ثم بين - سبحانه - لونا ثالثا من ألوان أعمالهم القبيحة ، وعقائدهم الباطلة فقال { وَجَعَلُواْ للَّهِ أَندَاداً لِّيُضِلُّواْ عَن سَبِيلِهِ . . } .
والأنداد : جمع ند وهو مثل الشئ الذى يضاده وينافره ويتباعد عنه .
وأصله من ند البعير يند - بكسر النون - ندا - بالفتح - إذا نفر وذهب على وجهه شاردا .
وقوله { ليضلوا } قرأ الجمهور - بضم الياء - من أضل غيره إذا جعله ضلالا .
أى : أن هؤلاء الخاسرين لم يكتفوا بمقابلة نعمة الله بالجحود ، وإحلال قومهم دار البوار ، بل أضافوا إلى ذلك أنهم جعلوا لله - تعالى - أمثالا ونظراء ، ليصرفوا غيرهم عن الطريق الحق ، والصراط المستقيم ، الذى هو إخلاص العبادة لله - تعالى - وحده .
وقرأ ابن كثير وأبو عمرو { ليضلوا } - بفتح الياء - أى : ليستمروا فى ضلالهم ، فإنهم حين جعلهم الأنداد لله - تعالى - كانوا ضالين ، وجهلوا ذلك فاستمروا فى ضلالهم توهما منهم أنهم على صواب .
قال صاحب الكشاف : قرئ { ليضلوا } بفتح الياء وضمها . فإن قلت : الضلال لم يكن غرضهم فى اتخاذ الأنداد فما معنى اللام ؟
قلت : لما كان الضلال والإِضلال نتيجة اتخاذا الأنداد ، كما كان الإِكرام فى قولك ، جئتك لتكرمنى نتيجة المجئ ، دخلته اللام ، وإن لم يكن غرضاً ، على طريق التشبيه والتقريب .
وقوله - سبحانه - { قُلْ تَمَتَّعُواْ فَإِنَّ مَصِيرَكُمْ إِلَى النار } أمر منه - عز وجل - لنبيه - صلى الله عليه وسلم - بأن يهددهم بهذا المصير الأليم .
والتمتع بالشئ : الانتفاع به مع التلذذ والميل إليه .
أى : قل - أيها الرسول الكريم - لهؤلاء الخاسرين ، تمتعوا بما شئتم التمتع به من شهوات ولذائذ ، فإن مصيركم إلى النار لا محالة .
قال صاحب فتح القدير ما ملخصه : قوله { قُلْ تَمَتَّعُواْ } بما أنتم فيه من الشهوات ، وبما زينته لكم أنفسكم من كفران للنعم { فَإِنَّ مَصِيرَكُمْ إِلَى النار } أى : مرجعكم إليها ليس إلا .
ولما كان هذا حالهم ، وقد صاروا لفرط تهالكهم عليه لا يقلعون عنه . جعل - سبحانه - الأمر بمباشرته مكان النهى عن قربانه . إيضاحا لما تكون عليه عاقبتهم ، وأنهم لا محالة صائرون إلى النار .
فجعله { فَإِنَّ مَصِيرَكُمْ إِلَى النار } تعليل للأمر بالتمتع ، وفيه من التهديد ما لا يقادر قدره .
ويجوز أن تكون هذه الجملة جوابا لمحذوف دل عليه السياق كأنه قيل : قل تمتعوا فإن دمتم على ذلك فإن مصيركم إلى النار .
والأول أولى والنظم القرآنى عليه أدل ، وذلك كما يقال لمن يسعى فى مخالفة السلطان : " اصنع ما شئت من المخالفة فإن مصيرك إلى السيف " .
