ثم بين - سبحانه - حالهم فيما لو كان أمر إنزال العذاب عليهم بيد النبى عليه الصلاة والسلام فقال : { قُل لَّوْ أَنَّ عِندِي } أى : قل لهم يا محمد لو أن فى قدرتى وإمكانى العذاب الذى تتعجلونه ، لقضى الأمر بينى وبينكم .
قال صاحب الكشاف أى : " لأهلكتكم عاجلا غضباً لربى . وامتعاضاً من تكذيبكم به ، ولتخلصت منكم سريعاً " .
وجملة { والله أَعْلَمُ بالظالمين } تذييل ، أى : والله أعلم منى ومن كل أحد بحكمة تأخير العذاب وبوقت نزوله ، لأنه العليم الخبير الذى عنده ما تستعجلون به .
والتعبير { بالظالمين } إظهار فى مقام ضمير الخطاب لإشعارهم بأنهم ظالمون فى شركهم وظالمون فى تكذيبهم لما جاء به النبى صلى الله عليه وسلم .
قال ابن كثير : فإن قيل : فكيف الجمع بين هذه الآية وبين ما ثبت فى الصحيحين عن عائشة أنها قالت لرسول الله صلى الله عليه وسلم : " يا رسول الله ، هل أتى عليك يوم كان أشد من يوم أحد ؟ فقال : " لقد لقيت من قومك ، وكان أشد ما لقيت منهم يوم العقبة ، إذ عرضت نفسى على ابن عبد ياليل بن عبد كلال فلم يجبنى إلى ما أردت ، فانطلقت وأنا مهموم على وجهى فلم أستفق إلا بقرن الثعالب فرفعت رأسى فإذا أنا بسحابة قد أظلتنى فنظرت فيها فإذا جبريل فنادانى فقال : إن الله قد سمع قول قومك لك ، وما ردوا به عليك وقد بعث إليك ملك الجبال لامره بما شئت فيهم ، قال فنادانى ملك الجبال وسلم على ثم قال يا محمد : إن الله قد سمع قول قومك لك . وأنا ملك الجبال وقد بعثنى ربك إليك لتأمرنى بأمرك فإن شئت أن أطبق عليهم الأخشبين ، فقلت له : بل أرجو أن يخرج الله من أصلابهم من يعبد الله وحده لا شريك له " .
فقد عرض عليه عذابهم واستئصالهم فاستأناهم وسأل لهم التأخير لعل الله أن يخرج من أصلابهم من لا يشرك به شيئاً .
قال ابن كثير : فالجواب على ذلك - والله أعلم - أن هذه الآية دلت على أنه لو كان إليه وقوع العذاب الذى يطلبونه حال طلبهم له لأوقعه بهم ، وأما الحديث فليس فيه أنهم سألوه وقوع العذاب بهم ، بل عرض عليه ملك الجبال أنه إن شاء أطبق عليهم الأخشبين وهما جبلا مكة يكتنفانها جنوبا وشمالا فلهذا استأنى بهم وسأل الرفق لهم " .
ثم يؤمر أن يلمس قلوبهم وعقولهم ويلفتها إلى دلالة قوية على أن هذا الأمر من عند الله ، ومتروك لمشيئة الله . فلو أن أمر الخوارق - بما فيها إنزال العذاب - في مقدوره - وهو بشر - ما استطاع أن يمسك نفسه عن الاستجابة لهم ، وهم يلحفون هذا الإلحاف . ولكن لأن الأمر بيد الله وحده ، فهو يحلم عليهم ؛ فلا يجيئهم بخارقة يتبعها العذاب المدمر ، إن هم كذبوا بها كما فعل بمن قبلهم : ( قل : لو أن عندي ما تستعجلون به لقضي الأمر بيني وبينكم ، والله أعلم بالظالمين ) . .
إن للطاقة البشرية حدودا في الصبر والحلم والإمهال . وما يحلم على البشر ويمهلهم - على عصيانهم وتمردهم وتبجحهم - إلا الله الحليم القوي العظيم . .
