{ وكذب بالحسنى فسنيسره للعسرى } سنهيئه للشر بأن نجريه على يديه حتى يعمل بما لا يرضي الله ، فيستوجب به النار . قال مقاتل : نعسر عليه أن يأتي خيراً . وروينا عن علي عن النبي صلى الله عليه وسلم قال : " ما من نفس منفوسة إلا كتب الله مكانها من الجنة أو النار ، فقال رجل : أفلا نتكل على كتابنا وندع العمل ؟ قال : لا ولكن اعملوا فكل ميسر لما خلق له ، أما أهل الشقاء فييسرون لعمل أهل الشقاء ، وأما أهل السعادة فييسرون لعمل أهل السعادة ، ثم تلا : { فأما من أعطى واتقى * وصدق بالحسنى * فسنيسره لليسرى * وأما من بخل واستغنى * وكذب بالحسنى * فسنيسره للعسرى } " قيل : نزلت في أبي بكر الصديق اشترى بلالاً من أمية ابن خلف ببردة وعشرة أوراق ، فأعتقه فأنزل الله تعالى : { والليل إذا يغشى } إلى قوله : { إن سعيكم لشتى } أي : سعي أبي بكر وأمية . وروى علي بن حجر عن إسحاق عن أبي نجيح عن عطاء ، قال : " كان لرجل من الأنصار نخلة وكان له جار يسقط من بلحها في داره ، وكان صبيانه يتناولون منه ، فشكا ذلك إلى النبي صلى الله عليه وسلم فقال له النبي صلى الله عليه وسلم : بعنيها بنخلة في الجنة فأبى ، فخرج فلقيه أبو الدحداح ، فقال له : هل لك أن تبيعها بحش ، يعني حائطاً له ، فقال له : هي لك ، فأتى النبي صلى الله عليه وسلم فقال : يا رسول الله أتشتريها مني بنخلة في الجنة ؟ قال : نعم قال : هي لك ، فدعا النبي صلى الله عليه وسلم جار الأنصاري فقال : خذها . فأنزل الله تعالى : { والليل إذا يغشى } إلى قوله : { إن سعيكم لشتى } أبو الدحداح والأنصاري صاحب النخلة " . { فأما من أعطى واتقى } أبو الدحداح ، { وصدق بالحسنى فسنيسره لليسرى } يعني الجنة ، { وأما من بخل واستغنى } أي الأنصاري ، { وكذب بالحسنى } يعني الثواب ، { فسنيسره للعسرى }يعني النار .
{ فَسَنُيَسِّرُهُ للعسرى } أى : فسنهيئه للخصلة التى توصله إلى العسر والمشقة والشدة ، بأن نجعله بسبب سوء اختياره ، يؤثر الغى على الرشد ، والباطل على الحق ، والبخل على السخاء ، فتكون عاقبته فرطا ، ونهايته الخسران والبوار .
والمتأمل فى هذه الآيات الكريمة يراها ، وقد وصفت المؤمنين الصادقين بثلاث صفات هى جماع كل خير ، وأساس جميع الفضائل : وصفهم بالسخاء ، وبالخوف من الله - تعالى - ، وبالتصديق بكل ما يجب التصديق به ، ورتب على ذلك توفيقهم للخصلة الحسنى . . التى تنتهى بهم إلى الفوز والسعادة .
ووصف - أيضا - أهل الفسوق والفجور بثلاث صفات ، هى أساس البلاء ، ومنبع الفساد ، ألا وهى : البخل ، والغرور ، والتكذيب بكل ما يجب الإِيمان به . . ورتب - سبحانه - على ذلك تهيئتهم للخصلة العسرى ، التى توصلهم إلى سوء المصير ، وشديد العقاب . .