وشبيه بهذه الآية قوله - تعالى - : { قُلْ تَمَتَّعْ بِكُفْرِكَ قَلِيلاً إِنَّكَ مِنْ أَصْحَابِ النار } وقوله - تعالى - : { نُمَتِّعُهُمْ قَلِيلاً ثُمَّ نَضْطَرُّهُمْ إلى عَذَابٍ غَلِيظٍ } وقوله - تعالى - { لاَ يَغُرَّنَّكَ تَقَلُّبُ الذين كَفَرُواْ فِي البلاد . مَتَاعٌ قَلِيلٌ ثُمَّ مَأْوَاهُمْ جَهَنَّمُ وَبِئْسَ المهاد }
لقد استبدلوا بنعمة الرسول ودعوته كفرا . وكانت دعوته إلى التوحيد ، فتركوها :
( وجعلوا لله أندادا ليضلوا عن سبيله ) . .
جعلوا لله أقرانا مماثلين يعبدونهم كعبادته ، ويدينون لسلطانهم كما يدينون لسلطانه ، ويعترفون لهم بما هو من خصائص ألوهيته سبحانه !
جعلوا لله هذه الأنداد ليضلوا الناس عن سبيل الله الواحد الذي لا يتعدد ولا تتفرق به السبل .
والنص يشير إلى أن كبراء القوم عمدوا عمدا إلى تضليل قومهم عن سبيل الله ، باتخاذ هذه الأنداد من دون الله . فعقيدة التوحيد خطر على سلطان الطواغيت ومصالحهم في كل زمان . لا في زمن الجاهلية الأولى ، ولكن في زمن كل جاهلية ينحرف الناس فيها عن التوحيد المطلق ، في أية صورة من صور الانحراف ، فيسلمون قيادهم إلى كبرائهم ، وينزلون لهم عن حرياتهم وشخصياتهم ، ويخضعون لأهوائهم ونزواتهم ، ويتلقون شريعتهم من أهواء هؤلاء الكبراء لا من وحي الله . . عندئذ تصبح الدعوة إلى توحيد الله خطرا على الكبراء يتقونه بكل وسيلة . ومنها كان اتخاذ الآلهة أندادا لله في زمن الجاهلية الأولى . ومنها اليوم اتخاذ شرائع من عمل البشر ، تأمر بما لم يأمر الله به ، وتنهى عما لم ينه عنه الله . فإذا واضعوها في مكان الند لله في النفوس المضللة عن سبيل الله ، وفي واقع الحياة !
فيا أيها الرسول( قل )للقوم : ( تمتعوا ) . . تمتعوا قليلا في هذه الحياة إلى الأجل الذي قدره الله . والعاقبة معروفة : ( فإن مصيركم إلى النار ) . .
القول في تأويل قوله تعالى : { وَجَعَلُواْ للّهِ أَندَاداً لّيُضِلّواْ عَن سَبِيلِهِ قُلْ تَمَتّعُواْ فَإِنّ مَصِيرَكُمْ إِلَى النّارِ } .
يقول تعالى ذكره : وجعل هؤلاء الذين بدّلوا نعمة الله كفرا لربهم أندادا ، وهي جماع نِدّ ، وقد بيّنت معنى الندّ فيما مضى بشواهده بما أغنى عن إعادته ، وإنما أراد أنهم جعلوا لله شركاء كما :
حدثنا بشر ، قال : حدثنا يزيد ، قال : حدثنا سعيد ، عن قتادة : قوله : وَجَعَلُوا لِلّهِ أنْدَادًا والأنداد : الشركاء .
وقوله : لِيُضِلّوا عَنْ سَبِيلِهِ اختلفت القرّاء في قراءة ذلك ، فقرأته عامّة قرّاء الكوفيين : لِيُضِلّوا بمعنى : كي يضلوا الناس عن سبيل الله بما فعلوا من ذلك . وقرأته عامة قرّاء أهل البصرة : «لَيَضِلّوا » بمعنى : كي يضلّ جاعلو الأنداد لله عن سبيل الله . وقوله : قُلْ تَمَتّعُوا يقول تعالى ذكره لنبيه محمد صلى الله عليه وسلم : قل يا محمد لهم : تمتعوا في الحياة الدنيا وعيدا من الله لهم لا إباحَة لهم التمتع بها ولا أمرا على وجه العبادة ، ولكن توبيخا وتهددا ووعيدا ، وقد بَيّن ذلك بقوله : فإنّ مَصِيرَكُمْ إلى النّارِ يقول : استمتعوا في الحياة الدنيا ، فإنها سريعة الزوال عنكم ، وإلى النار تصيرون عن قريب ، فتعلمون هنالك غبّ تمتعكم في الدنيا بمعاصي الله وكفركم فيها به .
