اللباب في علوم الكتاب لابن عادل - ابن عادل  
{وَجَعَلَنِي مُبَارَكًا أَيۡنَ مَا كُنتُ وَأَوۡصَٰنِي بِٱلصَّلَوٰةِ وَٱلزَّكَوٰةِ مَا دُمۡتُ حَيّٗا} (31)

ثم قال : { وَجَعَلَنِي مُبَارَكاً أَيْنَ مَا كُنتُ } .

وقال مجاهدٌ -رضي الله عنه- معلِّماً للخَيْر{[21593]} .

وقال عطاءٌ : أدعُو إلى الله ، وإلى توحيده{[21594]} وعبادته .

وقيل : مُباركاً على من اتَّبعني .

روى قتادةُ أنَّ امرأةً رأتهُ ، وهو يحيى الموتى ، ويُبْرِئ الأكمه والأبرص ، فقالت : طُوبَى لبطن حملك ، وثدي أرضعت به ، فقال عيسى مجيباً لها : طُوبَى لمن تلا كتابَ اللهِ واتبعَ ما فِيهِ ، وعملَ بِهِ ، ولمْ يَكُنْ جبَّاراً شَقِيَّاً .

قوله تعالى : { أَيْنَ مَا كُنتُ } يدلُّ على أن حاله لم يتغيَّر كما قيل : إنَّه عاد إلى حالِ الصِّغَر ، وزوالِ التَّكْلِيف .

قوله : { أين ما كنت } : هذه شرطيةٌ ، وجوابها : إمَّا محذوفٌ مدلولٌ عليه بما تقدَّم : أي : أينما كُنْتُ ، جعلني مباركاً ، وإمَّا متقدِّمٌ عند من يرى ذلك ، ولا جائزٌ أن تكون استفهاميةٌ ؛ لأنَّه يلومُ أن يعمل فيها ما قبلها ، وأسماءُ الاستفهامِ لها صدرُ الكلامِ ، فيتعيَّنُ أن تكون شرطيةٌ ؛ لأنها منحصرةٌ في هذين المعنيين .

ثم قال : { وَأَوْصَانِي بالصلاة والزكاة } أي ، أمرني بهما .

فإن قيل : لم يكُن لعيسى مالٌ ، فكيف يؤمرُ بالزَّكاة ؟ قيل : معناه : بالزَّكاة ، لو كان له مالٌ .

فإن قيل : كيف يُؤمَرُ بالصَّلاة والزَّكاة ، مع أنَّه كان طفلاً صغيراً ، والقلمُ مرفوعٌ عن الصَّغير ؛ لقوله- صلوات الله عليه وسلامه- : " رُفِعَ القَلَمُ عَنْ ثَلاثٍ " {[21595]} الحديث .

فالجوابُ من وجهين{[21596]} :

الأول : أنَّ قوله : { وَأَوْصَانِي بالصلاة والزكاة } لا يدلُّ على أنَّه تعالى أوصاهُ بأدائهما في الحالِ ، بل بعد البُلُوغِ ، فيكونُ المعنى على أنَّه تعالى أوصَانِي بأدائهما في وَقْت وجوبهما عليَّ ، وهو وقتُ البُلُوغِ .

الثاني : لعلَّ الله تعالى ، لمَّا انفصل عيسى عن أمِّه- صلوات الله عليه- صيَّرهُ بالغاً ، عاقلاً ، تامَّ الخلقة ؛ ويدلُّ عيه قوله تعالى : { إِنَّ مَثَلَ عيسى عِندَ الله كَمَثَلِ آدَمَ } [ آل عمران : 59 ] فكما أنَّه تعالى خلق آدم- صلواتُ الله عليه وسلامه- تامَّا كاملاً دفعةً ، فكذا القولُ في عيسى صلوات الله عليه وهذا أقربُ إلى ظاهر اللَّفْظ ، لقوله : { مَا دُمْتُ حَيّاً } فإنَّه يفيدُ أنَّ هذا التَّكليف متوجِّه عليه في جميع زمانِ حياته ، ولكن لقائل أن يقول : لو كان الأمرُ كذلك ، لكان القومُ حين رأوهُ ، فقد رأوه شخصاً كامل الأعضاء ، تامَّ الخِلْقَة ، وصدورُ الكلام عن مثل هذا الشخص لا يكونُ عجباً ؛ فكان ينبغي ألاَّ يَعْجَبُوا .

والجوابُ{[21597]} أن يقال : إنَّه تعالى جعله مع صِغَرِ جثَّته قويَّ التركيب ، كامِلَ العَقْلِ ، بحيثُ كان يمكنه أداءُ الصَّلاة والزَّكاة ، والآيةُ دالَّة على أنَّ تكليفه لم يتغيَّر حين كان في الأرض ، وحين رُفع إلى السَّماء ، وحين ينزل مرَّة أخرى ؛ لقوله { مَا دُمْتُ حَيّاً } .

قوله تعالى : { مَا دُمْتُ حَيّاً } " ما " مصدريةٌ ظرفيةٌ ، وتقدمُ " ما " على " دام " شرطٌ في إعمالها ، والتقدير : مُدَّة دوامِي حيَّاً ، ونقل ابن عطيَّة{[21598]} عن عاصم ، وجماعةٍ : أنهم قرءُوا " دُمْتُ " بضم الدَّالِ ، وعن ابن كثيرٍ ، وأبي عمرو ، وأهْلِ المدينة : " دِمْتُ " بكسرها ، وهذا لم نره لغيره ، وليس هو موجوداً في كتب القراءات المتواترة والشاذَّة الموجودة الآن ، فيجوزُ أن يكون اطَّلَعَ عليه في مصنف غريبِ ، ولا شكَّ أنَّ في " دَامَ " لغتين ، يقالُ : دمت تدوُمُ ، وهي اللغةُ الغاليةُ ، ودمتَ تدامُ ؛ كخِفْتَ تخَافُ ، وتقدم نظيرُ هذا في مَاتَ يَمُوتُ ومَاتَ يَمَاتُ .


[21593]:أخرجه الطبري في "تفسيره" (8/339) عن مجاهد وذكره السيوطي في "الدر المنثور" (4/487) وعزاه إلى عبد الله بن أحمد في "زوائد الزهد" وابن المنذر وابن أبي حاتم.
[21594]:ذكره البغوي في "تفسيره" (34/195) عن عطاء.
[21595]:تقدم.
[21596]:ينظر: الفخر الرازي 21/183 -184.
[21597]:ينظر: الفخرالرازي 21/184.
[21598]:ينظر: البحر 6/177، الدر المصون 4/504.