وصدق الله العظيم . . فإن الإنسان ليرى من بعض الخلق ما يضيق به الصدر ، وتبلغ منه الروح الحلقوم . . ثم ينظر فيجد الله - سبحانه - يسعهم في ملكه ، ويطعمهم ، ويسقيهم ، ويغدق أحيانا علهيم ، ويفتح عليهم أبواب كل شيء . . وما يجد الإنسان إلا أن يقول قوله أبي بكر - رضي الله عنه - والمشركون يضربونه الضرب المبرح الغليظ ، حتى ما يعرف له أنف من عين : " رب ما أحلمك ! رب ما أحلمك ! " . . فإنما هو حلم الله وحده . . وهو يستدرجهم من حيث لا يعلمون ! ( والله أعلم بالظالمين ) . .
فهو يمهلهم عن علم ، ويملي لهم عن حكمة ، ويحلم عليهم وهو قادر على أن يجيبهم إلى ما يقترحون ، ثم ينزل بهم العذاب الأليم . .
وقوله : { قُلْ لَوْ أَنَّ عِنْدِي مَا تَسْتَعْجِلُونَ بِهِ لَقُضِيَ الأمْرُ بَيْنِي وَبَيْنَكُمْ } أي : لو كان مرجع ما تستعجلون به إلي ، لأوقعت بكم ما تستحقونه من ذلك { وَاللَّهُ أَعْلَمُ بِالظَّالِمِينَ }
فإن قيل : فما الجمع بين هذه الآية ، وبين ما ثبت في الصحيحين من طريق ابن وَهْب ، عن يونس ، عن الزهري ، عن عُرْوَة ، عن عائشة ؛ أنها قالت لرسول الله صلى الله عليه وسلم : يا رسول الله ، هل أتى عليك يوم كان أشد من يوم أحد ؟ فقال : " لقد لقيتُ من قومك ، وكان أشد ما لقيت منه يوم العقبة ؛ إذ عرضت نفسي على ابن عبد يا ليل ابن عبد كُلال ، فلم يجبني إلى ما أردتُ ، فانطلقت وأنا مهموم على وجهي ، فلم أستفق إلا بقرن الثعالب ، فرفعت رأسي ، فإذا أنا بسحابة قد أظَلَّتْني ، فنظرت فإذا فيها جبريل ، عليه السلام ، فناداني ، فقال : إن الله قد سمع قول قومك لك ، وما ردوا عليك ، وقد بعث إليك مَلَك الجبال لتأمره بما شئت فيهم " . قال : " فناداني مَلَك الجبال وسلم علي ، ثم قال : يا محمد ، إن الله قد سمع قول قومك لك ، وقد بعثني ربك{[10727]} إليك ، لتأمرني بأمرك ، فما شئت ؟ إن شئت أطبقت عليهم الأخشبين " ، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : " بل أرجو أن يخرج الله من أصلابهم من يعبد الله ، لا{[10728]} يشرك به شيئا " ، وهذا لفظ مسلم{[10729]}
فقد عرض عليه عذابهم واستئصالهم ، فاستأنى بهم ، وسأل لهم التأخير ، لعل الله أن يخرج من أصلابهم من لا يشرك به شيئا . فما الجمع بين هذا ، وبين قوله تعالى في هذه الآية الكريمة : { قُلْ لَوْ أَنَّ عِنْدِي مَا تَسْتَعْجِلُونَ بِهِ لَقُضِيَ الأمْرُ بَيْنِي وَبَيْنَكُمْ وَاللَّهُ أَعْلَمُ بِالظَّالِمِينَ } ؟
فالجواب - والله أعلم - : أن هذه الآية دَلَّت على أنه لو كان إليه وقوعُ العذاب الذي يطلبونه حالَ طَلبهم له ، لأوقعه بهم . وأما الحديث ، فليس فيه أنهم سألوه وقوع العذاب بهم ، بل عرض عليه مَلَك الجبال أنه إن شاء أطبق عليهم الأخشبين - وهما جبلا مكة اللذان يكتنفانها جنوبا{[10730]} وشمالا - فلهذا استأنى بهم وسأل الرفق لهم{[10731]}
القول في تأويل قوله تعالى : { قُل لّوْ أَنّ عِندِي مَا تَسْتَعْجِلُونَ بِهِ لَقُضِيَ الأمْرُ بَيْنِي وَبَيْنَكُمْ وَاللّهُ أَعْلَمُ بِالظّالِمِينَ } . .
