قوله تعالى : { إن الذين يكفرون بآيات الله } . يجحدون بآيات الله يعني القرآن ، وهم اليهود والنصارى .
قوله تعالى : { ويقتلون النبيين بغير حق ويقتلون الذين يأمرون بالقسط من الناس } . قرأ حمزة : ويقاتلون الذين يأمرون بالألف . قال : ابن جريح : كان الوحي يأتي على أنبياء بني إسرائيل ولم يكن يأتيهم كتاب الله ، فيذكرون قومهم ، فيقتلون أنبياءهم ، فيقوم رجال ممن تبعهم وصدقهم فيذكرون قومهم ، فيقتلون أيضاً ، فهم الذين يأمرون بالقسط من الناس .
أخبرنا أبو سعيد الشريحي ، أنا أبو إسحاق الثعلبي ، أنا أبو عبد الله الحسين ابن محمد فنجويه الدينوري ، أنا أبو نصر منصور بن جعفر النهاوندي ، أنا أحمد بن يحيى بن الجارود ، أنا محمد بن عمرو بن حيان ، أنا محمد بن حمير ، أنا أبو الحسن مولى بني أسد عن مكحول عن قبيصة بن ذؤيب الخزاعي عن أبي عبيدة بن الجراح رضي الله عنهما قال : قلت لرسول الله صلى الله عليه وسلم : أي الناس أشد عذاباً يوم القيامة ؟ قال : " رجل قتل نبياً أو رجلاً أمر بالمعروف ونهى عن المنكر " ثم قرأ رسول الله صلى الله عليه وسلم ( ويقتلون النبيين بغير حق ويقتلون الذين يأمرون بالقسط من الناس ) إلى أن انتهى إلى قوله ( وما لهم من ناصرين ) ، ثم قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : يا أبا عبيدة قتلت بنو إسرائيل ثلاثة وأربعين نبياً في أول النهار في ساعة واحدة ، فقام مائة واثنا عشر رجلاً من عباد بني إسرائيل فأمروا من قتلهم بالمعروف ونهوهم عن المنكر فقتلوهم جميعاً في آخر النهار في ذلك اليوم ، فهم الذين ذكرهم الله في كتابه وأنزل الآية فيهم .
قوله تعالى : { فبشرهم بعذاب أليم } أخبرهم ( بعذاب أليم ) وجيع ، وإنما أدخل الفاء على الباء في خبر إن لتضمن " الذين " معنى الشرط والجزاء ، لأن تقديره الذين يكفرون ويقتلون فبشرهم ، لأنه يقال : إن زيدا فقائم .
ثم انتقل القرآن إلى سرد بعض الرذائل التى عرف بها اليهود وعرف بها أسلافهم ، وبين سوء مصيرهم ومصير كل من يفعل فعلهم فقال - تعالى - : { إِنَّ الذين يَكْفُرُونَ . . } .
أنت ترى أن الله - تعالى - قد وصف هؤلاء المارقين بصفات ينفر منها كل عاقل وصفهم أولا بأنهم : { يَكْفُرُونَ بِآيَاتِ الله } أى لا يكتفون بالكفر بالله - تعالى - ، بل يكفرون بالآيات المثبتة لوحدانيته ، وبالرسل الذين جاؤوهم بالهدى والحق .
ووصفهم ثانيا بأنهم { يَقْتُلُونَ النبيين بِغَيْرِ حَقٍّ } وقتل النبيين بغير حق فعل معروف عن اليهود ، فهم الذين قتلوا زكريا - عليه السلام - لأنه حاول أن يخلص ابنه يحيى -عليه السلام - من القتل وقتلوا يحيى لأنه لم يوافقهم في أهوائهم وحاولوا قتل عيسى - عليه السلام - ولكن الله تعالى نجاه من مكرهم ، وقتلوا غيرهم من الأنبياء عليهم الصلاة والسلام .