{ وجعلوا لله أندادا ليُضلّوا عن سبيله } الذي هو التوحيد . وقرأ ابن كثير وأبو عمرو ورويس عن يعقوب بفتح الياء ، وليس الضلال ولا الإضلال غرضهم في اتخاذ الأنداد لكن كان نتيجته جعل كالغرض . { قل تمتعوا } بشهواتكم أو بعبادة الأوثان فإنها من قبيل الشهوات التي يتمتع بها ، وفي التهديد بصيغة الأمر إيذان بأن المهدد عليه كالمطلوب لإفضائه إلى المهدد به ، وأن الأمرين كائنان لا محالة ولذلك علله بقوله : { فإن مصيركم إلى النار } وأن المخاطب لانهماكه فيه كالمأمور به من آمر مطاع .
و { أنداداً } جمع ند وهو المثيل والمشبه المناوىء والمراد الأصنام .
واللام في قوله : { ليضلوا } - بضم الياء - لام كي ، وقرأ ابن كثير وأبو عمرو «ليَضلوا » بفتح الياء - أي هم أنفسهم - فاللام - على هذا - لام عاقبة وصيرورة وقرأ الباقون «ليُضلوا » - بضم الياء - أي غيرهم .
وأمرهم بالتمتع هو وعيد وتهديد على حد قوله : { اعملوا ما شئتم }{[7078]} [ فصلت : 40 ] وغيره .
تفسير مقاتل بن سليمان 150 هـ :
ثم ذكر كفار قريش، فقال تعالى: {وجعلوا}، يعني: ووصفوا {لله أندادا}، يعنى شركاء، {ليضلوا عن سبيله}، يعني ليستنزلوا عن دينه الإسلام، {قل تمتعوا} في داركم قليلا، {فإن مصيركم إلى النار}...
جامع البيان عن تأويل آي القرآن للطبري 310 هـ :
يقول تعالى ذكره: وجعل هؤلاء الذين بدّلوا نعمة الله كفرا لربهم أندادا... وإنما أراد أنهم جعلوا لله شركاء..
"لِيُضِلّوا عَنْ سَبِيلِهِ" اختلفت القرّاء في قراءة ذلك، فقرأته عامّة قرّاء الكوفيين: لِيُضِلّوا بمعنى: كي يضلوا الناس عن سبيل الله بما فعلوا من ذلك. وقرأته عامة قرّاء أهل البصرة: «لَيَضِلّوا» بمعنى: كي يضلّ جاعلو الأنداد لله عن سبيل الله.
"قُلْ تَمَتّعُوا" يقول تعالى ذكره لنبيه محمد صلى الله عليه وسلم: قل يا محمد لهم: تمتعوا في الحياة الدنيا وعيدا من الله لهم لا إباحَة لهم التمتع بها ولا أمرا على وجه العبادة، ولكن توبيخا وتهددا ووعيدا، وقد بَيّن ذلك بقوله: "فإنّ مَصِيرَكُمْ إلى النّارِ" يقول: استمتعوا في الحياة الدنيا، فإنها سريعة الزوال عنكم، وإلى النار تصيرون عن قريب، فتعلمون هنالك غبّ تمتعكم في الدنيا بمعاصي الله وكفركم فيها به...
تأويلات أهل السنة للماتريدي 333 هـ :
... يذكر سفههم حين جعلوا ما لا يسمع ولا يبصر ولا ينفع ولا يدفع ولا يضر، أمثالا وأعدالا {ليضلوا عن سبيله} على علم منهم أن الله هو الذي خلقهم ورزقهم وينعم عليهم وهو الذي يدفع عنهم كل بلاء وشدة. وجائز أن يكون قوله: {وجعلوا لله أندادا ليضلوا عن سبيله} هو تفسير ما ذكر من تبديل النعمة كفرا.