يقول تعالى ذكره لنبيه محمد صلى الله عليه وسلم : قل يا محمد لهؤلاء العادلين بربهم الاَلهة والأوثان المكذّبيك فيما جئتهم به ، السائليك أن تأتيهم بآية استعجالاً منهم بالعذاب : لو أن بيدي ما تستعجلون به من العذاب لقضي الأمر بيني وبينكم ففصل ذلك أسرع الفصل بتعجيلي لكم ما تسألوني من ذلك وتستعجلونه ، ولكن ذلك بيد الله الذي هو أعلم بوقت إرساله على الظالمين الذين يضعون عبادتهم التي لا تنبغي أن تكون إلاّ لله في غير موضعها فيعبدون من دونه الاَلهة والأصنام ، وهو أعلم بوقت الانتقام منهم وحال القضاء بيني وبينهم . وقد قيل : معنى قوله : لَقُضِيَ الأمْرُ بَيْنِي وَبَيْنَكُمْ الذبح للموت .
حدثنا ابن وكيع ، قال : حدثنا أبو خالد الأحمر ، عن ابن جريج ، قال : بلغني في قوله : لَقُضِيَ الأمْرُ قال : ذبح الموت .
وأحسب أن قائل هذا النوع نزع لقوله : وأنْذِرْهُمْ يَوْمَ الحَسْرَةِ إذْ قُضِيَ الأمْرُ وَهُمْ فِي غَفْلَةٍ فإنه رُوي عن النبيّ صلى الله عليه وسلم في ذلك قصة تدلّ على معنى ما قاله هذا القائل في قضاء الأمر ، وليس قوله : لَقُضِيَ الأمْرُ بَيْنِي وَبَيْنَكُمْ من ذلك في شيء ، وإنما هذا أمر من الله تعالى نبيه محمدا صلى الله عليه وسلم أن يقول لمن استعجله فصل القضاء بينه وبينهم من قوله بآية يأتيهم بها : لو أن العذاب والاَيات بيدي وعندي لعاجلتكم بالذي تسألوني من ذلك ، ولكنه بيد من هو أعلم بما يصلح خلقه مني ومن جميع خلقه .
وقوله تعالى : { قل لو أن عندي } الآية ، المعنى لو كان عندي الآيات المقترحة أو العذاب على التأويل الآخر لقضي الأمر أي لوقع الانفصال ، وتم التنازع لظهور الآية المقترحة أو لنزل العذاب بحسب التأويلين ، وحكى الزهراوي : أن المعنى لقامت القيامة ، ورواه النقاش عن عكرمة ، وقال بعض الناس : معنى { لقضي الأمر } أي لذبح الموت{[4939]} .
قال القاضي أبو محمد رضي الله عنه : وهذا قول ضعيف جداً لأن قائله سمع هذا المعنى في قوله تعالى : { وأنذرههم يوم الحسرة إذ قضي الأمر }{[4940]} وذبح الموت هنا لائق فنقله إلى هذا الموضع دون شبه ، وأسند الطبري هذا القول إلى ابن جريج غير مقيد بهذه السورة ، والظن بابن جريج أنه إنما فسر الذي في يوم الحسرة { والله أعلم بالظالمين } يتضمن الوعيد والتهديد .
استئناف بياني لأنّ قوله : { ما عندي ما تستعجلون به } [ الأنعام : 57 ] يثير سؤالاً في نفس السامع أن يقول : فلو كان بيدك إنزال العذاب بهم ماذا تصنع ، فأجيب بقوله : { لَو أنّ عندي ما تستعجلون به } الآية . وإذ قد كان قوله : { لو أنّ عندي } الخ استئنافاً بيانياً فالأمر بأن يقوله في قوة الاستئناف البياني لأنّ الكلام لمَّا بني كلّه على تلقين الرسول ما يقوله لهم فالسائل يتطلّب من الملقّن ماذا سيلقّن به رسوله إليهم . ومعنى { عندي ما تستعجلون به } تقدّم آنفاً ، أي لو كان في علمي حكمته وفي قدرتي فعله . وهذا كناية عن معنى لَسْتُ إلهاً ولكنَّني عبد أتَّبع ما يوحى إليَّ .
