قوله تعالى : { وجعلني مباركا أين ما كنت } ، أي نفاعاً حيث ما توجهت . وقال مجاهد : معلماً للخير . وقال عطاء : أدعو إلى الله وإلى توحيده وعبادته . وقيل : مباركاً على من تبعني { وأوصاني بالصلاة والزكاة } ، أي : أمرني بهما . فإن قيل : لم يكن لعيسى مال . فكيف يؤمر بالزكاة ؟ قيل : معناه بالزكاة لو كان لي مال وقيل : بالاستكثار من الخير . { ما دمت حياً } .
وقوله : { وَجَعَلَنِي نَبِيّاً } أدعو الناس إلى عبادته وحده { وَجَعَلَنِي } أيضاً بجانب نبوتى { مُبَارَكاً } أى : كثير الخير والبركة { أَيْنَ مَا كُنتُ } أى : حينما حللت جعلنى مباركاً ، فأينما شرطية وجوابها محذوف لدلالة ما قبله عليه .
{ وَأَوْصَانِي بالصلاة والزكاة } أى : بالمحافظة على أدائهما { مَا دُمْتُ حَيّاً } فى هذه الدنيا .
وقوله وَجَعَلَنِي مُبارَكا اختلف أهل التأويل في معنى ذلك ، فقال بعضهم : معناه : وجعلني نفاعا . ذكر من قال ذلك :
حدثني سليمان بن عبد الرحمن بن حماد الطلحي ، قال : حدثنا العلاء ، عن عائشة امرأة ليث ، عن ليث ، عن مجاهد وَجَعَلَنِي مُبارَكا قال : نفاعا .
وقال آخرون : كانت بركته الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر . ذكر من قال ذلك :
حدثني سليمان بن عبد الجبار ، قال : حدثنا محمد بن يزيد بن خنيس المخزومي ، قال : سمعت وُهيب بن ابن الورد مولى بني مخزوم ، قال : لقي عالم عالما لما هو فوقه في العلم ، فقال له : يرحمك الله ، ما الذي أعلن من علمي ، قال : الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر ، فإنه دين الله الذي بعث به أنبياءه إلى عباده ، وقد اجتمع الفقهاء على قول الله وَجَعَلَنِي مُبارَكا أيْنَما كُنْتُ وقيل : ما بركته ؟ قال : الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر أينما كان .
وقال آخرون : معنى ذلك : جعلني معلّم الخير . ذكر من قال ذلك :
حدثني يونس بن عبد الأعلى ، قال : حدثنا سفيان في قوله وَجَعَلَنِي مُبارَكا أيْنَما كُنْتُ قال : معلما للخير .
حدثنا ابن حميد ، قال : حدثنا جرير ، عن ليث ، عن مجاهد ، قوله : وَجَعَلَنِي مُبارَكا أيْنَما كُنْتُ قال : معلما للخير حيثما كنت .
وقوله : وأوْصَانِي بالصّلاةِ وَالزّكاةِ يقول : وقضى أن يوصيني بالصلاة والزكاة ، يعني المحافظة على حدود الصلاة وإقامتها على ما فرضها عليّ . وفي الزكاة معنيان : أحدهما : زكاة الأموال أن يؤدّيها . والاَخر : تطهير الجسد من دنس الذنوب فيكون معناه : وأوصاني بترك الذنوب واجتناب المعاصي .
وقوله : ما دُمْتُ حَيّا يقول : ما كنت حيا في الدنيا موجودا ، وهذا يبين عن أن معنى الزكاة في هذا الموضع : تطهير البدن من الذنوب ، لأن الذي يوصف به عيسى صلوات الله وسلامه عليه أنه كان لا يدّخر شيئا لغد ، فتجب عليه زكاة المال ، إلا أن تكون الزكاة التي كانت فرضت عليه الصدقة بكلّ ما فضل عن قوته ، فيكون ذلك وجها صحيحا .
و { مباركاً } قال مجاهد معناه نفاعاً ، وقال سفيان معلم خير{[7953]} وقيل آمراً بمعروف ناهياً عن منكر ، وقال رجل لبعض العلماء ما الذي أعلن من علمي قال الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر فإنه دين الله الذي بعث به أنبياءه . وأسند النقاش عن الضحاك أنه قال { مباركاً } معناه قضاء للحوائج ( ع ) وقوله { مباركاً } يعم هذه الوجوه وغيرها . و { الصلاة والزكاة } قيل هما المشروعتان في البدن والمال ، وقيل زكاة الرؤوس في الفطر ، وقيل { الصلاة } الدعاء { والزكاة } التطهير من كل عيب ونقص ومعصية . وقرأ «دُمت » بضم الدال عاصم وجماعة ، وقرأ «دِمت » بكسرها أهل المدينة وابن كثير وأبو عمرو وجماعة .
