قوله تعالى : { ولولا إذ سمعتموه قلتم ما يكون لنا أن نتكلم بهذا سبحانك } هذا اللفظ ها هنا معناه التعجب ، { هذا بهتان عظيم } أي : كذب عظيم يبهت ويتحير من عظمته . وفي بعض الأخبار أن أم أيوب قالت لأبي أيوب الأنصاري : أما بلغك ما يقول الناس في عائشة ؟ فقال أبو أيوب : سبحانك هذا بهتان عظيم ، فنزلت الآية على وفق قوله .
ثم يوجههم - سبحانه - مرة أخرى إلى ما كان يجب عليهم أن يفعلوه فى مثل هذه الأحوال فيقول : { ولولا إِذْ سَمِعْتُمُوهُ قُلْتُمْ مَّا يَكُونُ لَنَآ أَن نَّتَكَلَّمَ بهذا سُبْحَانَكَ هذا بُهْتَانٌ عَظِيمٌ } .
وأصل معنى " سبحانك " تنزيه الله - تعالى - عن كل نقص . ثم شاع استعماله فى كل أمر بتعجب منه . وهذا المعنى هو المراد هنا .
والبهتان : هو الكذب الذى يبهت ويحير سامعه لشناعته وفظاعته ، يقال : بهت فلان فلانا إذا قال عليه مالم يقله وما لم يفعله .
أى : وهلا وقت أن سمعتم - أيها المؤمنون - حديث الإفك ممن افتراه واخترعه ، قلتم له على سبيل الزجر والردع والإفحام : ما يكون لنا أن نتكلم بهذا . أى : ما يصح منا إطلاقا أن نتكلم بهذا الحديث البالغ أقصى الدركات فى الكذب والافتراء .
وقلتم له أيضا - على سبيل التعجب من شناعة هذا الخبر : " سبحانك " ، أى : نتعجب يا ربنا من شناعة ما سمعناه ، فإن ما سمعناه عن أم المؤمنين عائشة كذب يبهت ويدهش من يسمعه ، وهو فى الشناعة لا تحيط بوصفه عبارة .
وهكذا يؤدب الله - تعالى - عباده المؤمنين بالأدب السامى ، حيث يأمرهم فى مثل هذه الأحوال ، أن ينزهوا أسماعهم عن مجرد الاستماع إلى ما يسىء إلى المؤمنين ، وأن يتحرجوا من مجرد النطق بمثل حديث الإفك ، وأن يستنكروا ذلك على من يتلفظ به .
ولقد كان ينبغي أن تجفل القلوب من مجرد سماعه ، وأن تتحرج من مجرد النطق به ، وأن تنكر أن يكون هذا موضوعا للحديث ؛ وأن تتوجه إلى الله تنزهه عن أن يدع نبيه لمثل هذا ؛ وأن تقذف بهذا الإفك بعيدا عن ذلك الجو الطاهر الكريم :
( ولولا إذ سمعتموه قلتم : ما يكون لنا أن نتكلم بهذا . سبحانك ! هذا بهتان عظيم ) . .
القول في تأويل قوله تعالى : { وَلَوْلآ إِذْ سَمِعْتُمُوهُ قُلْتُمْ مّا يَكُونُ لَنَآ أَن نّتَكَلّمَ بِهََذَا سُبْحَانَكَ هََذَا بُهْتَانٌ عَظِيمٌ } .
يقول تعالى ذكره : فَلَوْلا أيها الخائضون في الإفك الذي جاءت به عصبة منكم ، إذْ سَمِعْتُمُوهُ ممن جاء به ، قلتُمْ ما يحلّ لنا أن نتكلم بهذا ، وما ينبغي لنا أن نتفوّه به سُبْحَانَكَ هَذَا بُهْتانٌ عَظِيمٌ ، تنزيها لك يا ربّ وبراءة إليك مما جاء به هؤلاء هَذَا بُهْتانٌ عَظِيمٌ يقول : هذا القول بهتان عظيم .
{ ولولا إذ سمعتموه قلتم ما يكون لنا } ما ينبغي وما يصح لنا . { أن نتكلم بهذا } يجوز أن تكون الإشارة إلى القول المخصوص وأن تكون إلى نوعه ، فإن قذف آحاد الناس محرم شرعا فضلا عن تعرض الصديقة ابنة الصديق حرمة رسول الله صلى الله عليه وسلم . { سبحانك } تعجب من ذلك الإفك أو ممن يقول ذلك ، وأصله أن يذكر عند كل متعجب ، أو تنزيها لله تعالى من أن يصعب عليه مثله ثم كثر فاستعمل لك متعجب ، أو تنزيه لله تعالى من أن تكون حرمة نبيه فاجرة فإن فجورها ينفر عنه ويخل بمقصود الزواج بخلاف كفرها فيكون تقريرا لما قبله وتمهيدا لقوله : { هذا بهتان عظيم } لعظمة المبهوت عليه فإن حقارة الذنوب وعظمها باعتبار متعلقاتها .