وقد ساق الإِمام ابن كثير عند تفسيره لهذه الآيات ، جملة من الأحاديث الشريفة ، فقال ما ملخصه : قوله : { وَكَذَّبَ بالحسنى } أى : بالجزاء فى الدار الآخرة { فَسَنُيَسِّرُهُ للعسرى } أى : لطريق الشر ، كما قال - تعالى - : { وَنُقَلِّبُ أَفْئِدَتَهُمْ وَأَبْصَارَهُمْ كَمَا لَمْ يُؤْمِنُواْ بِهِ أَوَّلَ مَرَّةٍ وَنَذَرُهُمْ فِي طُغْيَانِهِمْ يَعْمَهُونَ } والآيات فى هذا المعنى كثيرة ، ودالة على أن الله يجازى من قصد الخير بالتوفيق له ، ومن قصد الشر بالخذلان ، وكل ذلك بقدر مقدر ، والأحاديث الدالة على هذا المعنى كثيرة .
منها : ما أخرجه البخارى عن على بن أبى طالب - رضى الله عنه - قال :
" كنا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم فى بقيع الغرقد فى جنازة ، فقال : " ما منكم من أحد إلا وقد كتب مقعدة من الجنة ، ومقعدة من النار " فقالوا : يا رسول الله أفلا نتكل ؟ فقال : " اعملوا فكل ميسر لما خلق له " ثم قرأ : { فَأَمَّا مَنْ أعطى واتقى . . . } إلى قوله : { للعسرى } " .
وقوله : فَسَنُيَسّرُهُ لِلْعُسْرَى يقول تعالى ذكره : فسنهيئه في الدنيا للخَلّة العُسرى ، وهو من قولهم : قد يسرت غنم فلان : إذا ولدت وتهيأت للولادة ، وكما قال الشاعر :
هُمَا سَيّدَانا يَزْعُمانِ وإنّمَا *** يَسُودَانِنا أنْ يَسّرَتْ غَنَماهُمَا
وقيل : فَسَنُيَسّرُهُ لِلْعُسْرَى ولا تيسر في العُسرى للذي تقدّم في أوّل الكلام من قوله : فَسَنُيَسّرُهُ لِلْيُسْرَى وإذا جمع بين كلامين أحدهما ذكر الخير والاَخر ذكر الشرّ ، جاز ذلك بالتيسير فيهما جميعا والعُسرى التي أخبر الله جلّ ثناؤه أنه ييسره لها : العمل بما يكرهه ولا يرضاه . وبنحو الذي قلنا في ذلك جاء الأثر عن رسول الله صلى الله عليه وسلم . ذكر الخبر بذلك :
حدثني واصل بن عبد الأعلى وأبو كُرَيب ، قالا : حدثنا وكيع ، عن الأعمش ، عن سعد بن عُبيدة ، عن أبي عبد الرحمن السّلميّ ، عن عليّ ، قال : كُنّا جلوسا عند النبيّ صلى الله عليه وسلم ، فنكَتَ الأرض ، ثم رفع رأسه فقال : «ما مِنْكمْ مِنْ أحَدٍ إلاّ وَقَدْ كُتِبَ مَقْعَدُهُ مِنَ الجَنّةِ وَمَقْعَدُهُ مِنَ النّارِ » . قلنا : يا رسول الله أفلا نتّكل ؟ قال : «لا ، اعْمَلُوا فَكُلّ مُيَسّرٌ » ، ثم قرأ : فأمّا مَنْ أعْطَى وَاتّقَى وَصَدّقَ بالْحُسْنَى فَسَنُيَسّرُهُ لِلْيُسْرَى وَأمّا مَنْ بَخِلَ وَاسْتَغْنَى وَكَذّبَ بالْحُسْنَى فَسَنُيَسّرُهُ لِلْعُسْرَى .
