4- من ذلك القصص - أيها النبي - قصة يوسف{[99]} ، إذ قال لأبيه : يا أبت ، إني رأيت في منامي أحد عشر كوكباً ، والشمس والقمر ، رأيتهم جميعاً خاضعين لي ساجدين أمامي .
يقول تعالى : اذكر لقومك يا محمد في قَصَصك عليهم من قصة يوسف إذ قال لأبيه ، وأبوه هو : يعقوب ، عليه السلام ، كما قال الإمام أحمد :
حدثنا عبد الصمد ، حدثنا عبد الرحمن بن عبد الله بن دينار ، عن أبيه ، عن ابن عمر ؛ أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : " الكريم ، ابن الكريم ، ابن الكريم ، ابن الكريم ، يوسف بن يعقوب بن إسحاق بن إبراهيم " .
انفرد بإخراجه البخاري ، فرواه{[15050]} عن عبد الله بن محمد ، عن عبد الصمد به{[15051]} وقال البخاري أيضا :
حدثنا محمد ، أخبرنا عبدة ، عن عُبَيْد الله ، عن سعيد بن أبي سعيد ، عن أبي هريرة ، رضي الله عنه ، قال : سُئِل رسولُ الله صلى الله عليه وسلم : أي الناس أكرم ؟ قال : " أكرمهم عند الله أتقاهم " . قالوا : ليس عن هذا نسألك . قال : " فأكرم الناس يوسف نبي الله ، ابن نبي الله ، ابن نبي الله ، ابن خليل الله " . قالوا : ليس عن هذا نسألك . قال : " فعن معادن العرب تسألوني ؟ " قالوا : نعم . قال : " فخياركم في الجاهلية خياركم في الإسلام إذا فَقِهوا " . ثم قال : تابعه أبو أسامة ، عن عبيد الله{[15052]} .
وقال ابن عباس : رؤيا الأنبياء وحي .
وقد تكلم المفسرون على تعبير هذا المنام : أن الأحد عشر كوكبا عبارة عن إخوته ، وكانوا أحد عشر رجلا [ سواه ]{[15053]} والشمس والقمر عبارة عن أبيه وأمه . رُوي هذا عن ابن عباس ، والضحاك ، وقتادة وسفيان الثوري ، وعبد الرحمن بن زيد بن أسلم ، وقد وقع تفسيرها بعد أربعين سنة ، وقيل : ثمانين سنة ، وذلك حين رفع أبويه على العرش ، وهو سريره ، وإخوته بين يديه : { وَخَرُّوا لَهُ سُجَّدًا وَقَالَ يَا أَبَتِ هَذَا تَأْوِيلُ رُؤْيَايَ مِنْ قَبْلُ قَدْ جَعَلَهَا رَبِّي حَقًّا } [ يوسف : 100 ] .
وقد جاء في حديث تسمية هذه الأحد عشر كوكبا - فقال الإمام أبو جعفر بن جرير .
حدثني علي بن سعيد الكندي ، حدثنا الحكم بن ظهير ، عن السدي ، عن عبد الرحمن بن سابط ، [ عن جابر ]{[15054]} قال : أتى النبي صلى الله عليه وسلم رجل من يهود يقال له : " بستانة اليهودي " ، فقال له : يا محمد ، أخبرني عن الكواكب التي رآها يوسف أنها ساجدة له ، ما أسماؤها ؟ قال : فسكت النبي صلى الله عليه وسلم ساعة فلم يجبه بشيء ، ونزل [ عليه ]{[15055]} جبريل ، عليه السلام ، فأخبره بأسمائها . قال : فبعث رسول الله صلى الله عليه وسلم إليه فقال : " هل أنت مؤمن إن أخبرتك بأسمائها ؟ " فقال : نعم . قال : " خرتان{[15056]} والطارِقُ ، والذَّيَّال{[15057]} وذو الكَنَفَات ، وقابس ، ووَثَّاب ، وعَمُودَان ، والْفَيلَقُ ، والمُصَبِّحُ ، والضَّرُوحُ ، وذو الفرغ ، والضِّيَاُء ، والنُّور " ، فقال اليهودي : إيْ والله ، إنها لأسماؤها{[15058]} .
ورواه البيهقي في " الدلائل " ، من حديث سعيد{[15059]} بن منصور ، عن الحكم بن ظهير . وقد روى هذا الحديث الحافظان أبو يعلى الموصلي وأبو بكر البزار في مسنديهما ، وابن أبي حاتم في تفسيره{[15060]} أما أبو يعلى فرواه عن أربعة من شيوخه عن الحكم بن ظهير ، به وزاد : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : " لما رآها يوسف قَصّها على أبيه يعقوب ، فقال له أبوه : هذا أمر متشتت يجمعه الله من بعد ؛ قال : والشمس أبوه ، والقمر أمه " .
تفرد به الحكم بن ظهير الفزاري{[15061]} وقد ضَعَّفه الأئمة ، وتركه الأكثرون ، وقال الجوزجاني : ساقط ، وهو صاحب حديث حُسْن يوسف .
