اللباب في علوم الكتاب لابن عادل - ابن عادل  
{إِنَّ ٱلَّذِينَ يَكۡفُرُونَ بِـَٔايَٰتِ ٱللَّهِ وَيَقۡتُلُونَ ٱلنَّبِيِّـۧنَ بِغَيۡرِ حَقّٖ وَيَقۡتُلُونَ ٱلَّذِينَ يَأۡمُرُونَ بِٱلۡقِسۡطِ مِنَ ٱلنَّاسِ فَبَشِّرۡهُم بِعَذَابٍ أَلِيمٍ} (21)

لما ذكر حال من يُعْرِض ويتولّى وصفهم في هذه الآيةِ بثلاثِ صفاتٍ :

الأولى قوله : { إِنَّ الَّذِينَ يَكْفُرُونَ } لما ضمن هذا الموصول معنى الشرط دخلت الفاء في خبره وهو قوله : { فَبَشِّرْهُم } ، وهذا هو الصحيح ، أعني

أنه إذا نُسِخَ المبتدأ ب " إنَّ " فجواز دخول الفاء باقٍ ؛ لأن المعنى لم يتغير ، بل ازداد تأكيداً ، وخالف الأخفش ، فمنع دخولها من نسخه ب " إنَّ " والسماع حُجَّةٌ عليه كهذه الآية ، وكقوله : { إِنَّ الَّذِينَ فَتَنُواْ الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ ثُمَّ لَمْ يَتُوبُواْ فَلَهُمْ عَذَابُ جَهَنَّمَ وَلَهُمْ عَذَابُ الْحَرِيقِ } الآية

[ البروج : 10 ] ، وكذلك إذا نُسِخَ ب " لَكِنَّ " كقوله : [ الطويل ]

فَوَاللهِ مَا فَارَقْتُكُمْ عَنْ مَلاَلَةٍ *** وَلَكِنَّ مَا يُقْضَى فَسَوْفَ يَكُونُ{[5285]}

وكذلك إذا نُسِخ ب " أنَّ " - المفتوحة - كقوله : { وَاعْلَمُوا أَنَّمَا غَنِمْتُمْ مِّن شَيْءٍ فَأَنَّ لِلَّهِ خُمُسَهُ } ، [ الأنفال : 41 ] أما إذا نُسِخ ب " لَيْتَ " ،

و " لَعَلَّ " و " كَأنَّ " امتنعت الفاءُ عند الجميع ؛ لتغيُّرِ المعنى .

فصل

المراد بهؤلاء الكفارِ اليهودُ والنصارى .

فإن قيل : ظاهر هذه الآيةِ يقتضي كونَهم كافرين بجميع آيات الله - تعالى - ، واليهود والنصارى ، كانوا مقرِّين بالصانع وعلمِه وقدرته والمعادِ .

الجواب : أن تُصْرَفَ الآياتُ إلى المعهود السابق - وهو القرآن ومحمد - أو نحمله على العموم ، ونقول : إن من كذب بنبوة محمد - عليه السلام - يلزمه أن يُكذب بجميع آيات الله تعالى .

الصفة الثانية : قوله : { وَيَقْتُلُونَ النَّبِيِّينَ بِغَيْرِ حَقٍّ } قرأ الحسن هذه والتي بعدها بالتشديد ومعناه : التكثير ، وجاء - هنا - { بِغَيْرِ حَقٍّ } منكَّراً ، وفي البقرة { بِغَيْرِ الحَقِّ } [ البقرة : 61 ] معرَّفاً قيل : لأن الجملة - هنا - أخرجت مخرَجَ الشرط - وهو عام لا يتخصَّص - فلذلك ناسبَ أن تذكر في سياق النفي ؛ لتعمَّ .

وأما في البقرة فجاءت الآية في ناسٍ معهودين ، مختصين بأعيانهم ، وكان الحق الذي يُقْتَل به الإنسان معروفاً عندهم ، فلم يقصد هذا العموم الذي هنان فجِيء في كل مكان بما يناسبه .

فصل

روى أبو عبيدة بنُ الجراح ، قال : قلت : يا رسولَ الله ، أيُّ الناسِ أشَدُّ عذاباً يَوْمَ القيامةِ ؟ قال : رجل قتل نبيًّا ، أو رجلاً أمر بالمعروف ونهى عن المنكر ، وقرأ هذه الآية ، ثم قال : يا أبا عبيدة ، قتلت بنو إسرائيل ثلاثةً وأربعين نبيًّا ، من أول النهار في ساعة واحدة ، فقام مائة رجل ، واثنا عشر رجلاً من عُبَّادِ بني إسرائيلَ ، فأمَرُوا قَتَلَتَهُمْ بالمعروفِ ، ونَهَوْهُمْ عن المنكر ، فقُتِلوا جميعاً من آخرِ النَّهَارِ فِي ذلِكَ الْيَوْمِ ، فَهُم الَّذينَ ذَكَرَهُمُ اللهُ تعالى{[5286]} .