حدثنا ابن بشار ، قال : حدثنا عبد الرحمن ، قال : حدثنا زائدة بن قُدامة ، عن منصور ، عن سعد بن عُبيدة عن أبي عبد الرحمن السّلَميّ ، عن عليّ ، قال : كنا في جنازة في البقيع ، فأتانا رسول الله صلى الله عليه وسلم فجلس وجلسنا معه ، ومعه عود يَنْكُت في الأرض ، فرفع رأسه إلى السماء فقال : «ما مِنْكمْ مِنْ نَفْسٍ مَنْفُوسَةٍ إلاّ قَدْ كُتِبَ مَدْخَلُها » ، فقال القول : يا رسول الله ألا نتكل على كتابنا ، فمن كان من أهل السعادة فإنه يعمل للسعادة ، ومن كان من أهل الشقاء فإنه يعمل للشقاء ، فقال : «بَلِ اعْمَلُوا فَكُلّ مُيَسّرٌ فأمّا مَنْ كانَ مِنْ أهْلِ السّعادَةِ فإنّهُ يُيَسّرُ لِعَمَلِ السّعادَةِ وأمّا مَنْ كانَ مِنْ أهْلِ الشّقاء فإنّهُ يُيَسّرُ للشّقاءِ » ، ثم قرأ : فأمّا مَنْ أعْطَى واتّقَى وَصَدّقَ بالْحُسْنَى فَسَنُيَسّرُهُ لِلْيُسْرَى وأمّا مَنْ بَخِلَ وَاسْتَغْنَى وكَذّبَ بالْحُسْنَى فَسَنُيَسّرُهُ لِلْعُسْرَى » .
حدثنا أبو السائب ، قال : حدثنا أبو معاوية ، عن الأعمش ، عن سعد بن عبيدة ، عن أبي عبد الرحمن السلميّ ، عن عليّ ، عن النبيّ صلى الله عليه وسلم بنحوه .
حدثنا ابن المثنى ، قال : حدثنا محمد بن جعفر ، قال : حدثنا شعبة ، عن منصور والأعمش : أنهما سمعا سعد بن عُبيدة ، عن أبي عبد الرحمن السّلَميّ ، عن عليّ ، عن النبيّ صلى الله عليه وسلم أنه كان في جنازة ، فأخذ عودا فجعل ينكُت في الأرض ، فقال : «ما مِنْ أحَدٍ إلاّ وَقَدْ كُتِبَ مَقْعَدُهُ مِنَ النّارِ أوْ مِنَ الجَنّةِ » ، فقالوا : يا رسول الله أفلا نتّكل ؟ قال : «اعْمَلُوا فَكُلّ مُيَسّرٌ فأمّا مَنْ أعْطَى وَاتّقَى وَصَدّقَ بالْحُسْنَى فَسَنُيَسّرُهُ للْيُسْرَى وأمّا مَنْ بَخِلَ وَاسْتَغْنَى وكَذّبَ بالْحُسْنَى فَسَنُيَسّرُهُ لِلْعُسْرَى » .
حدثنا ابن حُميد ، قال : حدثنا مهران ، عن سفيان ، عن منصور والأعمش ، عن سعد بن عُبيدة ، عن أبي عبد الرحمن السّلَميّ ، عن عليّ رضي الله عنه قال : كنا جلوسا مع النبيّ صلى الله عليه وسلم ، فتناول شيئا من الأرض بيده ، فقال : «ما مِنْكُمْ مِنْ أحَدٍ إلاّ وَقَدْ عُلِمَ مَقْعَدُهُ مِنَ الجَنّةِ والنّارِ » قالوا : يا نبيّ الله ، أفلا نتكل ؟ قال : «لا اعْمَلُوا فَكُلّ مُيَسّرٌ لِمَا خُلِقَ لَهُ » ، ثم قرأ : فأمّا مَنْ أعْطَى وَاتّقَى . . . الاَيتين .
