وقوله : { يُنفَخُ فِي الصور . . . } بدل ما قبله ، أى : يوم القيامة آت لا ريب فيه ، يوم نأمر إسرافيل بأن ينفخ فى الصور ، أى : فى القرن الذى أوجدناه لذلك .
{ فَتَأْتُونَ أَفْوَاجاً } أى : فتخرجون من قبوركم جماعات جماعات ، وطوائف ، وطوائف دون أن يستطيع أحد منكمك التخلف عن الحضور إلى المكان الذى أعددناه لذلك .
( يوم ينفخ في الصور فتأتون أفواجا . وفتحت السماء فكانت أبوابا ، وسيرت الجبال فكانت سرابا ) . .
والصور : البوق . ونحن لا ندري عنه إلا اسمه . ولا نعلم إلا أنه سينفخ فيه . وليس لنا أن نشغل أنفسنا بكيفية ذلك . فهي لا تزيدنا إيمانا ولا تأثرا بالحادث . وقد صان الله طاقتنا عن أن تتبدد في البحث وراء هذا الغيب المكنون ، وأعطانا منه القدر الذي ينفعنا فلا نزيد ! إنما نحن نتصور النفخة الباعثة المجمعة التي يأتي بها الناس أفواجا . . نتصور هذا المشهد والخلائق التي توارت شخوصها جيلا بعد جيل ، وأخلت وجه الأرض لمن يأتي بعدها كي لا يضيق بهم وجه الأرض المحدود . . نتصور مشهد هذه الخلائق جميعا . . أفواجا . . مبعوثين قائمين آتين من كل فج إلى حيث يحشرون . ونتصور الأجداث المبعثرة وهذه الخلائق منها قائمة . ونتصور الجموع الحاشدة لا يعرف أولها آخرها ، ونتصور هذا الهول الذي تثيره تلك الحشود التي لم تتجمع قط في وقت واحد وفي ساعة واحدة إلا في هذا اليوم . . أين ? لا ندري . . ففي هذا الكون الذي نعرفه أحداث وأهوال جسام :
{ يَوْمَ يُنْفَخُ فِي الصُّورِ فَتَأْتُونَ أَفْوَاجًا } قال مجاهد : زُمَرًا{[29651]} . قال ابن جرير : يعني تأتي كل أمة مع رسولها ، كقوله : { يَوْمَ نَدْعُوا كُلَّ أُنَاسٍ بِإِمَامِهِمْ } [ الإسراء : 31 ] {[29652]} .
وقال البخاري : { يَوْمَ يُنْفَخُ فِي الصُّورِ فَتَأْتُونَ أَفْوَاجًا } حدثنا محمد ، حدثنا أبو معاوية ، عن الأعمش ، عن أبي صالح ، عن أبي هريرة قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : " ما بين النفختين أربعون " .
قالوا : أربعون يومًا ؟ قال : " أبيتُ " . قالوا : أربعون شهرًا ؟ قال : " أبيت " . قالوا : أربعون سنة ؟ قال : " أبيت " . قال : " ثم يُنزلُ الله من السماء ماء فينبتُونَ كما ينبتُ البقلُ ، ليس من الإنسان شيءٌ إلا يَبلَى ، إلا عظمًا واحدا ، وهو عَجْبُ الذنَب ، ومنه يُرَكَّبُ الخَلْقُ يومَ القيامة " {[29653]} .
وقوله : يَوْمَ يُنْفَخُ فِي الصّورِ تَرْجَم بيوم ينفخ ، عن يوم الفصل ، فكأنه قيل : يوم الفصل كان أجلاً لما وعدنا هؤلاء القوم ، يوم ينفخ في الصور . وقد بيّنت معنى الصور فيما مضى قبل ، وذكرت اختلاف أهل التأويل فيه ، فأغنى ذلك عن إعادته في هذا الموضع ، وهو قَرْن يُنْفَخ فيه عندنا ، كما :
حدثنا ابن حميد ، قال : حدثنا مهران ، عن سفيان ، عن سليمان التيميّ ، عن أسلم ، عن بشر بن شغاف ، عن عبد الله بن عمرو ، عن النبيّ صلى الله عليه وسلم ، قال : «الصّور : قَرْن » .
حدثنا بشر ، قال : حدثنا يزيد ، قال : حدثنا سعيد ، عن قتادة ، قوله : يَوْمَ يُنْفَخُ فِي الصّورِ والصّور : الخَلْق .
