146- وإن أهل الكتاب ليعلمون أن التحول إلى قبلة البيت الحرام بمكة هو الحق ، ويسلِّمون أنك النبي المنعوت في كتبهم بنعوت من جملتها أنه يصلي إلى الكعبة ، ومعرفتهم نُبُوَّتك وقبلتك كمعرفتهم أبناءهم في الوضوح والجلاء ، ولكن بعضهم يخفون هذا الحق على علم اتباعاً لهواهم ، وتعصباً باطلا لملتهم حفاظاً على سلطانهم ، ويحاولون تضليلكم .
يخبر تعالى{[2947]} أنّ علماء أهل الكتاب يعرفون صِحّة ما جاءهم به الرسول صلى الله عليه وسلم [ كما يعرفون أبناءهم ]{[2948]} كما يعرف أحدُهم ولده ، والعربُ كانت تضرب المثل في صحة الشيء بهذا ، كما جاء في الحديث أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال لرجل معه صغير : " ابنك هذا ؟ " قال : نعم يا رسول الله ، أشهد به . قال : " أما إنه لا يَجْنِي عليك ولا تجْنِي عليه " {[2949]} .
[ قال القرطبي : ويروى أن عمر قال لعبد الله بن سلام : أتعرف محمدًا صلى الله عليه وسلم كما تعرف ولدك ابنك ، قال : نعم وأكثر ، نزل الأمين من السماء على الأمين ، في الأرض بنعته فعرفته ، وإني لا أدري ما كان من أمره . قلت : وقد يكون المراد { يَعْرِفُونَهُ كَمَا يَعْرِفُونَ أَبْنَاءَهُمْ } من بين أبناء الناس لا يشك أحد ولا يتمارى في معرفة ابنه إذا رآه من بين أبناء الناس كلهم ]{[2950]} .
ثم أخبر تعالى أنهم مع هذا التحقق{[2951]} والإتقان العلمي { لَيَكْتُمُونَ الْحَقَّ } أي : ليكتمون الناس ما في كتبهم من صفة النبي صلى الله عليه وسلم { وَهُمْ يَعْلَمُونَ }
الَّذِينَ آَتَيْنَاهُمُ الْكِتَابَ يَعْرِفُونَهُ كَمَا يَعْرِفُونَ أَبْنَاءَهُمْ وَإِنَّ فَرِيقًا مِنْهُمْ لَيَكْتُمُونَ الْحَقَّ وَهُمْ يَعْلَمُونَ ( 146 )
{ الذين } في موضع رفع بالابتداء ، والخبر { يعرفونه }( {[1391]} ) ، ويصح أن يكون في موضع خفض نعتاً للظالمين و { يعرفونه } في موضع الحال .
وخص الأبناء دون الأنفس وهي ألصق ، لأن الإنسان يمر عليه من زمنه برهة( {[1392]} ) لا يعرف فيها نفسه ، ولا يمر عليه وقت لا يعرف فيه ابنه ، والمراد هنا معرفة الوجه وميزه لا معرفة حقيقة النسب( {[1393]} ) ، ولعبد الله بن سلام رضي الله عنه في هذا الموضع كلام معترض( {[1394]} ) يأتي موضعه إن شاء الله( {[1395]} ) ، والضمير في { يعرفونه } عائد على الحق في القبلة والتحول بأمر الله إلى الكعبة ، قاله ابن عباس وقتادة وابن جريج والربيع ، وقال قتادة أيضاً ومجاهد وغيرهما : هو عائد على محمد صلى الله عليه وسلم( {[1396]} ) ، أي يعرفون صدقه ونبوته( {[1397]} ) ، والفريق الجماعة ، وخص لأن منهم من أسلم ولم يكتم ، والإشارة بالحق إلى ما تقدم من الخلاف في ضمير { يعرفونه } ، فعم الحق مبالغة في ذمهم ، و { هم يعلمون } ظاهر في صحة الكفر عناداً .
جملة معترضة بين جملة : { ولئن أتيت الذين أوتوا الكتاب } [ البقرة : 145 ] الخ ، وبين جملة : { ولكل وجهةٌ } [ البقرة : 148 ] الخ اعتراضَ استطرادٍ بمناسبة ذكر مطاعن أهل الكتاب في القبلة الإسلامية ، فإن طعنهم كان عن مكابرة مع علمهم بأن القبلة الإسلامية حق كما دلّ عليه قوله : { وإن الذين أوتوا الكتاب ليعلمون أنه الحق من ربهم } [ البقرة : 144 ] ، فاستُطرد بأن طعنهم في القبلة الإسلامية ما هو إلاّ من مجموع طَعنهم في الإسلام وفي النبي صلى الله عليه وسلم والدليلُ على الاستطراد قوله بعده : { ولكل وجهةٌ هو موليها } [ البقرة : 148 ] ، فقد عاد الكلام إلى استقبال القبلة .