العامل في { إذ } فعل مضمر تقديره : اذكر { إذ } ويصح أن يعمل فيه { نقص } [ يوسف : 3 ] كأن المعنى : نقص عليك الحال { إذ }{[6556]} وحكى مكي أن العامل فيه { لمن الغافلين } [ يوسف : 3 ] ، وهذا ضعيف .
وقرأ طلحة بن مصرف «يؤسَف » بالهمز وفتح السين - وفيه ست لغات : «يُوسُف » بضم الياء وسكون الواو وبفتح السين وبضمها وبكسرها وكذلك بالهمز . وقرأ الجمهور «يا أبتِ » بكسر التاء حذفت الياء من أبي وجعلت التاء بدلاً منها ، قاله سيبويه ، وقرأ ابن عامر وحده{[6557]} وأبو جعفر والأعرج : «يا أبتَ » بفتحها ، وكان ابن كثير وابن عامر يقفان بالهاء ؛ فأما قراءة ابن عامر بفتح التاء فلها وجهان : إما أن يكون : «يا أبتا » ، ثم حذفت الألف تخفيفاً وبقيت الفتحة دالة على الألف ، وإما أن يكون جارياً مجرى قولهم : يا طلحة أقبل ، رخموه ثم ردوا العلامة ولم يعتد بها بعد الترخيم ، وهذا كقولهم : اجتمعت اليمامة ثم قالوا : اجتمعت أهل اليمامة ، فردوا لفظة الأهل ولم يعتدوا بها ، وقرأ أبو جعفر والحسن وطلحة بن سليمان : «أحد عْشر كوكباً » بسكون العين لتوالي الحركات ، ويظهر أن الاسمين قد جعلا واحداً .
وقيل : إنه قد رأى كواكب حقيقة والشمس والقمر فتأولها يعقوب إخوته وأبويه ، وهذا قول الجمهور ، وقيل : الإخوة والأب والخالة لأن أمه كانت ميتة ، وقيل إنما كان رأى إخوته وأبويه فعبر عنهم بالكواكب والشمس والقمر ، وهذا ضعيف ترجم به الطبري ، ثم أدخل عن قتادة والضحاك وغيرهما كلاماً محتملاً أن يكون كما ترجم وأن يكون مثل قول الناس ، وقال المفسرون : { القمر } تأويله : الأب ، و { الشمس } تأويلها : الأم ، فانتزع بعض الناس من تقديمها وجوب بر الأم وزيادته على بر الأب ، وحكى الطبري عن جابر بن عبد الله أن يهودياً يسمى بستانة جاء إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال : أخبرني عن أسماء الكواكب التي رآها يوسف عليه السلام ، فسكت عنه رسول الله صلى الله عليه وسلم ونزل جبريل عليه السلام فأخبره بأسمائها ، فدعا رسول الله صلى الله عليه وسلم اليهودي ، فقال : «هل أنت مؤمن إن أخبرتك بذلك ؟ قال : نعم ، قال : حربان ، والطارق ، والذيال ، وذا الكنفان ، وقابس ، ووثاب ، وعمودان والفيلق ، والمصبح ، والضروح ، وذو الفرغ ، والضياء ، والنور{[6558]} » فقال اليهودي : أي والله إنها لأسماؤها{[6559]} .
وتكرر { رأيتهم } لطول الكلام{[6560]} وجرى ضمائر هذه الكواكب في هذه الآية مجرى ضمائر من يعقل إنما كان لما وصفت بأفعال هي خاصة بمن يعقل{[6561]} .
وروي أن رؤيا يوسف كانت ليلة القدر ليلة جمعة ، وأنها خرجت بعد أربعين سنة ، وقيل : بعد ثمانين سنة .
{ إذ قال } بدل اشتمال أو بَعْض من { أحْسَن القصص } [ سورة يوسف : 3 ] على أن يكون أحسن القصص بمعنى المفعول ، فإنّ أحسن القصص يشتمل على قصَص كثير ، منه قَصص زمان قول يوسفَ عليه السّلام لأبيه { إني رأيت أحَدَ عَشَرَ كوكباً } وما عقب قوله ذلك من الحوادث . فإذا حمل { أحسن القصص } [ سورة يوسف : 3 ] على المصدر فالأحسن أن يكون { إذْ } منصوباً بفعل محذوف يدلّ عليه المقام ، والتّقدير : اذْكر .