وقوله : فَتأْتُونَ أفْوَاجا يقول : فيجيئون زمرا زمرا ، وجماعة جماعة . وبنحو الذي قلنا في ذلك قال أهل التأويل . ذكر من قال ذلك :
حدثنا محمد بن عمرو ، قال : حدثنا أبو عاصم ، قال : حدثنا عيسى وحدثني الحارث ، قال : حدثنا الحسن ، قال : حدثنا ورقاء ، جميعا عن ابن أبي نجيح ، عن مجاهد ، قوله : أفْوَاجا قال : زُمَرا زُمَرا .
وإنما قيل : فَتأْتُونَ أفْوَاجا لأن كلّ أمة أرسل الله إليها رسولاً تأتي مع الذي أرسل إليها ، كما قال : يَوْمَ نَدْعُو كُلّ أُناسٍ بإمامِهِمْ .
وقوله : { يوم ينفخ } بدل من اليوم الأول ، و { الصور } : القرن الذي ينفخ فيه لبعث الناس . هذا قول الجمهور ، ويحتمل هذا الموضع أن يكون { الصور } فيه جمع صورة أي يوم يرد الله فيه الأرواح إلى الأبدان ، هذا قول بعضهم في { الصور } وجوزه أبو حاتم ، والأول أشهر وبه تظاهرت الاثار ، وهو ظاهر كتاب الله تعالى في قوله { ثم نفخ فيه أخرى }{[11569]} [ الزمر : 68 ] وقرأ أبو عياض «في الصوَر » بفتح الواو ، و «الأفواج » الجماعات يتلو بعضها بعضاً ، واحدها فوج .
و { يوم ينفخ في الصور } بدل من { يوم الفصل } .
وأضيف { يوم } إلى جملة { ينفخ في الصور } فانتصب { يوم } على الظرفية وفتحته فتحة إعراب لأنه أضيف إلى جملة أولها مُعرب وهو المضارع .
وفائدة هذا البدل حصول التفصيل لبعض أحوال الفصل وبعض أهوال يوم الفصل .
والصُّور : البوق ، وهو قرنُ ثَور فارغ الوسط مضيق بعض فراغه ويتخذ من الخشب أو من النحاس ، يَنفخ فيه النافخ فيخرج منه الصوت قوياً لنداء الناس إلى الاجتماع ، وأكثر ما ينادى به الجيش والجموع المنتشرة لتجتمع إلى عمل يريده الآمر بالنفخ .
وبُني { ينفخ } إلى النائب لعدم تعلق الغرض بمعرفة النافخ وإنما الغرض معرفة هذا الحادث العظيم وصورة حصوله .
والنفخ في الصور يجوز أن يكون تمثيلاً لهيئة دعاء الناس وبعثهم إلى الحشر بهيئة جمع الجيش المتفرق لراحة أو تتبع عدوَ فلا يلبثون أن يتجمّعوا عند مقر أميرهم .
ويجوز أن يكون نفخٌ يحصل به الإِحياء لا تُعلم صفته فإن أحوال الآخرة ليست على أحوال الدنيا ، فيكون النفخ هذا معبَّراً به عن أمر التكوين الخاص وهو تكوين الأجساد بعد بلاها وبَثّ أرواحها في بقاياها . وقد ورد في الآثار أن المَلك الموكّل بهذا النفخ هو إسرافيل ، وقد تقدم ذكر ذلك غير مرة .
وعطف { تأتون } بالفاء لإفادة تعقيب النفخ بمجيئهم إلى الحساب .
والإِتيان : الحضور بالمكان الذي يمْشي إليه الماشي فالإِتيان هو الحصول .
وحذف ما يحصل بين النفخ في الصور وبين حضورهم لزيادة الإِيذان بسرعة حصور الإِتيان حتّى كأنه يحصل عند النفخ في الصور وإن كان المعنى : ينفخ في الصور فتحيَوْن فتسيرون فتأتون .
و { أفواجاً } حال من ضمير { تأتون } ، والأفواج : جمع فوج بفتح الفاء وسكون الواو ، والفوج : الجماعة المتصاحبة من أناس مقسَّمين باختلاف الأغراض ، فتكون الأمم أفواجاً ، ويكون الصالحون وغيرهم أفواجاً قال تعالى : { كلما ألقي فيها فوج سألهم خزنتها } [ الملك : 8 ] الآية .
والمعنى : فتأتون مقسَّمين طوائف وجماعات ، وهذا التقسيم بحسب الأحوال كالمؤمنين والكافرين وكل أولئك أقسام ومراتب .