السراج المنير في تفسير القرآن الكريم للشربيني - الشربيني  
{وَجَعَلَنِي مُبَارَكًا أَيۡنَ مَا كُنتُ وَأَوۡصَٰنِي بِٱلصَّلَوٰةِ وَٱلزَّكَوٰةِ مَا دُمۡتُ حَيّٗا} (31)

الصفة الرابعة قوله : { وجعلني مباركاً } بأنواع البركات { أينما } أي في أي مكان { كنت } وذكروا في تفسير المبارك وجوها :

أحدها : أنّ البركة في اللغة هي الثبات وأصله من بروك البعير ومعناه وجعلني ثابتاً على دين الله تعالى مستمرّاً عليه .

ثانيها : إنما كان مباركاً لأنه كان يعلم الناس دينهم ويدعوهم إلى طريق الحق فإن ضلوا فمن قبل أنفسهم لا من قبله ، روى الحسن عن النبيّ صلى الله عليه وسلم أنه قال : " سلمت أم عيسى عيسى إلى الكتاب فقالت للمعلم أدفعه إليك على أن لا تضربه فقال له المعلم اكتب فقال : أيّ شيء أكتب ؟ فقال : اكتب أبجد ، فرفع عيسى عليه السلام رأسه فقال هل تدري ما أبجد ؟ فعلاه بالدرّة ليضربه فقال : يا مؤّدب لا تضربني إن كنت لا تدري فاسألني فإنني أعلمك ؛ الألف من آلاء الله والباء من بهائه والجيم من جماله والدال من أداء الحق إلى الله تعالى " .

ثالثها : البركة الزيادة والعلوّ فكأنه قال : جعلني في جميع الأحوال منجحاً مفلحاً لأني ما دمت أتقي الله في الدنيا أكون مستعلياً على الغير بالحجة فإذا جاء الوقت المعلوم أكرمني الله تعالى بالرفع إلى السماء .

رابعها : مباركاً على الناس من حيث يحصل بسبب دعائه إحياء الموتى وإبراء الأكمه والأبرص ، وعن قتادة أنّ امرأة رأته وهو يحيي الموتى ويبرئ الأكمه والأبرص فقالت طوبى لبطن حملك وثدي أرضعت به فقال عيسى مجيباً لها : طوبى لمن تلا كتاب الله واتبع ما فيه ولم يكن جباراً شقياً .

تنبيه : قوله : { أينما كنت } يدل على أنّ حاله لم يتغير كما قيل أنه عاد إلى حال الصغر وزوال التكليف .

الصفة الخامسة قوله : { وأوصاني بالصلاة } له طهرة للنفس { والزكاة } طهرة للمال فعلاً في نفسي وأمراً لغيري { ما دمت حيا } ليكون ذلك حجة على من ادّعى أنه إله لأنه لا شبهة في أنّ من يصلي إلى إله ليس بإلاه .

فإن قيل : كيف يؤمر بالصلاة والزكاة مع أنه كان طفلاً والقلم مرفوع عن الصغير لقوله صلى الله عليه وسلم «رفع القلم عن ثلاث » الحديث . أجيب بوجهين : الأوّل : أنّ ذلك لا يدل على أنه تعالى أوصاه بأدائهما في الحال بل بعد البلوغ فيكون المعنى أوصاني بأدائهما في وقت وجوبهما عليّ وهو وقت البلوغ ، الثاني : أنّ عيسى لما انفصل صيره الله بالغاً عاقلاً تامّ الخلقة ويدل عليه قوله تعالى : { إنّ مثل عيسى عند الله كمثل آدم } [ آل عمران ، 59 ] فكما أنه تعالى خلقه آدم تاماً كاملاً دفعة فكذا القول في عيس عليه السلام ، قال الرازي : وهذا أقرب إلى ظاهر اللفظ لقوله : { ما دمت حياً } فهذا يفيد أن هذا التكليف متوجه عليه جميع زمان حياته .

فإن قيل : لو كان الأمر كذلك لكان القوم حين رأوه رأوا شخصاً كامل الأعضاء تام الخلقة وصدور الكلام عن مثل هذا الشخص لا يكون عجباً فكان ينبغي أن لا يتعجبوا .

أجيب : بأنه تعالى جعله مع صغر جثته قويّ التركيب كامل العقل بحيث كان يمكنه أداء الصلاة والزكاة والآية دالة على أن تكليفه لم يتغير حين كان في الأرض وحين رفع إلى السماء وحين ينزل .