وقوله تعالى : { ولولا إذ سمعتموه } إلى { حكيم } ، عتاب لجميع المؤمنين أي كان ينبغي عليكم أن تنكروه ولا يتعاطاه بعضكم من بعض على جهة الحكاية والنقل وأن تنزهوا الله تعالى عن أن يقع هذا من زوج نبيه عليه السلام وأن تحكموا على هذه المقالة بأنها { بهتان } ، وحقيقة البهتان أَن يقال في الإنسان ما ليس فيه والغيبة أن يقال في الإنسان ما فيه .
عطف على جملة : { لولا إذ سمعتموه ظن المؤمنون } [ النور : 12 ] إلخ . وأعيدت ( لولا ) وشرطها وجوابها لزيادة الاهتمام بالجملة فلذلك لم يعطف { قلتم } الذي في هذه الجملة على { قلتم } الذي في الجملة قبلها لقصد أن يكون صريحاً في عطف الجمل .
وتقديم الظرف وهو { إذ سمعتموه } على عامله وهو { قلتم ما يكون لنا } كتقديم نظيره في قوله : { لولا إذ سمعتموه ظن المؤمنون } [ النور : 12 ] إلخ وهو الاهتمام بمدلول الظرف .
وضمير { سمعتموه } عائد إلى الإفك مثل الضمائر المماثلة له في الآيات السابقة .
واسم الإشارة عائد إلى الإفك بما يشتمل عليه من الاختلاق الذي يتحدث به المنافقون والضعفاء ، فالإشارة إلى ما هو حاضر في كل مجلس من مجالس سماع الإفك .
ومعنى { قلتم ما يكون لنا } أن يقولوا للذين أخبروهم بهذا الخبر الآفك . أي قلتم لهم زجراً وموعظة .
وضمير { لنا } مراد به القائلون والمخاطبون . فأما المخاطبون فلأنهم تكلموا به حين حدثوهم بخبر الإفك . والمعنى : ما يكون لكم أن تتكلموا بهذا ، وأما المتكلمون فلتنزههم من أن يجري ذلك البهتان على ألسنتهم .
وإنما قال : { ما يكون لنا أن نتكلم بهذا } دون أن يقول : ليس لنا أن نتكلم بهذا ، للتنبيه على أن الكلام في هذا وكينونة الخوض فيه حقيق بالانتفاء . وذلك أن قولك : ما يكون لي أن أفعل ، أشد في نفي الفعل عنك من قولك : ليس لي أن أفعل . ومنه قوله تعالى حكاية عن عيسى عليه السلام { قال سبحانك ما يكون لي أن أقول ما ليس لي بحق } [ المائدة : 116 ] .
وهذا مسوق للتوبيخ على تناقلهم الخبر الكاذب وكان الشأن أن يقول القائل في نفسه : ما يكون لنا أن نتكلم بهذا ، ويقول ذلك لمن يجالسه ويسمعه منه . فهذا زيادة على التوبيخ على السكوت عليه في قوله تعالى : { وقالوا هذا إفك مبين } [ النور : 12 ] .
و { سبحانك } جملة إنشاء وقعت معترضة بين جملة : { ما يكون لنا أن نتكلم بهذا } وجملة : { هذا بهتان عظيم } . و { سبحانك } مصدر وقع بدلاً من فعله ، أي نسبح سبحاناً لك . وإضافته إلى ضمير الخطاب من إضافة المصدر إلى مفعوله ، وهو هنا مستعار للتعجب كما تقدم عند قوله تعالى : { سبحان الذي أسرى بعبده ليلاً } [ الإسراء : 1 ] وقوله : { وسبحان الله وما أنا من المشركين } في سورة يوسف ( 108 ) . والأحسن أن يكون هنا لإعلان المتكلم البراءة من شيء بتمثيل حال نفسه بحال من يشهد الله على ما يقول فيبتدىء بخطاب الله بتعظيمه ثم بقول : { هذا بهتان عظيم } تبرّئاً من لازم ذلك وهو مبالغة في إنكار الشيء والتعجب من وقوعه .
وتوجيه الخطاب إلى الله في قوله : { سبحانك } للإشعار بأن الله غاضب على من يخوض في ذلك فعليهم أن يتوجهوا لله بالتوبة منه لمن خاضوا فيه وبالاحتراز من المشاركة فيه لمن لم يخوضوا فيه .
وجملة : { هذا بهتان عظيم } تعليل لجملة : { ما يكون لنا أن نتكلم بهذا } فهي داخلة في توبيخ المقول لهم .
ووصف البهتان بأنه { عظيم } معناه أنه عظيم في وقوعه ، أي بالغ في كنه البهتان مبلغاً قوياً .
وإنما كان عظيماً لأنه مشتمل على منكرات كثيرة وهي : الكذب ، وكون الكذب يطعن في سلامة العرض ، وكونه يسبب إحناً عظيمة بين المفترين والمفترى عليهم بدون عذر ، وكون المفترى عليهم من خيرة الناس وانتمائهم إلى أخير الناس من أزواج وآباء وقرابات ، وأعظم من ذلك أنه اجتراء على مقام النبي صلى الله عليه وسلم ومقام أم المؤمنين رضي الله عنها .
والبهتان مصدر مثل الكفران والغفران . والبهتان : الخبر الكذب الذي يُبهت السامع لأنه لا شبهة فيه . وقد مضى عند قوله تعالى : { وقولهم على مريم بهتاناً عظيماً } في سورة النساء ( 156 ) .