهَا صَعِيداً جُرُزاً } تعليل للنهى المقصود من الترجى فى قوله : { فلعلك باخع . . . } وزيادة فى تسليته صلى الله عليه وسلم عما أصابه من غم وحزن بسبب إصرار الكافرين على كفرهم .
أى : إنا بمقتضى حكمتنا - أيها الرسول الكريم - قد جعلنا ما على الأرض من حيوان ونبات وأنهار وبنيان . . زينة لها ولأهلها { لِنَبْلُوَهُمْ أَيُّهُم أَحْسَنُ عَمَلاً } أى : لنختبرهم عن طريق ما جعلنا زينة للأرض ولأهلها : أيهم أتبع لأمرنا ونهينا ، وأسرع فى الاستحابة لطاعتنا ، وأبعد عن الاغترار بشهواتها ومتعها . وإنا - أيضا - بمقتضى حكمتنا ، لجاعلون ما عليهم من هذه الزينة فى الوقت الذى نريده لنهاية هذه الدنيا ، { صعيدا } ، أى : ترابا { جرزا } أى : لا نبات فيه ، يقال أرض جرز ، أى : لا تنبت ، أو كان بها نبات ثم زال .
ويقال : جُرِزَت الأرض : إذا ذهب نباتها بسبب القحط ، أو الجراد الذى أتى على نباتها قال تعالى : { أَوَلَمْ يَرَوْاْ أَنَّا نَسُوقُ المآء إِلَى الأرض الجرز فَنُخْرِجُ بِهِ زَرْعاً تَأْكُلُ مِنْهُ أَنْعَامُهُمْ وَأَنفُسُهُمْ أَفَلاَ يُبْصِرُونَ } والمقصود من الآيتين : الزيادة فى تثبيت قلب النبى - صلى الله عليه وسلم - وفى تسليته عما لحقه من حزن بسبب إصرار الكافرين على كفرهم .
ونهاية هذه الزينة محتومة . فستعود الأرض مجردة منها ، وسيهلك كل ما عليها ، فتصبح قبل يوم القيامة سطحا أجرد خشنا جديا :
( وإنا لجاعلون ما عليها صعيدا جرزا ) . .
وفي التعبير صرامة ، وفي المشهد الذي يرسمه كذلك . وكلمة ( جرزا )تصور معنى الجدب بجرسها اللفظي . كما أن كلمة( صعيدا ) ترسم مشهد الاستواء والصلادة !
ثم أخبر تعالى بزوالها وفنائها ، وفراغها وانقضائها ، وذهابها وخرابها ، فقال : { وَإِنَّا لَجَاعِلُونَ مَا عَلَيْهَا صَعِيدًا جُرُزًا } أي : وإنا لمصيروها بعد الزينة إلى الخراب والدمار ، فنجعل كل شيء عليها هالكًا { صَعِيدًا جُرُزًا } : لا يُنْبِت ولا ينتفع به ، كما قال العوفي ، عن ابن عباس في قوله تعالى { وَإِنَّا لَجَاعِلُونَ مَا عَلَيْهَا صَعِيدًا جُرُزًا } يقول : يهلك كل شيء عليها ويبيد . وقال مجاهد : { صَعِيدًا جُرُزًا } بلقعًا .
وقال قتادة : الصعيد : الأرض التي ليس فيها شجر ولا نبات .
وقال ابن زيد : الصعيد : الأرض التي ليس فيها شيء ، ألا ترى إلى قوله تعالى : { أَوَلَمْ يَرَوْا أَنَّا نَسُوقُ الْمَاءَ إِلَى الأرْضِ الْجُرُزِ فَنُخْرِجُ بِهِ زَرْعًا تَأْكُلُ مِنْهُ أَنْعَامُهُمْ وَأَنْفُسُهُمْ أَفَلا يُبْصِرُونَ } [ السجدة : 27 ]{[17979]} .
وقال محمد بن إسحاق : { وَإِنَّا لَجَاعِلُونَ مَا عَلَيْهَا صَعِيدًا جُرُزًا } يعني الأرض ، إن ما عليها لفان وبائد ، وإن المرجع لإلى الله{[17980]} فلا تأس ولا يحزنك ما تسمع وترى .
