معاني القرآن للفراء - الفراء  
{إِذۡ قَالَ يُوسُفُ لِأَبِيهِ يَـٰٓأَبَتِ إِنِّي رَأَيۡتُ أَحَدَ عَشَرَ كَوۡكَبٗا وَٱلشَّمۡسَ وَٱلۡقَمَرَ رَأَيۡتُهُمۡ لِي سَٰجِدِينَ} (4)

وقوله : { يا أبَتِ } ، لا تقفْ عليها بالهاء وأنت خافض لها في الوصل ؛ لأن تلك الخَفْضة تدلّ على الإضافة إلى المتكلّم . ولو قرأ قارئ : ( يا أَبَتُ ) ، لجاز ، ( وكان الوقف على الهاء جائزاً . ولم يقرأ به أحد نعلمه . ولو قيل : يا أبَتَ ، لجاز ) الوقوف عليها ( بالهاء ) من جهة ، ولم يجز مِن أخرى . فأما جواز الوقوف على الهاء ، فأن تجعل الفتحة فيها من النداء ولا تنوى أن تصلها بألف الندبة ، فكأنه كقول الشاعر :

كِلِينِي لِهَمٍّ يا أُميمةَ ناصبِ *** . . .

وأما الوجه الذي لا يجوز الوقف على الهاء ، فأن تنوى : يا أبتاه ، ثم تحذف الهاء والألف ؛ لأنها في النِّيَّة متّصلة بالألف كاتّصالها في الخفض بالياء من المتكلّم .

وأَما وقوله : { إِنِّي رَأَيْتُ أَحَدَ عَشَرَ كَوْكَباً 4 } ،

فإن العرب تجعل العدد بين أحد عشر إلى تسعة عشر منصوباً في خفضه ورفعه . وذلك أنهم جَعلوا اسمين معروفين واحداً ، فلم يُضيفوا الأوَّل إلى الثاني فيخرجَ من معنى العدد . ولم يرفعوا آخره فيكونَ بمنزلة بعلبكّ إذا رفعوا آخرَها . واستجازوا أن يضيفوا ( بعل ) إلى ( بَكّ ) ؛ لأن هذا لا يُعرف فيه الانفصال من ذا ، والخمسة تنفرد من العشرة والعشرة من الخمسة ، فجعلوها بإعراب واحد ؛ لأن معناهما في الأصل هذه عشرة وخمسة ، فلما عُدِلا عن جهتهما أُعطيا إعراباً واحداً في الصرف كما كان إعرابهما واحداً قبل أن يُصرفا .

فأما نصب كوكب ، فإنه خرج مفسِّراً للنوع من كل عدد ليعرف ما أخبرْتَ عنه . وهو في الكلام بمنزلة قولك : عندي كذا وكذا درهما . خرج الدرهم مفسراً لكذا وكذا ؛ لأنها واقعة على كلّ شيء . فإذا أدخلت في أحد عشر الألف واللام أدخلتهما في أوَّلها ، فقلت : ما فعلت الخمسةَ عَشَرَ . ويجوز ما فعلت الخمسةَ العشرَ ، فأدخلت عليهما الألف واللام مرّتين لتوهّمهم انفصَال ذا من ذا في حال . فإن قلت : الخمسة العشرِ ، لم يجز ؛ لأن الأوّل غير الثاني ؛ ألا ترى أن قولهم : ما فعلت الخمسةُ الأثوابِ ، لمن أجازه ، تجد الخمسة هي الأثواب ولا تجد العشر الخمسة . فلذلك لم تصلح إضافته بألف ولام . وإن شئت أدخلت الألف واللام أيضاً في الدرهم الذي يخرج مفسراً ، فتقول : ما فعلت الخمسة العشر الدرهم ؟ . وإذا أضفت الخمسة العشر إلى نفسك رفعت الخمسة . فتقول : ما فعلت الخمسةُ عشرِي ؟ ، ورأيت خمسةَ عَشْرِي ، ( ومررت بخمسة عشرى ) ؛ وإنما عُرِّبت الخمسة لإضافتك العشر ، فلما أضيف العشر إلى الياء منك لم يسقم للخمسة أن تضاف إليها وبينهما عشر فأضيفت إلى عشر لتصير اسما ، كما صَار ما بعدها بالإضافة اسما . سمعتها من أَبى فَقْعَس الأَسَدىّ وأبى الهيثم العُقَيْليّ : ما فعلت خمسةُ عشرِك ؟ ولذلك لا يصلح للمفسر أن يصحبهما ؛ لأن إعرابيهما قد اختلفا . ب : اختلف ، وإنما يخرج الدرهم والكوكب مفسراً لهما جميعاً كما يخرج الدرهم من عشرين مفسراً لكلّها . فإذا أضفت العشرين دخلَتْ في الأسماء وبطل عنها التفسير . فخطأ أن تقول : ما فعلت عِشروك درهما ، أو خمسةُ عشرِك درهما . ومثله أنك تقول : مررت بضارب زيداً . فإذا أضفت الضارب إلى غير زيد لم يصلح أن يقع على زيد أبداً .

ولو نويت بخمسة عشر أن تضيف الخمسة إلى عشر في شعر لجاز ، فقلت : ما رأيت خمسةَ عشرٍ قطُّ خيراً منها ، لأنك نويت الأسماء ولم تنوِ العدد . ولا يجوز للمفسِّر أن يدخل ها هنا ، كما لم يجز في الإضافة ؛ أنشدني العُكْلىّ أبو ثرْوان :

كُلِّف من عَنائه وشِقْوتهْ *** بنت ثماني عَشرةٍ من حِجتَّهْ

ومن القُرَّاء من يسكّن العين من عَشرَ في هذا النوع كلّه ، إلاّ اثنا عشر . وذلك أنهم استثقلوا كثرة الحركات ، ووجدوا الألف في ( اثنا ) والياء في ( اثني ) سَاكنة فكرهوا تسكين العين وإلى جنبها ساكن ، ( ولا يجوز تسكين العين في مؤنّث العدد لأن الشين من عشرة يسكن ، فلا يستقيم تسكين العين والشين معاً ) .

وأما قوله : { رَأَيْتُهُمْ لِي سَاجِدِينَ } ، فإن هذه النون والواو إنما تكونان في جمع ذُكران الجنّ والإنس وما أشبههم . فيقال : الناس ساجدون ، والملائكة والجِنّ ساجدون : فإذا عدَوت هذا صار المؤنّث المذكّر إلى التأنيث . فيقال : الكِباش قد ذُبِّحن وذُبِّحت ومذبَّحات . ولا يجوز مذبّحون . وإنما جاز في الشمس والقمر والكواكب بالنون والياء ؛ لأنهم وُصفوا بأفاعيل الآدميين ، ( ألا ترى أن السجود والركوع لا يكون إلاّ من الآدميين فأُخرِج فعلهم على فعال الآدميَّين ) ، ومثله : { وَقَالُوا لِجُلودِهِمْ لِمَ شَهِدْتُم عَلَيْنا } ، فكأنهم خاطبوا رجالا إذا كلّمتهم وكلّموها . وكذلك : { يَا أَيُّها النَّمْلُ ادْخُلُوا مَسَاكِنَكُمْ } ، فما أتاك مواقعاً لفعل الآدميين من غيرهم أجريتَه على هذا .