{قل تمتعوا} بهذه النعم التي ذكر أنهم بدلوها كفرا {فإن مصيركم إلى النار} هذا في قوم، ماتوا على الكفر، أو يقول: {قل تمتعوا} في الدنيا، أي تمتعوا بالكفر {فإن مصيركم إلى النار} هذا في قوم، علم الله أنهم لا يؤمنون أبدا. وفيه دلالة إثبات الرسالة...
التبيان في تفسير القرآن للطوسي 460 هـ :
"جعلوا لله اندادا" زيادة على كفرهم وحجدهم نعم الله.. "ليضلوا عن سبيله" أي لتكون عاقبة أمرهم إلى الضلال الذي هو الهلاك، واللام لام العاقبة، وليست بلام الغرض، لأنهم ما عبدوا الأوثان من دون الله وغرضهم أن يهلكوا، بل لما كان لأجل عبادتهم لها استحقوا الهلاك والعذاب عبر عن ذلك بهذه اللام، كما قال "فالتقطه آل فرعون ليكون لهم عدوا وخزنا" وإنما التقطوه ليكون لهم قرة عين، ولكن لما كان عاقبة ذلك انه كان عدوهم فعبر عنه بهذه اللام... فقال الله تعالى لنبيه صلى الله عليه وسلم قل لهؤلاء الكفار الذين وصفناهم "تمتعوا" وانتفعوا بما تهوون من عاجل هذه الدنيا، فصورته صورة الأمر والمراد به التهديد بدلالة قوله "فإن مصيركم إلى النار" والمعنى مرجعكم ومآلكم إلى النار والكون فيها عما قليل...
لطائف الإشارات للقشيري 465 هـ :
رضوا بأن يكون معمولُهم معبودَهم، ومنحوتُهم مقصودَهم، فضلُّوا عن نَهْجِ الاستقامة، ونأوا عن مقر الكرامة وسيلقون غِبَّ ما صنعوا يوم القيامة... قل تمتعوا أياماً قليلة فأيام السرور قِصارٌ، ومُتَعُ الغفلة سريعة الانقضاء...
تفسير القرآن للسمعاني 489 هـ :
... "قل تمتعوا فإن مصيركم إلى النار "قال ابن عباس: لو أن كافرا كان في أشد بؤس وضر لا يهدأ ليلا ولا نهارا، كان ذلك نعيما في جنب ما يصير إليه في الآخرة، ولو أن مؤمنا كان في أنعم عيش، كان ذلك بؤسا في جنب ما يصير إليه في الآخرة...
الكشاف عن حقائق التنزيل للزمخشري 538 هـ :
{تَمَتَّعُواْ} إيذان بأنهم لانغماسهم في التمتع بالحاضر، وأنهم لا يعرفون غيره ولا يريدونه، مأمورون به، قد أمرهم آمر مطاع لا يسعهم أن يخالفوه ولا يملكون لأنفسهم أمراً دونه، وهو أمر الشهوة. والمعنى: إن دمتم على ما أنتم عليه من الامتثال لأمر الشهوة {فَإِنَّ مَصِيرَكُمْ إِلَى النار} ويجوز أن يراد الخذلان والتخلية ونحوه...
أنه تعالى لما حكى عنهم أنهم بدلوا نعمة الله كفرا ذكر أنهم بعد أن كفروا بالله جعلوا له أندادا، والمراد من هذا الجعل الحكم والاعتقاد والقول، والمراد من الأنداد الأشباه والشركاء...
الجامع لأحكام القرآن للقرطبي 671 هـ :
هو إشارة إلى تقليل ما هم فيه من ملاذ الدنيا إذ هو منقطع...
مدارك التنزيل وحقائق التأويل للنسفي 710 هـ :
التمتع أن يقضي العبد ما استطاع من شهوته...