قال : ثنا مهران ، عن أبي سنان ، عن عبد الملك بن سَمُرة بن أبي زائدة ، عن النّزّال بن سَبْرَةَ ، قال : قال النبيّ صلى الله عليه وسلم : «ما مِنْ نَفْسٍ مَنْفُوسَةٍ إلاّ قَدْ كَتَبَ اللّهُ عَلَيْها ما هِيَ لاقِيَتُهُ » وأعرابي عند النبيّ صلى الله عليه وسلم مُرتاد ، فقال الأعرابيّ : فما جاء بي أضرب من وادي كذا وكذا ، إن كان قد فُرِغ من الأمر ؟ فنكت النبيّ صلى الله عليه وسلم في الأرض ، حتى ظنّ القوم أنه ودّ أنه لم يكن تكلم بشيء منه ، فقال النبيّ صلى الله عليه وسلم : «كُلّ مُيَسّرٌ لِمَا خُلِقَ لَهُ ، فَمَنْ يُرِدِ اللّهُ بِهِ خَيرا يَسّرَهُ لِسَبِيلِ الخَيرِ ، وَمَنْ يُرِدْ بِهِ شَرّا يَسّرَهُ لِسَبِيلِ الشّرّ » ، فلقيت عمرو بن مُرّة ، فعرضت عليه هذا الحديث ، فقال : قال النبيّ صلى الله عليه وسلم ، وزاد فيه : فأمّا مَنْ أعْطَى وَاتّقَى وَصَدّقَ بالْحُسْنَى فَسَنُيَسّرُهُ لِلْيُسْرَى وأمّا مَنْ بَخِلَ وَاسْتَغْنَى وكَذّبَ بالْحُسْنَى فَسَنُيَسّرُهُ لِلْعُسْرَى .
حدثني يعقوب بن إبراهيم ، قال : حدثنا هشيم ، قال : حدثنا حصين ، عن سعد بن عبيدة ، عن أبي عبد الرحمن السّلَمي ، قال : لما نزلت هذه الاَية : إنّا كُلّ شَيْءٍ خَلَقْناهُ بِقَدَرٍ قال رجل : يا رسول الله ، ففيم العمل ؟ أفي شيء نستأنفه ، أو في شيء قد فُرغ منه ؟ فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : «اعْمَلُوا فَكُلّ مُيَسّرٌ : سَنُيَسّرُهُ لِلْيُسْرَى ، وَسُنَيَسّرُهُ لِلْعُسْرَى » .
حدثني عمرو بن عبد الملك الطائي ، قال : حدثنا محمد بن عبيدة ، قال : حدثنا الجراح ، عن إبراهيم بن عبد الحميد ، عن الحجاج بن أرطأة ، عن أبي إسحاق الهمداني ، عن سليمان الأعمش ، رفع الحديث إلى عليّ بن أبي طالب رضي الله عنه ، أنه قال : كان رسول الله صلى الله عليه وسلم ذات يوم جالسا وبيده عود ينكُت به في الأرض ، فرفع رأسه فقال : «ما مِنْكمْ مِنْ أحَدٍ وَلا مِنَ النّاس ، إلاّ وَقَدْ عُلِمَ مَقْعَدُهُ مِنَ الجَنّةِ أوِ النّارِ » ، قلنا : يا رسول الله أفلا نتوكل ؟ قال لهم : «اعْمَلُوا فَكُلّ مُيَسّرٌ لِمَا خُلِقَ لَهُ » ، ثم قال : «أما سَمِعْتُمُ اللّهَ فِي كِتابِهِ يَقُولُ : فأمّا مَنْ أعْطَى وَاتّقَى وَصَدّقَ بالْحُسْنَى فَسَنُيَسّرُهُ لِلْيُسْرَى وأمّا مَنْ بَخِلَ وَاسْتَغْنَى وكَذّبَ بالْحُسْنَى فَسَنُيَسّرُه لِلْعُسْرَى » .
حدثنا ابن المثنى ، قال : حدثنا عبد الرحمن بن مَهْدِيّ ، قال : حدثنا خالد بن عبد الله ، عن داود بن أبي هند ، عن عكرِمة ، عن ابن عباس فَسَنُيَسّرُهُ لِلْعُسْرَى : للشرّ من الله .