وقوله : وَإنّا لَجاعلُونَ ما عَلَيْها صَعِيدا جُرزا يقول عزّ ذكره : وإنما لمخرّبوها بعد عمارتناها بما جعلنا عليها من الزينة ، فمصيروها صعيدا جرزا لا نبات عليها ولا زرع ولا غرس . وقد قيل : إنه أريد بالصعيد في هذا الموضع : المستوي بوجه الأرض ، وذلك هو شبيه بمعنى قولنا في ذلك . وبنحو الذي قلنا في ذلك ، وبمعنى الجرز ، قال أهل التأويل . ذكر من قال ذلك :
حدثني محمد بن سعد ، قال : ثني أبي ، قال : ثني عمي ، قال : ثني أبي ، عن أبيه ، عن ابن عباس ، قوله : وإنّا لَجَاعِلُونَ ما عَلَيْها صَعِيدا جُرُزا يقول : يهلك كلّ شيء عليها ويبيد .
حدثني محمد بن عمرو ، قال : حدثنا أبو عاصم ، قال : حدثنا عيسى وحدثني الحرث ، قال : حدثنا الحسن ، قال : حدثنا ورقاء ، جميعا عن ابن أبي نجيح ، عن مجاهد صَعِيدا جُرُزا قال : بلقعا .
حدثنا القاسم ، قال : حدثنا الحسين ، قال : ثني حجاج ، عن ابن جريج ، عن مجاهد ، مثله .
حدثنا بشر ، قال : حدثنا يزيد ، قال : حدثنا سعيد ، عن قتادة ، قوله : وَإنّا لَجاعلُونَ ما عَلَيْها صَعيدا جُرُزا والصعيد : الأرض التي ليس فيها شجر ولا نبات .
حدثنا ابن حميد ، قال : حدثنا سَلَمة ، عن ابن إسحاق وَإنّا لَجَاعِلُونَ ما عَلَيْها صَعِيدا جُرُزا يعني : الأرض إن ما عليها لفانٍ وبائد ، وإن المرجع لإليّ ، فلا تأس ، ولا يحزنك ما تسمع وترى فيها .
حدثنا يونس ، قال : أخبرنا ابن وهب ، قال : قال ابن زيد في قوله : صَعِيدا جُزُرا قال : الجزر : الأرض التي ليس فيها شيء ، ألا ترى أنه يقول : أوَ لَمْ يَرَوْا أنّا نَسُوقُ الماءَ إلى الأرْضِ الجُرُزِ فنُخْرِجُ بِهِ زَرْعا قال : والجرز : لا شيء فيها ، لا نبات ولا منفعة . والصعيد : المستوي . وقرأ : لاَ تَرَى فِيها عِوَجا وَلا أمْتا قال : مستوية : يقال : جُرِزت الأرض فهي مجروزة ، وجرزها الجراد والنعم ، وأرَضُون أَجْراز : إذا كانت لا شيء فيها . ويقال للسنة المجدبة : جُرُز وسنون أجراز لجدوبها ويبسها وقلّة أمطارها قال الراجز :
*** قَدْ جَرَفَتْهُنّ السّنُونُ الأجْرَازْ ***
يقال : أجرز القوم : إذا صارت أرضهم جُرُزا ، وجَرَزوا هم أرضهم : إذا أكلوا نباتها كله .
قوله : { وإنا لجاعلون ما عليها صعيداً جرزاً } تكميل للعبرة وتحقيق لفناء العالم . فقوله : { جاعلون } اسم فاعل مراد به المستقبل ، أي سنجعل ما على الأرض كله معدوماً فلا يكون على الأرض إلا تراب جاف أجرد لا يصلح للحياة فوقه وذلك هو فناء العالم ، قال تعالى : { يوم تبدل الأرض غير الأرض } [ إبراهيم : 48 ] .
والصعيد : التراب . والجُرز : القاحل الأجرد . وسيأتي بيان معنى الصعيد عند قوله : { فتصبح صعيداً زلقا } في هذه السورة ( 40 ) .
تفسير مقاتل بن سليمان 150 هـ :
{ما عليها}، يعني: ما على الأرض من شيء،
{جرزا}، يعني: ملساء ليس عليها جبل، ولا نبت...
جامع البيان عن تأويل آي القرآن للطبري 310 هـ :
يقول عزّ ذكره: وإنا لمخرّبوها بعد عمارتناها بما جعلنا عليها من الزينة، فمصيروها صعيدا جرزا لا نبات عليها ولا زرع ولا غرس. وقد قيل: إنه أريد بالصعيد في هذا الموضع: المستوي بوجه الأرض، وذلك هو شبيه بمعنى قولنا في ذلك...