نظم الدرر في تناسب الآيات و السور للبقاعي 885 هـ :
لما كان هذا فعل من لا عقل له، بينه بقوله: {وجعلوا لله} الذي يعلمون أنه لا شريك له في خلقهم ولا في رزقهم لان له الكمال كله {أنداداً}... {عن سبيله} لأنهم إن كانوا عقلاء فإنهم يعلمون أن هذا لازم لفعلهم فهم قاصدون له، وإلا فلا عقول لهم، لأنه لا يقدم على ما لا يعلم عاقبته إلا أبله، وهم يقولون: إنهم أبصر الناس قلوباً، وأصفاهم عقولاً. وأنفذهم أفكاراً، وأمتنهم آراء، فمن ألزم منهم بطريق النجاة ومن أحذر منهم لطرق الهلاك؟ مع ما أوقعوا أنفسهم فيه من هذا الداء العضال. ولما تقرر أنهم على الضد من جميع ما يدعونه فكانوا بذلك أهلاً للإعراض عنهم، وكان صلى الله عليه وعلى آله وسلم بمعرض أن يقول: فماذا أفعل بهم وقد أمرتني بإخراجهم إلى صراطك؟ أمره أن يدق أعناقهم بإخبارهم أن ما أضلهم من النعم إنما هو استدراج، فقال: {قل} أي تهديداً لهم فإنهم لا يشكون في قولك وإن عاندوا: {تمتعوا} وبالغوا في فعل البهائم مهما قدرتم، فإن ذلك ضائركم غير نافعكم {فإن مصيركم} أي صيرورتكم {إلى النار} بسبب تمتعكم على هذا الوجه...
إرشاد العقل السليم إلى مزايا الكتاب الكريم لأبي السعود 982 هـ :
{وَجَعَلُواْ} عطفٌ على أحلوا وما عطف عليه داخلٌ معهما في حيز الصلة وحكمِ التعجيب أي جعلوا في اعتقادهم وحكمِهم {لِلَّهِ} الفردِ الصمدِ الذي ليس كمثله شيءٌ وهو الواحد القهار... {لِيُضِلُّواْ} قومَهم الذين يشايعونهم حسبما ضلوا {عَن سَبِيلِهِ} القويمِ الذي هو التوحيدُ ويوقعوهم في ورطة الكفرِ والضلال... {قُلْ} تهديداً لأولئك الضالين المُضلين ونعياً عليهم وإيذاناً بأنهم لشدة إبائِهم قبولَ الحق وفرْطِ إنهماكِهم في الباطل وعدمِ ارعوائهم عن ذلك بحال أحقاءُ بأن يُضرب عنهم صفحاً ويُعطَفَ عنهم عِنانُ العِظة ويُخَلّوا وشأنَهم ولا يُنهَوْا عنه بل يؤمَروا بمباشرته مبالغةً في التخلية والخِذلان ومسارعةً إلى بيان عاقبته الوخيمة ويقال لهم: {تَمَتَّعُواْ} بما أنتم عليه من الشهوات التي جملتها كفرانُ النعم العظامِ واستتباعُ الناسِ في عبادة الأصنام {فَإِنَّ مَصِيرَكُمْ إِلَى النار} ليس إلا، فلا بد لكم من تعاطي ما يوجب ذلك ويقتضيه من أحوالكم بل هي في الحقيقة صورةٌ لدخولها ومثالٌ له حسبما يلوح به قولُه سبحانه: {وَأَحَلُّواْ قَوْمَهُمْ دَارَ البوار} [إبراهيم، الآية 28] الخ، فهو تعليلٌ للأمر المأمورِ، وفيه من التهديد الشديدِ والوعيدِ الأكيد ما لا يوصف، أو قل لهم تصويراً لحالهم وتعبيراً عما يُلجئهم إلى ذلك: تمتعوا، إيذاناً بأنهم لفرْط انغماسِهم في التمتع بما هم فيه من غير صارفٍ يَلويهم ولا عاطفٍ يَثنيهم مأمورون بذلك من قِبل آمر الشهوة مذعِنون لحكمه منقادون لأمره كدأب مأمورٍ ساعٍ في خدمة آمرٍ مُطاع، فليس قوله تعالى: {فَإِنَّ مَصِيرَكُمْ إِلَى النار} [إبراهيم، الآية 30] حينئذٍ تعليلاً للأمر بل هو جوابُ شرطٍ ينسحب عليه الكلام، كأنه قيل: هذه حالُكم فإن دمتم عليه فإن مصيركم إلى النار وفيه التهديدُ والوعيد لا في الأمر...
