المحرر الوجيز في تفسير الكتاب العزيز لابن عطية - ابن عطية  
{إِذۡ قَالَ يُوسُفُ لِأَبِيهِ يَـٰٓأَبَتِ إِنِّي رَأَيۡتُ أَحَدَ عَشَرَ كَوۡكَبٗا وَٱلشَّمۡسَ وَٱلۡقَمَرَ رَأَيۡتُهُمۡ لِي سَٰجِدِينَ} (4)

العامل في { إذ } فعل مضمر تقديره : اذكر { إذ } ويصح أن يعمل فيه { نقص } [ يوسف : 3 ] كأن المعنى : نقص عليك الحال { إذ }{[6556]} وحكى مكي أن العامل فيه { لمن الغافلين } [ يوسف : 3 ] ، وهذا ضعيف .

وقرأ طلحة بن مصرف «يؤسَف » بالهمز وفتح السين - وفيه ست لغات : «يُوسُف » بضم الياء وسكون الواو وبفتح السين وبضمها وبكسرها وكذلك بالهمز . وقرأ الجمهور «يا أبتِ » بكسر التاء حذفت الياء من أبي وجعلت التاء بدلاً منها ، قاله سيبويه ، وقرأ ابن عامر وحده{[6557]} وأبو جعفر والأعرج : «يا أبتَ » بفتحها ، وكان ابن كثير وابن عامر يقفان بالهاء ؛ فأما قراءة ابن عامر بفتح التاء فلها وجهان : إما أن يكون : «يا أبتا » ، ثم حذفت الألف تخفيفاً وبقيت الفتحة دالة على الألف ، وإما أن يكون جارياً مجرى قولهم : يا طلحة أقبل ، رخموه ثم ردوا العلامة ولم يعتد بها بعد الترخيم ، وهذا كقولهم : اجتمعت اليمامة ثم قالوا : اجتمعت أهل اليمامة ، فردوا لفظة الأهل ولم يعتدوا بها ، وقرأ أبو جعفر والحسن وطلحة بن سليمان : «أحد عْشر كوكباً » بسكون العين لتوالي الحركات ، ويظهر أن الاسمين قد جعلا واحداً .

وقيل : إنه قد رأى كواكب حقيقة والشمس والقمر فتأولها يعقوب إخوته وأبويه ، وهذا قول الجمهور ، وقيل : الإخوة والأب والخالة لأن أمه كانت ميتة ، وقيل إنما كان رأى إخوته وأبويه فعبر عنهم بالكواكب والشمس والقمر ، وهذا ضعيف ترجم به الطبري ، ثم أدخل عن قتادة والضحاك وغيرهما كلاماً محتملاً أن يكون كما ترجم وأن يكون مثل قول الناس ، وقال المفسرون : { القمر } تأويله : الأب ، و { الشمس } تأويلها : الأم ، فانتزع بعض الناس من تقديمها وجوب بر الأم وزيادته على بر الأب ، وحكى الطبري عن جابر بن عبد الله أن يهودياً يسمى بستانة جاء إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال : أخبرني عن أسماء الكواكب التي رآها يوسف عليه السلام ، فسكت عنه رسول الله صلى الله عليه وسلم ونزل جبريل عليه السلام فأخبره بأسمائها ، فدعا رسول الله صلى الله عليه وسلم اليهودي ، فقال : «هل أنت مؤمن إن أخبرتك بذلك ؟ قال : نعم ، قال : حربان ، والطارق ، والذيال ، وذا الكنفان ، وقابس ، ووثاب ، وعمودان والفيلق ، والمصبح ، والضروح ، وذو الفرغ ، والضياء ، والنور{[6558]} » فقال اليهودي : أي والله إنها لأسماؤها{[6559]} .

وتكرر { رأيتهم } لطول الكلام{[6560]} وجرى ضمائر هذه الكواكب في هذه الآية مجرى ضمائر من يعقل إنما كان لما وصفت بأفعال هي خاصة بمن يعقل{[6561]} .

وروي أن رؤيا يوسف كانت ليلة القدر ليلة جمعة ، وأنها خرجت بعد أربعين سنة ، وقيل : بعد ثمانين سنة .


[6556]:الآية (7) من سورة (الضحى).
[6557]:يعني: وحده من السبعة، وإلا فقد قرأ بها أبو جعفر، والأعرج كما ذكر المؤلف رحمه الله.
[6558]:اختلفت النسخ الأصلية في كتابة هذه الأسماء، وكذلك وقع اختلاف بين المفسرين في كتابتها، وقد آثرنا اختيار الأسماء التي اتفق عليها أكثر المفسرين، والاسم الأول جاء في بعض النسخ (حربان) بالراء والباء، وفي "فتح القدير" جاء (جريان) بالخاء والثاء، وضبطه "الجمل" نقلا عن "الشهاب" فقال: (جريان) بفتح الجيم وكسر الراء المهملة وتشديد الياء التحتية، أما (ذو الكتفين) فجاء في بعض التفاسير بالنون بدلا من التاء، و (عمودان) هو تثنية عمود، و (الفليق) جاء بتقديم اللام على الياء (الفيلق)، و (ذو الفرغ) بالغين المعجمة جاء في بعض النسخ بالعين المهملة، وهكذا.
[6559]:أخرجه سعيد بن منصور، والبزار، وأبو يعلى، وابن جرير، وابن المنذر، وابن مردويه، وابن أبي حاتم، والعقيلي، وابن حبان في الضعفاء، وأبو الشيخ، والحاكم وصححه، وأبو نعيم والبيهقي معا في "دلائل النبوة" عن جابر. (الدر المنثور).
[6560]:قال الزمخشري: "ليس بتكرار، إنما هو كلام مستأنف وقع جوابا لسؤال مقدر، كأن يعقوب عليه السلام قال له: كيف رأيتها؟ سائلا عن حال رؤيتها، فقال: {رأيتهم لي ساجدين}. و قال الحمل مثل هذا الكلام أيضا، ثم عقب عليه بقوله: "وهذا أظهر لأنه متى دار الكلام بين الحمل على التأكيد أو التأسيس فحمله على التأسيس أولى".
[6561]:والعرب تجمع مالا يعقل جمع من يعقل إذا أنزلوه منزلته وإن كان خارجا عن الأصل، و من هذا قوله تعالى: {يأيها النمل ادخلوا مساكنكم}، وقوله: {وتراهم ينظرون إليك وهم لا يبصرون}.