تأويلات أهل السنة للماتريدي 333 هـ :
... {إنا جعلنا ما على الأرض زينة لها لنبلوهم أيهم أحسن عملا} {وإنا لجاعلون ما عليها صعيدا جرزا} والله أعلم، أي نبتليهم بالسعة والرخاء والضيق والشدة...
النكت و العيون للماوردي 450 هـ :
أحدها: الأرض المستوية، قاله الأخفش ومقاتل.
الثاني: هو وجه الأرض لصعوده، قاله ابن قتيبة.
الثالث: أنه التراب، قاله أبان بن تغلب.
الثالث: محصورة، وهو قول ابن بحر.
الرابع: أنها اليابسة التي لا نبات بها ولا زرع.
والمعنى أنه تعالى بين أنه إنما زين الأرض لأجل الامتحان والابتلاء لا لأجل أن يبقى الإنسان فيها متنعما أبدا لأنه يُزَهِّد فيها بقوله: {وإنا لجاعلون ما عليها} الآية ونظيره قوله: {كل من عليها فان} وقوله: {فيذرها قاعا} الآية، وقوله: {وإذا الأرض مدت} الآية.
والمعنى أنه لا بد من المجازاة بعد فناء ما على الأرض، وتخصيص الإبطال والإهلاك بما على الأرض يوهم بقاء الأرض إلا أن سائر الآيات دلت على أن الأرض أيضا لا تبقى وهو قوله: {يوم تبدل الأرض غير الأرض}...
محاسن التأويل للقاسمي 1332 هـ :
وفي الآية تسلية له صلوات الله عليه. كأنه قيل لا تحزن عليهم فإنه لا عليك أن يهلكوا جميعا. لأنا نخرج جميع الأسباب من العدم إلى الوجود للابتلاء. ثم نفنيها، ولا حيف ولا نقص...
في ظلال القرآن لسيد قطب 1387 هـ :
وفي التعبير صرامة، وفي المشهد الذي يرسمه كذلك. وكلمة (جرزا) تصور معنى الجدب بجرسها اللفظي. كما أن كلمة (صعيدا) ترسم مشهد الاستواء والصلادة!...
التحرير والتنوير لابن عاشور 1393 هـ :
قوله: {وإنا لجاعلون ما عليها صعيداً جرزاً} تكميل للعبرة وتحقيق لفناء العالم. فقوله: {جاعلون} اسم فاعل مراد به المستقبل، أي سنجعل ما على الأرض كله معدوماً فلا يكون على الأرض إلا تراب جاف أجرد لا يصلح للحياة فوقه وذلك هو فناء العالم، قال تعالى: {يوم تبدل الأرض غير الأرض} [إبراهيم: 48].
تفسير من و حي القرآن لحسين فضل الله 1431 هـ :
{وَإِنَّا لَجَاعِلُونَ مَا عَلَيْهَا صَعِيداً جُرُزاً}... وهو كنايةٌ عن فقدان حركة الحياة فيها، باعتبار أن النبات يمثل الحياة النامية الحلوة التي تمد الإنسان بالقوّة عندما تمدّه بالغذاء، وتمنح الوجود جمالاً، من خلال ما تثيره فيه من الخضرة الطافرة الحلوة. وهذه هي الصورة التي يريد القرآن أن يؤكدها في وعي الإنسان، فلا يستسلم لزينة الحياة الدنيا... بل عليه أن يعتبرها مجرد زينةٍ طارئةٍ، كحالةٍ عابرةٍ، ليستغرق في داخلها في نطاق الفكرة التي يستوحيها، والدرس الذي يأخذه، والعمل الذي يعمله... ليبقى له ذلك منها، كرصيدٍ للدار الآخرة، عندما تتحول الحياة إلى شيءٍ لا أثر فيه لأيّة حركةٍ ولأيّة حياة...
الأمثل في تفسير كتاب الله المنزل - لجنة تأليف بإشراف الشيرازي 2009 هـ :
حياة الإِنسان المادية تشبه هذا التحوُّل، فلا بدُّ أن يأتي ذلك اليوم الذي يضع نهاية للقصور التي تُناطح السماء، وللملابس الباذخة والنعم الكثيرة التي يَرفُل بها الإِنسان، كذلك تنتهي المناصب والمواقع والاعتبارات، وسوف لن يبقى شيء من المجتمعات البشرية سوى القبور الساكنة اليابسة، وهذا درسٌ عظيم...