وبعد هذا التوبيخ لهم وهم فى ساحة الحشر ، انتقلت السورة إلى توبيخهم على فعلتهم حين كانوا فى الدنيا . فتقول : { أَلَمْ يَرَوْاْ أَنَّا جَعَلْنَا الليل لِيَسْكُنُواْ فِيهِ والنهار مُبْصِراً } .
أى : أبلغت الغفلة والجهالة بهؤلاء المكذبين - أنهم يعيشون - فى هذا الكون ليأكلوا ويشربوا ويتمتعوا ، دون أن يعتبروا أو يتفكروا .
لقد أوجدنا لهم ليلا يسكنون فيه ، وأوجدنا لهم نهارا يبتغون فيه أرزاقهم ، وجعلنا الليل والنهار بهذا المقدار ، لتتيسر لهم أسباب الحياة والراحة ، فكيف لم يهتدوا إلى أن لهذا الكون خالقا حكيما قادرا ؟
{ إِنَّ فِي ذَلِكَ } الذى جعلناه ، لهم ، من وجود الليل والنهار بهذه الطريقة { لآيَاتٍ } بينات واضحات على وحدانيتنا وقدرتنا { لِّقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ } بأن الله - تعالى - هو الخالق لكل شىء وهو الإله الحق لا إله سواه .
وذلك ، لأن من تأمل فى تعاقب الليل والنهار بتلك الصورة البديعة المطردة ، وفى اختلافهما طولا وقصرا ، وظلمة وضياء . . . أيقن بأن لهذا الكون إلها واحدا قادرا على إعادة الحياة إلى الأموات ، ليحاسبهم على أعمالهم .
قال الآلوسى : وقوله : { والنهار مُبْصِراً } أى : ليبصروا بما فيه من الإضاءة ، وطرق التقلب فى أمور معاشهم ، فبولغ حيث جعل الإبصار الذى هو حال الناس حالا له ، ووصفا من أوصافه التى جعل عليها بحيث لم ينفك عنها ، ولم يسلك فى الليل هذا المسلك . لما أن تأثير ظلام الليل فى السكون ، ليس بمثابة تأثير ضوء النهار فى الإبصار .
وهو هنا ينتقل من مشهد المكذبين بآيات الله ، المبهوتين في ساحة الحشر إلى مشهد من مشاهد الدنيا ، كان جديرا أن يوقظ وجدانهم ، ويدعوهم إلى التدبر في نظام الكون وظواهره ، ويلقي في روعهم أن هناك إلها يرعاهم ، ويهيىء لهم أسباب الحياة والراحة ، ويخلق الكون مناسبا لحياتهم لا مقاوما لها ولا حربا عليها ولا معارضا لوجودها أو استمرارها :
ألم يروا أنا جعلنا اليل ليسكنوا فيه والنهار مبصرا ? إن في ذلك لآيات لقوم يؤمنون .
ومشهد الليل الساكن ، ومشهد النهار المبصر ، خليقان أن يوقظا في الإنسان وجدانا دينيا يجنح إلى الاتصال بالله ، الذي يقلب الليل والنهار ، وهما آيتان كونيتان لمن استعدت نفسه للإيمان ، ولكنهم لا يؤمنون .
ولو لم يكن هناك ليل فكان الدهر كله نهارا لانعدمت الحياة على وجه الأرض ؛ وكذلك لو كان الدهر كله ليلا . لا بل إنه لو كان النهار أو الليل أطول مما هما الآن عشر مرات فقط لحرقت الشمس في النهار كل نبات ، ولتجمد في الليل كل نبات . وعندئذ تستحيل الحياة . ففي الليل والنهار بحالتهما الموافقة للحياة آيات . ولكنهم لا يؤمنون .
وقوله : أَلَم يَرَوْا أنّا جَعَلَنْا اللّيْلَ لِيَسْكُنُوا فِيهِ يقول تعالى ذكره : ألم ير هؤلاء المكذّبون بآياتنا تصريفنا الليل والنهار ، ومخالفتنا بينهما بتصييرنا هذا سكنا لهم يسكنون فيه ، ويهدءون راحة أبدانهم من تعب التصرّف والتقلب نهارا ، وهذا مضيئا يبصرون فيه الأشياء ويعاينونها فيتقلبون فيه لمعايشهم ، فيتفكروا في ذلك ، ويتدبروا ، ويعلموا أن مصرّف ذلك كذلك هو الإله الذي لا يُعجزه شيء ، ولا يتعذّر عليه إماتة الأحياء ، وإحياء الأموات بعد الممات ، كما لم يتعذّر عليه الذهاب بالنهار والمجيء بالليل ، والمجيء بالنهار والذهاب بالليل مع اختلاف أحوالهما إنّ في ذلكَ لَآيَاتٍ لقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ يقول تعالى ذكره : إن في تصييرنا الليل سكنا ، والنهار مبصرا لدلالة لقوم يؤمنون بالله على قدرته على ما آمنوا به من البعث بعد الموت ، وحجة لهم على توحيد الله .
مشروع تقني يهدف لتوفير قالب تقني أنيق وحديث يليق بالمحتوى الثري لمشروع الجامع التاريخي لتفسير القرآن الكريم الصادر عن مؤسسة البحوث والدراسات العلمية (مبدع)، وقد تم التركيز على توفير تصفح سلس وسهل للمحتوى ومتوافق تماما مع أجهزة الجوال، كما تم عمل بعض المميزات الفريدة كميزة التلوين التلقائي للنصوص والتي تم بناء خوارزمية برمجية مخصصة لهذا الغرض.
تم الحصول على المحتوى من برنامج الجامع التاريخي لتفسير القرآن الكريم.
المشروع لا يتبع أي جهة رسمية أو غير رسمية، إنما هي جهود فردية ومبادرات شخصية لبعض الخبراء في مجال البرمجيات.
المشروع لازال في بداياته وننوي إن شاء الله العمل على تطويره بشكل مستمر وسنضع خطة تطوير توضح المميزات التي يجري العمل عليها إن شاء الله.
الدعاء للقائمين عليه، نشر الموقع والتعريف به، إرسال الملاحظات والمقترحات.