فالضمير المنصوب في { يَعْرِفُونه } لا يعود إلى تحويل القبلة لأنه لو كان كذلك لصارت الجملة تكريراً لمضمون قوله : { وإن الذين أوتوا الكتاب ليعلمون أنه الحق من ربهم } ، بل هو عائد إما إلى الرسول وإن لم يسبق ذكر لمعادٍ مناسبٍ لضمير الغيبة ، لكنه قد علم من الكلام السابق وتكرر خطابه فيه من قوله : { وما جعلنا القبلة التي كنت عليها } [ البقرة : 143 ] ، وقوله : { قد نرى تقلب وجهك } [ البقرة : 144 ] ، وقوله : { فلنولينك قبلة } [ البقرة : 144 ] ، وقوله : { فول وجهك } [ البقرة : 144 ] فالإتيان بالضمير بطريق الغيبة من الالتفات ، وهو على تقدير مضاف أي يعرفون صِدْقَهُ ، وإما أن يعود إلى الحق في قوله السابق : { ليكتمون الحق } فيشمل رسالة الرسول وجميعَ ما جاء به ، وإما إلى العلم في قوله : { من بعد ما جاءك من العلم } [ البقرة : 145 ] .
والتشبيه في قوله : { كما يعرفون أبناءهم } تشبيه في جلاء المعرفة وتحققها فإن معرفة المرء بعلائِقه معرفة لا تقبل اللبس ، كما قال زهير :
وخص الأبناء لشدة تعلق الآباء بهم فيكون التملي من رؤيتهم كثيراً فتتمكن معرفتهم فمعرفة هذا الحق ثابتة لجميع علمائهم .
وعدل عن أن يقال يعلمونه إلى { يعرفونه } لأن المعرفة تتعلق غالباً بالذوات والأمور المحسوسة قال تعالى : { تعرف في وجوههم نضرة النعيم } [ المطففين : 24 ] وقال زهير :
* فَلأْياً عَرَفْتُ الدَّار بعد توهم *
وتقول عرفت فلاناً ولا تقول عرفت عِلْم فلان ، إلاّ إذا أردت أن علمه صار كالمشاهد عندك ، ولهذا لا يعدى فعل العرفان إلى مفعولين كما تُعدى أفعال الظن والعلم ، ولهذا يوصف الله تعالى بصفة العلم فيقال العليم ، ولا يوصف بصفة المعرفة فلا يقال الله يعرف كذا ، فالمعنى يعرفون الصفات الرسول صلى الله عليه وسلم وعلاماته المذكورة في كتبهم ، ويعرفون الحق كالشيء المشاهد .
والمراد بقوله : { الذين أتيناهم الكتاب } أحبارُ اليهود والنصارى ولذلك عُرِّفوا بأنهم أوتوا الكتاب أي علموا علم التوراة وعلم الإنجيل .
وقوله : { وإن فريقاً منهم ليكتمون الحق وهم يعلمون } تخصيص لبعض الذين أوتوا الكتاب بالعناد في أمر القبلة وفي غيره مما جاء به النبي صلى الله عليه وسلم وذم لهم بأنهم يكتمون الحق وهم يعلمونه وهؤلاء مُعظم الذين أوتوا الكتاب قبل ابن صُوريا وكعب بن الأَشْرف فبقي فريق آخر يعلمون الحق ويعلنون به وهم الذين آمنوا بالنبي عليه الصلاة والسلام من اليهود قبل عبد الله بن سَلاَم ، ومن النصارى مثل تميم الدَّاري وصهيب .
أما الذين لا يعلمون الحق فضلاً عن أن يكتموه فلا يعبأ بهم في هذا المقام ولم يدخلوا في قوله : { الذين أتيناهم الكتاب } ولا يشملهم قوله : { يعرفونه كما يعرفون أبناءهم } .
جامع البيان عن تأويل آي القرآن للطبري 310 هـ :
"الّذِينَ آتَيْنَاهُمُ الكِتَابَ يَعْرِفُونَهُ": أحبار اليهود وعلماء النصارى. يقول: يعرف هؤلاء الأحبار من اليهود والعلماء من النصارى أن البيت الحرام قبلتهم وقبلة إبراهيم وقبلة الأنبياء قبلك، كما يعرفون أبناءهم.
"وَإنّ فَريقا مِنْهُمْ لَيَكْتُمُونَ الحَقّ وَهُمْ يَعْلَمُونَ": وإن طائفة من الذين أوتوا الكتاب وهم اليهود والنصارى...