فإن قيل إن اليهود ما قتلوا كل الأنبياء فلم أخبر القرآن عنه أنهم يقتلون النبيين ولم يقل يقتلون بعض النبيين ؟
فالجواب أنهم بقتلهم لبعض النبيين فقد استهانوا بمقام النبوة ، ومن استهان بمقام النبوة بقتله لبعض الأنبياء فكأنه قد قتل الأنبياء جميعا ، ونظير هذا قوله - تعالى - : { مِنْ أَجْلِ ذلك كَتَبْنَا على بني إِسْرَائِيلَ أَنَّهُ مَن قَتَلَ نَفْساً بِغَيْرِ نَفْسٍ أَوْ فَسَادٍ فِي الأرض فَكَأَنَّمَا قَتَلَ الناس جَمِيعاً وَمَنْ أَحْيَاهَا فَكَأَنَّمَا أَحْيَا النَّاسَ جَمِيعاً } وقيد القتل بأنه { بِغَيْرِ حَقٍّ } مع أن قتل الأنبياء لا يكون بحق أبداً ، للتصريح بموضع الاستنكار ، لأن موضع الاستنكار هو اعتداؤهم على الحق بقتلهم الأنبياء ، وللإشارة إلى أنهم لتوغلهم في الظلم والعدوان قد صاروا أعداء للحق لا يألفونه ولا تميل إليه نفوسهم ، وللتسجيل عليهم أن هذا القتل للأنبياء كان مخالفاً لما في شريعتهم فإنها قد نهتهم عن قتلهم ، بل عن مخالفتهم . فهذا القيد من باب الاحتجاج عليهم بما نهت عنه شريعتهم لتخليد مذمتهم في كل زمان ومكان .
وقال - سبحانه - { بِغَيْرِ حَقٍّ } بصيغة التنكير ، لعموم النفي ، بحيث يتناول الحق الثابت ، والحق المزعوم ، أى أنهم لم يكونوا معذروين بأي لون من ألوان العذر في هذا الاعتداء فقد أقدموا على ما أقدموا عليه وهم يعلمون أنهم على الباطل ، فكان فعلهم هذا إجراما في بواعثه وفي حقيقته ، وأفظع أنواع الإجرام في موضوعه .
وقوله { بِغَيْرِ حَقٍّ } في موضع الحال المؤكدة لمضمون جملة { يَقْتُلُونَ النبيين } إذ لا يكون قتل النبيين إلا كذلك .
ووصفهم ثالثا بأنهم { وَيَقْتُلُونَ الذين يَأْمُرُونَ بالقسط مِنَ الناس } .
والقسط : العدل . يقال : قسَط يقسِط ويقسُط قِسطا ، وأقسط إقساطا إذا عدل .
أى : لا يكتفون بقتل النبيين الذين جاءوا لهدايتهم وسعادتهم ، وإنما يقتلون مع ذلك الذين يأمرونهم بالعدل من مرشديهم ونصحائهم .
وفي قوله { مِنَ الناس } إشارة إلى أنهم ليسوا بأنبياء ، بل من الناس غير المبعوثين .
وفي قرنهم بالأنبياء ، وإثبات أن الاعتداء عليهم قرين الاعتداء على الأنبياء ، إشارة إلى بيان علو منزلتهم ، وأنهم ورثتهم الذين يدعون بدعوتهم .
وعبر عن جرائمهم بصيغة الفعل المضارع - يكفرون ويقتلون لاستحضار صورة أفعالهم الشنيعة في أذهان المخاطبين ، ولإفادة أن أفعالهم هذه متجددة كلما استطاعوا إليها سبيلا ، وللإشعار بأن اليهود المعاصرين للنبى صلى الله عليه وسلم كانوا راضين بفعل آبائهم وأسلافهم ، ولقد حاول اليهود في العهد النبوى أن يقتلوا النبي صلى الله عليه وسلم ولكن الله - تعالى - نجاه من شرورهم .
هذا ، وقد وردت آثار متعددة تصرح بأن اليهود قد دأبوا على قتل الأنبياء والمصلحين ، ومن ذلك ما جاء عن أبي عبيدة بن الجراح أنه قال :
" قلت يا رسول الله : أي الناس أشد عذابا يوم القيامة ، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : " أشد الناس عذابا يوم القيامة رجل قتل نبيا ، أو قتل من أمر بالمعروف ونهى عن المنكر ، ثم قرأ رسول الله صلى الله عليه وسلم { إِنَّ الذين يَكْفُرُونَ بِآيَاتِ الله } الآية . ثم قال : يا أبا عبيدة قتلت بنو إسرائيل ثلاثة وأربعين نبيا من أول النهار في ساعة واحدة ، فقام مائة وسبعون رجلا منهم فأمروا من قتلهم بالمعروف ونهوهم عن المنكر فقتلوهم جميعاً من آخر النهار في ذلك اليوم " " .
هذه بعض جرائمهم فماذا كانت نتيجتها ؟ كانت نتيجتها العذاب الأليم الذى أخبرهم الله به في قوله { فَبَشِّرْهُم بِعَذَابٍ أَلِيمٍ } .