ويُوسف اسم عبراني تقدم ذكر اسمه عند قوله تعالى : { وتلك حجتنا آتيناها إبراهيم على قومه } الخ في سورة الأنعام ( 83 ) . وهو يوسف بن يعقوب بن إسحاق من زوجه ( راحِيل ) . وهو أحد الأسباط الذين تقدم ذكرهم في سورة البقرة . وكان يوسف أحب أبناء يعقوب عليهما السّلام إليه وكان فَرْط محبة أبيه إياه سَببَ غيرة إخوته منه فكادُوا له مكيدة فسألوا أباهم أن يتركه يخرج معهم . فأخرجوه معهم بعلّة اللعب والتفسح ، وألقَوْهُ في جبّ ، وأخبروا أباهم أنّهم فقدوه ، وأنهم وجدوا قميصه ملوّثاً بالدّم ، وأروه قميصه بعد أن لطّخوه بدم ، والتقطه من البئر سيارة من العرب الإسماعيليين كانوا سائرين في طريقهم إلى مصر ، وباعوه كرقيق في سوق عاصمة مصر السفلى التي كانت يومئذٍ في حكم أمّة من الكنعانيين يعرفون بالعمالقة أو ( الهكْصوص ) . وذلك في زمن الملك ( أبو فيس ) أو ( ابيبي ) . ويقرب أن يكون ذلك في حدود سنة تسع وعشرين وسبعمائة وألف قبل المسيح عليه السّلام ، فاشتراه ( فوطيفار ) رئيس شرطة فرعون الملقّبُ في القرآن بالعزيز ، أي رئيس المدينة . وحدثت مكيدة له من زوج سيّده ألقي بسببها في السجن . وبسبب رؤيا رآها الملِكُ وعَبّرها يوسف عليه السّلام وهو في السِجن ، قَرّبه الملك إليه زُلفى ، وأولاه على جميع أرض مصر ، وهو لقب العزيز وسَمّاه ( صفنات فعنيج ) ، وزوّجه ( أسنات ) بنت أحد الكهنة وعمره يومئذٍ ثلاثون سنة . وفي مدة حكمه جَلَب أباه وأقاربه من البريّة إلى أرض مصر ، فذلك سبب استيطان بني إسرائيل أرض مصر . وتوفي بمصر في حدود سنة خمس وثلاثين وستمائة وألف قبل ميلاد عيسى عليه السّلام . وحنّط على الطريقة المصرية . ووُضع في تابوت ، وأوصى قبل موته قومه بأنهم إذا خرجوا من مصر يرفعون جسده معهم . ولمّا خرج بنو إسرائيل من مصر رفعوا تابوت يوسف عليه السّلام معهم وانتقلوه معهم في رحلتهم إلى أن دفنوه في ( شكِيم ) في مدة يوشع بن نون .
والتاء في ( أبَت ) تاء خاصّة بكلمة الأب وكلمة الأم في النداء خاصة على نية الإضافة إلى المتكلم ، فمفادها مفاد : يا أبي ، ولا يكاد العرب يقولون : يا أبي . وورد في سَلام ابن عمر على النبي صلى الله عليه وسلم وصاحبه حين وقف على قبورهم المنوّرة .
وقد تحيّر أيمّة اللغة في تعليل وصلها بآخر الكلمة في النداء واختاروا أن أصلها تاء تأنيث بقرينة أنهم قد يجعلونها هاء في الوقف ، وأنها جعلت عوضاً عن ياء المتكلم لِعلة غير وجيهة . والذي يظهر لي أنّ أصلها هاء السكت جلبوها للوقف على آخر الأب لأنّه نقص من لام الكلمة ، ثم لما شابهت هاء التأنيث بكثرة الاستعمال عوملت معاملة آخر الكلمة إذا أضافوا المنادى فقالوا : يا أبتي ، ثم استغنوا عن ياء الإضافة بالكسرة لكثرة الاستعمال . ويدل لذلك بقاء الياء في بعض الكلام كقول الشاعر الذي لا نعرفه :
أيَا أبتي لا زلتَ فينا فإنّمَا *** لنا أملٌ في العيْش ما دمت عائشاً
ويجوز كسر هذه التّاء وفتحها ، وبالكسر قرأها الجمهور ، وبفتح التّاء قرأ ابن عامر وأبو جعفر .
والنداء في الآية مع كون المنادى حاضراً مقصود به الاهتمام بالخبر الذي سيلقى إلى المخاطب فينزل المخاطب منزلة الغائب المطلوب حضوره ، وهو كناية عن الاهتمام أو استعارة له .
والكوكب : النجم ، تقدّم عند قوله تعالى : { فلمّا جن عليه الليل رأى كوكباً } في سورة الأنعام ( 76 ) .
وجملة { رأيتهم } مؤكدة لجملة { رأيتُ أحدَ عَشَرَ كوكباً } ، جيء بها على الاستعمال في حكاية المرائي الحلمية أن يعاد فعل الرؤية تأكيداً لفظياً أو استئنافاً بيانياً ، كأن سامع الرؤيا يستزيد الرائي أخباراً عمّا رأى .
ومثال ذلك ما وقع في « الموطّأ » أنّ رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : " أراني الليلة عند الكعبة فرأيت رجلاً آدم " الحديث .
