مفاتيح الغيب للرازي - الفخر الرازي  
{فَسَنُيَسِّرُهُۥ لِلۡعُسۡرَىٰ} (10)

وقوله : { فسنيسره للعسرى } يدل على أنه خص الكافر بهذا الخذلان ، وهو أنه جعل المعصية بالنسبة إليه أرجح من الطاعة ، وإذا دلت الآية على حصول الرجحان لزم القوم بالوجوب لأنه لا واسطة بين الفعل والترك ، ومعلوم أن حال الاستواء يمتنع الرجحان ، فحال المرجوحية أولى بالامتناع ، وإذا امتنع أحد الطرفين وجب حصول الطرف الآخر ضرورة أنه لا خروج عن طرفي النقيض .

أجاب القفال رحمه الله عن وجه التمسك بالآية من وجوه ( أحدها ) : أن تسمية أحد الضدين باسم الآخر مجاز مشهور ، قال تعالى : { وجزاء سيئة سيئة مثلها } وقال : { فبشرهم بعذاب أليم } فلما سمى الله فعل الألطاف الداعية إلى الطاعات تيسيرا لليسرى ، سمى ترك هذه الألطاف تيسيرا للعسرى ( وثانيها ) : أن يكون ذلك على جهة إضافة الفعل إلى المسبب له دون الفاعل . كما قيل في الأصنام : { رب إنهن أضللن كثيرا من الناس } ( وثالثها ) : أن يكون ذلك على سبيل الحكم به والإخبار عنه ( والجواب ) : عن الكل أنه عدول عن الظاهر ، وذلك غير جائز ، لاسيما أنا بينا أن الظاهر من جانبنا متأكد بالدليل العقلي القاطع ، ثم إن أصحابنا أكدوا ظاهر هذه الآية بما روى عن علي عليه السلام عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال : «ما من نفس منفوسة إلا وقد علم الله مكانها من الجنة والنار ، قلنا : أفلا نتكل ؟ قال : لا اعملوا فكل ميسر لما خلق له » أجاب القفال عنه بأن الناس كلهم خلقوا ليعبدوا الله ، كما قال : { وما خلقت الجن والإنس إلا ليعبدون } واعلم أن هذا ضعيف لأنه عليه السلام إنما ذكر هذا جوابا عن سؤالهم ، يعني اعملوا فكل ميسر لما وافق معلوم الله ، وهذا يدل على قولنا : أن ما قدره الله على العبد وعلمه منه فإنه ممتنع التغيير ، والله أعلم .

المسألة الخامسة : في دخول السين في قوله : { فسنيسره } وجوه ( أحدها ) : أنه على سبيل الترفيق والتلطيف وهو من الله تعالى قطع ويقين ، كما في قوله : { اعبدوا ربكم } إلى قوله { لعلكم تتقون } ( وثانيها ) : أن يحمل ذلك على أن المطيع قد يصير عاصيا ، والعاصي قد يصير بالتوبة مطيعا ، فهذا السبب كان التغيير فيه محالا ( وثالثها ) : أن الثواب لما كان أكثره واقعا في الآخرة ، وكان ذلك مما لم يأت وقته ، ولا يقف أحد على وقته إلا الله ، لا جرم دخله تراخ ، فأدخلت السين لأنها حرف التراخي ليدل بذلك على أن الوعد آجل غير حاضر ، والله أعلم .