والجملة الكريمة خبر إن ، وجاز دخول الفاء على خبرها لتضمن اسمها وهو { الذين } معنى الشرط في العموم .
وحقيقة التبشير : الإبخار بما يظهر سرور المخبر - بفتح الباء - على بشرة وجهه ، وهو هنا مستعمل فى ضد حقيقته على سبيل التهكم بهم ، وذلك لأن هؤلاء المعتدين مع أنهم كفروا بآيات الله وقتلوا أنبياءه وأولياءه ، وفعلوا ما فعلوا من منكرات ، مع كل ذلك زعموا أنهم أبناء الله وأحباؤه ، فساق لهم القرآن ما يخبرهم به على سبيل الاستهزاء بعقولهم أن بشارتهم التى يرتقبونها بسبب كفرهم ودعواهم الباطلة هي : العذاب الأليم .
واستعمال اللفظ في ضده عند علماء البيان من باب الاستعارة التهكمية ، لأن تشبيه الشىء بضده لا يروج في عقل العقلاء إلى على معنى التهكم والاستهزاء .
ولكنه لا يدعهم حتى يبين لهم مصيرهم الذي ينتظرهم وينتظر أمثالهم وفق سنة الله الماضية أبدا في المكذبين والبغاة :
( إن الذين يكفرون بآيات الله ، ويقتلون النبيين بغير حق ، ويقتلون الذين يأمرون بالقسط من الناس ، فبشرهم بعذاب أليم ) .
فهذا هو المصير المحتوم : عذاب اليم . لا يحدده بالدنيا أو بالآخرة . فهو متوقع هنا وهناك .
{ إِنّ الّذِينَ يَكْفُرُونَ بِآيَاتِ اللّهِ وَيَقْتُلُونَ النّبِيّينَ بِغَيْرِ حَقّ وَيَقْتُلُونَ الّذِينَ يَأْمُرُونَ بِالْقِسْطِ مِنَ النّاسِ فَبَشّرْهُم بِعَذَابٍ أَلِيمٍ * أُولََئِكَ الّذِينَ حَبِطَتْ أَعْمَالُهُمْ فِي الدّنْيَا وَالاَخِرَةِ وَمَا لَهُمْ مّن نّاصِرِينَ }
يعني بذلك جلّ ثناؤه : { إنّ الّذِينَ يَكْفُرُونَ بآياتِ اللّهِ } أي يجحدون حجج الله وأعلامه فيكذّبون بها من أهل الكتابين التوراة والإنجيل . كما :
حدثني ابن حميد ، قال : حدثنا سلمة ، عن ابن إسحاق ، عن محمد بن جعفر بن الزبير ، قال : ثم جمع أهل الكتابين جميعا ، وذكر ما أحدثوا وابتدعوا من اليهود والنصارى ، فقال : { إنّ الّذِينَ يَكْفُرُونَ بآياتِ اللّهِ وَيَقْتُلُونَ النّبِيّينَ بِغَيْرِ حَقّ } إلى قوله : { قُلِ اللّهُمّ مالِكَ المُلْكِ تُؤْتِي المُلْكَ مَنْ تَشاءُ } .
وأما قوله : { وَيَقْتُلُوُنَ النّبِيّينَ بِغَيْرِ حَقّ } فإنه يعني بذلك أنهم كانوا يقتلون رسل الله الذين كانوا يرسلون إليهم بالنهي عما يأتون من معاصي الله ، وركوب ما كانوا يركبونه من الأمور التي قد تقدم الله إليهم في كتبهم بالزجر عنها ، نحو زكريا وابنه يحيى وما أشبههما من أنبياء الله .
القول في تأويل قوله تعالى : { وَيَقْتُلُونَ الّذِينَ يَأْمُرُونَ بِالْقِسْطِ مِنَ النّاسِ } .
اختلفت القرّاء في قراءة ذلك ، فقرأه عامة أهل المدينة والحجاز والبصرة والكوفة وسائر قرّاء الأمصار : { وَيَقْتُلُونَ الّذِينَ يَأْمُرُونَ بِالْقِسْطِ } بمعنى القتل . وقرأه بعض المتأخرين من قرّاء الكوفة : «ويقاتلون » ، بمعنى القتال تأوّلاً منه قراءة عبد الله بن مسعود ، وادّعى أن ذلك في مصحف عبد الله : «وقاتلوا » ، فقرأ الذي وصفنا أمره من القراء بذلك التأويل «ويقاتلون » .