حدثني يونس ، قال : أخبرنا ابن وهب ، قال : أخبرني عمرو بن الحرث ، عن أبي الزّبير ، عن جابر بن عبد الله أنه قال : يا رسول الله ، أنعمل لأمر قد فُرغ منه ، أو لأمر نأتنفه ؟ فقال صلى الله عليه وسلم : «كُلّ عامِلٍ مُيَسّرٌ لِعَمَلِهِ » .
حدثني يونس ، قال : حدثنا سفيان ، عن عمرو بن دينار ، عن طلق بن حبيب ، عن بشير بن كعب ، قال : سأل غلامان شابان النبيّ صلى الله عليه وسلم ، فقالا : يا رسول الله ، أنعمل فيما جفّت به الأقلام ، وجرَت به المقادير ، أو في شيء يستأنف ؟ فقال : «بَلْ فِيما جَفّتْ به الأقْلامُ ، وَجَرَتْ بهِ المَقادِيرُ » قالا : ففيم العمل إذن ؟ قال : «اعْمَلُوا ، فَكُلّ عامِلٍ مُيَسّرٌ لعَمَلِهِ الّذِي خُلِقَ لَهُ » ، قالا : فالاَن نجدّ ونعمل .
والتيسير : جعل شيء يسيرَ الحصول ، ومفعول فعل التيسير هو الشيء الذي يجعل يسيراً ، أي غير شديد ، والمجرور باللام بعده هو الذي يسهَّل الشيءُ الصعب لأجله وهو الذي ينتفع بسهولة الأمر ، كما في قوله تعالى : { ويسر لي أمري } [ طه : 26 ] وقوله : { ولقد يسرنا القرآن للذكر } [ القمر : 17 ] .
واليسرى في قوله : { لليسرى } هي ما لا مشقة فيه ، وتأنيثها : إما بتأويل الحالة ، أي الحالة التي لا تشق عليه في الآخرة ، وهي حالة النعيم ، أو على تأويلها بالمكانة . وقد فسرت اليسرى بالجنة عن زيد بن أسلم ومجاهد . ويحتمل اللفظ معاني كثيرة تندرج في معاني النافع الذي لا يشق على صاحبه ، أي الملائم .
والعسرى : إما الحالة وهي حالة العسر والشدة ، أي العذاب ، وإما مكانته وهي جهنّم ، لأنها مكان العسر والشدائد على أهلها قال تعالى : { فذلك يومئذ يوم عسير على الكافرين غير يسير } [ المدثر : 9 ، 10 ] ، فمعنى : « نيسره » ندرّجُهُ في عملي السعادة والشقاوة وبه فسر ابن عطية ، فالأعمال اليسرى هي الصالحة ، وصفت باليسرى باعتبار عاقبتها لصاحبها ، وتكون العسرى الأعمال السيئة باعتبار عاقبتها على صاحبها فتأنيثهما باعتبار أن كلتيهما صفة طائفة من الأعمال .
وحرف التنفيس على هذا التفسير يكون مراداً منه الاستمرار من الآن إلى آخر الحياة كقوله تعالى : { قال سوف أستغفر لكم ربي } [ يوسف : 98 ] .
وحرف ( ال ) في « اليسرى » وفي « العسرى » لتعريف الجنس أو للعهد على اختلاف المعاني .
وإذ قد جاء ترتيب النظم في هذه الآية على عكس المتبادر إذ جُعل ضمير الغيبة في « نيسره لليسرى » العائدُ إلى { من أعطى واتقى } هو الميسرَ ، وجعل ضمير الغيبة في « نيسره للعسرى » العائدُ إلى { من بخل واستغنى } هو الميسرَ ، أي الذي صار الفعل صعبُ الحصول حاصلاً له ، وإذ وقع المجروران باللام « اليسرى » و « العسرى » ، وهما لا ينتفعان بسهولة من أعلى أو من بَخل ، تعين تأويل نظم الآية بإحدى طريقتين :
الأولى : إيفاء فعل « نيسر » على حقيقته وجَعْلُ الكلام جارياً على خلاف مقتضى الظاهر بطريق القلب بأن يكون أصل الكلام : فسنيسر اليسرى له وسنيسر العسرى له ولا بد من مقتض للقلب ، فيصار إلى أن المتقضي إفادة المبالغة في هذا التيسير حتى جعل الميسَّر ميسراً له والميسر له ميسراً على نحو ما وجهوا به قول العرب : عرضت الناقة على الحوض .