"لَيَكْتُمُونَ الحَقّ": وذلك الحقّ هو القبلة التي وجه الله عز وجلّ إليها نبيه محمدا صلى الله عليه وسلم، يقول: فولّ وجهك شطر المسجد الحرام التي كانت الأنبياء من قبل محمد صلى الله عليه وسلم يتوجهون إليها. فكتمتها اليهود والنصارى، فتوجه بعضهم شرقا وبعضهم نحو بيت المقدس، ورفضوا ما أمرهم الله به، وكتموا مع ذلك أمر محمد صلى الله عليه وسلم، وهم يجدونه مكتوبا عندهم في التوراة والإنجيل. فأطلع الله عز وجلّ محمدا صلى الله عليه وسلم وأمته على خيانتهم الله تبارك وتعالى، وخيانتهم عباده، وكتمانهم ذلك، وأخبر أنهم يفعلون ما يفعلون من ذلك على علم منهم بأن الحقّ غيره، وأن الواجب عليهم من الله جل ثناؤه خلافه فقال: "ليكتمون الحقّ وهم يعلمون "أن ليس لهم كتمانه، فيتعمدون معصية الله تبارك وتعالى.
تأويلات أهل السنة للماتريدي 333 هـ :
لأن الأولاد إنما تعرف بالأعلام وأسباب تتقدم. فعلى ذلك معرفة الرسل عليهم السلام إنما تكون بالدلائل والأعلام؛ وقد كانت تلك الدلائل والأسباب في رسول الله ظاهرة، لكنهم تعاندوا، وتناكروا، وكتموا بعد معرفتهم به أنه الحق. دليله [قوله]: (وإن فريقا منهم ليكتمون الحق وهم يعلمون).
والكتمان أبدا إنما يكون بعد العلم بالشيء؛ لأن الجاهل بالشيء لا يوصف بالكتمان.
روي عن عبد الله بن سلام أنه قال: (أعرفه أكثر مما أعرف ولدي لأني لا أدري ما أحدث النساء بعدي).
وفيه الدلالة أن بعثه وصفته كانت غير مغيرة يومئذ، وإنما غيرت بعد؛ حين أخبر أنهم كتموا ذلك [وقيل: (ليكتمون الحق)]، لا يؤمنون، وهو علم ما بينا من نفي بذهاب نفعه. وجائز ان يكونوا عرفوه بما وجدوه بنعته في كتبهم كما قال الله عز وجل: (الرسول النبي الأمي الذي يجدونه) الآية [الأعراف: 157].
الكشف والبيان في تفسير القرآن للثعلبي 427 هـ :
عن ابن عبّاس قال: لمّا قدم رسول الله صلى الله عليه وسلم المدينة قال عمر لعبد الله ابن سلام: لقد أُنزل الله على نبيّه {الَّذِينَ آتَيْنَاهُمُ الْكِتَابَ يَعْرِفُونَهُ كَمَا يَعْرِفُونَ أَبْنَاءَهُمْ} فكيف يا عبدالله هذه المعرفة؟ فقال عبد الله بن سلام: يا عمر لقد عرفته فيكم حين رأيته كما أعرف ابني إذا رأيته مع الصبيان يلعب، وأنا أشدّ معرفةً بمحمّد منّي لابني، فقال عمر: وكيف ذاك؟ فقال: أشهد إنّه رسول حقّ من الله، وقد نعته الله في كتابنا وما أدري ما تصنع النساء، فقال له عمر: وفقك الله يا بن سلام فقد صدقت وأصبت.
{وَإِنَّ فَرِيقاً مِّنْهُمْ لَيَكْتُمُونَ الْحَقَّ} يعني صفة محمّد صلى الله عليه وسلم وأمر الكعبة. {وَهُمْ يَعْلَمُونَ}.
الكشاف عن حقائق التنزيل للزمخشري 538 هـ :
{يَعْرِفُونَهُ} يعرفون رسول الله صلى الله عليه وسلم معرفة جلية يميزون بينه وبين غيره بالوصف المعين المشخص {كَمَا يَعْرِفُونَ أَبْنَاءهُمْ} لا يشتبه عليهم أبناؤهم وأبناء غيرهم... وجاز الإضمار وإن لم يسبق له ذكر لأن الكلام يدل عليه ولا يلتبس على السامع. ومثل هذا الإضمار فيه تفخيم وإشعار بأنه لشهرته وكونه علماً معلوماً بغير إعلام. وقيل: الضمير للعلم أو القرآن أو تحويل القبلة. وقوله: (كما يعرفون أبناءهم) يشهد للأول وينصره الحديث عن عبد الله بن سلام.