والصواب من القراءة في ذلك عندنا ، قراءة من قرأه : { وَيَقْتُلُونَ } لإجماع الحجة من القراء عليه به ، مع مجيء التأويل من أهل التأويل بأن ذلك تأويله . ذكر من قال ذلك :
حدثني محمد بن عمرو ، قال : حدثنا أبو عاصم ، عن عيسى ، عن ابن أبي نجيح ، عن معقل بن أبي مسكين في قوله الله صلى الله عليه وسلم : { وَيَقْتُلُونَ الّذِينَ يَأْمُرُونَ بِالْقِسْطِ مِنَ النّاسِ } قال : كان الوحي يأتي إلى بني إسرائيل فيذكّرون ، ولم يكن يأتيهم كتاب ، فيُقتَلون ، فيقوم رجال ممن اتبعهم وصدّقهم ، فيذكّرون قومهم فيقتلون ، فهم الذين يأمرون بالقسط من الناس .
حدثني المثنى ، قال : حدثنا إسحاق ، قال : حدثنا عبد الله بن أبي جعفر ، عن أبيه ، عن قتادة في قوله : { وَيَقْتُلُونَ النّبِيّينَ بِغَيْرِ حَقّ وَيَقْتُلُونَ الّذِينَ يَأْمُرُونَ بِالْقِسْطِ مِنَ النّاسِ } قال : هؤلاء أهل الكتاب ، كان أتباع الأنبياء ينهونهم ويذكرونهم فيقتلونهم .
حدثنا القاسم ، قال : حدثنا الحسين ، قال : ثني حجاج ، قال : قال ابن جريج في قوله : { إنّ الّذِينَ يَكْفُرُونَ بآياتِ اللّهِ وَيَقْتُلُونَ النّبِيّينَ بِغَيْرِ حَقّ وَيَقْتُلُونَ الّذِينَ يَأْمُرُونَ بِالْقِسْطِ مِنَ النّاسِ } قال : كان ناس من بني إسرائيل ممن لم يقرأ الكتاب كان الوحي يأتي إليهم ، فيذكّرون قومهم فيقتلون على ذلك ، فهم الذين يأمرون بالقسط من الناس .
حدثني أبو عبيد الرصافي محمد بن جعفر ، قال : حدثنا ابن حميد ، قال : حدثنا أبو الحسن مولى بني أسد ، عن مكحول ، عن قبيصة بن ذؤيب الخزاعي ، عن أبي عبيدة بن الجرّاح ، قال : قلت يا رسول الله ، أيّ الناس أشدّ عذابا يوم القيامة ؟ قال : «رَجُلٌ قَتَلَ نَبِيّا ، أوْ رَجُلٌ أمَرَ بالمُنْكَرِ وَنَهَى عَنِ المَعْرُوفِ » . ثم قرأ رسول الله صلى الله عليه وسلم : «الّذِينَ يَقْتُلُونَ النّبِيّينَ بِغَيْرِ حَقّ وَيَقْتُلُونَ الّذِينَ يَأْمُرُونَ بِالْقِسْطِ مِنَ النّاسِ » إلى أن انتهى إلى : { وَما لَهُمْ مِنْ نَاصِرِينَ } . ثم قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : «يا أبا عُبَيْدَةَ قَتَلَتْ بَنُو إسْرَائِيلَ ثَلاَثَةً وَأرْبَعِينَ نَبِيّا مِنْ أَوّلِ النّهارِ فِي سَاعَةٍ وَاحِدَةً ، فَقَامَ مِائَةُ رَجُلٍ وَاثْنَا عَشَرَ رَجُلاً مِنْ عُبّادِ بَنِي إسْرَائِيلَ ، فأمَرُوا مَنْ قَتَلَهُمْ بِالمَعْرُوفِ وَنَهَوْهُمْ عَنِ المُنْكَرِ فَقُتِلُوا جَمِيعا مِنْ آخِرِ النّهَارِ فِي ذَلِكَ اليَوْمِ ، وَهُمُ الّذِينَ ذَكَرَ اللّهُ عَزّ وَجَلّ » .
فتأويل الاَية إذا : إن الذين يكفرون بآيات الله ، ويقتلون النبيين بغير حقّ ، ويقتلون آمريهم بالعدل في أمر الله ونهيه ، الذين ينهونهم عن قتل أنبياء الله وركوب معاصيه .