والثانية : أن يكون التيسير مستعملاً مجازاً مرسلاً في التهيئة والإعداد بعلاقة اللزوم بين إعداد الشيء للشيء وتيسره له ، وتكون اللام من قوله : { لليسرى } و { للعسرى } لام التعليل ، أي نيسره لأجل اليسرى أو لأجل العسرى ، فالمراد باليسرى الجنة وبالعُسرى جهنم ، على أن يكون الوصفان صارا علماً بالغلبة على الجنة وعلى النار ، والتهيئةُ لا تكون لذات الجنة وذاتتِ النار فتعين تقدير مضاف بعد اللام يناسب التيسير فيقدر لدخُول اليسرى ولدخول العسرى ، أي سنعجّل به ذلك .
والمعنى : سنَجْعل دخول هذه الجنةَ سريعاً ودخولَ الآخِر النارَ سريعاً ، بشبه الميسَّر من صعوبة لأن شأن الصعب الإِبطاءُ وشأن السهل السرعةُ ، ومنه قوله تعالى : { ذلك حشر علينا يسير } [ ق : 44 ] ، أي سريع عاجل . ويكون على هذا الوجه قوله : { فسنيسره للعسرى } مشاكلةٌ بُنِيت على استعارة تهكمية قرينتها قولُه : « العسرى » . والذي يدعو إلى هذا أن فعل « نيسر » نصبَ ضمير { من أعطى واتقى وصدَّق } ، وضمير { من بَخل واستغنى وكذَّب ، فهو تيسيرٌ ناشىء عن حصول الأعمال التي يجمعها معنى اتَّقى } أو معنى { استغنى } ، فالأعمال سابقة لا محالة . والتيسير مستقبل بعد حصولها فهو تيسير ما زاد على حصولها ، أي تيسير الدوام عليها والاستزادة منها .
ويجوز أن يكون معنى الآية : أن يُجعل التيسير على حقيقتِهِ ويجعل اليسرى وصفاً أي الحالة اليسرى ، والعسرى أي الحالة غير اليسرى .
وليس في التركيب قلب ، والتيسير بمعنى الدوام على العمل ، ففي « صحيح البخاري » عن علي قال : " كنا مع رسول الله في بقيع الغَرقد في جنازة فقال : ما منكم من أحد إلا وقد كُتب مَقْعَده من الجنة ومَقْعَدَه من النار ، فقالوا : يا رسول الله أفلا نتكِلُ ؟ فقال : اعملوا فكل ميسَّر لما خلق له . أما أهل السعادة فَيُيَسَّرُونَ لعمل أهل السعادة ، وأما أهل الشقاء فييسرون لعمل أهل الشقاء ، ثم قرأ : { فأما من أعطى واتقى وصدق بالحسنى فسنيسره لليسرى وأما من بخل واستغنى وكذب بالحسنى فسنيسره للعسرى } " اه .
فصدر الحديث لا علاقة له بما تضمنته هذه الآية لأن قوله : " ما من أحد إلا وقد كتبَ مقعده " الخ معناه قد علم الله أن أحداً سيعمل بعمل أهل الجنة حتى يُوافيَ عليه ، أو سيعمل بعمل أهل النار حتى يُوافِيَ عليه ، فقوله : « وقد كتب مقعده » جعلت الكتابة تمثيلاً لعلم الله بالمعلومات علماً موافقاً لما سيكون لا زيادة فيه ولا نقص ، كالشيء المكتوب إذ لا يقبل زيادة ولا نقصاً دون المقول الذي لا يكتب فهو لا ينضبط .