وقوله : { لقُضي الأمر بيني وبينكم } جواب { لو } . فمعنى { قضي } تمّ وانتهى . والأمر مراد به النزاع والخلاف . فالتعريف فيه للعهد ، وبُني { قضي الأمر } للمجهول لظهور أنّ قاضيَه هو مَن بيده ما يستعجلون به .
وتركيب ( قضي الأمر ) شاع فجرى مجرى المثل ، فحُذف الفاعل ليصلح التمثّل به في كلّ مقام ، ومنه قوله : { قُضي الأمر الذي فيه تستفتيان } [ يوسف : 41 ] وقوله : { ولولا كلمة الفصل لقُضيَ بينهم } [ الشورى : 21 ] وقوله : { وأنذرهم يومَ الحسرة إذ قُضي الأمر } [ مريم : 39 ] ؛ ولذلك إذا جاء في غير طريقة المثل يصرّح بفاعله كقوله تعالى : { وقَضيْنا إليه ذلك الأمر } [ الحجر : 66 ] .
وذلك القضاء يحتمل أموراً : منها أن يأتيهم بالآية المقتَرَحَة فيؤمنوا ، أوْ أن يغضَب فيهلكهم ، أو أن يصرف قلوبهم عن طلب ما لا يجيبهم إليه فيتوبوا ويرجعوا .
وجملة : { والله أعلم بالظالمين } تذييل ، أي الله أعلم منِّي ومن كلّ أحد بحكمة تأخير العذاب وبوقت نزوله ، لأنَّه العليم الخبير الذي عنده ما تستعجلون به . والتعبير { بالظالمين } إظهار في مقام ضمير الخطاب لإشعارهم بأنَّهم ظالمون في شركهم إذ اعتدوا على حقّ الله ، وظالمون في تكذيبهم إذ اعتدوا على حقّ الله ورسوله ، وظالمون في معاملتهم الرسول صلى الله عليه وسلم .
تفسير مقاتل بن سليمان 150 هـ :
{قل} لهم {لو أن عندي}: بيدي، {ما تستعجلون به} من العذاب، {لقضي الأمر}: أمر العذاب، {بيني وبينكم}، وليس ذلك بيدي، {والله أعلم بالظالمين}.
جامع البيان عن تأويل آي القرآن للطبري 310 هـ :
قل يا محمد لهؤلاء العادلين بربهم الآلهة والأوثان المكذّبيك فيما جئتهم به، السائليك أن تأتيهم بآية استعجالاً منهم بالعذاب: لو أن بيدي ما تستعجلون به من العذاب "لقضي الأمر بيني وبينكم "ففصل ذلك أسرع الفصل بتعجيلي لكم ما تسألوني من ذلك وتستعجلونه، ولكن ذلك بيد الله الذي هو أعلم بوقت إرساله على الظالمين الذين يضعون عبادتهم التي لا تنبغي أن تكون إلاّ لله في غير موضعها فيعبدون من دونه الآلهة والأصنام، وهو أعلم بوقت الانتقام منهم وحال القضاء بيني وبينهم. وقد قيل: معنى قوله: "لَقُضِيَ الأمْرُ بَيْنِي وَبَيْنَكُمْ" الذبح للموت.
وأحسب أن قائل هذا النوع نزع لقوله: "وأنْذِرْهُمْ يَوْمَ الحَسْرَةِ إذْ قُضِيَ الأمْرُ وَهُمْ فِي غَفْلَةٍ" فإنه رُوي عن النبيّ صلى الله عليه وسلم في ذلك قصة تدلّ على معنى ما قاله هذا القائل في قضاء الأمر، وليس قوله: "لَقُضِيَ الأمْرُ بَيْنِي وَبَيْنَكُمْ" من ذلك في شيء، وإنما هذا أمر من الله تعالى نبيه محمدا صلى الله عليه وسلم أن يقول لمن استعجله فصل القضاء بينه وبينهم من قوله بآية يأتيهم بها: لو أن العذاب والآيات بيدي وعندي لعاجلتكم بالذي تسألوني من ذلك، ولكنه بيد من هو أعلم بما يصلح خلقه مني ومن جميع خلقه.