وأيضاً القوم قتلوا يحيى بن زكريا ، وزعموا أنهم قتلوا عيسى ابن مريم .

فإن قيل : قوله : { إِنَّ الَّذِينَ يَكْفُرُونَ بِآيَاتِ اللَّهِ } في حكم المستقبل ؛ لأنه كان وعيداً لمن كان في زمن الرسول صلى الله عليه وسلم ولم يقع منهم قتل الأنبياء ، ولا الآمرين بالقسط ، فكيف يَصِحُّ ذلك ؟

فالجوابُ من وجهين :

أحدهما : أن هذه لما كانت طريقة أسلافِهم صحَّت الإضافة إليهم ؛ إذْ كانوا مُصَوِّبِينَ لهم ، راضين بطريقتهم ، فإن صُنْعَ الأب قد يُضاف إلى الابن ، إذا كان راضياً به .

الثاني : أن القوم كانوا يريدون قَتلَ رسول الله صلى الله عليه وسلم وقتلَ المؤمنين ، إلا أن الله - تعالى - عَصَمَه منهم ، فلما كانوا راغبين في ذلك صحَّ إطلاق هذا الاسم عليهم - على سبيل المجاز - كما يقال : النار مُحْرِقةٌ ، السَّمُّ قاتل .

فإن قيل : قَتْل الأنبياء لا يصح أن يكون إلا بغير حق ، فما فائدة قوله : { وَيَقْتُلُونَ النَّبِيِّينَ بِغَيْرِ حَقٍّ } ؟

فالجوابُ تقدم في البقرة ، وأيضاً يجوز أن يكون قصدوا بقتلهم أنها طريقة العدل عندهم .

فإن قيل : قوله : { وَيَقْتُلُونَ النَّبِيِّينَ } ظاهره يُشْعِر بأنهم قتلوا كُلَّ النبيِّين ، ومعلوم أنهم ما قتلوا الكل ، ولا الأكثر ، ولا النصف .

فالجواب أن الألف واللام هنا للعَهْد ، لا للاستغراق .

الصفة الثالثة : قوله : { وَيَقْتُلُونَ الَّذِينَ } قرأ حمزة{[5287]} " وَيُقَاتِلُونَ " - من المقاتلة - والباقون " وَيَقْتُلُونَ " - كالأول .

فأما قراءةُ حمزةَ فإنه غاير فيها بين الفعلين ، وهي موافقة لقراءة عبد الله{[5288]} " وَقَاتَلُوا " - من المقاتلة - إلا أنه أتى بصيغة الماضي ، وحمزة يحتمل أن يكون المضارع - في قراءته - لحكاية الحال ، ومعناه : المُضِيّ .

وأما الباقون فقيل - في قراءتهم - : إنما كرر الفعل ؛ لاختلاف متعلَّقه ، أو كُرِّرَ ؛ تأكيداً ، وقيل : المراد بأحد القتلَيْن إزهاق الروح ، وبالآخر الإهانة ، وإماتة الذكر ، فلذلك ذكر كل واحد على حدته ، ولولا ذلك لكان التركيبُ : ويقتلون النَّبِيِّينَ والذين يأمرون ، وبهذا التركيب قرأ أبَيّ . {[5289]}

قوله : { مِنَ النَّاسِ } إما بيان ، وإما للتبعيض ، وكلاهما معلوم أنهم من الناس ، فهو جَارٍ مَجْرَى التأكيد .

فصل

قال القرطبيُّ : " دلت هذه الآيةُ على أن الأمرَ بالمعروف والنهي عن المنكر كان واجباً في الأمم المتقدمةِ ، وهو فائدة الرِّسالةِ وخلافة النبوة " .

قال الحسنُ : قال النبي صلى الله عليه وسلم : " مَنْ أمَرَ بِالْمَعْرُوفِ ، أو نَهَى عَنِ الْمُنْكَرِ ، فَهُوَ خَلِيفَةُ اللهِ في أرْضِهِ ، وَخَلِيفَةُ رَسُولِهِ ، وَخِلِيفَةُ كِتَابِهِ " .