فنشأ سؤال من سأل عن فائدة العمل الذي يعمله الناس ، ومعنى جوابه : أن فائدة العمل الصالح أنه عنوان على العاقبة الحسنة . وذُكر مقابله وهو العمل السيىء إتماماً للفائدة ولا علاقة له بالجواب .
وليس مجازه مماثلاً لما استعمل في هذه الآية لأنه في الحديث علق به عمل أهل السعادة فتعين أن يكون تيسيراً للعمل ، أي إعداداً وتهيئة للأعمال صالحها أو سيئها .
فالذي يرتبط بالآية من اللفظ النبوي هو أن النبي صلى الله عليه وسلم أعقب كلامه بأن قرأ : { فأما من أعطى واتقى } الآية لأنه قرأها تبييناً واستدلالاً لكلامه فكان للآية تعلق بالكلام النبوي ومَحَلّ الاستدلال هو قوله تعالى : { فسنيسره } .
فالمقصود منه إثبات أن من شؤون الله تعالى تيسراً للعبد أن يعمل بعمل السعادة أو عمل الشقاء سواء كان عمله أصلاً للسعادة كالإيمان أو للشقاوة كالكفر ، أم كان للعمل مما يزيد السعادة ويُنقص من الشقاوة وذلك بمقدار الأعمال الصالحة لمن كان مؤمناً لأن ثبوت أحد معنَيَي التيسير يدل على ثبوت جنسه فيصلح دليلاً لثبوت التيسير مِن أصله .
أو يكون المقصود من سوق الآية الاستدلال على قوله : « اعملوا » لأن الآية ذكرت عملاً وذكرت تيسيراً لليسرى وتيسيراً للعسرى ، فيكون الحديث إشارة إلى أن العمل هو علامة التيسير وتكون اليسرى معنياً بها السعادة والعسرى معنياً بها الشقاوة ، وما صدْق السعادة الفوز بالجنة ، وما صدْقَ الشقاوة الهُويُّ في النار .
وإذ كان الوعدُ بتيسير اليُسرى لصاحب تلك الصلات الدالة على أعمال الإِعطاء والتقوى والتصديق بالحسنى كان سلوك طريق الموصولية للإِيماء إلى وجه بناء الخبر وهو التيسير فتعين أن التيسير مسبب عن تلك الصلات ، أي جزاءٌ عن فعلها : فالمتيسر : تيسير الدوام عليها ، وتكون اليسرى صفة للأعمال ، وذلك من الإِظهار في مقام الإِضمار . والأصل : مستيسر له أعمالَه ، وعدل عن الإِضمار إلى وصف اليسرى للثناء على تلك الأعمال بأنها مُيسرة من الله كقوله تعالى : { ونيسرك لليسرى } في سورة الأعلى ( 8 ) .
وخلاصة الحديث أنه بيان للفرق بين تعلق علم الله بأعمال عباده قبل أن يعملوها ، وبين تعلُّق خطابه إياهم بشرائعه ، وأن ما يصدر عن الناس من أعمال ظاهرة وباطنة إلى خاتمة كل أحد وموافاته هو عنوان للناس على ما كان قد علمه الله ، ويلتقي المهيعان في أن العمل هو وسيلة الحصول على الجنة أو الوقوع في جهنم .
وإنما خص الإِعطاء بالذِكْر في قوله : { فأما من أعطى واتقى } مع شمول { اتقى } لمفاده ، وخص البخل بالذكر في قوله : { وأما من بخل واستغنى } مع شمول { استغنى } له ، لتحريض المسلمين على الإِعطاء ، فالإِعطاء والتقوى شعار المسلمين مع التصديق بالحسنى وضد الثلاثة من شعار المشركين .
وفي الآية محسن الجمع مع التقسيم ، ومحسن الطباق ، أربع مرات بين { أعطى } و { بخل } ، وبين { اتقى } ، و { استغنى } ، وبين و { صدق } و { كذب } وبين « اليسرى » و« العسرى » .