تأويلات أهل السنة للماتريدي 333 هـ :
قوله تعالى: {قل لو أن عندي ما تستعجلون به لقضي الأمر بيني وبينكم}. عن ابن عباس رضي الله عنه [أنه قال:] {لو أن عندي ما تستعجلون به} من العذاب {لقضي الأمر بيني وبينكم} لأهلكتكم، وقيل {لقضي الأمر بيني وبينكم} أي لعجلته لكم بالقضاء في ما بيننا؛ يخبر عن رحمة الله وحلمه، أي لو كان بيدي لأرسلت عليكم، لكن الله بفضله ورحمته يؤخر ذلك عنكم... وقوله تعالى: {والله أعلم بالظالمين} أي عليم بمن الظالم منا، وهم كانوا ظلمة.
الكشاف عن حقائق التنزيل للزمخشري 538 هـ :
{لَّوْ أَنَّ عِندِي} أي في قدرتي وإمكاني {مَا تَسْتَعْجِلُونَ بِهِ} من العذاب {لَقُضِي الأمر بَيْنِي وَبَيْنَكُمْ}: لأهلكتكم عاجلاً غضباً لربي وامتعاضاً من تكذيبكم به. ولتخلصت منكم سريعاً. {والله أَعْلَمُ بالظالمين} وبما يجب في الحكمة من كنه عقابهم. وقيل {على بَيّنَةٍ مّن رَّبّي} على حجة من جهة ربي وهي القرآن {وَكَذَّبْتُم بِهِ} أي بالبينة. وذكر الضمير على تأويل البيان أو القرآن.
المحرر الوجيز في تفسير الكتاب العزيز لابن عطية 542 هـ :
{قل لو أن عندي...}، المعنى لو كان عندي الآيات المقترحة أو العذاب على التأويل الآخر لقضي الأمر أي لوقع الانفصال، وتم التنازع لظهور الآية المقترحة أو لنزل العذاب بحسب التأويلين، وحكى الزهراوي: أن المعنى لقامت القيامة، ورواه النقاش عن عكرمة.
تفسير القرآن العظيم لابن كثير 774 هـ :
قوله: {قُلْ لَوْ أَنَّ عِنْدِي مَا تَسْتَعْجِلُونَ بِهِ لَقُضِيَ الأمْرُ بَيْنِي وَبَيْنَكُمْ} أي: لو كان مرجع ما تستعجلون به إلي، لأوقعت بكم ما تستحقونه من ذلك {وَاللَّهُ أَعْلَمُ بِالظَّالِمِينَ}
فإن قيل: فما الجمع بين هذه الآية، وبين ما ثبت في الصحيحين من طريق ابن وَهْب، عن يونس، عن الزهري، عن عُرْوَة، عن عائشة؛ أنها قالت لرسول الله صلى الله عليه وسلم: يا رسول الله، هل أتى عليك يوم كان أشد من يوم أحد؟ فقال:"لقد لقيتُ من قومك، وكان أشد ما لقيت منه يوم العقبة؛ إذ عرضت نفسي على ابن عبد يا ليل ابن عبد كُلال، فلم يجبني إلى ما أردتُ، فانطلقت وأنا مهموم على وجهي، فلم أستفق إلا بقرن الثعالب، فرفعت رأسي، فإذا أنا بسحابة قد أظَلَّتْني، فنظرت فإذا فيها جبريل، عليه السلام، فناداني، فقال: إن الله قد سمع قول قومك لك، وما ردوا عليك، وقد بعث إليك مَلَك الجبال لتأمره بما شئت فيهم". قال: "فناداني مَلَك الجبال وسلم علي، ثم قال: يا محمد، إن الله قد سمع قول قومك لك، وقد بعثني ربك إليك، لتأمرني بأمرك، فما شئت؟ إن شئت أطبقت عليهم الأخشبين"، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "بل أرجو أن يخرج الله من أصلابهم من يعبد الله، لا يشرك به شيئا"، وهذا لفظ مسلم