وفي البخاري أنّ النبي صلى الله عليه وسلم قال : " رأيت في المنام أني أهاجر من مكّة إلى أرض بها نخل ، ورأيت فيها بقرا تذبح ، ورأيت . . واللّهُ خير " . وقد يكون لفظ آخر في الرؤيا غير فعلها كما في الحديث الطّويل " إنّه أتاني الليلة آتيان ، وإنهما ابتعثاني ، وإنّهما قالا لي : انطلق ، وإنّي انطلقت معهما ، وإنّا أتينا على رجل مضطجع " الحديث بتكرار كلمة ( إنّ ) وكلمة ( إنّا ) مراراً في هذا الحديث .
وقرأ الجمهور { أحَدَ عَشَرَ } بفتح العين من { عَشَرَ } . وقرأه أبو جعفر بسكون العين .
واستعمل ضمير جمع المذكر للكواكب والشمس والقمر في قوله : { رأيتهم لي ساجدين } ، لأن كون ذلك للعقلاء غالب لا مطرد ، كما قال تعالى في الأصنام { وتراهم ينظرون إليك وهم لا يبصرون } [ سورة الأعراف : 198 ] ، وقال : { يا أيها النمل ادخلوا } [ سورة النمل : 18 ] .
وقال جماعة من المفسّرين : إنه لمّا كانت الحالة المرئية من الكواكب والشمس والقمر حالة العقلاء ، وهي حالة السجود نزّلها منزلة العقلاء ، فأطلق عليها ضمير ( هم ) وصيغة جمعهم .
وتقديم المجرور على عامله في قوله : لي ساجدين } للاهتمام ، عبّر به عن معنى تضمّنه كلام يوسف عليه السّلام بلغته يدل على حالة في الكواكب من التعظيم له تقتضي الاهتمام بذكره فأفاده تقديم المجرور في اللغة العربيّة .
وابتداء قصة يوسف عليه السّلام بذكر رؤياه إشارة إلى أنّ الله هيّأ نفسه للنبوءة فابتدأه بالرؤيا الصّادقة كما جاء في حديث عائشة « أنّ أوّلَ ما ابتدىء رسول الله صلى الله عليه وسلم من الوحي الرؤيا الصادقة فكان لا يرى رؤيا إلاّ جاءت مثل فَلق الصبح » . وفي ذلك تمهيد للمقصود من القصة وهو تقرير فضل يوسف عليه السّلام من طهارة وزكاء نفس وصبر . فذكر هذه الرؤيا في صدر القصّة كالمقدّمة والتّمهيد للقصّة المقصودة .
وجعل الله تلك الرؤيا تنبيهاً ليوسف عليه السّلام بعلو شأنه ليتذكرها كلما حلت به ضائقة فتطمئن بها نفسه أن عاقبتهُ طيبة .
وإنما أخبر يوسف عليه السّلام أباه بهاته الرؤيا لأنّه علم بإلهام أو بتعليم سابق من أبيه أن للرؤيا تعبيراً ، وعلم أنّ الكواكب والشّمس والقمر كناية عن موجودات شريفة ، وأنّ سجود المخلوقات الشّريفة له كناية عن عظمة شأنه . ولعلّهُ علم أنّ الكواكب كناية عن موجودات متماثلة ، وأنّ الشمس والقمر كناية عن أصلين لتلك الموجودات فاستشعر على الإجمال دلالة رؤياه على رفعة شأنه فأخبر بها أباه .
وكانوا يعدّون الرؤيا من طرق الإنباء بالغيب ، إذا سلمت من الاختلاط وكان مزاج الزائي غير منحرف ولا مضطرب ، وكان الرائي قد اعتاد وقوع تأويل رؤياه ، وهو شيء ورثوه من صفاء نفوس أسلافهم إبراهيم وإسحاق عليهم السّلام . فقد كانوا آل بيت نبوءة وصفاء سريرة .
ولمّا كانت رؤيا الأنبياء وَحْياً ، وقد رأى إبراهيم عليه السّلام في المنام أنّه يذبح وَلَد فلمّا أخبره { قال يا أبت افْعل ما تؤمَر } [ سورة الصافات : 102 ] . وإلَى ذلك يشير قول أبي يوسف عليه السّلام : { ويتم نعمته عليك وعلى آل يعقوب كما أتمها على أبويك من قبل إبراهيم وإسحاق } [ سورة يوسف : 6 ] . فلا جرم أن تكون مرائي أبنائهم مكاشفة وحديثاً ملكياً .
وفي الحديث : « لم يَبق من المبشرات إلاّ الرؤيا الصّالحة يراها المسلم أو ترى له » والاعتداد بالرؤيا من قديم أمور النبوءة . وقد جاء في التّوراة أن الله خاطب إبراهيم عليه السّلام في رؤيا رآها وهو في طريقه ببلاد شاليم بلد ملْكي صَادق وبشّره بأنه يهبه نسلاً كثيراً ، ويعطيه الأرض التي هو سائر فيها ( في الإصحاح 15 من سفر التكوين ) .
أما العرب فإنهم وإن لم يرد في كلامهم شيء يفيد اعتدادهم بالأحلام ، ولعل قول كعب بن زهير :
يفيد عدم اعتدادهم بالأحلام ، فإن الأحلام في البيت هي مرائي النوم .