فتح القدير الجامع بين فني الرواية والدراية من علم التفسير للشوكاني 1250 هـ :
ثم هدّدهم سبحانه، فقال لنبيه صلى الله عليه وسلم: {قُلْ تَمَتَّعُوا} بما أنتم فيه من الشهوات، وما زينته لكم أنفسكم من كفران النعم وإضلال الناس {فَإِنَّ مَصِيرَكُمْ إِلَى النار} أي: مردّكم ومرجعكم إليها ليس إلا، ولما كان هذا حالهم، وقد صاروا لفرط تهالكهم عليه وانهماكهم فيه لا يقلعون عنه، ولا يقبلون فيه نصح الناصحين، جعل الأمر بمباشرته مكان النهي قربانه إيضاحاً لما تكون عليه عاقبتهم، وأنهم لا محالة صائرون إلى النار فلا بدّ لهم من تعاطي الأسباب المقتضية ذلك، فجملة: {فَإِنَّ مَصِيرَكُمْ إِلَى النار} تعليل للأمر بالتمتع، وفيه من التهديد ما لا يقادر قدره...
في ظلال القرآن لسيد قطب 1387 هـ :
جعلوا لله أقرانا مماثلين يعبدونهم كعبادته، ويدينون لسلطانهم كما يدينون لسلطانه، ويعترفون لهم بما هو من خصائص ألوهيته سبحانه! جعلوا لله هذه الأنداد ليضلوا الناس عن سبيل الله الواحد الذي لا يتعدد ولا تتفرق به السبل. والنص يشير إلى أن كبراء القوم عمدوا عمدا إلى تضليل قومهم عن سبيل الله، باتخاذ هذه الأنداد من دون الله. فعقيدة التوحيد خطر على سلطان الطواغيت ومصالحهم في كل زمان. لا في زمن الجاهلية الأولى، ولكن في زمن كل جاهلية ينحرف الناس فيها عن التوحيد المطلق، في أية صورة من صور الانحراف، فيسلمون قيادهم إلى كبرائهم، وينزلون لهم عن حرياتهم وشخصياتهم، ويخضعون لأهوائهم ونزواتهم، ويتلقون شريعتهم من أهواء هؤلاء الكبراء لا من وحي الله.. عندئذ تصبح الدعوة إلى توحيد الله خطرا على الكبراء يتقونه بكل وسيلة. ومنها كان اتخاذ الآلهة أندادا لله في زمن الجاهلية الأولى. ومنها اليوم اتخاذ شرائع من عمل البشر، تأمر بما لم يأمر الله به، وتنهى عما لم ينه عنه الله. فإذا واضعوها في مكان الند لله في النفوس المضللة عن سبيل الله، وفي واقع الحياة! فيا أيها الرسول (قل) للقوم: (تمتعوا). تمتعوا قليلا في هذه الحياة إلى الأجل الذي قدره الله. والعاقبة معروفة: (فإن مصيركم إلى النار)...