فقد عرض عليه عذابهم واستئصالهم، فاستأنى بهم، وسأل لهم التأخير، لعل الله أن يخرج من أصلابهم من لا يشرك به شيئا. فما الجمع بين هذا، وبين قوله تعالى في هذه الآية الكريمة: {قُلْ لَوْ أَنَّ عِنْدِي مَا تَسْتَعْجِلُونَ بِهِ لَقُضِيَ الأمْرُ بَيْنِي وَبَيْنَكُمْ وَاللَّهُ أَعْلَمُ بِالظَّالِمِينَ}؟
فالجواب -والله أعلم -: أن هذه الآية دَلَّت على أنه لو كان إليه وقوعُ العذاب الذي يطلبونه حالَ طَلبهم له، لأوقعه بهم. وأما الحديث، فليس فيه أنهم سألوه وقوع العذاب بهم، بل عرض عليه مَلَك الجبال أنه إن شاء أطبق عليهم الأخشبين- وهما جبلا مكة اللذان يكتنفانها جنوبا وشمالا -فلهذا استأنى بهم وسأل الرفق لهم.
في ظلال القرآن لسيد قطب 1387 هـ :
إن للطاقة البشرية حدودا في الصبر والحلم والإمهال. وما يحلم على البشر ويمهلهم -على عصيانهم وتمردهم وتبجحهم- إلا الله الحليم القوي العظيم.. وصدق الله العظيم.. فإن الإنسان ليرى من بعض الخلق ما يضيق به الصدر، وتبلغ منه الروح الحلقوم.. ثم ينظر فيجد الله -سبحانه- يسعهم في ملكه، ويطعمهم، ويسقيهم، ويغدق أحيانا علهيم، ويفتح عليهم أبواب كل شيء.. وما يجد الإنسان إلا أن يقول قولة أبي بكر -رضي الله عنه- والمشركون يضربونه الضرب المبرح الغليظ، حتى ما يعرف له أنف من عين:"رب ما أحلمك! رب ما أحلمك!".. فإنما هو حلم الله وحده.. وهو يستدرجهم من حيث لا يعلمون!
التحرير والتنوير لابن عاشور 1393 هـ :
وقوله: {لقُضي الأمر بيني وبينكم} جواب {لو}. فمعنى {قضي} تمّ وانتهى. والأمر مراد به النزاع والخلاف. فالتعريف فيه للعهد، وبُني {قضي الأمر} للمجهول لظهور أنّ قاضيَه هو مَن بيده ما يستعجلون به. وتركيب (قضي الأمر) شاع فجرى مجرى المثل، فحُذف الفاعل ليصلح التمثّل به في كلّ مقام، ومنه قوله: {قُضي الأمر الذي فيه تستفتيان} [يوسف: 41] وقوله: {ولولا كلمة الفصل لقُضيَ بينهم} [الشورى: 21] وقوله: {وأنذرهم يومَ الحسرة إذ قُضي الأمر} [مريم: 39]؛ ولذلك إذا جاء في غير طريقة المثل يصرّح بفاعله كقوله تعالى: {وقَضيْنا إليه ذلك الأمر} [الحجر: 66].
هذا بلاغ من رسول الله لكل الخلق بأن أحداث الكون إنما يجريها الحق بإرادته وبمواقيت لا يعلمها إلا هو سبحانه، وهو – جل وعلا – الذي يأذن بها...
أي قل لهم أيها النبي: لو كان في قدرتي وإمكاني ما تستعجلون به من العذاب لانتهى الأمر بيني وبينكم، ولأهلكتهم بعقاب وعذاب عاجل؛ غضبا لربي وسخطا عليكم من تكذيبكم به – سبحانه – ولتخلصت منكم سريعا، لكن الأمر ليس لي، إنه إلى الله الحكيم الذي يعلم ما يستحقه الظالمون.