ولكن ذكر ابن إسحاق رؤيا عبد المطلب وهو قائم في الحِجْر أنه أتاه آت فأمره بحفر بئر زمزم فوصَف له مكانها ، وكانت جرهم سَدَموها عند خروجهم من مكة .
وذكر ابن إسحاق رؤيا عاتكة بنت عبد المطلب أن : راكباً أقبل على بعير فوقف بالأبطح ثم صرخ : يا آل غُدَر أُخرُجوا إلى مصارعكم في ثلاث فكانت وقعة بدر عقبها بثلاث ليال .
وقد عدت المرائي النوميّة في أصول الحكمة الإشراقية وهي من تراثها عن حكمة الأديان السّالفة مثل الحنيفية . وبالغ في تقريبها بالأصول النفسية شهاب الدّين الحكيم السهروردي في هياكل النور وحكمة الإشراق ، وأبو علي بن سينا في الإشارات بما حاصله : وأصله : أنّ النفس الناطقة ( وهي المعبّر عنها بالروح ) هي من الجواهر المجرّدة التي مَقرها العالم العلوي ، فهي قابلة لاكتشاف الكائنات على تفاوت في هذا القبول ، وأنّها تودع في جسم الجنين عند اكتمال طور المضغة ، وأنّ للنفس الناطقة آثاراً من الانكشافات إذا ظهرت فقد ينتقش بعضها بمدارك صاحب النفس في لوح حسّه المشترك ، وقد يصرفه عن الانتقاش شاغلان : أحدهما حِسّيّ خارجيّ ، والآخر باطنيّ عقليّ أو وهميّ ، وقوَى النفس متجاذبة متنازعة فإذا اشتدّ بعضُها ضعف البعضُ الآخر كما إذا هاج الغضب ضعفت الشهوة ، فكذلك إنْ تَجَرّدَ الحس الباطن للعمل شغل عن الحسّ الظاهر ، والنوم شاغل للحسّ ، فإذا قلّت شواغل الحواس الظاهرة فقد تتخلّص النفس عن شغل مخيلاتها ، فتطلّع على أمور مغيبة ، فتكونُ المنامات الصادقة .
والرؤيا الصادقةُ حالةٌ يكرم الله بها بعض أصْفيائه الذين زكت نفوسهم فتتّصل نفوسهم بتعلّقات من علم الله وتعلّقات من إرادته وقدرته وأمره التكوينيّ فتنكشف بها الأشياء المغيبة بالزّمان قبل وقوعها ، أو المغيبة بالمكان قبل اطلاع الناس عليها اطلاعاً عاديّاً ، ولذلك قال النبي صلى الله عليه وسلم « الرؤيا الصالحة من الرّجل الصالح جزء من ستّة وأربعين جزءاً من النبوءة » . وقد بُيّن تحديد هذه النسبة الواقعة في الحديث في شروح الحديث . وقال : « لم يبق من النبوءة إلاّ المبشّرات وهي الرؤيا الصّالحة للرجل الصالح يراها أو ترى له » .
وإنّما شرطت المرائي الصادقة بالنّاس الصّالحين لأنّ الارتياض على الأعمال الصّالحة شاغل للنفس عن السيّئات ، ولأنّ الأعمال الصّالحات ارتقاءات وكمالات فهي معينة لجوهر النفس على الاتّصال بعالَمها الذي خلقت فيه وأنزلت منه ، وبعكس ذلك الأعمال السيّئة تبعدها عن مألوفاتها وتبلدها وتذبذبها .
منها أن : ترى صور أفعال تتحقّق أمثالها في الوجود مثل رؤيا النبي صلى الله عليه وسلم أنه يهاجر من مكّة إلى أرض ذات نخل ، وظنّه أنّ تلك الأرض اليمامة فظهر أنّها المدينة ، ولا شك أنّه لمّا رأى المدينة وجَدَها مطابقة للصّورة التي رآها ، ومثل رؤياه امرأة في سَرَقَة من حرير فقيل له اكشِفْها فهي زوجك فكشف فإذا هي عائشة ، فعلم أن سيتزوجها . وهذا النوع نادر وحالة الكشف فيه قوية .
ومنها أن ترى صُورٌ تكون رموزاً للحقائق التي ستحصل أو التي حصلت في الواقع ، وتلك من قبيل مكاشفة النفس للمعاني والمواهي وتشكيل المخيّلة تلك الحقائق في أشكال محسوسة هي من مظاهر تلك المعاني ، وهو ضرب من ضروب التشبيه والتمثيل الذي تخترعه ألباب الخطباء والشعراء ، إلاّ أنّ هذا تخترعه الألباب في حالة هدوّ الدمَاغ من الشواغل الشاغلة ، فيكون أتقن وأصدق .
