الدر المصون في علم الكتاب المكنون للسمين الحلبي - السمين الحلبي  
{إِذۡ قَالَ يُوسُفُ لِأَبِيهِ يَـٰٓأَبَتِ إِنِّي رَأَيۡتُ أَحَدَ عَشَرَ كَوۡكَبٗا وَٱلشَّمۡسَ وَٱلۡقَمَرَ رَأَيۡتُهُمۡ لِي سَٰجِدِينَ} (4)

قوله تعالى : { إِذْ قَالَ } : في العاملِ فيه أوجهٌ ، أظهرها : أنه منصوبٌ ب

{ قَالَ يبُنَيَّ } [ يوسف : 5 ] ، أي : قال يعقوب : يا بُنَيَّ ، وقتَ قولِ يوسفَ له كيت وكيت ، وهذا أسهلُ الوجوهِ ، إذ فيه إبقاءُ " إذ " على كونِه ظرفاً ماضياً . وقيل : الناصبُ له " الغافلين " قاله مكي . وقيل : هو منصوبٌ ب " نَقُصُّ " ، أي : نَقُصُّ عليك وقتَ قولِه كيت وكيت ، وهذا فيه إخراجُ " إذ " عن المضيِّ وعن الظرفية ، وإن قَدَّرْتَ المفعولَ محذوفاً ، أي : نَقُصُّ عليك الحالَ وقتَ قولِه ، لزم إخراجها عن المُضِيّ . وقيل : هو منصوبٌ بمضمر ، أي : اذكر . وقيل : هو منصوب على أنه بدلٌ مِنْ " أَحْسَنَ القصص " بدلُ اشتمال . قال الزمخشري : " لأنَّ الوقتَ يَشْمل على القصص وهو المقصوص " .

قوله : { يأَبتِ } قرأ ابن عامر بفتح التاء ، والباقون بكسرِها . وهذه التاءُ عوضٌ من ياء المتكلم ، ولذلك لا يجوز الجمعُ بينهما إلا ضرورةً ، وهذا يختصُّ بلفظتين . يا أبت ، ويا أَمَتِ ولا يجوز في غيرهما من الأسماء لو قلت : " يا صاحِبَتِ " لم يَجُز البتة ، كما اختصَّتْ لفظةُ الأمِّ والعمِّ بحكمٍ في نحو " يا بن أُمّ " . ويجوز الجمعُ بين هذه التاءِ وبين كلٍ مِنَ الياءِ والألفِ ضرورةً كقوله :

2734 يا أَبَتا عَلَّكَ أو عَساكا ***

وقول الآخر :

2735 أيا أَبَتا لا تَزَلْ عندَنا *** فإنَّا نخافُ بأنْ نُخْتَرَمْ

وقول الآخر :

2736 أيا أبتي لا زِلْتَ فينا فإنَّما *** لنا أَمَلٌ في العيشِ ما دُمْتَ عائِشا

وكلام الزمخشري يُؤْذِنُ بأنَّ الجمعَ بين التاءِ والألفِ ليس ضرورةً فإنه قال : " فإن قلت : فما هذه الكسرةُ ؟ قلت : هي الكسرةُ التي كانت قبل الياءِ في قولِك " يا أبي " فَزُحْلِقَتْ إلى التاء لاقتضاءِ تاءِ التأنيثِ أن يكونَ ما قبلها مفتوحاً . فإن قُلْتَ : فما بالُ الكسرةِ لم تَسْقُطْ بالفتحة التي اقْتَضَتْها التاءُ ، وتبقى التاءُ ساكنة ؟ قلت : امتنع ذلك فيها لأنها اسمٌ ، والأسماءُ حقُّها التحريكُ لأصالتِها في الإِعراب ، وإنما جاز تسكينُ الياء وأصلُها أن تُحَرَّك تخفيفاً لأنها حرف لين ، وأمَّا التاءُ فحرفٌ صحيحٌ نحو كاف الضمير ، فلزم تحريكُها . فإنْ قلت : يُشْبه الجمعُ بين هذه التاءِ وبين هذه الكسرةِ الجمعَ بين العِوَضِ والمُعَوَّضِ منه ؛ لأنها في حكم الياءِ إذا قلتَ : يا غلامِ ، فكما لا يجوزُ " يا أبتي " لا يجوز " يا أبتِ " . قلت : الياء والكسرةُ قبلها شيئان ، والتاءُ عوضٌ من أحد الشيئين وهو الياءُ ، والكسرةُ غيرُ مُتَعَرَّضٍ لها ، فلا يُجْمَعُ بين العِوَض والمُعَوَّض منه ، إلا إذا جُمِعَ بين التاءِ والياءِ لا غير . ألا ترى إلى قولهم : " يا أبتا " مع كونِ الألفِ فيه بدلاً من الياء كيف جاز الجمعُ بينها وبين التاء ، ولم يُعَدَّ ذلك جمعاً بين العوض والمعوض منه ؟ فالكسرة أبعدُ من ذلك .