المبارَك : الذي تُقارن البركةُ أحوالَه في أعماله ومحاورته ونحو ذلك ، لأن المبارك اسم مفعول من باركه ، إذا جعله ذا بركة ، أو من بَارك فيه ، إذا جعل البركة معه .
ذلك أن الله أرسله برحمة لبني إسرائيل ليُحلّ لهم بعض الذي حُرم عليهم وليدعوَهم إلى مكارم الأخلاق بعد أن قست قلوبهم وغيروا من دينهم ، فهذه أعظم بركة تقارنه . ومن بركته أن جعل الله حُلوله في المكان سبباً لخير أهل تلك البقعة من خصبها واهتداء أهلها وتوفيقهم إلى الخير ، ولذلك كان إذا لقيه الجهلة والقُسَاة والمفسدون انقلبوا صالحين وانفتحت قلوبهم للإيمان والحكمة ، ولذلك ترى أكثر الحواريين كانوا من عامة الأميين من صيادين وعشّارين فصاروا دُعاة هدى وفاضت ألسنتهم بالحكمة .
وبهذا يظهر أن كونه مباركاً أعم من كونه نبيئاً عموماً وجهياً ، فلم يكن في قوله { وجعلنبي نبيئاً } غُنية عن قوله { وجعلني مُبَاركاً } .
والتعميم الذي في قوله { أين مَا كُنتُ } تعميم للأمكنة ، أي لا تقتصر بركته على كونه في الهيكل بالمقدس أو في مجمع أهل بلده ، بل هو حيثما حلّ تحلّ معه البركة .
والوصاية : الأمر المؤكد بعمل مستقبل ، أي قدّر وصيتي بالصلاة والزكاة ، أي أن يأمرني بهما أمراً مؤكداً مستمراً ، فاستعمال صيغة المضي في { أوصاني } مثل استعمالها في قوله { ءاتَانِي الكِتَابَ } .
والزّكاة : الصدقة . والمراد : أن يصلّي ويزكّي . وهذا أمر خاص به كما أمر نبيئنا صلى الله عليه وسلم بقيام الليل ، وقرينة الخصوص قوله { مَا دُمْتُ حَيّاً } لدلالته على استغراق مدة حياته بإيقاع الصلاة والصدقة ، أي أن يصلي ويتصدّق في أوقات التمكن من ذلك ، أي غير أوقات الدعوة أو الضرورات .
فالاستغراق المستفاد من قوله { مَا دُمْتُ حَيّاً } استغراقٌ عرفي مراد به الكثرة ؛ وليس المراد الصلاة والصدقة المفروضتين على أمته ، لأن سياق الكلام في أوصاف تميّز بها عيسى عليه السلام ، ولأنه لم يأت بشرع صلاة زائدة على ما شرع في التوراة .
مشروع تقني يهدف لتوفير قالب تقني أنيق وحديث يليق بالمحتوى الثري لمشروع الجامع التاريخي لتفسير القرآن الكريم الصادر عن مؤسسة البحوث والدراسات العلمية (مبدع)، وقد تم التركيز على توفير تصفح سلس وسهل للمحتوى ومتوافق تماما مع أجهزة الجوال، كما تم عمل بعض المميزات الفريدة كميزة التلوين التلقائي للنصوص والتي تم بناء خوارزمية برمجية مخصصة لهذا الغرض.
تم الحصول على المحتوى من برنامج الجامع التاريخي لتفسير القرآن الكريم.
المشروع لا يتبع أي جهة رسمية أو غير رسمية، إنما هي جهود فردية ومبادرات شخصية لبعض الخبراء في مجال البرمجيات.
المشروع لازال في بداياته وننوي إن شاء الله العمل على تطويره بشكل مستمر وسنضع خطة تطوير توضح المميزات التي يجري العمل عليها إن شاء الله.
الدعاء للقائمين عليه، نشر الموقع والتعريف به، إرسال الملاحظات والمقترحات.