وهذا أكثر أنواع المرائي . ومنه رؤيا النبي صلى الله عليه وسلم أنّه يشرب من قدح لَبن حتى رأى الريّ في أظفاره ثم أعطَى فضلَه عمرَ بن الخطّاب رضي الله عنه . وتعبيره ذلك بأنّه العلم .
وكذلك رؤياه امرأة سوداء ناشرة شَعَرَهَا خارجة من المدينة إلى الجحفة ، فعبّرها بالحمى تنتقل من المدينة إلى الجحفة ، ورئِيَ عبد الله بن سلام أنه في روضة ، وأنّ فيها عموداً ، وأنّ فيه عروة ، وأنّه أخذ بتلك العروة فارتقى إلى أعلى العمود ، فعبّره النبي صلى الله عليه وسلم بأنّه لا يزال آخذاً بالإيمان الذي هو العروة الوثقى ، وأنّ الروضة هي الجنّة ، فقد تَطابَق التمثيل النوميّ مع التمثيل المتعارف في قوله تعالى : { فمن يكفر بالطاغوت ويؤمن بالله فقد استمسك بالعروة الوثقى } [ سورة البقرة : 256 ] ، وفي قول النبي : « ما بين بيتي ومنبري روضة من رياض الجنة » وسيأتي تأويل هذه الرؤيا عند قوله تعالى : { وقال يا أبت هذا تأويل رؤياي من قبل } [ سورة يوسف : 100 ] .
جامع البيان عن تأويل آي القرآن للطبري 310 هـ :
يقول تعالى ذكره لنبيه محمد صلى الله عليه وسلم: وإن كنت يا محمد لمن الغافلين عن نبأ يوسف بن يعقوب بن إسحاق بن إبراهيم، إذ قال لأبيه يعقوب بن إسحاق: {يا أبت إني رأيت أحد عشر كوكبا}، يقول: إني رأيت في منامي أحد عشر كوكبا. وقيل: إن رؤيا الأنبياء كانت وحيا...
وقوله:"والشّمْسَ والقَمَرَ رأيْتُهُمْ لي ساجِدِينَ" يقول: والشمس والقمر رأيتهم في منامي سجودا. وقال ساجِدِين والكواكب والشمس والقمر إنما يخبر عنها بفاعلة وفاعلات، لا بالواو والنون، إنما هي علامة جمع أسماء ذكور بني آدم أو الجنّ أو الملائكة. وإنما قيل ذلك كذلك، لأن السجود من أفعال من يجمع أسماء ذكورهم بالياء والنون، أو الواو والنون، فأخرج جمع أسمائها مخرج جمع أسماء من يفعل ذلك، كما قيل: {يا أيّها النّمْلُ ادْخُلُوا مَساكِنَكُمْ}. وقال: «رأيتهم»، وقد قيل: {إني رأيت أحد عشر كوكبا}، فكرّر الفعل، وذلك على لغة من قال: كلمت أخاك كلمته، توكيدا للفعل بالتكرير.
وقد قيل: إن الكواكب الأحد عشر كانت إخوته، والشمس والقمر أبويه...
لطائف الإشارات للقشيري 465 هـ :
لما ذكر يوسف -عليه السلام- رؤياه لأبيه عَلِمَ يعقوبُ- عليه السلام- صِدْقَ تعبيرها، ولذلك كان دائم التذكُّر ليوسف مدةَ غيبته، وحين تطاولتْ كان يَذْكُرُه حتى قالوا: {تَاْللَّهِ تَفْتَؤُا تَذْكُرُ يُوسُفَ} [يوسف:85] فقال: {إِنِي أَعْلَمُ مِنَ اللَّهِ مَا لاَ تَعْلَمُونَ} [يوسف:96] فهو كان على ثقةٍ من صِدْقِ رؤياه.
الكشاف عن حقائق التنزيل للزمخشري 538 هـ :
فإن قلت: ما معنى تكرار رأيت قلت: ليس بتكرار، إنما هو كلام مستأنف على تقدير سؤال وقع جواباً له، كأن يعقوب عليه السلام قال له عند قوله: {إِنّي رَأَيْتُ أَحَدَ عَشَرَ كَوْكَبًا} كيف رأيتها سائلاً عن حال رؤيتها؟ فقال: {رَأَيْتُهُمْ لِي سَاجِدِينَ} فإن قلت: فلم أجريت مجرى العقلاء في رأيتهم لي ساجدين؟ قلت: لأنه لما وصفها بما هو خاص بالعقلاء وهو السجود، أجرى عليها حكمهم، كأنها عاقلة، وهذا كثير شائع في كلامهم، أن يلابس الشيء الشيء من بعض الوجوه، فيعطى حكماً من أحكامه إظهاراً لأثر الملابسة والمقاربة.
