مفاتيح الغيب للرازي - الفخر الرازي  
{وَلَوۡلَآ إِذۡ سَمِعۡتُمُوهُ قُلۡتُم مَّا يَكُونُ لَنَآ أَن نَّتَكَلَّمَ بِهَٰذَا سُبۡحَٰنَكَ هَٰذَا بُهۡتَٰنٌ عَظِيمٞ} (16)

قوله تعالى : { ولولا إذ سمعتموه قلتم ما يكون لنا أن نتكلم بهذا سبحانك هذا بهتان عظيم } .

النوع الخامس :

وهذا من باب الآداب ، أي هلا إذ سمعتموه قلتم ما يكون لنا أن نتكلم بهذا ، وإنما وجب عليهم الامتناع منه لوجوه . أحدها : أن المقتضى لكونهم تاركين لهذا الفعل قائم وهو العقل والدين ، ولم يوجد ما يعارضه فوجب أن يكون ظن كونهم تاركين للمعصية أقوى من ظن كونهم فاعلين لها ، فلو أنه أخبر عن صدور المعصية لكان قد رجح المرجوح على الراجح وهو غير جائز . وثانيها : وهو أنه يتضمن إيذاء الرسول وذلك سبب للعن لقوله تعالى : { إن الذين يؤذون الله ورسوله لعنهم الله في الدنيا والآخرة } . وثالثها : أنه سبب لإيذاء عائشة وإيذاء أبويها ومن يتصل بهم من غير سبب عرف إقدامهم عليه ، ولا جناية عرف صدورها عنهم ، وذلك حرام . ورابعها : أنه إقدام على ما يجوز أن يكون سببا للضرر مع الاستغناء عنه ، والعقل يقتضي التباعد عنه لأن القاذف بتقدير كونه صادقا لا يستحق الثواب على صدقه بل يستحق العقاب لأنه أشاع الفاحشة ، وبتقدير كونه كاذبا فإنه يستحق العقاب العظيم ، ومثل ذلك مما يقتضي صريح العقل الاحتراز عنه . وخامسها : أنه تضييع للوقت بما لا فائدة فيه ، وقال عليه الصلاة والسلام : «من حسن إسلام المرء تركه ما لا يعنيه » . وسادسها : أن في إظهار محاسن الناس وستر مقابحهم تخلقا بأخلاق الله تعالى ، وقال عليه السلام : «تخلقوا بأخلاق الله » فهذه الوجوه توجب على العاقل أنه إذا سمع القذف أن يسكت عنه وأن يجتهد في الاحتراز عن الوقوع فيه ، فإن قيل كيف جاز الفصل بين لولا وبين قلتم بالظرف ؟ قلنا الفائدة فيه أنه كان الواجب عليهم أن يحترزوا أول ما سمعوا بالإفك عن التكلم به .

أما قوله : { سبحانك هذا بهتان عظيم } ففيه سؤالان :

السؤال الأول : كيف يليق سبحانك بهذا الموضع ؟ الجواب : من وجوه . الأول : المراد منه التعجب من عظم الأمر ، وإنما استعمل في معنى التعجب لأنه يسبح الله عند رؤية العجيب من صانعه ثم كثر حتى استعمل في كل متعجب منه . الثاني : المراد تنزيه الله تعالى عن أن تكون زوجة نبيه فاجرة . الثالث : أنه منزه عن أن يرضى بظلم هؤلاء الفرقة المفترين . الرابع : أنه منزه عن أن لا يعاقب هؤلاء القذفة الظلمة .

السؤال الثاني : لم أوجب عليهم أن يقولوا هذا بهتان عظيم مع أنهم ما كانوا عالمين بكونه كذبا قطعا ؟ والجواب من وجهين : الأول : أنهم كانوا متمكنين من العلم بكونه بهتانا ، لأن زوجة الرسول لا يجوز أن تكون فاجرة . الثاني : أنهم لما جزموا أنهم ما كانوا ظانين له بالقلب كان إخبارهم عن ذلك الجزم كذبا ، ونظيره قوله : { والله يشهد إن المنافقين لكاذبون } .