القول في تأويل قوله تعالى : { فَبَشّرْهُمْ بِعَذَابٍ ألِيمٍ أُولَئِكَ الّذِينَ حَبِطَتْ أعْمَالُهُمْ فِي الدّنْيا وَالاَخِرَةِ وَمَا لَهُمْ مِنْ نَاصِرِينَ } .
يعني بقوله جلّ ثناؤه : { فَبَشّرْهُمْ بِعَذَابٍ ألِيمٍ } فأخبرهم يا محمد ، وأعلمهم أن لهم عند الله عذابا مؤلما لهم ، وهو الموجع .
{ إن الذين يكفرون بآيات الله ويقتلون النبيين بغير حق ويقتلون الذين يأمرون بالقسط من الناس فبشرهم بعذاب أليم } هم أهل الكتاب الذين في عصره عليه السلام . قتل أولهم الأنبياء ومتابعيهم وهم رضوا به وقصدوا قتل النبي صلى الله عليه وسلم والمؤمنين ولكن الله عصمهم ، وقد سبق مثله في سورة البقرة . وقرأ حمزة " ويقاتلون الذين " . وقد منع سيبويه إدخال الفاء في خبر إن كليت ولعل ولذلك قيل الخبر .
قال محمد بن جعفر بن الزبير وغيره : إن هذه الآية في اليهود والنصارى .
قال القاضي أبو محمد عبد الحق رضي الله عنه : وتعم كل من كان بهذه الحال ، والآية توبيخ للمعاصرين لرسول الله صلى الله عليه وسلم بمساوىء أسلافهم وببقائهم أنفسهم على فعل ما أمكنهم من تلك المساوىء لأنهم كانوا حرصى{[3046]} على قتل محمد عليه السلام ، وروي أن بني إسرائيل قتلوا في يوم واحد سبعين نبياً وقامت سوق البقل بعد ذلك{[3047]} ، وروى أبو عبيدة بن الجراح عن النبي عليه السلام : أنهم قتلوا ثلاثة وأربعين نبياً فاجتمع من خيارهم وأحبارهم مائة وعشرون ليغيروا وينكروا فقتلوا أجمعين كل ذلك في يوم واحد{[3048]} وذلك معنى قوله تعالى : { ويقتلون الذين يأمرون بالقسط } وقوله تعالى : { بغير حق } مبالغة في التحرير للذنب إذ في الإمكان{[3049]} أن يقتضي ذلك أمر الله تعالى بوجه ما من تكرمة نبي أوغير ذلك ، وعلى هذا المعنى تجيء أفعل من كذا إذا كان فيها شياع{[3050]} مثل أحب وخير وأفضل ونحوه مقولة من شيئين ظاهرهما الاشتراك{[3051]} بينهما .
وقرأ جمهور الناس : «ويقتلون الذين » وقرأ حمزة وجماعة من غير السبعة «ويقاتلون الذين » وفي مصحف ابن مسعود «وقاتلوا الذين » ، وقرأها الأعمش ، وكلها متوجهة وأبينها قراءة الجمهور ، والقسط العدل ، وجاءت البشارة بالعذاب من حيث نص عليه وإذا جاءت البشارة مطلقة فمجملها فيما يستحسن ، ودخلت الفاء في قوله : { فبشرهم } لما في الذي من معنى الشرط في هذا الموضع فذلك بمنزلة قولك : الذي يفعل كذا فله إذا أردت أن ذلك إنما يكون له بسبب فعله الشيء الآخر فيكون الفعل في صلتها وتكون بحيث لم يدخل عليها عامل يغير معناها كليت ولعل ، وهذا المعنى نص في كتاب سيبويه في باب ترجمة هذا باب الحروف التي تتنزل منزلة الأمر والنهي لأن فيها معنى الأمر والنهي{[3052]} .
استئناف لبيان بعض أحوال اليهود ، المنافية إسلامَ الوجه لله ، فالمراد بأصحاب هذه الصلات خصوص اليهود ، وهم قد عُرفوا بمضمون هذه الصلات في مواضع كثيرة من القرآن . والمناسبة : جريان الجدال مع النصارى وأن جُعلوا جميعاً في قَرَن قولِه : { وقل للذين أوتوا الكتاب والأمين أأسلمتم } ( آل عمران : 20 ) .