فإن قلت: لم اختص الأبناء؟ قلت: لأنّ الذكور أشهر وأعرف، وهم لصحبة الآباء ألزم، وبقلوبهم ألصق. وقال {فريقاً منهم} استثناء لمن آمن منهم، أو لجهالهم الذين [قال الله تعالى فيهم] {وَمِنْهُمْ أُمّيُّونَ لاَ يَعْلَمُونَ الكتاب} [البقرة: 78].
البحر المحيط لأبي حيان الأندلسي 745 هـ :
{الذين آتيناهم الكتاب}... ولفظ آتيناهم أبلغ من أوتوا، لإسناد الإيتاء إلى الله تعالى، معبراً عنه بنون العظمة، وكذا ما يجيء من نحو هذا، مراداً به الإكرام نحو: هدينا، واجتبينا، واصطفينا. قيل: ولأن أوتوا قد يستعمل فيما لم يكن له قبول، وآتيناهم أكثر ما يستعمل فيما له قبول نحو: {الذين آتيناهم الكتاب والحكم والنبوة}... وإذا أريد بالكتاب أكثر من واحد، فوحد، لأنه صرف إلى المكتوب المعبر عنه بالمصدر...
تفسير المنار لرشيد رضا 1354 هـ :
ذكر في الآية السابقة أن الذين أوتوا الكتاب يعلمون أن ما جاء به النبي في أمر القبلة هو الحق من ربهم ولكنهم ينكرون ويمكرون، وذكر في هذه ما هو الأصل والعلة في ذلك العلم وذلك الإنكار، وهو أنهم يعرفون النبي صلى الله عليه وسلم بما في كتبهم من البشارة به ومن نعوته وصفاته التي لا تنطبق على غيره، وبما ظهر من آياته وآثار هدايته، كما يعرفون أبناءهم الذين يتولون تربيتهم وحياطتهم حتى لا يفوتهم من أمرهم شيء...
تيسير الكريم المنان في تفسير القرآن لابن سعدي 1376 هـ :
ولكن فريقا منهم -وهم أكثرهم- الذين كفروا به، كتموا هذه الشهادة مع تيقنها، وهم يعلمون {وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنْ كَتَمَ شَهَادَةً عِنْدَهُ مِنَ اللَّهِ} وفي ضمن ذلك، تسلية للرسول والمؤمنين، وتحذير له من شرهم وشبههم، وفريق منهم لم يكتموا الحق وهم يعلمون، فمنهم من آمن [به] ومنهم من كفر [به] جهلا، فالعالم عليه إظهار الحق، وتبيينه وتزيينه، بكل ما يقدر عليه من عبارة وبرهان ومثال، وغير ذلك، وإبطال الباطل وتمييزه عن الحق، وتشيينه، وتقبيحه للنفوس، بكل طريق مؤد لذلك، فهؤلاء الكاتمون، عكسوا الأمر، فانعكست أحوالهم...
التحرير والتنوير لابن عاشور 1393 هـ :
وعدل عن أن يقال يعلمونه إلى {يعرفونه} لأن المعرفة تتعلق غالباً بالذوات والأمور المحسوسة قال تعالى: {تعرف في وجوههم نضرة النعيم} [المطففين: 24]...
ولهذا لا يعدى فعل العرفان إلى مفعولين كما تُعدى أفعال الظن والعلم، ولهذا يوصف الله تعالى بصفة العلم فيقال العليم، ولا يوصف بصفة المعرفة فلا يقال الله يعرف كذا، فالمعنى يعرفون صفات الرسول صلى الله عليه وسلم وعلاماته المذكورة في كتبهم، ويعرفون الحق كالشيء المشاهد...
الأمثل في تفسير كتاب الله المنزل - لجنة تأليف بإشراف الشيرازي 2009 هـ :
هذه الآية تميط اللثام في الواقع عن حقيقة هامّة، هي إن صفات نبي الإِسلام الجسمية والروحية وخصائصه كانت بقدر من الوضوح في الكتب السماوية السابقة، بحيث ترسم الصورة الكاملة في أذهان المطلعين على هذه الكتب. وهل من الممكن أن تصرح الآية بوجود اسم النّبي وعلاماته في كتب أهل الكتاب إذا لم تكن بالفعل موجودة عندهم؟! ألا يدل عدم معارضة علماء اليهود لهذا التصريح، بل اعتراف بعضهم به واستسلامهم للحق، أن اسم النّبي الخاتم وصفاته كانت معروفة لديهم!؟ [ف] هذه الآيات إذن دليل على صدق دعوة الرّسول وصحّة نبوته...