وعن دُرَّةَ بِنْتِ أبِي لَهَب ، قالت : " جاء رجل إلى النبيِّ صلى الله عليه وسلم وهو على المنبر - فقال : مَنْ خيرُ الناس يا رسول الله ؟ قال : آمَرُهُمْ بِالْمَعْرُوفِ ، وأنْهَاهُمْ عَنِ الْمُنْكَرِ ، وَأتْقَاهُمْ لله ، وَأوْصَلُهُمْ لِرَحِمِهِ " .

قد ورد في التنزيل : { الْمُنَافِقُونَ وَالْمُنَافِقَاتُ بَعْضُهُمْ مِّن بَعْضٍ يَأْمُرُونَ بِالْمُنكَرِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمَعْرُوفِ } [ التوبة : 67 ] ، ثم قال :

{ وَالْمُؤْمِنُونَ وَالْمُؤْمِنَاتِ بَعْضُهُمْ أَوْلِيَآءُ بَعْضٍ يَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ } [ التوبة : 71 ] .

فجعل - تعالى - الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر فرقاً بين المؤمنين والمنافقين ، فدل ذلك على أن أخَصَّ أوصاف المُؤمِن الأمر بالمعروف ، والنهي عن المنكر ، ورأسها الدعاء إلى الإسلام والقتال عليه ، ثم إن الأمر بالمعروف ، والنهي عن المنكر ، لا يليق بكل أحد ، وإنما يقوم به السلطانُ ؛ إذْ كانت إقامةُ الحدودِ إليه ، والتعزير إلى رأيه ، والحبس والإطلاق له ، والنفي والتغريب ، فينصب في كل بلدة رجلاً قويًّا ، عالماً ، أميناً ، ويأمره بذلك ، ويُمْضِي الحدودَ على وَجْهها من غير زيادةٍ ، كما قال تعالى : { الَّذِينَ إِنْ مَّكَّنَّاهُمْ فِي الأَرْضِ أَقَامُواْ الصَّلاَةَ وَآتَوُاْ الزَّكَاةَ وَأَمَرُواْ بِالْمَعْرُوفِ وَنَهَوْاْ عَنِ الْمُنْكَرِ } [ الحج : 41 ] .

فصل

قال الحسنُ : هذه الآيةُ تدل على أن القائمَ بالأمْر بالمعروف والنهي عن المنكر - عند الخوف - تلي منزلته - في العِظَم - منزلةَ الأنبياء ، ورُوِيَ أنَّ رَجُلاً قام إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم بمِنًى - فقال : " أيُّ الجهاد أفضلُ ؟ فقال عليه السلام : " أفْضَلُ الْجِهَادِ كَلِمَةُ حَق عِنْدَ سُلْطَانٍ جَائرٍ " . {[5290]}

قال ابن جريج{[5291]} : كان الوحي يأتي إلى أنبياء بني إسرائيل - ولم يكن يأتيهم كتابٌ - فيذكِّرُون قومَهم فيُقْتلون ، فيقوم رجال ممن تَبِعهم وصدَّقهم ، فيذكرون قومَهم ، فيُقْتَلون - أيضاً - فهم الذين يأمرون بالقسط من الناس .


[5285]:البيت للأفوه الأودي ينظر الدرر 2/40، وأمالي القالي 1/99، وأوضح المسالك 1/348، وشرح الأشموني 1/108، وشرح التصريح 1/225، وشرح قطر الندى ص 149، ومعجم البلدان 2/220 (الحجاز)، والمقاصد النحوية 2/315، وهمع الهوامع 1/110. والدر المصون 2/51.
[5286]:أخرجه الطبري في "تفسيره" (6/286) وذكره السيوطي في "الدر المنثور" (2/23) وزاد نسبته لابن أبي حاتم.
[5287]:انظر: السبعة 203، والكشف 1/338، والحجة 3/23، وحجة القراءات 158، والعنوان 78، وشرح الطيبة 4/151، وإعراب القراءات 1/109، وشرح شعلة 309، 310، وإتحاف 1/ 473.
[5288]:وبها قرأ الأعمش. ينظر: المحرر الوجيز 1/415، والبحر المحيط 2/230، والدر المصون 2/51، والتخريجات النحوية 264، 363.
[5289]:ينظر: البحر المحيط 2/430.
[5290]:أخرجه أبو داود (2/527- 528) كتاب الملاحم باب الأمر والنهي برقم (4344) وابن ماجه (2/1329) كتاب الفتن باب الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر رقم (4011) والخطيب (7/238) عن أبي سعيد الخدري. وأخرجه الطبراني في "الكبير" كما في كنز العمال (3/78) رقم (5576) عن واثلة بن الأسقع.
[5291]:في أ: ابن جرير.