قوله تعالى : { إنا أخلصناهم } اصطفيناهم ، { بخالصة ذكرى الدار } قرأ أهل المدينة : { بخالصة } مضافاً ، وقرأ الآخرون بالتنوين ، فمن أضاف فمعناه : أخلصناهم بذكرى الدار الآخرة ، وأن يعملوا لها ، والذكرى : بمعنى الذكر . قال مالك بن دينار : نزعنا من قلوبهم حب الدنيا وذكرها ، وأخلصناهم بحب الآخرة وذكرها . وقال قتادة : كانوا يدعون إلى الآخرة وإلى الله عز وجل . وقال السدي : أخلصوا بخوف الآخرة . وقيل : معناه أخلصناهم بأفضل ما في الآخرة . قال ابن زيد : ومن قرأ بالتنوين فمعناه : بخلة خالصة ، وهي ذكرى الدار ، فيكون ذكرى بدلاً عن الخالصة . وقيل : أخلصناهم : جعلناهم مخلصين ، بما أخبرنا عنهم من ذكر الآخرة .
معنى : { أَخْلَصْنَاهُمْ } خالصين لطاعتنا وعبادتنا . والباء فى قوله { بِخَالِصَةٍ } للسببية ، وخالصة اسم فاعل . والتنوين فيها للتفخيم ، وهى صفة لمحذوف .
و { ذِكْرَى الدار } بيان لها بعد إبهامها للتفخيم . أو محلها النصب بإضمار أعنى . . أو الرفع على أنها خبر لمبتدأ محذوف أى : هى .
و { ذِكْرَى } مصدر مضاف لمفعوله ، وتعريف الدار للعهد . أى : الدار الآخرة .
والمعنى : إنا جعلنا هؤلاء العباد - وهم إبراهيم وإسحاق يعقوب - خالصين لطاعتنا وعبادتنا ، متبعين لأوامرنا ونواهينا ، لا تصافهم بخلصة خالصة من كل ما لا يرضينا ، وهى تذكرهم للدار الآخرة وما فيها من ثواب وعقاب .
وقرأ نافع { بخالصةِ } بدون تنوين على الإِضافة لذكرى . من إضافة الصفة إلى الموصوف . أو المصدر لفاعله إن جعلت خالصة مصدرا كالعاقبة .
وقوله عَزّ وجلّ : ( إِنَّا أَخْلَصْنَاهُمْ بِخَالِصَةٍ ) يقول تعالى ذكره : إنا خصصناهم بخاصة : ذكر الدار .
واختلف القرّاء في قراءة قوله ( بِخَالِصَةٍ ذِكْرَى الدَّارِ ) فقرأته عامة قرّاء المدينة : " بخالصة ذكرى الدار " بإضافة خالصة إلى ذكرى الدار ، بمعنى : أنهم أخلصوا بخالصة الذكرى ، والذكرى إذا قُرئ كذلك غير الخالصة ، كما المتكبر إذا قُرئ : عَلَى كُلِّ قَلْبِ مُتَكَبِّرٍ بإضافة القلب إلى المتكبر ، هو الذي له القلب وليس بالقلب . وقرأ ذلك عامة قرّاء العراق : ( بِخَالِصَةٍ ذِكْرَى الدَّارِ ) بتنوين قوله ( خَالِصَةً ) وردّ ذكرى عليها ، على أن الدار هي الخالصة ، فردّوا الذكر وهي معرفة على خالصة ، وهي نكرة ، كما قيل : لشرّ مآب : جهنم ، فرد جهنم وهي معرفة على المآب وهي نكرة .
والصواب من القول في ذلك عندي أنهما قراءتان مستفيضتان في قَرَأَة الأمصار ، فبأيتهما قرأ القارئ فمصيب .
وقد اختلف أهل التأويل ، في تأويل ذلك ، فقال بعضهم : معناه : إنا أخلصناهم بخالصة هي ذكرى الدار : أي أنهم كانوا يذَكِّرون الناس الدار الآخرة ، ويدعونهم إلى طاعة الله ، والعمل للدار الآخرة . ذكر من قال ذلك : حدثنا بشر ، قال : ثنا يزيد ، قال : ثنا سعيد ، عن قتادة ( إِنَّا أَخْلَصْنَاهُمْ بِخَالِصَةٍ ذِكْرَى الدَّارِ ) قال : بهذه أخلصهم الله ، كانوا يدعون إلى الآخرة وإلى الله .
وقال آخرون : معنى ذلك أنه أخلصهم بعملهم للآخرة وذكرهم لها . ذكر من قال ذلك : حدثني عليّ بن الحسن الأزدي ، قال : ثنا يحيى بن يمان ، عن ابن جُرَيج ، عن مجاهد ، في قوله ( إِنَّا أَخْلَصْنَاهُمْ بِخَالِصَةٍ ذِكْرَى الدَّارِ ) قال : بذكر الآخرة فليس لهم همّ غيرها .