( وجيء في هاته الصلات بالأفعال المضارعة لتدل على استحضار الحالة الفظية ، وليس المراد إفادة التجدّد ؛ لأنّ ذلك وإن تأتَّى في قوله : { يكفرون } لا يتأتَّى في قوله : { ويقتلون } لأنَّهم قتلوا الأنبياء والذين يأمرون بالقسط في زمنٍ مضى . والمراد من أصحاب هذه الصلات يهود العَصر النبوي : لأنّهم الذين توعّدهم بعذاب أليم ، وإنّما حَمَل هؤلاء تبِعة أسلافهم لأنّهم معتقدون سداد ما فعله أسلافهم ، الذين قتلوا زكرياء لأنّه حاول تخليصَ ابنه يَحيَى من القتل ، وقتلوا يحيَى لإيمانه بعيسى ، وقتلوا النبي إرْمِيَاء بمصر ، وقتلوا حزقيال النبي لأجل توبيخه لهم على سوء أفعالهم ، وزعموا أنّهم قتلوا عيسى عليه السلام ، فهو معدود عليهم بإقرارهم وإن كانوا كاذبين فيه ، وقَتَل مَنشا ابنُ حزقيال ، ملكُ إسرائيل ، النبي أشعياء : نشره بالمِنشار لأنّه نهاه عن المنكر ، بمرأى ومسمع من بني إسرائيل ، ولم يحموه ، فكان هذا القتل معدوداً عليهم ، وكم قتلوا ممّن يأمرون بالقسط ، وكل تلك الجرائم معدودة عليهم ؛ لأنّهم رضُوا بها ، وألَحّوا في وقوعها .
وقوله : { بغير حق } ظرف مستقر في موضع الحال المؤكّدة لمضمون جملةِ { يقتلون النبيّئين } إذ لا يكون قتل النبيّئين إلاّ بغير حق ، وليس له مفهوم لظهور عدم إرادة التقييد والاحترازِ ؛ فإنّه لا يقتل نبيء بحق ، فذكر القيد في مثله لا إشكال عليه ، وإنّما يجيء الإشكال في القيد الواقع في حَيّز النفي ، إذا لم يكن المقصود تسلّط النفي عليه مثل قوله تعالى : { لا يسألون الناس إلحافاً } [ البقرة : 273 ] وقولِه : { ولا تكونوا أول كافر به ولا تشتروا بآياتي ثمناً قليلاً } وقد تقدم في سورة البقرة ( 41 .
والمقصود من هذه الحال زيادة تشويه فعلهم .
ولما كان قوله : { ويقتلون الذين يأمرون بالقسط } مومئاً إلى وجه بناء الخبر : وهو أنَّهم إنّما قتلوهم لأنّهم يأمرون بالقسط أي بالحق ، فقد اكتفي بها في الدلالة على الشناعة ، فلم تحتج إلى زيادة التشنيع .
وقرأ الجمهور من العشرة { يقتلون } الثاني مثل الأول بسكون القاف وقرأه حمزة وحده « ويُقاتلون » بفتح القاف بعدها بصيغة المفاعلة وهي مبالغة في القتل .
والفاء في { فبشّرهم } فاء الجواب المستعملةُ في الشرط ، دخلت على خبر إنّ لأنّ اسم إنّ وهو موصول تضمن معنى الشرط ، إشارة إلى أنّه ليس المقصود ، قوماً معيّنين ، بل كل من يتَّصف بالصلة فجزاؤه أنّ يَعلم أنّ له عذاباً أليماً . واستعمل بشّرهم في معنى أنذرهم تهكّماً .
وحقيقة التبشير : الإخبار بما يُظهر سرور المخبَر ( بفتح الباء ) وهو هنا مستعمل في ضدّ حقيقته ، إذ أريد به الإخبار بحصول العذاب ، وهو موجب لحزن المخبَرين ، فهذا الاستعمال في الضدّ معدود عند علماء البيان من الاستعارة ، ويسمّونها تهكّمية لأنّ تشبيه الضدّ بضدّه لا يروج في عقل أحد إلاّ على معنى التهكّم ، أو التمليح ، كما أطلق عمرو ابن كلثوم .
اسم الأضياف على الأعداء ، وأطلق القرى على قتل الأعداء ، في قوله :
نزلتم مَنزل الأضيافِ منّا *** فعَجَّلْنَا القِرى أن تشتمونا
قَرَيْنَاكُم فعَجَّلْنا قِراكــم *** قُبَيْل الصُّبْح مِرْداةً طَحُونا
قال السكاكي : وذلك بواسطة انتزاع شَبه التضادّ وإلحافه بشَبه التناسب .