التحرير والتنوير لابن عاشور 1393 هـ :
قرأ الجمهور {ليضلوا} بضم الياء التحتية من أضل غيره إذا جعله ضالاً، فجعل الإضلال علة لجعلهم لله أنداداً، وإن كانوا لم يقصدوا تضليل الناس وإنما قصدوا مقاصد هي مساوية للتضليل لأنها أوقعت الناس في الضلال، فعُبر على مساوي التضليل بالتضليل لأنه آيل إليه وإن لم يقصدوه، فكأنه قيل: للضلال عن سبيله، تشنيعاً عليهم بغاية فعلهم وهم ما أضلوا إلا وقد ضَلّوا، فعلم أنهم ضلوا وأضلوا، وذلك إيجاز. وقرأ ابن كثير، وأبو عمرو، ورُويْس عن يعقوب {لِيَضلّو} بفتح الياء والمعنى: ليستمر ضلالهم فإنهم حين جعلوا الأنداد كان ضلالهم حاصلاً في زمن الحال...
وسبيل الله: كل عمل يجري على ما يرضي الله. شبه العمل بالطريق الموصلة إلى المحلة، وقد تقدم غير مرة...
زهرة التفاسير - محمد أبو زهرة 1394 هـ :
المعنى ليضلوا عن سبيل الله تعالى بذلك الجهل الذي جعلوا فيه الأحجار أندادا لله تعالى، فإنه ذاته هلاك، وعاقبته ضلال، إذ العاقبة دائما من جنس مؤثراتها والنتيجة دائما من جنس مقدماتها. وهم إذا ضلوا بها يعملون على إضلال غيرهم بالفتنة في الدين، وإيذاء المؤمنين وسب دعاة الحق، والسخرية منهم...
"قل تمتعوا فإن مصيركم إلى النار"... الأمر إما أن يُراد به إنفاذ طلب، وإما أن يُراد به الصد عن الطلب بأسلوب تهكميّ. ونجد في قول الإمام علي –كرّم الله وجهه- قولا يشرح لنا هذا: (لا شر في شر بعده الجنة، ولا خير في خير بعده النار). فمن يقول: إن التكاليف صعبة، عليه أن يتذكّر أن بعدها الجنة، ومن يرى المعاصي والكفر أمرا هينا، عليه أن يعرف أن بعد ذلك مصيره إلى النار، فلا تعزل المقدمات عن الأسباب، ولا تعزل السبب عن المُسبّب أو المقدمة عن النتائج...
وما دام المصير إلى النار فلا متعة في تلك الحياة...
تفسير من و حي القرآن لحسين فضل الله 1431 هـ :
{لِّيُضِلُّواْ عَن سَبِيلِهِ} لما يمثله ذلك من انحرافٍ عن المنهج الذي يريد الله للناس أن يتخذوه في حياتهم العامة والخاصة، وابتعادٍ عن الأهداف التي يريد الله للحياة أن تتّجه إليها.
{قُلْ تَمَتَّعُواْ} وخذوا حريتكم في ما تتقلبون به من حياة وصحة وأمان، واستسلموا للّحظة الحاضرة التي تشغلكم عن التفكير بالمصير الذي تتجهون إليه، فتؤدي بكم إلى الغفلة الخادعة التي تثير فيكم الشعور بالثقة في المستقبل، والقوة في الموقف،
{فَإِنَّ مَصِيرَكُمْ إِلَى النَّارِ} لأنها النهاية الطبيعية لتلك البداية. وهذا هو منطق الرسالة الذي يخاطب به الرسل هؤلاء المعاندين المتكبرين الذين أصرّوا على الكفر والعصيان، أما الذين لا تزال قلوبهم مفتوحة للموعظة وللنصيحة، فإن هناك منطقاً آخر، يوجّه إليهم بأسلوب آخر...
الأمثل في تفسير كتاب الله المنزل - لجنة تأليف بإشراف الشيرازي 2009 هـ :
(وجعلوا لله أنداداً ليضلّوا عن سبيله) لكي يستفيدوا عدّة أيّام من حياتهم الماديّة ومن رئاستهم وحكومتهم في ظلّ الشرك والكفر لإضلال الناس عن طريق الحقّ... أيّها النّبي (قل تمتّعوا فإنّ مصيركم إلى النار). فحياتكم هذه شقاء ورئاستكم فاسدة، ومع ذلك فانّها تعدّ حياة لذيذة وسعيدة بالنسبة للنهاية التي تنتظرهم...