فإن قلتَ : قد دَلَّتِ الكسرةُ في " يا غلامِ " على الإِضافة لأنها قرينةُ الياءِ ولصيقتُها ، فإن دَلَّت على مِثْلِ ذلك في " يا أبت " فالتاء المعوَّضَةُ لَغْوٌ ، وجودُها كعَدَمِها . قلت : بل حالُها مع التاءِ كحالِها مع الياءِ إذا قلت : يا أبي " .

وكذا عبارة الشيخ فإنه قال : " وهذه التاءُ عوضٌ من ياء الإِضافة فلا تجتمعان ، وتجامعُ الألفَ التي هي بدلٌ من الياء قال :

2737 يا أَبَتا عَلَّكَ أو عَسَاكا ***

/ وفيه نظرٌ من حيث إنَّ الألفَ كالياءِ لكونها بدلاً منها ، فينبغي أن لا يُجْمَعَ بينهما .

وهذ التاءُ أصلُها للتأنيث قال الزمخشري : " فإن قلت : ما هذه التاءُ ؟ قلت : تاءُ تأنيثٍ وقعت عوضاً من ياء الإِضافة ، والدليلُ على أنَّها تاءُ تأنيثٍ قَلْبُها هاءً في الوقف " . قلت : وما ذَكَرَه مِنْ كونها تُقْلَبُ هاءً في الوقف قرأ به ابنُ كثير وابنُ عامر ، والباقون وقفوا عليها بالتاء ، كأنهم أَجْرَوْها مُجْرى تاء الإِلحاق في بنت وأخت ، ومِمَّنْ نَصَّ على كونِها للتأنيث سيبويه فإنه قال : " سألتُ الخليل عن التاء في " يا أبت " فقال : " هي بمنزلة التاء في تاء خالة وعمَّة " يعني أنها للتأنيث ، ويدلُّ على كونِها للتأنيث أيضاً كَتْبُهم إياها هاءً ، وقياس مَنْ وَقَفَ بالتاءِ أن يكتَبها تاءً كبنت وأخت .

ثم قال الزمخشري : " فإن قلت : كيف جاز إلحاق تاء التأنيث بالمذكر ؟ قلت : كما جاز نحو قولك : حمامة ذَكَر وشاةٌ ذَكَر ورجلٌ رَبْعَة وغلام يَفَعَة " . قلت : يعني أنها جِيْءَ بها لمجردِ تأنيث اللفظ كما في الألفاظِ المستشهد بها . ثم قال الزمخشري : " فإن قلتَ : فلِمَ ساغ تعويضُ تاءِ التأنيث من ياءِ الإِضافة ؟ قلت : لأنَّ التأنيثَ والإِضافةَ يتناسبان في أنَّ كلِّ واحدٍ منهما زيادةٌ مضمومةٌ إلى الاسم في آخره " . قلت : وهذا قياسٌ بعيدٌ لا يُعمل به عند الحُذَّاق ، فإنه يُسَمَّى الشَّبَه الطردي ، يني أنه شَبَهٌ في الصورة .

وقال الزمخشري : " إنه قُرىء " يا أَبَت " بالحركات الثلاث " . فأمَّا الفتحُ والكسر فقد عَزَيْتُهما لقارئهما ، وأمَّا الضمُّ فغريبٌ جداً ، وهو يُشْبِهُ مَنْ يَبْني المنادى المضافَ لياء المتكلم على الضم كقراءةِ مَنْ قرأ وستأتي إن شاء اللَّه { قَالَ رَبُّ احْكُم } [ الأنبياء : 112 ] بضم الباء ، ويأتي توجيهها هناك ، ولِمَ قُلْنا إنه مضافٌ للياء ولم نجعلْه مفرداً من غير إضافة ؟ .

وقد تقدَّم توجيهُ كَسْرِ هذه التاء بما ذكره الزمخشري من كونِها هي الكسرةَ التي قبل الياء زُحْلِقَتْ إلى التاء . وهذا أحد المَذْهَبَيْنِ ، والمذهب الآخر : أنها كسرةٌ أجنبية جيء بها لتدلَّ على الياء المعوَّض منها ، وليس بخلافٍ طائل .

وأمَّا الفتحُ ففيه أربعةُ أوجه ، ذكر الفارسي منها وجهين ، أحدهما : أنه اجْتَزَأَ بالفتحة عن الألف ، يعني عن الألف المنقلبة عن الياء ، كما اجتزأ عنها الآخر بقوله :

2738 ولَسْتُ براجعٍ ما فاتَ منِّي *** بلَهْفَ ولا بلَيْتَ ولا لَوَنِّي

وكما اجتُرِىء بها عنها في يا بن أمَّ ، ويا بنَ عمَّ كما تقدم . والثاني : أنَّه رُخِّم بحذف التاء ، ثم أقحمت التاء مفتوحة ، وهذا كما قال النابغة :

2739 كِليْني لِهَمٍّ يا أُمَيمَةَ ناصِبِ *** وليلٍ أقاسِيه بطيءِ الكواكبِ

بفتح تاء " أُمَيْمة " على ما ذَكَرْت لك .

