ثم قال : { وَجَعَلَنِي مُبَارَكاً أَيْنَ مَا كُنتُ } .
وقال مجاهدٌ -رضي الله عنه- معلِّماً للخَيْر{[21593]} .
وقال عطاءٌ : أدعُو إلى الله ، وإلى توحيده{[21594]} وعبادته .
وقيل : مُباركاً على من اتَّبعني .
روى قتادةُ أنَّ امرأةً رأتهُ ، وهو يحيى الموتى ، ويُبْرِئ الأكمه والأبرص ، فقالت : طُوبَى لبطن حملك ، وثدي أرضعت به ، فقال عيسى مجيباً لها : طُوبَى لمن تلا كتابَ اللهِ واتبعَ ما فِيهِ ، وعملَ بِهِ ، ولمْ يَكُنْ جبَّاراً شَقِيَّاً .
قوله تعالى : { أَيْنَ مَا كُنتُ } يدلُّ على أن حاله لم يتغيَّر كما قيل : إنَّه عاد إلى حالِ الصِّغَر ، وزوالِ التَّكْلِيف .
قوله : { أين ما كنت } : هذه شرطيةٌ ، وجوابها : إمَّا محذوفٌ مدلولٌ عليه بما تقدَّم : أي : أينما كُنْتُ ، جعلني مباركاً ، وإمَّا متقدِّمٌ عند من يرى ذلك ، ولا جائزٌ أن تكون استفهاميةٌ ؛ لأنَّه يلومُ أن يعمل فيها ما قبلها ، وأسماءُ الاستفهامِ لها صدرُ الكلامِ ، فيتعيَّنُ أن تكون شرطيةٌ ؛ لأنها منحصرةٌ في هذين المعنيين .
ثم قال : { وَأَوْصَانِي بالصلاة والزكاة } أي ، أمرني بهما .
فإن قيل : لم يكُن لعيسى مالٌ ، فكيف يؤمرُ بالزَّكاة ؟ قيل : معناه : بالزَّكاة ، لو كان له مالٌ .
فإن قيل : كيف يُؤمَرُ بالصَّلاة والزَّكاة ، مع أنَّه كان طفلاً صغيراً ، والقلمُ مرفوعٌ عن الصَّغير ؛ لقوله- صلوات الله عليه وسلامه- : " رُفِعَ القَلَمُ عَنْ ثَلاثٍ " {[21595]} الحديث .
فالجوابُ من وجهين{[21596]} :
الأول : أنَّ قوله : { وَأَوْصَانِي بالصلاة والزكاة } لا يدلُّ على أنَّه تعالى أوصاهُ بأدائهما في الحالِ ، بل بعد البُلُوغِ ، فيكونُ المعنى على أنَّه تعالى أوصَانِي بأدائهما في وَقْت وجوبهما عليَّ ، وهو وقتُ البُلُوغِ .
الثاني : لعلَّ الله تعالى ، لمَّا انفصل عيسى عن أمِّه- صلوات الله عليه- صيَّرهُ بالغاً ، عاقلاً ، تامَّ الخلقة ؛ ويدلُّ عيه قوله تعالى : { إِنَّ مَثَلَ عيسى عِندَ الله كَمَثَلِ آدَمَ } [ آل عمران : 59 ] فكما أنَّه تعالى خلق آدم- صلواتُ الله عليه وسلامه- تامَّا كاملاً دفعةً ، فكذا القولُ في عيسى صلوات الله عليه وهذا أقربُ إلى ظاهر اللَّفْظ ، لقوله : { مَا دُمْتُ حَيّاً } فإنَّه يفيدُ أنَّ هذا التَّكليف متوجِّه عليه في جميع زمانِ حياته ، ولكن لقائل أن يقول : لو كان الأمرُ كذلك ، لكان القومُ حين رأوهُ ، فقد رأوه شخصاً كامل الأعضاء ، تامَّ الخِلْقَة ، وصدورُ الكلام عن مثل هذا الشخص لا يكونُ عجباً ؛ فكان ينبغي ألاَّ يَعْجَبُوا .
والجوابُ{[21597]} أن يقال : إنَّه تعالى جعله مع صِغَرِ جثَّته قويَّ التركيب ، كامِلَ العَقْلِ ، بحيثُ كان يمكنه أداءُ الصَّلاة والزَّكاة ، والآيةُ دالَّة على أنَّ تكليفه لم يتغيَّر حين كان في الأرض ، وحين رُفع إلى السَّماء ، وحين ينزل مرَّة أخرى ؛ لقوله { مَا دُمْتُ حَيّاً } .
قوله تعالى : { مَا دُمْتُ حَيّاً } " ما " مصدريةٌ ظرفيةٌ ، وتقدمُ " ما " على " دام " شرطٌ في إعمالها ، والتقدير : مُدَّة دوامِي حيَّاً ، ونقل ابن عطيَّة{[21598]} عن عاصم ، وجماعةٍ : أنهم قرءُوا " دُمْتُ " بضم الدَّالِ ، وعن ابن كثيرٍ ، وأبي عمرو ، وأهْلِ المدينة : " دِمْتُ " بكسرها ، وهذا لم نره لغيره ، وليس هو موجوداً في كتب القراءات المتواترة والشاذَّة الموجودة الآن ، فيجوزُ أن يكون اطَّلَعَ عليه في مصنف غريبِ ، ولا شكَّ أنَّ في " دَامَ " لغتين ، يقالُ : دمت تدوُمُ ، وهي اللغةُ الغاليةُ ، ودمتَ تدامُ ؛ كخِفْتَ تخَافُ ، وتقدم نظيرُ هذا في مَاتَ يَمُوتُ ومَاتَ يَمَاتُ .
مشروع تقني يهدف لتوفير قالب تقني أنيق وحديث يليق بالمحتوى الثري لمشروع الجامع التاريخي لتفسير القرآن الكريم الصادر عن مؤسسة البحوث والدراسات العلمية (مبدع)، وقد تم التركيز على توفير تصفح سلس وسهل للمحتوى ومتوافق تماما مع أجهزة الجوال، كما تم عمل بعض المميزات الفريدة كميزة التلوين التلقائي للنصوص والتي تم بناء خوارزمية برمجية مخصصة لهذا الغرض.
تم الحصول على المحتوى من برنامج الجامع التاريخي لتفسير القرآن الكريم.
المشروع لا يتبع أي جهة رسمية أو غير رسمية، إنما هي جهود فردية ومبادرات شخصية لبعض الخبراء في مجال البرمجيات.
المشروع لازال في بداياته وننوي إن شاء الله العمل على تطويره بشكل مستمر وسنضع خطة تطوير توضح المميزات التي يجري العمل عليها إن شاء الله.
الدعاء للقائمين عليه، نشر الموقع والتعريف به، إرسال الملاحظات والمقترحات.