تفسير القرآن العظيم لابن كثير 774 هـ :
وقال البخاري أيضا: حدثنا محمد، أخبرنا عبدة، عن عُبَيْد الله، عن سعيد بن أبي سعيد، عن أبي هريرة، رضي الله عنه، قال: سُئِل رسولُ الله صلى الله عليه وسلم: أي الناس أكرم؟ قال:"أكرمهم عند الله أتقاهم". قالوا: ليس عن هذا نسألك. قال: "فأكرم الناس يوسف نبي الله، ابن نبي الله، ابن نبي الله، ابن خليل الله". قالوا: ليس عن هذا نسألك. قال: "فعن معادن العرب تسألوني؟ "قالوا: نعم. قال: "فخياركم في الجاهلية خياركم في الإسلام إذا فَقِهوا".
نظم الدرر في تناسب الآيات و السور للبقاعي 885 هـ :
لما تم ما أراد تعالى من تعليل الوصف بالمبين أبدل من قوله "أحسن القصص "قوله: {إذ} أي نقص عليك خبر إذ، أي خبر يوسف إذ {قال يوسف} أي ابن يعقوب إسرائيل الله عليهما الصلاة والسلام {لأبيه} وبين أدبه بقوله -مشيراً بأداة البعد إلى أن أباه عالي المنزلة جداً، وإلى أن الكلام الآتي مما له وقع عظيم، فينبغي أن يهتم بسماعه والجواب عليه، وغير ذلك من أمره...
ولما كان صغيراً، وكان المنام عظيماً خطيراً، اقتضى المقام التأكيد فقال: {إني رأيت} أي في منامي، فهو من الرؤيا التي هي رؤية في المنام، فرق بين حال النوم واليقظة في ذلك بألف التأنيث {أحد عشر كوكباً} أي نجماً كبيراً ظاهراً جداً مضيئاً براقاً، وفي عدم تكرار هذه القصة في القرآن رد على من قال: كررت قصص الأنبياء عليهم الصلاة والسلام تمكيناً لفصاحتها بترادف السياق، وفي تكرير قصصهم رد على من قال: إن هذه لم تكرر لئلا تفتر فصاحتها، فكأن عدم تكريرها لأن مقاصد السور لم تقتض ذلك- والله أعلم. ولما كان للنيرين اسمان يخصانهما هما في غاية الشهرة، قال معظماً لهما: {والشمس والقمر} ولما تشوفت النفس إلى الحال التي رآهم عليها، فكان كأنه قيل: على أيّ حال؟ وكانت الرؤيا باطن البصر الذي هو باطن النظر، فكان التعبير بها للإشارة إلى غرابة هذا الأمر، زاد في الإشارة إلى ذلك بإعادة الفعل، وألحقه ضمير العقلاء لتكون دلالته على كل من عجيب أمر الرؤيا ومن فعل المرئي الذي لا يعقل فعل العقلاء من وجهين فقيل: {رأيتهم لي} أي خاصة {ساجدين} أجراهم مجرى العقلاء لفعل العقلاء...
تفسير المنار لرشيد رضا 1354 هـ :
هذا شروع في بيان أحسن القصص فهو بدل منه يشتمل عليه. والأكثرون يعدونه بدء كلام جديد يقدرون له متعلقا: اذكر أيها الرسول إذ قال يوسف لأبيه: يا أبت الخ والتاء هنا بدل من ياء المتكلم وهو مسموع من العرب في نداء الأب والأم والفصيح كسرها وسمع فتحها وضمها أيضا {إني رأيت أحد عشر كوكبا والشمس والقمر} في المنام بدليل ما يأتي بعد، ثم بين الصفة التي رأى عليها هذه الجماعة السماوية بقوله {رأيتهم لي ساجدين} والسجود: التطامن والانحناء الذي سببه الانقياد والخضوع أو المبالغة في التعظيم وأصله قولهم: سجد البعير- إذا خفض رأسه لراكبه عند ركوبه، وكان من عادات الناس في تحية التعظيم في بلاد فلسطين ومصر وغيرهما، واستعمل في القرآن بمعنى انقياد كل المخلوقات لإرادة الله تعالى وتسخيره وهذا سجود طبيعي غير إرادي، ولا يكون السجود عبادة إلا بالقصد والنية من الساجد للتقرب إلى من يعتقد أن له عليه سلطانا ذاتيا غيبيا فوق سلطان الأسباب المعهودة. وكان الأصل في التعبير عن سجود هذه الكواكب التي ليس لها إرادة أن يقول رأيت كذا وكذا ساجدة لي، ولكنه أراد أن يخبر والده أنه رآها ساجدة سجودا كأنه عن إرادة واختيار كسجود العقلاء المكلفين فأعاد فعل رأيت وجعل مفعوله ضمير العقلاء وجمع صفة هذا السجود جمع المذكر السالم، فعلم أبوه أن هذه رؤيا إلهام، لا يمكن أن تعد من أضغاث الأحلام، التي تثيرها في النوم الخواطر والأفكار، ولا سيما خواطر غلام صغير كيوسف يخاف أبوه أن يأكله الذئب.