حدثنا محمد بن الحسين ، قال : ثنا أحمد بن المفضل ، قال : ثنا أسباط ، عن السديّ ( إِنَّا أَخْلَصْنَاهُمْ بِخَالِصَةٍ ذِكْرَى الدَّارِ ) قال : بذكرهم الدار الآخرة ، وعملهم للآخرة .
وقال آخرون : معنى ذلك : إنا أخلصناهم بأفضلِ ما في الآخرة ؛ وهذا التأويل على قراءة من قرأه بالإضافة . وأما القولان الأوّلان فعلى تأويل قراءة من قرأه بالتنوين . ذكر من قال ذلك : حدثني يونس ، قال : أخبرنا ابن وهب ، قال : قال ابن زيد ، في قوله : " إنا أخلصناهم بخالصة ذكرى الدار " قال : بأفضل ما في الآخرة أخلصناهم به ، وأعطيناهم إياه ؛ قال : والدار : الجنة ، وقرأ : تِلْكَ الدَّارُ الآخِرَةُ نَجْعَلُهَا لِلَّذِينَ لا يُرِيدُونَ عُلُوًّا فِي الأَرْضِ قال : الجنة ، وقرأ : وَلَنِعْمَ دَارُ الْمُتَّقِينَ قال : هذا كله الجنة ، وقال : أخلصناهم بخير الآخرة .
وقال آخرون : بل معنى ذلك : خالصة عُقْبَى الدار . ذكر من قال ذلك : حدثنا ابن وكيع ، قال : ثنا أبي ، عن شريك ، عن سالم الأفطس ، عن سعيد بن جُبَير ( بِخَالِصَةٍ ذِكْرَى الدَّارِ ) قال : عُقبى الدار .
وقال آخرون : بل معنى ذلك : بخالصة أهل الدار . ذكر من قال ذلك : حُدثت عن ابن أبي زائدة ، عن ابن جُرَيج ، قال : ثني ابن أبي نجيح ، أنه سمع مجاهدا يقول : ( بِخَالِصَةٍ ذِكْرَى الدَّارِ ) هم أهل الدار ؛ وذو الدار ، كقولك : ذو الكلاع ، وذو يَزَن .
وكان بعض أهل العلم بكلام العرب من البصريين يتأوّل ذلك على القراءة بالتنوين ( بِخَالِصَةٍ ) عمل في ذكر الآخرة .
وأولى الأقوال بالصواب في ذلك على قراءة من قرأه بالتنوين أن يقال : معناه : إنا أخلصناهُمْ بخالصة هي ذكرى الدار الآخرة ، فعملوا لها في الدنيا ، فأطاعوا الله وراقبوه ؛ وقد يدخل في وصفهم بذلك أن يكون من صفتهم أيضا الدعاء إلى الله وإلى الدار الآخرة ، لأن ذلك من طاعة الله ، والعمل للدار الآخرة ، غير أن معنى الكلمة ما ذكرت . وأما على قراءة من قرأه بالإضافة ، فأن يقال : معناه : إنا أخلصناهم بخالصة ما ذكر في الدار الآخرة ؛ فلمَّا لم تُذْكر " في " أضيفت الذكرى إلى الدار كما قد بيَّنا قبل في معنى قوله لا يَسْأَمُ الإِنْسَانُ مِنْ دُعَاءِ الْخَيْرِ وقوله بِسُؤَالِ نَعْجَتِكَ إِلَى نِعَاجِهِ
مشروع تقني يهدف لتوفير قالب تقني أنيق وحديث يليق بالمحتوى الثري لمشروع الجامع التاريخي لتفسير القرآن الكريم الصادر عن مؤسسة البحوث والدراسات العلمية (مبدع)، وقد تم التركيز على توفير تصفح سلس وسهل للمحتوى ومتوافق تماما مع أجهزة الجوال، كما تم عمل بعض المميزات الفريدة كميزة التلوين التلقائي للنصوص والتي تم بناء خوارزمية برمجية مخصصة لهذا الغرض.
تم الحصول على المحتوى من برنامج الجامع التاريخي لتفسير القرآن الكريم.
المشروع لا يتبع أي جهة رسمية أو غير رسمية، إنما هي جهود فردية ومبادرات شخصية لبعض الخبراء في مجال البرمجيات.
المشروع لازال في بداياته وننوي إن شاء الله العمل على تطويره بشكل مستمر وسنضع خطة تطوير توضح المميزات التي يجري العمل عليها إن شاء الله.
الدعاء للقائمين عليه، نشر الموقع والتعريف به، إرسال الملاحظات والمقترحات.