الثالث : ما ذكره الفراء وأبو عبيد وأبو حاتم وقطرب في أحد قوليه وهو أنَّ الألفَ في " با أبتا " للندبة ، ثم حَذَفها مُجْتَزِئاً عنها بالفتحة . وهذا قد يَنْفَعُ في الجواب عن الجمع بين العِوَض والمُعَوَّض منه . وقد ردَّ بعضُهم هذا المذهبَ بأنَّ الموضع ليس موضعَ ندبة .

الرابع : أنَّ الأصلَ : يا أبةً بالتنوين ، فحذف التنوين لأنَّ النداءَ بابُ حَذْفٍ ، وإلى هذا ذهب قطرب في القول الثاني . وقد رُدَّ هذا عليه بأن التنوينَ لا يُحْذَفُ من المنادى المنصوب نحو : " يا ضارباً رجلاً " .

وقرأ أبو جعفر " يا أبي " بالياء ، ولم يُعَوِّض منها التاء .

وقرأ الحسن وطلحة بن سليمان : " أحدَ عْشر " بسكون العين ، كأنهم قصدوا التنبيه بهذا التخفيفِ على أنَّ الاسمين جُعِلا اسماً واحداً .

وقوله : { وَالشَّمْسَ وَالْقَمَرَ } يجوز فيه وجهان ، أحدهما : أن تكونَ الواوُ عاطفةً ، وحينئد يحتمل أن يكون ذلك من باب ذِكْر الخاص بعد العام تفصيلاً ؛ لأن الشمسُ والقمر دخلا في قوله { أَحَدَ عَشَرَ كَوْكَباً } فهو كقوله : { وَجِبْرِيلَ وَمِيكَالَ } [ البقرة : 98 ] بعد قوله : " وملائكتِه " ، ويُحْتمل أن لا يكون كذلك ، وتكون الواوُ لعطفِ المُغَاير ، فيكون قد رأى الشمس والقمر زيادةً على الأحدَ عشرَ بخلاف الأول ، فإنه يكون رأى الأحدَ عشرَ ، ومِنْ جملتها الشمس والقمر ، والاحتمالان منقولان عن أهل التفسير ، وممَّنْ نَقَلهما الزمخشري .

والوجه الثاني : أن تكونَ الواوُ بمعنى مع ، إلا أنه مرجوحٌ ، لأنه متى أمكن العطفُ من غير ضعفٍ ولا إخلالِ معنىً رَجَح على المعيَّة ، وعلى هذا فيكون كالوجه الذي قبله بمعنى أنه رأى الشمسَ والقمرَ زيادةً على الأحد عشر كوكباً .

وقوله : { رَأَيْتُهُمْ لِي سَاجِدِينَ } يحتمل وجهين ، أحدهما : أنها جملةُ كُرِّرَتْ للتوكيد لمَّا طال الفصلُ بالمفاعيل كُرِّرَتْ كما كُررت " أنكم " في قوله :

{ أَيَعِدُكُمْ أَنَّكُمْ / إِذَا مِتٌّمْ وَكُنتُمْ تُرَاباً وَعِظاماً أَنَّكُمْ مُّخْرَجُونَ } [ المؤمنون : 35 ] كذا قاله الشيخ ، وسيأتي تحقيق هذا إن شاء اللَّه تعالى . والثاني : أنه ليس بتأكيدٍ ، وإليه نحا الزمخشري : فإنه قال : " فإن قُلْتَ : ما معنى تكرارِ " رأيتُهم " ؟ قلت : ليس بتكرارٍ ، إنما هو كلامٌ مستأنفٌ على تقديرِ سؤالٍ وقع جواباً له ، كأنَّ يعقوبَ عليه السلام قال له عند قوله : { إِنِّي رَأَيْتُ أَحَدَ عَشَرَ كَوْكَباً وَالشَّمْسَ وَالْقَمَرَ } كيف رأيتها ؟ سائلاً عن حال رؤيتها ، فقال : رأيتهم لي ساجدين " .

قلت : وهذا أظهرُ لأنه متى دار الكلامُ بين الحَمْل على التأكيد أو التأسيس فَحَمْلُه على الثاني أَوْلَى .

و " ساجدين " صفةٌ جُمِعَ جَمْعَ العقلاء . فقيل : لأنه لمَّا عامَلَهم معاملةَ العقلاء في إسنادِ فِعْلَهم إليهم جَمَعَهم جَمْعَهم ، والشيءُ قد يُعامَلُ معاملةَ شيءٍ آخرَ إذا شاركه في صفةٍ ما .

والرؤيةُ هنا منامِيَّةٌ ، وقد تقدَّم أنها تنصب مفعولين كالعِلْمية ، وعلى هذا يكون قد حَذَفَ المفعولَ الثاني من قوله { رَأَيْتُ أَحَدَ عَشَرَ كَوْكَباً } ولكنَّ حَذْفَه اقتصاراً ممتنعٌ ، فلم يَبْقَ إلا اختصاراً ، وهو قليل أو ممتنع عند بعضهم .