تيسير الكريم المنان في تفسير القرآن لابن سعدي 1376 هـ :
واعلم أن الله ذكر أنه يقص على رسوله أحسن القصص في هذا الكتاب، ثم ذكر هذه القصة وبسطها، وذكر ما جرى فيها، فعلم بذلك أنها قصة تامة كاملة حسنة، فمن أراد أن يكملها أو يحسنها بما يذكر في الإسرائيليات التي لا يعرف لها سند ولا ناقل وأغلبها كذب، فهو مستدرك على الله، ومكمل لشيء يزعم أنه ناقص، وحسبك بأمر ينتهي إلى هذا الحد قبحا، فإن تضاعيف هذه السورة قد ملئت في كثير من التفاسير، من الأكاذيب والأمور الشنيعة المناقضة لما قصه الله تعالى بشيء كثير. فعلى العبد أن يفهم عن الله ما قصه، ويدع ما سوى ذلك مما ليس عن النبي صلى الله عليه وسلم ينقل...
في ظلال القرآن لسيد قطب 1387 هـ :
هذه المقدمة إشارة البدء إلى القصة.. ثم يرفع الستار عن المشهد الأول في الحلقة الأولى، لنرى يوسف الصبي يقص رؤياه على أبيه: (إذ قال يوسف لأبيه: يا أبت، إني رأيت أحد عشر كوكبا والشمس والقمر. رأيتهم لي ساجدين. قال: يا بني لا تقصص رؤياك على إخوتك، فيكيدوا لك كيدا. إن الشيطان للإنسان عدو مبين. وكذلك يجتبيك ربك، ويعلمك من تأويل الأحاديث، ويتم نعمته عليك، وعلى آل يعقوب، كما أتمها على أبويك من قبل إبراهيم وإسحاق، إن ربك عليم حكيم).. كان يوسف صبيا أو غلاما؛ وهذه الرؤيا كما وصفها لأبيه ليست من رؤى الصبية ولا الغلمان؛ وأقرب ما يراه غلام -حين تكون رؤياه صبيانية أو صدى لما يحلم به- أن يرى هذه الكواكب والشمس والقمر في حجره أو بين يديه يطولها. ولكن يوسف رآها ساجدة له، متمثلة في صورة العقلاء الذين يحنون رؤوسهم بالسجود تعظيما. والسياق يروى عنه في صيغة الإيضاح المؤكدة: (إذ قال يوسف لأبيه: يا أبت إني رأيت أحد عشر كوكبا والشمس والقمر).. ثم يعيد لفظ رأى: (رأيتهم لي ساجدين)...
التحرير والتنوير لابن عاشور 1393 هـ :
وابتداء قصة يوسف عليه السّلام بذكر رؤياه إشارة إلى أنّ الله هيّأ نفسه للنبوءة فابتدأه بالرؤيا الصّادقة كما جاء في حديث عائشة « أنّ أوّلَ ما ابتدئ رسول الله صلى الله عليه وسلم من الوحي الرؤيا الصادقة فكان لا يرى رؤيا إلاّ جاءت مثل فَلق الصبح...». وفي ذلك تمهيد للمقصود من القصة وهو تقرير فضل يوسف عليه السّلام من طهارة وزكاء نفس وصبر. فذكر هذه الرؤيا في صدر القصّة كالمقدّمة والتّمهيد للقصّة المقصودة. وجعل الله تلك الرؤيا تنبيهاً ليوسف عليه السّلام بعلو شأنه ليتذكرها كلما حلت به ضائقة فتطمئن بها نفسه أن عاقبتهُ طيبة...
... يستمر يوسف في قوله: {يا أبت إني رأيت أحد عشر كوكبا والشمس والقمر رأيتهم لي ساجدي} وكلنا رأينا الشمس والقمر؛ كل في وقت ظهوره؛ لكن حلم يوسف يبين أنه رآهما معا، وكلنا رأينا الكواكب متناثرة في السماء آلافا لا حصر لها، فكيف يرى يوسف أحد عشر كوكبا فقط؟ لا بد أنهم اتصفوا بصفات خاصة ميزتهم عن غيرهم من الكواكب الأخرى؛ وأنه قام بعدهم. ورؤيا يوسف عليه السلام تبين أنه رآهم شمسا وقمرا وأحد عشر كوكبا؛ ثم رآهم بعد ذلك ساجدين. وهذا يعني أنه رآهم أولا بصفاتهم التي نرى بها الشمس والقمر والنجوم بدون سجود؛ ثم رآهم وهم ساجدون له؛ بملامح الخضوع لأمر من الله، ولذلك تكررت كلمة "رأيت "وهو ليس تكرارا، بل لإيضاح الأمر. ونجد أن كلمة {ساجدين} وهي جمع مذكر سالم؛ ولا يجمع جمع المذكر السالم إلا إذا كان المفرد عاقلا، والعقل يتميز بقدرة الاختيار بين البدائل؛ والعاقل المؤمن هو من يجعل اختياراته في الدنيا في إطار منهج الدين، وأسمى ما في الخضوع للدين هو السجود لله. ومن سجدوا ليوسف إنما سجدوا بأمر من الله، فهم إذن يعقلون أمر الحق سبحانه وتعالى...